الإهداءات | |
| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
08-08-2018, 07:40 PM | #43 |
| العربية علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه من كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْمَطَالِبِ: وَهُوَ فَرْضُ عِلْمٍ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ عِلْمٌ لَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ فيه، فهو لا بُدٍّ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا فُرِضَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ فِي الْعَادَةِ الْوُصُولُ إِلَى دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ دُونَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِهِ عَلَى تَمَامِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مُبْهَمٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُسْأَلُ عَنْ تَعْيِينِهِ. وَالْأَقْرَبُ فِي الْعُلُومِ إِلَى أَنْ يَكُونَ هَكَذَا عِلْمُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا أَعْنِي بِذَلِكَ النَّحْوَ وَحْدَهُ، وَلَا التَّصْرِيفَ وَحْدَهُ، وَلَا اللُّغَةَ، وَلَا عِلْمَ الْمَعَانِي، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ، بَلِ الْمُرَادُ جُمْلَةُ عِلْمِ اللِّسَانِ ألفاظ أو معاني كيف تصورت، ما عدا الْغَرِيبِ، وَالتَّصْرِيفَ الْمُسَمَّى بِالْفِعْلِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشِّعْرِ من حيث هو الشعر كَالْعَرُوضِ وَالْقَافِيَةِ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُفْتَقَرٍ إِلَيْهِ هنا، وإن كَانَ الْعِلْمُ بِهِ كَمَالًا فِي الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبَيَانُ تَعَيُّنِ هَذَا الْعِلْمِ مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَرَبِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ عَرَبِيَّةً؛ فَلَا يَفْهَمُهَا حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ فَهِمَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةِ حَقَّ الْفَهْمِ؛ لِأَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي النَّمَطِ مَا عَدَا وُجُوهَ الْإِعْجَازِ، فَإِذَا فَرَضْنَا مُبْتَدِئًا فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ مُبْتَدِئٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ مُتَوَسِّطًا؛ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَوَسِّطُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ النِّهَايَةِ، فَإِنِ انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الْغَايَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَكَانَ فَهْمُهُ فِيهَا3 حُجَّةً كَمَا كَانَ فَهْمُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُصَحَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا الْقُرْآنَ حُجَّةً، فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ شَأْوَهُمْ؛ فَقَدْ نَقَصَهُ مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ بِمِقْدَارِ التَّقْصِيرِ عَنْهُمْ، وَكُلُّ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ لَمْ يُعَدَّ حُجَّةً، وَلَا كَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا. فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَبْلَغَ الْأَئِمَّةِ فِيهَا؛ كَالْخَلِيلِ، وَسِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشِ، وَالْجَرْمِيِّ، وَالْمَازِنِيِّ وَمَنْ سِوَاهُمْ، وَقَدْ قَالَ الْجَرْمِيُّ: "أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أُفْتِي الناس في الفقه من كتاب سيبويه". وَفَسَّرُوا ذَلِكَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهِ بِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ حَدِيثٍ، وَكِتَابُ سِيبَوَيْهِ يُتَعَلَّمُ مِنْهُ النَّظَرُ وَالتَّفْتِيشُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِي النَّحْوِ، فَقَدْ نَبَّهَ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَقَاصِدِ الْعَرَبِ، وَأَنْحَاءِ تَصَرُّفَاتِهَا فِي أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَمْ يَقْتَصِرْ فِيهِ عَلَى بَيَانِ أَنَّ الْفَاعِلَ مَرْفُوعٌ وَالْمَفْعُولَ مَنْصُوبٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مَا يَلِيقُ بِهِ، حَتَّى إِنَّهُ احْتَوَى عَلَى عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَوُجُوهِ تَصَرُّفَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ الْجَرْمِيُّ عَلَى مَا قَالَ، وَهُوَ كَلَامٌ يُرْوَى عَنْهُ فِي صَدْرِ "كِتَابِ سِيبَوَيْهِ" مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْأُصُولِيِّينَ قَدْ نَفَوْا هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ؛ فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَى الْأُصُولِيِّ أَنْ يَبْلُغَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَبْلَغَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ، الْبَاحِثِينَ عَنْ دَقَائِقِ الْإِعْرَابِ وَمُشْكِلَاتِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيهِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهَا مَا تَتَيَسَّرُ بِهِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي هَذَا الشَّرْطِ: "إِنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ خِطَابُ الْعَرَبِ وَعَادَتَهُمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ، حَتَّى يُمَيَّزَ بَيْنَ صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ وَمُجْمَلِهِ، وَحَقِيقَتِهِ ومجازه، وعامه وخاصه،ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه، ونصه وفحواه ولحنه ومفهمومه". وَهَذَا الَّذِي اشْتَرَطَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ بَلَغَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ قَالَ: "وَالتَّخْفِيفُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْخَلِيلِ وَالْمُبَرِّدِ، وَأَنْ يَعْلَمَ جَمِيعَ اللُّغَةِ وَيَتَعَمَّقَ فِي النَّحْوِ". وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ، فَالَّذِي نُفِيَ اللُّزُومُ فِيهِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ فِي الِاشْتِرَاطِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْرِيرُ الْفَهْمِ حَتَّى يضاهي العربي في ذلك الْمِقْدَارِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَعْرِفَ جَمِيعَ اللُّغَةِ وَلَا أَنْ يَسْتَعْمِلَ الدَّقَائِقَ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَرُبَّمَا يَفْهَمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَيَبْنِي فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى التَّقْلِيدِ المحض، فيأتي في الكلام على مسائل الشرعية بِمَا السُّكُوتُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ جَلَالَةً فِي الدِّينِ، وَعِلْمًا فِي الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ. وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي "رِسَالَتِهِ" إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِكِتَابِهِ بِلِسَانِهَا عَلَى مَا تَعْرِفُ مِنْ مَعَانِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِيهَا اتِّسَاعَ لِسَانِهَا وَأَنْ تَخَاطَبَ بِالْعَامِّ مُرَادًا بِهِ ظَاهِرُهُ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا يُدْخِلُهُ فِي الْكَلَامِ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَيُعْرَفُ بِالسِّيَاقِ، وَبِالْكَلَامِ يُنْبِئُ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ، وَآخِرُهُ عَنْ أَوَّلِهِ، وَأَنْ تَتَكَلَّمَ بِالشَّيْءِ تُعَرِّفُهُ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَمَا تُعَرِّفُ بِالْإِشَارَةِ وَتُسَمِّي الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالْأَسْمَاءِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمَعَانِي الْكَثِيرَةَ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ. ثُمَّ قَالَ: "فَمَنْ جَهِلَ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا- وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؛ فَتَكَلَّفَ الْقَوْلَ فِي عِلْمِهَا تَكَلُّفَ مَا يَجْهَلُ بَعْضَهُ، وَمَنْ تَكَلَّفَ مَا جَهِلَ وَمَا لَمْ تُثْبِتْهُ معرفته؛ كانت موافقته للصواب وإن وافقه من حيث لا يعرف غَيْرَ مَحْمُودَةٍ، وَكَانَ بِخَطَئِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ، إِذَا نَطَقَ فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ فِيهِ". هَذَا قَوْلُهُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ، وَغَالِبُ مَا صُنِّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنَ الْفُنُونِ إِنَّمَا هُوَ الْمَطَالِبِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تَكَفَّلَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا بِالْجَوَابِ عَنْهَا، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ؛ فَقَدْ يَكْفِي فِيهِ التَّقْلِيدُ، كَالْكَلَامِ فِي الْأَحْكَامِ تَصَوُّرًا وَتَصْدِيقًا؛ كَأَحْكَامِ النَّسْخِ، وَأَحْكَامِ الْحَدِيثِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فالحصل أَنَّهُ لَا غِنَى لِلْمُجْتَهِدِ فِي الشَّرِيعَةِ عَنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ فَهْمُ خِطَابِهَا لَهُ وَصْفًا غَيْرَ مُتَكَلَّفٍ ولا متوقف فيه في الغلب إِلَّا بِمِقْدَارِ تَوَقُّفِ الْفَطِنِ لِكَلَامِ اللَّبِيبِ. |
|
08-08-2018, 07:41 PM | #44 |
| لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً من كتاب الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه. والعلمُ به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيءٌ. فإذا جُمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرّق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجوداً عند غيره. وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره. وليس قليلُ ما ذهب من السنن على من جمع أكثرَها: دليلاً على أن يُطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يُطلب عن نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله - بأبي هو وأمي - فيتفرَّد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وَعَوا منها. وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها. لا يذهب منه شيء عليها، ولا يُطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قَبِله عنها، ولا يَشرَكها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها. وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله. وعِلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من علم أكثر السنن في العلماء. فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟ فذلك يحتمل ما وصفتُ من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجدُ ينطقُ إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه، فهو تبع للعرب فيه. ولا ننكر إذ كان اللفظُ قِيل تعلماً، أو نُطِق به موضوعاً: أن يوافقَ لسانُ العجم، أو بعضُها قليلاً من لسان العرب، كما يَاتَفِقُ القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبُعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها. فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلِطُه فيه غيره؟ فالحجة فيه كتابُ الله قال الله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (إبراهيم 4) فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بُعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟ فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبَع على التابِع. وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُهُ لسانُ النبي. ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسانٍ غيرِ لسانه في حرف واحد، بل كلُّ لسان تَبَع للسانه، وكلُّ أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه: قال الله: (وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء 192 - 193) وقال: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً) (الرعد 37) وقال: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى، ومَن حولها) (الشورى 7) وقال: (حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (الزخرف 1 - 3) وقال: (قرآناً عربياً غيرَ ذي عِوَجٍ لعلهم يتقون) (الزمر 28) قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كلَّ لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه. فقال تبارك وتعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر. لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين) (النحل 103) وقال: (ولو جعلناه أعجمياً لقالوا: لولا فُصِّلت آياته، أعجمي وعربي؟!) (فصلت 44) قال الشافعي: وعرَّفَنَا نعمه بما خصَّنا به من مكانه، فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤفٌ رحيم) [التوبة 128] وقال: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " [الجمعة] . وكان مما عرَّف اللهُ نبيَّه من إنْعامه، أنْ قال: " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (44) " [الزخرف] ، فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابه. وقال: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) " [الشعراء] ، وقال: " لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (7) " [الشورى] ، وأمُّ القرى: مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يَشْهَد به أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، ويتلوَ به كتابَ الله، وينطق بالذكر فيما افتُرِض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح، والتشهد، وغيرِ ذلك. وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَنْ خَتَم به نُبوته، وأنْزَلَ به آخر كتبه: كان خيراً له. كما عليه يَتَعَلَّمُ الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيتَ، وما أُمِر بإتيانه، ويتوجه لِما وُجِّه له. ويكون تبَعاً فيما افتُرِض عليه، ونُدب إليه، لا متبوعاً. وإنما بدأت بما وصفتُ، من أن القُرَآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم مِن إيضاح جُمَل عِلْم الكتاب أحد، جهِل سَعَة لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِماعَ معانيه، وتفرقَها. ومن علِمه انتفَتْ عنه الشُّبَه التي دخلَتْ على من جهِل لسانَها. فكان تَنْبيه العامة على أن القُرَآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحةً للمسلمين. والنصيحة لهم فرضٌ، لا ينبغي تركه، وإدْراكُ نافلة خيْرٍ لا يَدَعُها إلاَّ مَن سفِهَ نفسَه، وترَك موضع حظِّه. وكان يَجْمع مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حقٍّ. وكان القيام بالحق، ونصيحةُ المسلمين من طاعة الله. وطاعةُ الله جامعة للخَير. أخبرنا "سُفيان" عن "زِياد بن عِلاَقة"، قال: سمعتُ "جَرير بن عبد الله" يقول: " بَايَعْتُ النَّبِيَّ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " . أخبرنا "ابن عيينة" عن "سُهَيْل ابن أببي صالح"، عن "عطاء بن يزيد" عن "تَمِيم الدَّارِي"، أنَّ النَّبيَّ قال: " إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِنَبِيِّهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ " . قال "الشافعي": فإنما خاطب الله بكتابه العربَ بلسانها، على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا، ظاهِرًا، يُراد به العام، الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه. وعاماً ظاهراً يراد به العام، ويَدْخُلُه الخاصُّ، فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه؛ وعاماً ظاهراً، يُراد به الخاص. وظاهراً يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرَه. وتَبْتَدِئ الشيءَ من كلامها يُبَيِّنُ أوَّلُ لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظِها منه عن أوَّلِهِ. وتكلَّمُ بالشيء تُعَرِّفُه بالمعنى، دون الإيضاح باللفظ، كما تعرِّف الإشارةُ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جَهَالتها. وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة. وكانت هذه الوجوه التي وصفْتُ اجتماعَها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها -: مَعْرِفةً واضحة عندها، ومستَنكَراً عند غيرها، ممن جَهِل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتابُ، وجاءت السنة، فتكلَّف القولَ في علمِها تكلُّفَ ما يَجْهَلُ بعضَه. ومن تكَلَّفَ ما جهِل، وما لم تُثْبِتْه معرفته: كانت موافقته للصواب - إنْ وافقه من حيث لا يعرفه - غيرَ مَحْمُودة، والله أعلم؛ وكان بِخَطَئِه غيرَ مَعذورٍ، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بيْن الخطأ والصواب فيه. |
|
08-08-2018, 07:42 PM | #45 |
| موضوع علم البلاغة من كتاب الأسلوب لأحمد الشايب رأينا أن البلاغة العربية انتهت في أبحاثها إلى علمين أساسيين: المعاني، والبيان، وجعلت البديع ملحقًا بهما، كما لاحظنا أن مباحث هذه العلوم لا تخرج في جملتها عن دراسة الجملة والصورة لتغذية قوة الإدراك النفسية، وسنرى هنا -كما بينا من قبل- أن موضوع البلاغة أعم من ذلك وأشمل وأنه لا حاجة بنا مطلقًا إلى هذه الأسماء العلمية: كالمعاني، والبيان، البديع، التي تطلق على نقط جزئية لا تستوجب هذه العنوانات. يعرف موضوع البلاغة بالرجوع إلى أهم خواصها، وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال1، فأبحاث علم البلاغة تدور حول هذه المسألة وبيان ما يناسب وما لا يناسب؛ لأن ما يحسن في خطاب جماعة أو في حال ما، قد لا يحسن مع جماعة أو في حال أخرى، وما قد يصلح لغرض علمي من الأساليب لا يصلح لغرض أدبي، فالمسألة هي بيان الأنسب، لذلك يعترضنا دائما هذان السؤالان: ماذا نقول؟ وكيف نقول؟ والإجابة عن السؤال الأول تتناول القواعد الخاصة بمادة الكلام البليغ من حيث موضوعاته وأفكاره، وعواطفه وأخيلته، كما أن الإجابة عن السؤال الثاني تقوم على طريقة التعبير عن هذه المادة أدائها. ويجب أن نلاحظ أن قوانين التعبير تشمل المادة أو تمسها، إذا كانت المادة مقياس العبارة وسبب تنوعها فالأسلوب يختلف خطابة عنه مراسلة، والعبارة الاستفهامية تخالف الإخبارية، وكذلك دراسة المادة لا تخلو من القول في التعبير، فالمادة لا تدرس على أنها شيء منفصل مستقل، وإنما يراعى أنسبها، وصلته باللغة التي تؤديه تقريرًا كانت أو حوارًا، ومن الناحية النقدية لا أستطيع وصف الكلام بالوضوح أو الجمال إلا إذا نظرت إلى معانيه فهي مقياس هذه الأوصاف كما يمر بك في الكلام على صفات الأسلوب. ومعنى هذا أن ناحيتي الدراسة البلاغية تلتقيان كما رأيت، وقد تفترقان افتراقًا جزئيًّا حين نتأخر إلى الوراء لننظر في مسألة الصحة وحدها، أي حين نبحث في صواب الفكرة في ذاتها، أو في سلامة التركيب نحويًّا لكن الدرس البلاغي لا يرى فصلهما بحال. ومهما يكن من الأمر فإن الدراسة العلمية تبيح لنا أن نتناول كل جانب ونخصه بدراسة عالية فية، وبذلك ينحصر موضوع البلاغة في بابين أو كتابين: الأسلوب، والفنون الأدبية. 1- الأسلوب Style وفي هذا القسم من علم البلاغة ندرس القواعد التي إذا اتبعت كان التعبير بليغًا أي واضحًا مؤثرًا، فندرس الكلمة والصورة والجملة والفقرة والعبارة والأسلوب من حيث أنواعه وعناصره وصفاته ومقوماته وموسيقاه، وقد يجد الطالب في هذا الدرس شيئا من التفاصيل المحتاجة إلى أناة وصبر لكنها خطيرة النتائج في فن البيان. وفي هذا القسم نضع البلاغة العربية، فعلم المعاني يدخل كله في بحث الجملة وعلم البيان وأغلب البديع يدخل في باب الصورة، وتبقى المباحث الأخرى مهملة في هذه الكتب التي انتهت إليها الدراسة البلاغية، نعم إنك واجد بلا شك في كتب الأقدمين كالصناعتين، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والمثل السائر مباحث قيمة تتصل بالعبارة من الناحية الفنية العامة ولكنها غير مستوفاة ولا منظمة. 2- الفنون الأدبية وقد تسمى قسم الابتكار Invention وهنا ندرس مادة الكلام من حيث اختيارها وتقسيمها وقسميها وما يلائم كل فن من الفنون الأدبية، وقواعد هذه الفنون كالقصة والمقالة والوصف والرسالة والمناظرة والتاريخ وليلاحظ أن الدراسة هنا شكلية كذلك فهي لا تخلق المادة للطالب ولا تعد له الأفكار والآراء؛ فذلك من عمل الطالب وقراءته الخاصة وتجاربه الحيوية التي تمده بالآراء وتكشف له عن الحقائق، وعلى البلاغة أن تشير فقط إلى ما يتبع في تأليف المعاني وتنظيم الفنون أقسامًا لتنتج الآثار المرجوة. وهنا أشير إلى مسألة هي نتيجة لما أسلفنا، تلك أن علم البلاغة يميل في جملته إلى الناحية الشكلية أو الأسلوبية فهو لن يعرض لقيمة الفكرة بل لملاءمتها ولا يخلقها لكن ينسقها وهو يعنى كثيرًا بالعبارات والأساليب حتى إن بعض الباحثين يطلق عليه كلمة الأسلوب، ومهما تختلف وجهات النظر فقد أصبحت البلاغة تبحث الآن في هذه الموضوعات التي ذكرنا ولن تستطيع الإفلات من الإجابة عن هذين السؤالين: ماذا نقول؟ وكيف نقول؟ وكما لاحظنا قصور علم البلاغة عندنا في قسم الأساليب كذلك نجدها قاصرة في قسم الفنون الأدبية إلا فقرات مفرقة أو فصول درست لأغراض غير أدبية كما في آداب البحث والمناظرة. وبالموازنة بين أبحاث البلاغة كما دونتها الكتب العربية الأخيرة، وبين موضوعها كما يجب أن يكون، نستطيع أن نقرر النتائج الآتية: 1- إن نصف البلاغة النظرية مفقودة في اللغة، أكثره في قسم الفنون الأدبية، وباقية في باب الأسلوب على أن ما ترجم من خطابه أرسطو وشعره إنما نقل على أنه فلسفه لا أدب، وكانت الترجمة قاصرة فلم تفد كثيرًا. 2- إن شطرًا من الأسلوب قد درست تحت عنوان المعاني والبيان والبديع وهو شطر على خطورته يعوزه التنسيق، ولا حاجة بنا الآن إلى هذه الأسماء التي تسمى علومًا خاصة لأنها فصول بلاغية يسيره. 3- إن البلاغة العربية في حاجة إلى وضع علمي جديد يشمل هذه الأبواب والفنون التي أشرنا إليها، ويصل بينها وبين الطبيعة الإنسانية لملابستها الزمانية والمكانية، حتى يخدم الأدب، وذلك كله غير البحث التاريخي الذي يفرد له درس خاص، وقد نوهنا في مقدمة هذه الطبعة بهذا المنهج الجديد الذي ينبغي أن يوضع على أصوله علم البلاغة العربية ونعيد ذلك هنا؛ لا نمل الدعوة إليه فقد مضت القرون ونحن متخلفون في هذا الميدان، وها نحن أولاء ننتظر كتاب البلاغة الجديد حتى لا نعيش على ترديد ما سبقنا إليه في غير فائدة ولا تجديد. 4- إن الأدباء هم أولى الناس بدرس البلاغة حتى يخلصوها من أساليب الفلاسفة ومذاهبهم وألغازهم فذلك هو الذي أفسد بلاغتنا وحولها بحوثًا لفظية عقيمة أشبه بالرياضة والكيمياء. وليست أدعى أني أفعل شيئًا من ذلك في هذا الفصول وحسبي أمران: الأول: هذه الإشارة إلى ما يجب أن ننهض به. الثاني: أني تناولت الأسلوب من بعض نواحيه العامة فاتخذت الدرس فاتحة لمواصلة البحث علنا ننتهي إلى وضع علم البلاغة العربية. |
|
08-08-2018, 07:43 PM | #46 |
| وُقُوعُ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ من كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ذَهَبَ شُذُوذٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ تَعَدُّدُ الْمُسَمَّيَاتِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ اسْمٍ بِمُسَمًّى غَيْرِ مُسَمَّى الْآخَرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى تَعْطِيلُ فَائِدَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لِحُصُولِهَا بِاللَّفْظِ الْآخَرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِاتِّحَادِ الْمُسَمَّى فَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسَمَّى الْمُتَعَدِّدِ بِتَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ، وَغَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْأَسْمَاءِ بِإِزَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ أَهْلِ الْوَضْعِ مِنْ وَضْعِهِمْ. فَاسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِيمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ خِلَافُ الْأَصْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَؤُونَةَ فِي حِفْظِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ أَخَفُّ مِنْ حِفْظِ الِاسْمَيْنِ، وَالْأَصْلُ إِنَّمَا هُوَ الْتِزَامُ أَعْظَمِ الْمُشْتَقَّيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْفَائِدَتَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَ الِاسْمُ دَعَتْ حَاجَةُ الْكُلِّ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مَعَ خِفَّةِ الْمَؤُونَةِ فِي حِفْظِهِ فَعَمَّتْ فَائِدَةُ التَّخَاطُبِ بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا تَعَدَّدَتِ الْأَسْمَاءُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى أَمْرَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ مَجْمُوعَ الْأَسْمَاءِ، أَوِ الْبَعْضَ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ شَاقٌّ جِدًّا وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ، وَالثَّانِي فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَالُ بِفَائِدَةِ التَّخَاطُبِ لِجَوَازِ اخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَعْرِفَةِ اسْمٍ لَا يَعْرِفُهُ الْآخَرُ. وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يَضَعَ وَاحِدٌ لَفْظَيْنِ عَلَى مُسَمَّى وَاحِدٍ ثُمَّ يَتَّفِقُ الْكُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تَضَعَ إِحْدَى الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدَ الِاسْمَيْنِ عَلَى مُسَمَّى وَتَضَعُ الْأُخْرَى لَهُ اسْمًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورِ كُلِّ قَبِيلَةٍ بِوَضْعِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَشِيعُ الْوَضْعَانِ بَعْدُ بِذَلِكَ، كَيْفَ وَذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ وَاقِعٌ بِالنَّظَرِ إِلَى لُغَتَيْنِ ضَرُورَةً فَكَانَ جَائِزًا بِالنَّظَرِ إِلَى قَبِيلَتَيْنِ. قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ " لَا فَائِدَةَ فِي أَحَدِ الِاسْمَيْنِ " لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّوْسِعَةُ فِي اللُّغَةِ وَتَكْثِيرُ الطُّرُقِ الْمُفِيدَةِ لِلْمَطْلُوبِ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ حُصُولِ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ تَعَذُّرُ الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اتَّحَدَ الطَّرِيقُ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ أُخَرَ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ بِمُسَاعَدَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْحَرْفِ الرَّوِيِّ وَوَزْنِ الْبَيْتِ وَالْجِنَاسِ وَالْمُطَابَقَةِ وَالْخِفَّةِ فِي النُّطْقِ بِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ لِأَرْبَابِ الْأَدَبِ وَأَهْلِ الْفَصَاحَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُقُوعِ التَّرَادُفِ، بِدَلِيلِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجَازِيَّةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ مِنْهُ وَهُوَ زِيَادَةُ مَؤُونَةِ الْحِفْظِ، إِنْ لَوْ وُظِّفَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِفْظُ جَمِيعِ الْمُتَرَادِفَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي حِفْظِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَعَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ، أَنَّهُ مُلْغًى بِالتَّرَادُفِ فِي لُغَتَيْنِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالتَّرَادُفِ الْإِخْلَالُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَوَّلًا وَهُوَ مَحْذُورٌ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ، مَا نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ " الصُّهْلُبُ وَالشَّوْذَبُ مِنْ أَسْمَاءِ الطَّوِيلِ، وَالْبُهْتُرُ وَالْبُحْتُرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَصِيرِ " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ حَتَّى يَتْبَعَ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَتَعَسَّفُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمَدْلُولَاتِ، لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَفِيَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَظَهَرَ الْبَعْضُ، فَيُجْعَلُ الْأَشْهُرُ بَيَانًا لِلْأَخْفَى وَهُوَ الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ. وَقَدْ ظُنَّ بِأَسْمَاءَ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ وَهِيَ مُتَبَايِنَةٌ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا إِذَا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ وَالْهِنْدِيِّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ وَصِفَةِ صِفَتِهِ كَالنَّاطِقِ وَالْفَصِيحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَيُفَارِقُ الْمُرَادِفُ الْمُؤَكِّدَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَادِفَ لَا يَزِيدُ مُرَادِفُهُ إِيضَاحًا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا يُرَادِفُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُؤَكِّدِ. وَالتَّابِعُ فِي اللَّفْظِ فَمُخَالِفٌ لَهُمَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ الْمَتْبُوعِ، وَأَنَّهُ قَدْ لَا يُفِيدُ مَعْنًى أَصْلًا كَقَوْلِهِمْ: حَسَنٌ بَسَنٌ، وَشَيْطَانٌ لَيْطَانٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سَأَلَتْ أَبَا حَاتِمٍ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ " بَسَنٌ " فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ. |
|
08-08-2018, 07:44 PM | #47 |
| خير الكلام الوسط من كتاب البيان والتبيين للجاحظ وقال بعض الربانيين من الأدباء، وأهل المعرفة من البلغاء ممن يكره التشادق والتعمّق، ويبغض الإغراق في القول، والتكلّف والاجتلاب، ويعرف أكثر ادواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع، والذي يورث الاقتدار من التهكم والتسلط، والذي يمكن الحاذق والمطبوع من التمويه للمعاني، والخلابة وحسن المنطق، فقال في بعض مواعظه: «أنذركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم دلا متعشقا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملا. والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها، بقدر ما زينت، وحسب ما زخرفت. فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض ، وصارت المعاني في معنى الجواري. والقلب ضعيف، وسلطان الهوى قوي، ومدخل خدع الشيطان خفي» . فاذكر هذا الباب ولا تنسه، ولا تفرّط فيه، فإن عمر بن الخطاب رحمه الله لم يقل للأحنف بن قيس- بعد أن احتبسه حولا مجرّما، ليستكثر منه، وليبالغ في تصفح حاله والتنقير عن شأنه-: «إن رسول الله صلّى الله عليه وآله قد كان خوّفنا كل منافق عليم، وقد خفت أن تكون منهم» إلا لما كان راعه من حسن منطقه، ومال إليه لما رأى من رفقه وقلة تكلّفه، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «» إن من البيان لسحرا» - وقال عمر بن عبد العزيز لرجل أحسن في طلب حاجة وتأتى لها بكلام وجيز، ومنطق حسن: «هذا والله السحر الاحلال» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لا خلابة» . فالقصد في ذلك أن تجتنب السوقي والوحشي، ولا تجعل همك في تهذيب الألفاظ، وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني. وفي الاقتصاد بلاغ، وفي التوسط مجانبة للوعورة، وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه. وقد قال الشاعر: عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا وقال الآخر: لا تذهبنّ في الأمور فرطا ... لا تسألنّ إن سألت شططا وكن من الناس جميعا وسطا وليكن كلامك ما بين المقصر والغالي، فإنك تسلم من المحنة عند العلماء، ومن فتنة الشيطان. وقال أعرابي للحسن: علمني دينا وسوطا، لا ذاهبا شطوطا، ولا هابطا هبوطا. فقال له الحسن: لئن قلت ذاك إن خير الأمور أوساطها. وجاء في الحديث: «خالطوا الناس وزايلوهم» . وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: «كن في الناس وسطا وامش جانبا» . وقال عبد الله بن مسعود في خطبته: «وخير الأمور أوساطها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، نفس تنجيها، خير من إمارة لا تحصيها» . وكانوا يقولون: أكره الغلوّ كما تكره التقصير. وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لأصحابه: «قولوا بقولكم ولا يستحوذنّ عليكم الشيطان» . وكان يقول: «وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم» . |
|
08-08-2018, 07:47 PM | #48 |
| التعبير القرآني من كتاب أسرار البيان في التعبير القرآني لفاضل السامرائي لا خلاف بين أهل العلم أن التعبير القرآني تعبير فريد في عُلُوِّهِ وسُمُوِّهِ وأنه أعلى كلام وأرفعه. وأنه بهر العرب فلم يستطيعوا مداناته والإتيان بمثله مع أنه تَحدَّاهم أكثر من مرة. لقد تحدى القرآنُ العرب ثم جميع الخلق بأن يأتوا بمثله ثم أخبر أنهم لن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. فقد تحداهم أولاً بأن يأتوا بعشر سور مثله إن كانوا يرون أنه مفترى فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود: 13-14] . فلما انقطعوا وقامت الحجة عليهم تحداهم بأن يأتوا بسورةٍ من مثله وأخبر أنهم لن يفعلوا فانقطعوا أيضاً وقامت الحجة عليهم، قال تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صادقين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ للكافرين} [البقرة: 23-24] . وأَكَّد التحدي بقوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . دعا القرآن العرب إلى أن يأتوا بسورة من مثله ويشمل هذا التحدي قِصارَ السور كما يشمل طوالها فهو تَحدَّاهم بسورة الكوثر والإخلاص والمعوذتين والنصر ولإيلاف قريش أو أية سورة يختارونها، ومن المعلوم أن العرب لم يحاولوا أن يفعلوا ذلك فقد كانوا يعلمون عجزهم عنه، ورأوا سبيل الحرب والدماء وتجميع الأحزاب أيسر عليهم من مقابلة تحدي القرآن. ومن الثابت أن القرآن الكريم كان يأخذهم بروعة بيانه وأنهم لا يملكون أنفسهم عن سماعه ولذلك سعوا إلى أن يحولوا بين القرآن وأسماع الناس. سعوا إلى أن لا يصل إلى الأذن لأنهم يعلمون أن مجرد وصوله إلى السمع يُحْدِثُ في النفس دَويّاً هائلاً وهِزَّة عنيفة وقد حكى الله عنهم هذا الأسلوب فقال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهاذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] . وكان صناديد قريش وأعتاهم محاربةً للرسول وأشدهم كيداً له ونيلاً منه لا يملكون أنفسهم عن سماعه، فقد كان كل من أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق يأخذ نفسه خِلْسةً لسماعه في الليل والرسول في بيته لا يعلم بمكانهم ولا يعلم أحد منهم بمكان صاحبه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا. حتى إذا كنت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفروا وجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. وقد أخبر الله نبيه بهذا الأمر فقال: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الإسراء: 47] . وما قول الوليد بن المغيرة بِسِرٍّ. فقد اجتمع إليه نفر من قريش ليُجمعوا على رأي واحد يصدرون عنه يقولونه للناس في الموسم فقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: مجنون. فكان يرى هذه الأقوال ويُفَنِّدها ثم قال: "والله إنَّ لقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو وما يُعلى عليه". إن التعبير القرآن تعبير فني مقصود. كل لفظة بل كل حرف فيه وُضِعَ وضعاً فنياً مقصوداً، ولم تُراعَ في هذا الموضع الآية وحدها ولا السورة وحدها بل رُوعي في هذا الوضع التعبير القرآني كله. لقد انتبه القدماء إلى أن السور التي بدأت بالحروف المفردة بنيت على ذلك الحرف، فإن الكلمات القافيّة ترددت في سورة (ق) كثيراً والكلمات الصاديّة ترردت في صروة (ص) كثيراً وهكذا. جاء في (ملاك التأويل) في السور التي تبدأ بالأحرف المقطعة: "إن هذه السور إنما وقع في أول كل سورة منها ما كثر تَردادهُ فيما تركب من كَلِمها. ويوضحُ لك ما ذكرت أنك إذا نظرت في سورة منها بما يماثلها في عدد كلمها وحروفها وجدت الحرف المفتتحَ بها تلك السورة إفراداً وتركيباً أكثر عدداً في كلمها منها نظيرتها ومماثلتها في عدد كلمها وحروفها". واستندوا إلى الإحصاء، جاء في (ملاك التأويل) عن سبب بدء سورة (لقمان) بـ (ألم) وسرة يونس بـ (ألر) : "أنَّه تكرر في سورة يونس من الكلام الواقع فيها الراء مائتا كلمة وعشرون كلمة أو نحوها. وأقر السور إليها مما يليها بعدها من غير المفتتحة بالحروف المقطعة سورة النحل وهي أطول منها. والوارد فيها مما تركب على الراء من كَلِمها مائتا كلمة مع زيادتها في الطول عليها". وانتبهوا إلى شر آخر وهو أن عدد هذه الحروف أربعة عشر حرفاً أي بمقدار نصف حروف المعجم ترددت في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشرة حرفاً وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. وبيان ذلك أن فيها من الحروف المهموسة نصفها، ومن المجهورة نصفها، ومن الشديدة نصفها، ومن الرخوة نصفها، ومن المطبقة نصفها، ومن المنفتحة نصفها، ومن المستعملة نصفها، ومن المنخفضة نصفها، ومن حروف القلقلة نصفها، وقد ذكر من هذه الأنصاف ما هو كثير الدروان في الكلام، فسبحان الذي دَقَّتْ في كل شيء حِكمتُه. وليس هذا كل شيء في الإحصاء بل هناك شيء آخر وربما أشياء. أفلم تقرأ لإحصاءات الأخرى في كتاب الله العزيز لترى العجب؟ لقد تبين أنه لم توضع الألفاظ عبثاً ولا من غير حساب، بل هي موضوعة وضعاً دقيقاً بحساب دقيق دقيق. لقد تبين: أن (الدنيا) تكررت في القرآن بقدر (الآخرة) فقد تكرر كُلُّ منهما 115 مرة. وأن (الملائكة) تكررت بقدر (الشياطين) فقد تكرر كل منهما 88 مرة. وأن (الموت) ومشتقاته تكرر بقدر (الحياة) فقد تكر كل منهما 145 مرة. وهل الموت إلا للأحياء؟ وأن (الصيف) والحر تكررا قدر لفظ (الشتاء) والبرد فقد تكرر كل منهما خمس مرات. وأن لفظ (السيئات) ومشتقاتها تكرر بقدر لفظ (الصالحات) ومشتقهاتها فقد تكرر كل منهما 167 مرة. وأن لفظ (الكفر) تكرر بقدر لفظ (الإيمان) فقد تكرر كل منهما 17 مرة. وتكرر لفظ (كفراً) بقدر لفظ (إيماناً) فقد تكرر كل منهما ثماني مرات. وأنه تكرر ذكر (إبليس) بقدر لفظ الاستعاذة فقد تكرر كل منهما 11 مرة. وأن ذكر (الكافرين) تكرر بنفس عدد النار. وهل النار إلا للكافرين؟ وأن ذكر (الحرب) تكرر بعدد الأسرى. وهل الأسرى إلا من أوزار الحرب؟ وأن لفظ (قالوا) تكرر 332 مرة "ومن عجبٍ ن يتساوى هذا مع لفظ (قل) الذي هو أمرٌ من الله إلى خلقه، فسبحان من قال (قل) 332 مرة فكان القول 332 مرة". وأن لفظ (الشهر) تكرر 12 مرة بعدد الشهور السنة. وأن لفظ (اليوم) تكرر 365 يوم بعدد أيام السنة. وأن الفظ (الأيام) تكرر 30 مرة بعدد أيام الشهر. وقد تقول: ولِمَ لم يعكس فيذكر اليوم ثلاثين مرة بقدر أيام الشهر و (الأيام) 365 مرة بقدر أيام السنة؟ والجواب أن العرب تستعمل الجمع تمييزاً لأقل العدد وهو ثلاثة إلى عشرة فتقول: ثلاثة رجال، وأربعة رجال، وعشرة رجال. فإن زاد على العشرة وصار كثرة جاءت بالمفرد فتقول: عشرون رجلاً. مائة رجل، وألف رجل. فالجمع يوقعونه تمييزاً للقلة والمفرد يقعونه تمييزاً للكثرة. وكثيراً ما يوقعون المفرد للكثرة بخلاف الجمع من ذلك الوصف بالمفرد والوصف بالجمع. فالوصف بالمفرد يدل على الكثرة، والوصف بالجمع يدل على القلة فقولك (أشجار مثمرات) يدل على أن عدد الشجرات قليل بخلاف ما لو قلت (أشجار مثمرة) فإنه يدل على أن الأشجار كثيرة. ويوقعون ضمير المفرد للكثرة وضمير الجمع للقلة. ألا ترى أن قولك: "الرماح تَكسّرن" يعني أن الرماح قليلة وذلك لمجيء نون النسوة بخلاف قولك: "الرماح تكسَّرتْ" فإنها تعني أن الرماح كثيرة. والنون في الأصل للجمع والتاء للمفرد. ألا ترى في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . كيف لما قال: (إثنا عشر شهراً) قال: (منها) . لما قال: (أربعة) قال: (فيهن) فاستعمال المفرد (منها) للكثرة والجمع (فيهن) للقلة. وغير ذلك. فهو جرى على سنن كلام العرب في التعبير. والقرآن أُنزل بلسان عربي مبين وغير ذلك وغيره. فأي إعجاز هذا أيها الناس! أي إعجاز هذا أيها العلماء! أي إعجاز هذا أيها المفتونون بالعلم! ومن يدري ماذا سيجدُّ بعد في دراسات القرآن الكريم وماذا سيرى الناس من عجائبه؛ فإن هذا الكتاب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقضي عجائبه ولا يَخلَقُ من كثرة الرد" ثم إن القرآن له خصوصيات في استعمال الألفاظ: فقد اختص كثيراً من الألفاظ باستعمالات خاصة به مما يدل على القصد الواضح في التعبير فمن ذلك أنه: استعمل (الرياح) حيث وردت في القرآن الكريم في الخير والرحمة، واستعمل (الريح) في الشر والعقوبات قال تعالى: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وانظر الفرقان [48] والنمل [63] . وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ} [الروم: 46] . في حين قال: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117] . وقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] . وقال: {فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] . وغير ذلك وغيره. ولم يستعمل الريح في الخير إلا في موطن واحد أعقبها بالشر وهو قوله تعالى: {إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22] وهي خاتمة غير حميدة. ومن ذلك ذِكْرُ المطر فإنك "لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام بخلاف الغيث الذي يذكره القرآن في الخير. قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} [النمل: 58] وانظر الشعراء [173] . وقال {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} [الأعراف: 84] . وقال: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} [الفرقان: 40] . في حين قال: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولي الحميد} [الشورى: 28] . وقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] . ومن ذلك ما اختص به القرآن الكريم في استعمال العيون والأعين. فلم يستعمل العيون إلا لعيون الماء. وقد وردت كلمة (العيون) في القرآن الكريم في عشرة مواطن كلها بمعنى عيون الماء من مثل قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] وقوله: {فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] . في حين جمع العين الباصرة على أعين مثل قوله تعالى: {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} [الكهف: 101] وقوله: {سحروا أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116] وقوله: {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} [المائدة: 83] . ومن ذلك استعمال (وصى) و (أوصى) فكل ما ورد فيه من (وصّى) بالتشديد فهو في الدين والأمور المعنوية، وكل ما ورد من (أوصى) فهو في الأمور المادية. قال تعالى: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] وقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله} [النساء: 131] . في حين قال: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] وهو في المواريث. وقال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . وهي كما ترى كلها في الأمور المادية. ولم ترد (أوصى) في القرآن الكريم للأمور المعنوية إلا في موطن واحد اقترنت فيه بأمر مادي وهو قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31] فإنه قال (أوصاني) لما اقتنرت الصلاة بالزكاة والزكاة أمر مادي يتعلق بالأموال كما هو معلوم. ومن ذلك قوله تعالى: (يشاقّ) و (يشاقق) وهما لغتان: الفَكُّ لغةُ الحجاز والإدغام لغة تميم، ولكن القرآن استعملهما استعمالاً خاصاً فحيث ورد ذكر الرسول فك الإدغام. وحيث لم يرد ذكْرُ الرسول بل ورد ذكر الله وحده أدغم. قال تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 13] . وقال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} [النساء: 115] في حين قال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الحشر: 4] . ولعله وحّد الحرفين وأدغمهما في حرف واحد لأنه ذكر الله وحده وفكَّهما وأظهرهما لأنه ذكر الله والرسول فكانا اثنين. يتبع |
|
08-08-2018, 07:48 PM | #49 |
| وخصوصيات الاستعمال القرآني كثيرة لا نريد أن نستقصيها الآن ولكن أردنا فقط أن نضرب أمثلة على ذلك لنتبين (القصد) والدقة في اختيار ألفاظ القرآن. ومع هذا الاستعمال الرياضي الإحصائي العجيب للألفاظ فالتعبير القرآني هو في قمة الأدب والفن. فإنك إذا نظرت إلى أَيِّ ضَرْبٍ من ضروب التعبير فيه وجدته وحدة متكاملة ليس فيها نُبوٌّ ولا اختلاف. فإذا نظرت إلى التوكيد مثلاً وجدته على تباعد مواطنه وتفرقها في القرآن وحدة فنية متكاملة متناسباً في كل موطن مع السياق الذي ورد فيه منسقاً معه ومنسقاً مع كل المواطن الأخرى التي ورد فيها التوكيد. فالقرآن قد يؤكد بـ (إنّ) وحدها مثلاً، أو قد يؤكد باللام أو يجمع بينهما، ولو أنعمت النظر لوجدت أن كل موضع يقتضي التعبير الذي عبر به فلا يصح أن تزاد اللام في الموضع المنزوع منه ولا تحذف في موطن الذِّكْرِ أينما وردت في القرآن وكذلك (إنّ) ونحوها. فهو يقول مثلاً: (إن الله شديد العقاب) مؤكداً بإن وحدها في مواطن عديدة من القرآن. ويقول: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} [الرعد: 6] مؤكداً بإن واللام. ويقول: {والله شَدِيدُ العقاب} [آل عمران: 11] بلا توكيد. ويقول: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218] بلا توكيد في مواضع متعددة تبلغ ثلاثة عشر موضعاً. ويقول: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173] مؤكداً بإن في أكثر من عشرين موضعاً. ويؤكد بإن واللام في مواضع أخرى متعددة. ويحذف ويؤكد في تعبيرات أخرى تبلغ المئات وهو يراعي في كل ذلك الدقة في التعبير ووضع كل لفظ في مكانه حسبما يقتضيه السياق بحيث لا يصح وضع تعبير مُؤكَّد في مكان غير مؤكد، ولا ما أُكِّد بأكثر من مؤكد في موطن أُكد بمُؤكدٍ واحد. وكذا الأمر في غير (إنّ) فهو يقول مثلاً: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين} [هود: 47] بلا توكيد. ويقول مرة أخرى: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] بتوكيد الجواب. ويقول مرة ثالثة: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 149] بتوكيد الجواب وبذكر اللام الموطئة قبل الشرط، كل ذلك حسبما يقتضيه الموطن والسياق، ولا يصح البتة وضع آية من هذه الآيات في غير سياقها وموطنها كما سنبين ذاك. فلو نظرت إلى التوكيد في القرآن لوجدته لوحة فنية عالية متناسقة على سعة التوكيد واختلاف المؤكدات وتنوعها. وقُلْ مثل ذلك عن الاستفهام. فهو قد يستفهم مرة بالهمزة ومرة بـ (هل) فهو مرة يقول: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله} [المائدة: 60] . ومرة يقول: {أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم} [الحج: 72] . ومرة يستفهم بـ (ما) ومرة بـ (ماذا) والقصة واحدة. فيقول مرة في إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 70] . ويقول: مرة أخرى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85] وغير ذلك وغيره. وقُلْ مثل ذلك عن التقديم والتأخير. فهو قد يُقدِّمُ كلمةً في مكان ويُؤخِّرها في مكان. أو يقدم عبارة في مكان ويؤخرها في مكان فهو يقدم (السماء) على (الأرض) مرة، ومرة يقدم (الأرض) على السماء، ومرة يقدم (الإنس) على (الجن) ، ومرة يقدم (الجن) على (الإنس) . ومرة يقدم (الركوع) على (السجود) ومرة يقدم (السجود) على (الركوع) فهو مرة يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} [الحج: 77] ومرة أخرى يقول: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] . ويقول مرة: {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] . ويقول مرة أخرى: {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} [البقرة: 264] . وهو قد يذكر كلمة أو عبارة في موطن لا يذكرها في موطن آخر يبدو شبيهاً به فهو يقول مثلاً في موطن: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174] ويقول في موطن آخر: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] فيزيد عبارة (ولا ينظر إليهم) . وغير ذلك وغيره. كل ذلك يضعه وضعاً فنياً في غاية الروعة والجمال. ثم هو يجمع بين ضروب القول المختلفة ويُؤلِّفُ بينها في حشدٍ فني عجيب لا يملك العارف بشيء من أسرار التركيب إلا أن يسجد لصاحب هذا الكلام إجلالاً وخشوعاً {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] . لقد دُرِسَ التعبيرُ القرآني دراساتٍ مستفيضة وأُولِيَ من النظر ما لم يَنَلْهُ نصٌّ آخر في الدنيا. فقد دُرِسَ من حيث تصويره الفني فكان أجمل تصوير وأبرع لوحة فنية. ودرس من حيث نظمه وموسيقاه فكان أروع عقد منظوم وأعذب قطعة فنية موسيقية. وهل يشك أحد في فخامة نظمه وحلاوة موسيقاه وعذوبة جرسه وحسن اختيار ألفاظه وجمال وقع آياته؟! ودُرسَ تناسبُ سورهِ سورةً سورة، وتناسب آياته آية آية، وتناسب فواتح السور وخواتمها، فكان قطعة فينة واحدة محكمة الربط فخمة النسج، وكان كما قال الفخر الرازي: إن القرآن كالسورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بل هي كالآية الواحدة. ودرس من حيث إعجازه فكانت جوانب إعجازه لا تحصى. أَهُوَ في أسلوبه وتعبيره، أم هو في تشريعه وفقهه، أم في معالجته جوانب الحياة المختلفة على أكمل وجه وأبهى صورة، أم هو في إخباره عن الأمم الماضية والأقوام البائدة. أم هو في إخباره عما سيقع. أم هو فيما قرره من حقائق علمية وكونية يكتشف الناس على مدى الدهر قسما منها، أم هو فيما وضعه من قواعد وأصول التربية ومعرفته بأدواء القلوب والنفوس. أما هو فيما ذكره من سنن التاريخ والخلق أو فيما ذكره من أصول علم الاجتماع أو غير ذلك وغيره. أم هو في كل ذلك وأشياء أخرى فوق ذلك؟! أهو كتاب لغة أم كتاب أدب أم كتاب تشريع أم كتاب اقتصاد أم كتاب تربية أم كتاب تاريخ أم كتاب اجتماع أم كتاب سياسة أم كتاب عقائد أم هو كل ذلك وفوق ذلك؟! عجيب أمر هذا الكتاب! يراه الأديبُ معجزاً ويراه اللغوي معجزاً، ويراه أرباب القانون والتشريع معجزاً، ويراه علماء الاقتصاد معجزاً، ويراه المربون معجزاً، ويراه علماء النفس والمَعْنيون بالدرسات النفيسة معجزاً، ويراه علماء الاجتماع معجزاً، ويراه المصلحون معجزاً، ويراه كل راسخٍ في علمه معجزاً. لقد كشف لهم وهم يبحثون في وجوه إعجازه عن بحار ليس لها ساحل، وغاصوا في لُجَجٍ ليس لها قعر، وكُلٌّ عاد بلؤلؤةٍ كريمة أو عقد نظيم، وبقيت ثُمَّةَ خزائن تفوق الحصر لم يَلِجها الوالجون وكنوز لا يطيقها إحصاء، لم تمتد إليها الأيدي، تفنى الدنيا ولا تفنى، ويبلى كل جديد ولا تبلى. فيها من عجائب صنع الله ما لو اطَّلعتَ عليه لم تعرف كيف تصنع ولا سْتبَدَّ بكَ عَجَبٌ لا ينتهي وتمكن منك انبهار لا ينقضي. ومفتاحُ ذلك تَدَبُّرهُ والنظرُ فيه. فامنحه شيئاً من التدبر والنظر يمنحك من أسراره ما لم يكن منك ببال. إنه يعطيك أضعاف ما تعطيه. إن هذا الكتاب يمنحُ مَنْ نظر فيه وتدبره خزائن بغير حساب ويفتح الله عليه من ألطافه ما يَجِلُّ عن الوصف فلا تُضيِّع هذه الصفقة الرابحة وإلا فأنت والله مغبون. أأدركتَ الآن سر قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] . أمّا أنهم لو تدبروه لَفُتحت أقفال القلوب ولان ما كان عصيّاً من الأفئدة، وَلأُوقدت مصابيح عهدُها بالنور بعيد، وأشرقت دروب لم يسقط عليها فيما مضى نور، ولحيت نفوس ما عرفت قبل ذلك حياة. ألم يُسَمِّهِ اللهُ نوراً فقال: {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] . أولم يُسَمِّه الله روحاً فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولاكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ؟ فهو روح ونور - وهل بعد ذلك شيء! وهل قبله شيء! ليت شعري هل يفقه الناس؟ ألا ليت الناس يفقهون. |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
سطور , في , كتاب |
| |