الإهداءات | |
| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
08-08-2018, 07:49 PM | #50 |
| مكانة الشعر العربي من كتاب مكانة الشعر في الشريعة الإسلامية للأهدل مما لا شك فيه أن كثيرا من الشعر العربي له اليد الطولى في المساهمة في تفسير كثير من ألفاظ الشريعة الواردة في الأصلين العظيمين والمصدرين الكريمين الكتاب والسنة إذ بواسطة الشواهد والأدلة من الأدب العربي نستعين على فهم كتاب الله الكريم وسنة صاحب الخُلق العظيم. وبواسطته بحث علماء اللسان الأساليب المختلفة والتراكيب المتنوعة في الشعر العربي فأرسوا قواعدهم وأصلوا أصولهم مستقين من معينه ومستضيئين بنور مصباحه. قال الأستاذ محمد أمين حنفي في موضوع الأدب الإسلامي مستعرضا الأسباب التي اقتضت محافظة المسلمين على الأدب الجاهلي عدة أسباب، فالسبب الأول هو حاجة مفسري القرآن الكريم إلى شواهد الأدلة من كلام العرب القديم على صحة التفسير والفهم لكلام رب العالمين، والسبب الثاني هو بحث النحاة واللغويين في عصر التدوين ووضع قواعد اللغة العربية عن الشعر الجاهلي وعن كل كلام عربي قديم وإحيائهم وتسجيلهم لكل ما نقوله أو سمعوه من أجل استنباط القواعد ومعرفة معاني الكلمات. والسبب الثالث هو اقتداء الشعراء بالشعر الجاهلي وروايتهم له وتقليدهم إياه لأنه كان هو المقياس للقيمة الأدبية لدى النقاد والعلماء في ذلك الوقت. ويضاف إلى ذلك سبب رابع هو ظهور الصراع الشعوبي بين العرب وغيرهم من بعض الأعاجم مما دفع العرب والمسلمين المخلصين إلى التمسك بالتراث العربي وبلغة القرآن والدفاع عنه والتعصب له والتنديد بالشعراء الذين يخرجون على عمود الشعر الجاهلي ولذلك كان للشعر العربي الجاهلي مكانته في النفوس وقيمته لدى العلماء والأدباء مما جعله يحتفظ بعموده وأساليبه ومعانيه دون أن يجرؤ أحد على النيل من مكانته أو قيمته وإن كان يحوي كثيرا مما لا يرضى به الإسلام كالغزل بنوعيه والتشبيب والنسيب والهجاء، وإعلان الفجور والمجون ووصف مجالس اللهو والشراب وما إلى ذلك من الأمور المنكرة". قلت ومما لا يجهله كل الناس أن الشعر له الأثر الطيب في إعانة طلاب العلم وحملة الشريعة على جمع ما تفرق ونظم ما تشتت من العلوم والفوائد بل وسائر الفنون فإنه ما من فن من فنون القرآن والحديث وعلوم اللغة إلا وقد نظمت فيه المناظيم وقيلت فيه الأشعار فسهل حفظها على الصغار والكبار وللوسائل حكم المقاصد كما هو معروف. وأنا لست من المتعصبين للشعراء ولا المبررين لزلات الشعر وهفوات شعرائه ولكني أقول إنه أداة من أدوات الفنون قابل للخير والشر حسنه حسن وقبيحه قبيح كسائر الكلام بيد أن الأشعار الجاهلية والقصائد الأولية التي قيلت في زمن الاحتجاج بأهلها لها الفوائد القيمة التي أشرنا إليها حتى وإن كانت هجوا مقذعا أو غزلا مكشوفا أعني من حيث أنه أسلوب عربي فما يمنعنا والحالة هذه أن نجني من ثمار أشجاره ما طاب ونترك منها ما خبث من توجيه غير حسن أو دعوة إلى غير القيم المثلى، أو افتخار بنزعة من نزعات الجاهلية الأولى. ولذا يقول ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعر والشعراء ما نصه: "وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب والدين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم". قلت: والمتتبع لعلماء السلف والخلف يجد أن أكثرهم قد أدلى بدلوه في هذا المضمار ونظم جيد الأشعار ولكنهم يتفاوتون في القلة والكثرة وإنما اتصف بعضهم بالشاعر أو الأديب لكونه صار ديدنه والظاهرة التي تغلب عليه أو لنبوغه فيه وتفوقه على أقرانه يدل على ما ذكرناه ما سجله ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء حيث يقول: "قَلَّ أحد له أدنى ملكة من أدب وله أدنى حظ من طبع إلا وقد قال من الشعر شيئا ولو أردنا أن ندوِّن في كتابنا هذا كل شاعر لذكرنا أكثر الناس ولاحتجنا أن نذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة التابعين وقوما كثيرا من حملة العلم ومن الخلفاء والأشراف ونجعلهم في طبقات الشعراء". إذا فللشعر قيمته وللشعراء رتبهم العالية لأنهم حفظوا لسان العرب وغاصوا على مكونات مخدراته حتى أن بعضهم قيل فيه لولا فلان لضاع ثلث اللغة وناهيك بهذه المفخرة، قال عبد الرحمن البرقوقي في مقدمته لشرح التلخيص ما لفظه: "وهل بلغ أئمة الدين هذه المنزلة بفهم أغراض القرآن ومعرفة أسرار الشريعة إلا بعد أن قبضوا على خرائم الأدب وألقيت إليهم مقاليد اللغة ألم يكن مما نجم عند تعدد الآراء بينهم أن كان أحدهم يروي من كلام العرب ما يروي الآخر غيره". هذا لفظ القرء مثلا ذهب مالك رحمه الله إلى أنه الطهر وحجته في ذلك قول الأعشى. أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه الحَيض ومستنده قول الآخر: يا رب ذي ضغن على قارض ... يرى له قرء كقرء الحائض قال ومثل هذا كثير لا يكاد يحصيه الاستقصاء حتى لقد اختصه العلماء بالتآليف وأفردوه بالكتاب. ثم ذكر قصة معزوة إلى الفاروق رضي الله عنه وخلاصتها أن عمر تلا قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} فقال للصحابة ما تقولون فيها فنهض أعرابي وقال هذه لغتنا التخوف التنقص وأنشد قول أبي كبير يصف ناقته: فقال عمر رضي الله عنه: "عليكم بديو تخوف الرحل منا تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن ان العرب فإن فيه تفسير كتابكم". قلت وقد روي عن عمر بن الخطاب أيضا أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب". قال شيخنا محمد المجذوب في تعليقه على هذا الأثر: "ولعله رضي الله عنه راعى ما فيه من تسجيل عاداتهم وأخلاقهم وتاريخ وقائعهم وأيامهم وما أودعوه من معادن حكمتهم وكنوز آدابهم". وما قال شيخنا يضاف إلى ما سبق من أنه مفسر لكثير من ألفاظ القرآن وغريب الحديث ويقع به الاحتجاج في النحو وغيره من علوم اللسان كما سبق النقل عن ابن قتيبة والله أعلم. |
|
08-08-2018, 07:50 PM | #51 |
| اللغة العربية لسان وكيان من مقالات أعداد مجلة البحوث الإسلامية لأحمد محمد جمال قبل أن نتحدث عن (اللغة العربية) كلسان للأمة العربية خاصة، وللعالم خاصة، وللعالم الإسلامية الأكبر بصفة عامة، وأثرها العميق الوثيق في تكوين كيان الأمة الإسلامية عقيدة وشريعة، وخلقا وتعاملا وارتباطا. . قبل ذلك لا بد من مقدمة وجيزة عن " اللغة " من حيث الاصطلاح الأدبي والاجتماعي: اختلف الباحثون في نشوء اللغات: هل هو توقيفي؟ أم تواضعي؟ ويقول ابن فارس في كتابه " فقه اللغة ": أن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أي الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وجبل وسهل وأشباه ذلك. . ويوضح ابن فارس معنى أن اللغة توقيف بقوله: " وليس معنى ذلك أن اللغة كلها جاءت جملة واحدة، وإنما المعنى أن الله علم آدم ما شاء، ثم علم بني آدم بعده ما شاء أيضا حتى انتهى الأمر إلى نبينا " - صلى الله عليه وسلم - "، فآتاه الله ما لم يؤت أحدا من قبله. أما ابن جني فيقول: في كتابه " الخصائص ": إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، وذلك بأن يضع حكيمان أو ثلاثة لكل واحد من الأشياء سمة ولفظا ". ويرى علماء الاجتماع أن " اللغة " تجعل من الأمة الناطقة بها كلا متراصا يخضع لقانون واحد، وأنها الرابطة الحقيقية الوحيدة بين عالم الأذهان وعالم الأبدان. وهي نظرية تصدق على لغتنا العربية كما يقول الدكتور عثمان أمين - أكثر مما تصدق على أية لغة أخرى. فاللغة العربية عظيمة الأثر في تكوين عقليتنا، وهداية سلوكنا، وتصريف أفعالنا. ذلك أنها تمتاز على اللغات الأخرى " بمثالية " عميقة صريحة، تحسب حساب الفكرة والمثال وتضعهما مكان الصدارة والاعتبار. . أي أن لغتنا العربية تفترض دائما أن شهادة الفكر أصدق من شهادة الحس، ويكفي في التعبير بها إنشاء علاقة ذهنية بين المسند والمسند إليه، دون حاجة إلى فعل الكينونة الذي هو لازمة ضرورية في اللغات " الهندو - أوربية " ودون الحاجة إلى التصريح بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب، لأن الذات متصلة دائما بالفعل في نفس تركيبه الأصلي. ويقول ابن خلدون: الملكات الحاصلة للعرب أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات على كثير من المعاني، مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول والمجرور - أي المضاف - ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. . ولا يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطبتهم أطول مما نقدره بكلام العرب. . ". حقيقة التلازم بين الإسلام والعربية والآن نتحدث عن حقيقة الارتباط الوثيق بين اللغة العربية والإسلام، وأسراره وآثاره. . إن الواقع التاريخي للغة العربية وللدين الإسلامي - خلال أربعة عشر قرنا - يثبت حقيقة التلازم والارتباط بين انتشار كل منهما وازدهاره بمساعدة الآخر. هذا إلى جانب حقيقة أخرى واضحة وثابتة هي: إن في كل من الدين الإسلامي واللغة العربية من القوة الذاتية والاستعداد الأصيل ما يكفل له الغلبة والانتصار. فاللغة العربية - ذاتها - لغة حية أدت رسالتها في الحياة خير أداء، وعبرت في عصورها الأولى عن حاجات المجتمعات التي تتخذها لغة لها تعبر بها عن مطالبها وآلامها وعلومها وآدابها وفنونها، وما زالت مستعدة للتعبير عن الحياة وما جد فيها، ومستعدة أن تتسع أكثر من ذي قبل لكل جديد مبتكر ومخترع حديث كما يقول الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في كتابه " الفصحي والعامية ". واللغة العربية أيضا - من أغنى لغات البشر ثروة لفظية تستوعب حاجات الأمة الحسية والمعنوية - كما يقول الأستاذ مصطفى السقا في مقدمة كتاب " المعجم العربي " للدكتور حسين نصار. والعرب منذ أواخر العصر الجاهلي مهتمون بلغتهم معتزون بتراثها الأدبي، وقد قيل: " الشعر ديوان العرب " ولكن اهتمامهم واعتزازهم بها ازداد مع ظهور الإسلام لأن الله عز وجل اختارها لغة لدينه قرآنا وسنة وعبادة وتشريعا. وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد، ثم تضاعف الاهتمام والاعتزاز باللغة العربية وحفظ التراث اللغوي وتنقيته من الدخيل الأعجمي أثناء الفتوحات الإسلامية وبعدها. وعلى الرغم من أن الاستعمار الغربي كان يعمل لهدم اللغة العربية بحسبانها لسان الدين الإسلامي الذي ما يزال يحاول هدمه بالدعوة إلى استخدام اللهجات العامة لغة للتأليف والكتابة كما فعل اللورد " دفرين " السياسي البريطاني حين طالب بتدوين العلوم باللغة العامية المصرية. وكما حاول المستعمرون الفرنسيون في الجزائر، إلا أن هذه الدعوات والمحاولات الاستعمارية قد باءت بالخيبة والفشل والخسران المبين. وننتقل الآن إلى الحديث عن أثر الإسلام في انتشار اللغة العربية، وسنروي أقوال بعض أئمة اللغة والأدب مختصرة عن حقيقة التلازم القوي بين انتشار الإسلام بالعربية وانتشار العربية بالإسلام. ونبدأ بالأزهري الإمام اللغوي المشهور، فهو يقول في مقدمة كتابه " تهذيب اللغة ": " الحمد لله، على ما أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة، وهدانا إلى تدبر تنزيله، والتفكر في آياته والإيمان بمحكمه ومتشابه، والبحث عن معانيه، والفحص عن اللغة العربية التي نزل بها الكتاب والاهتداء بما شرع فيها، ودعا الخلق إليه وأوضح الصراط المستقيم به، وهداهم إلى ما فضلنا به على كثير من أهل هذا العصر في معرفة لغة العرب التي نزل بها القرآن ووردت سنة المصطفى النبي المرتضى عليه السلام. هذا النص من مقدمة " التهذيب " لأحد أئمة اللغة الإعلام كاف لأن نتبين الباعث الأساسي على الاهتمام باللغة العربية، وتدوينها وتصحيحها ونشرها ألا وهو " الإسلام " قرآنا وسنة وعبادة وتشريعا. والقرآن نفسه، قبل كلام الأزهري وأمثاله من علماء اللغة، يؤكد حقيقة هذا الباعث الأساسي للاهتمام باللغة العربية والاعتزاز بتراثها العلمي والأدبي. فقد من الله تبارك وتعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى العرب الذين بعث فيهم ومنهم بقوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} إلخ. . . فنزول القرآن الكريم بالعربية - كما يتضح من آيات القرآن نفسه - دليل أهميتها وأفضليتها وباعث نهضتها، وصاحب الفضل الأكبر والأثر الأظهر في نشرها وخلودها. وهي - أيضا - لأنها أغنى اللغات بيانا وأقواها برهانا كانت ولا تزال عاملا مساعدا لنشر الإسلام، والإقبال عليه. ويكفي تدليلا على ذلك اختيار الله لها لسانا لدينه العام والأخير، وهو الإسلام ومنه بذلك على العرب خاصة والمسلمين عامة. وقد روى الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، والعلم بها عند العرب كالعلم بالسنن عند أهل الفقه) . كما نقل عن الإمام ابن تيمية قوله: " إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ". ويقول الأزهري في مقدمته: إن تعلم العربية التي يتوصل بها إلى تعلم ما تجزئ به الصلاة من تنزيل وذكر فرض على عامة المسلمين. وإن على الخاصة التي تقوم بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلم لسان العرب ولغاتها التي بها التوصل إلى معرفة ما في الكتاب (القرآن) ثم في السنة والآثار وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين من الألفاظ الغربية، فإن الجهل بذلك جهل بجملة علم الكتاب إلخ. ثم يذكر الأزهري أن من أسباب قيامه بتأليف كتابه: النصيحة الواجبة على أهل العلم لجماعة المسلمين كما جاء بها التوجيه النبوي: «الدين النصيحة (1) » أي أن دينه حمله على أن يضع كتابه في اللغة العربية لإفادة الناس ما يحتاجون إليه، والدفاع عن لغة العرب التي جاء بها القرآن، وجاءت بها السنن والآثار. . ويقول الأستاذ العقاد رحمه الله في مقدمة كتاب " الصحاح " للأستاذ العطار: (ولقد قيل كثيرا إن اللغة العربية بقيت لأنها لغة القرآن. وهو قول صحيح لا ريب فيه، ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة لأن الإسلام دين الإنسانية قاطبة وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل. وقد ماتت العبرية وهي لغة دينية أو لغة كتاب يدين به قومه، ولم تمت العبرية إلا لأنها فقدت المرونة التي تجعلها لغة إنسانية، وتخرجها من حظيرة العصبية الضيقة بحيث وضعها أبناؤها منذ قرون) . ثم يضيف الأستاذ العقاد: " إن هذه الفضيلة الإنسانية التي لا تفرق بين العربي والأعجمي ولا بين القرشي والحبشي، لهي التي أنهضت لخدمة اللغة أناسا من الأعاجم غاروا عليها من حيف الأعجمية - أي أنهم غاروا عليها من لغة أمهاتهم وآبائهم، لأنها لغتهم على المساواة بينهم وبين جميع المؤمنين بالقرآن الكريم كتاب الإسلام ". ويقول العقاد أيضا: " وستبقى اللغة العربية ما دام لها أنصار يريدون لها البقاء. ولم ينقطع أنصارها في عصرنا الحاضر بل نراهم بحمد الله يزدادون ويتعاونون. ويتلاقى أبناء البلاد المختلفة على خدمتها ودعمها، لأنهم مختلفون بمواقع البلاد متفقون بمقاصد الضمائر والألسنة والأفكار ". إن العقاد يعني بما قدم: أن إنسانية الإسلام وعالمية تشريعه الحكيم هي التي ساعدت على انتشار اللغة العربية التي هي لغة كتابه " القرآن " الذي وحد في المؤمنين به " مقاصد " الضمائر والألسنة والأفكار، على الرغم من اختلافهم في مواقع البلاد. . ويقول الدكتور حسين نصار في " المعجم العربي " لم تنهر اللغة العربية بانهيار الدولة الأموية وذلك بفضل القرآن الذي أحاط اللغة العربية بهالة من القداسة والجلال غمرت كل مسلم مهما كان جنسه ومهما كانت لغته، فاستمرت حية تتوارثها ألسنة جيل بعد جيل. وأن السبب المباشر الذي أظهر الدراسات اللغوية هو ارتباطها بالدراسات الدينية، واتحادها في النشأة. . . فقد أنزل القرآن كتاب العربية الأعظم على الرسول العربي الكريم ليدعو قومه إلى سبيل الرشاد فكان بلغتهم وعلى أساليب كلامهم. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم الصحابة من بعده المرجع في تفسير القرآن، ثم جاءت الحركة العلمية الأولى عند المسلمين التي شملت في مدة وجيزة جميع العلوم التي عرفها العالم القديم، فما اتصل بالقرآن كان أولها ظهورا حيث ظهرت كتب (غريب الحديث) وكان آخر الظواهر التي أمدت الدراسات اللغوية بالروافد ظاهرة التدوين العلمي حيث وضعت معظم العلوم العربية في أواخر العصر الأموي وأوائل العهد العباسي: كعلوم القرآن والحديث والفقه والنحو والرياضة والمنطق والكلام والفلسفة إلخ. . ". ويقول الأستاذ سيد قطب في كتابه " المستقبل لهذا الدين ": إن انتصار الصليبين في الأندلس وانتصار اليهود في فلسطين. . أعظم شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى لغته ولا قوميته بعد اقتلاع الجذر الأصيل) . ويقول أيضا: " إن المماليك - وهم من جنس التتار - حموا من التتار بلاد العرب، مع أنهم ليسوا من جنس العرب، فصمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين دفاعا عن الإسلام، لأنهم كانوا مسلمين. . صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم (ابن تيمية) الذي قاد التعبئة الروحية وقاتل في مقدمة الصفوف. . وكذلك حمى صلاح الدين الأيوبي هذه البقعة من اندثار العروبة والعرب واللغة العربية وهو كردي لا عربي. . وهو إنما حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين، لقد كان الإسلام في ضمير صلاح الدين هو الذي كافح الصليبيين، كما كان الإسلام في ضمير المظفر قظز والظاهر بيبرس والملك الناصر هو الذي كافح التتار المتبربرين ". ولغير العرب وغير المسلمين شهادات مماثلة: يؤكد جورجي زيدان في كتابه (آداب اللغة العربية) تأثير القرآن في أخلاق أهله وعقولهم وقرائحهم ومعاملاتهم. فالصبغة القرآنية أو الإسلامية - كما يقول - تظهر في مؤلفات المسلمين، ولو كانت في موضوعات علمية. . كالفلسفة والفلك والحساب، فضلا عن العلوم أو الآداب الشرعية. وبعد أن يشير جورجي زيدان إلى تأثير القرآن في حياة المسلمين المعاشية والاجتماعية يقول: ". . وهذا ما لا نراه في الأناجيل - مثلا - فإنها كتب تعليمية لمصلحة الآخرة فقط. ولا نجد فيها شرعا، ولا حكومة ولا أحوالا شخصية. . أو نحو ذلك ". ثم يضيف: " وبالجملة فإن للقرآن تأثيرا في آداب اللغة العربية، ليس لكتاب ديني مثله في اللغات الأخرى ". وجورجي زيدان هذا - كما نعلم - كاتب مسيحي معروف. . فاعترافه بتأثير القرآن على المسلمين خلقا وأدبا ولغة وثقافة، وخلو الكتب الأخرى، ومنها الأناجيل، من هذا التأثير - اعترافه هذا له قيمته الكبيرة، ودلالته الخاصة. وفي كتاب " اللغات السامية " لأرنست رينان تأكيد آخر لأثر الإسلام في انتشار اللغة العربية، فهو يقول: " إن من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية. . حيث بدت فجأة في غاية السلامة والغنى والكمال، فليس لها طفولة ولا شيخوخة. ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم إلى اللغة العربية ليفهمها النصارى ". كما يقول المستشرق برنارد لويس في كتابه " العرب في التاريخ ": " إن موجات الفتح الكبرى التي تلت موت محمد - صلى الله عليه وسلم - وإقامة الخلافة على أرس الأمة الإسلامية الناشئة قد سطرت بحروف كبرى كلمة " عرب " على خريطة القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وجعلت منها عنوانا لفصل حاسم رغم قصره، في تاريخ الفكر والأعمال البشرية ". نكتفي بهذه الآراء والنظريات الحاسمة، لبعض أئمة اللغة والأدب والتاريخ - في القديم والحديث - مسلمين وغير مسلمين. . كحجة ساطعة قاطعة على مدى التلازم الوثيق والارتباط الشامل بين انتشار الإسلام بالعربية، وانتشار العربية بالإسلام، لأنها لسانه المبين، ولغته الساحرة، ولأنه هو روحها النافذ وعقلها الرشيد. |
|
08-08-2018, 08:22 PM | #52 |
| معنى أنزل القرآن على سبعة أحرف من كتاب الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب فإن سأل سائل فقال: ما الذي نعتقد في معنى قول النبي "صلى الله عليه وسلم": "أنزل القرآن على سبعة أحرف"؟ وما المراد بذلك؟ فالجواب: أن هذا المعنى قد كثر اختلاف الناس فيه. والذي نعتقده في ذلك، ونقول به، وهو الصواب إن شاء الله: أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن: هي لغات متفرقة في القرآن، ومعان في ألفاظ تسمع في القراءة: مختلفة في السمع متفقة في المعنى. ومختلفة في السمع وفي المعنى. نحو: تبديل كلمة في موضع أخرى وصورة الخط متفقة، أو مختلفة نحو: يسيِّرُكم، وَيَنْشُرُكُمْ. ونحو: صيحة وزقية. وزيادة كلمة ونقص أخرى. وزيادة حرف ونقص آخر. وتغيير حركات في موضع حركات أخر. وإسكان حركة. وتشديد، وتخفيف. وتقديم، وتأخير. وشبه ذلك مما يسمع ويميز بالسمع. وليس هو مما يحتوي على المعاني المستترة، كقول من قال: الأحرف السبعة: حلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، وأمر ونهي، وشبه هذا. هذه معان في النفس مستترة، لا تعلم إلا بسؤال من يعتقدها دليل ذلك: أن عمر إنما سمع هشاما يقرأ غير قراءته، فأنكر عليه ولم يره يغير حكما، ولا يحرف معنى في القرآن. ويدل على ذلك: أن النبي "صلى الله عليه وسلم" لما تخاصموا إليه في القراءة أمرهم بالقراءة، فلما سمعهم صوب، قراءتهم، ولم يسالهم عن معان مستورة في أنفسهم، أنما سمع ألفاظهم فصوبها. وأيضا فإنها لو كانت في حلال وحرام، وأمر ونهي، وناسخ ومنسوخ وشبهه لم يقل: اقرءوا بما شئتم، وأي ذلك قرأت أصبت. قال بعض القراء: هي سبع أحرف منطبقة المفهوم، مختلفة المسموع، وهو معنى ما قلناه. وقال مالك وغيره: هو قراءة القارئ: عزيز حكيم. وفي موضع: غفور رحيم. وهذا الذي يخالف الخط، لا تجوز به اليوم لمخالفة خط المصحف، وهو المنهي عنه. والذي يشتمل عليه معنى القراءات: أنها ترجع إلى سبعة أوجه: الأول: أن يختلف في إعراب الكلمة، أو في حركات بنائها بما لا يزيلها عن صورتا في الكتاب، ولا يغير معناها نحو: البُخْل والبَخَلَ، وميسَرة وميسُرة. وما هن أمهاتهم، وما هن أمهاتهم. وهو كثير. يقرأ منه بما صحت روايته، وصح وجهه في العربية؛ لأنه غير مخالف للخط. الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة، أو في حركات بنائها بما يغير معناها، على غير التضاد، ولا يزيلها عن صورتها في الخط وذلك نحو قوله: "ربُّنا باعد بين أسفارنا"، و"ربِّنا بَعِّدْ بين أسفارنا". و"إذ تَلَقَّوْنَه" وتُلْقُونَه". و"ادكر بعد إمة"، و"بعد أمه". الثالث: أن يكون الاختلاف في تبديل حرف الكلمة، دون إعرابها بما يغير معناها، ولا يغير صورة الخط بها في رأي العين نحو: نُنْشِرها، ونُنْشِزُها. وفزع عن قلوبهم. وفزع عن قلوبهم. ويقص الحق، ويقض الحق. وهو كثير، يقرأ به إذا صح سنده ووجهه لموافقته لصورة الخط في رأي العين. الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، نحو: إن كانت إلا صيحة واحدة، وإلا زقية واحدة. وكالصوف المنفوش، والعهن المنفوش. فهذا يقبل إذا صحت روايته، ولا يقرأ به اليوم لمخالفته لخط المصحف؛ ولأنه إنما ثبت بخبر الآحاد. الخامس: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها في الخط، ويزيل معناها نحو: ألم تنزيل الكتاب. في موضع: ألم ذلك الكتاب. فهذا لا يقرأ به أيضا، لمخالفته للخط، ويقبل منه ما لم يكن فيه تضاد لما عليه المصحف. وهذه الأقسام كلها كثيرة لو تكلفنا أن نؤلف في كل قسم كتابا مما جاء منه، وروى، لقدرنا على ذلك لكثرته. السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير. نحون ما روي عن أبي بكر "رحمه الله" أنه قرأ عند الموت: وجاءت سكرة الحق بالموت. وبذلك قرأ ابن مسعود. وهذا يقبل لصحة معناها إذا صحت روايته. ولا يقرأ به لمخالفته المصحف؛ ولأنه أتى بخبر الأحاد. والسابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة، أو بالنقص في الحروف والكلم، فهذا يقبل منه ما لم يحدث حكما لم يقبله أحد. ويقرأ منه بما اختلفت المصاحف في إثباته وحذفه، نحو: "تجري تحتها" في براءة عند رأس المائة، و {مِنْ تَحْتِهَا} "فإن الله الغني الحميد" في الحديد، و {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد} . ونحو ذلك اختلف فيه المصاحف التي وجه بها عثمان إلى الأمصار، فيقرأ به إذا لم يخرج عن خط جميع المصاحف. ولا يقرأ منه بما لم تختلف فيه المصاحف: لا يزاد شيء لم يزد في شيء من المصاحف، ولا شيء لم ينقص في شيء من المصاحف. وأما ما اختلفت فيه القراءة من الإدغام، والإظهار، والمد، والقصر، وتشديد، وتخفيف، وشبه ذلك فهو من القسم الأول؛ لأن القراءة بما يجوز منه في العربية، وروى عن أئمة وثقات: جائزة في القرآن؛ لأنه كله موافق للخط. وإلى هذه الأقسام في معاني السبعة، ذهب جماعة من العلماء. وهو قول ابن قتيبة وابن شريح وغيرهما. لكننا شرحنا ذلك من قولهم. |
|
08-08-2018, 08:25 PM | #53 |
| أطوار اللغة العربية للكاتب محمد الخضر حسين من مقالات مجلة المنار لم يأت الباحثون عن مبدأ اللغة في أدلتهم بما تطمئن إليه النفوس ويحل منها محل القطع أو الظن القريب منه، على أن اختلافهم في تعيين الواضع هل هو الله تعالى أو البشر مما لا تترتب عليه فائدة في العمل تقتضي العناية بترجيح أحد المذهبين، ومِن ثَمّ صحح المحققون أن إدخال هذه المسألة في علم الأصول من الفضول، وزعم بعضهم أن قلب الألفاظ التي يؤدي تغييرها إلى فساد في أحكام الشريعة كتسمية الثوب فرسًا والفرس ثوبًا يرجع حكمه إلى أصل ذلك الخلاف فيمتنع القلب على القول بأن اللغة كلها وقعت بتعليم مِن الله ويجوز على القول بأنها وضعت باصطلاح البشر وليس هذا البناء بمستقيم فإن مجرد إسناد الوضع إلى الله تعالى، وإن ثبت بالحجة القاطعة لا يقتضي الوقوف عند حد ما ورد منه والإمساك عن تغييره باصطلاح جديد. وأقصى ما ثبت في التأريخ أن هذه اللغة كانت في قبائل مِن ولد سام بن نوح عليه السلام وهم: عاد وثمود وجرهم الأولى ووبار وغيرها وقد انقرضت أجيال هؤلاء إلا بقايا متفرقين في القبائل، ولا يصح شيء مما يُروى عنهم من الشعر، وقد أنكر العارفون على مَن كتب في السيرة أشعارا كثيرة ونسبها إلى عاد وثمود، ثم انتقلت إلى بني قحطان وكانوا يتكلمون باللسان الكلداني لسان أهل العراق الأصليين وأول مَن انعدل لسانه إلى العربية (يعرب بن قحطان) وبعد أن نشأت منها الحميرية لغة أهل اليمن انتقلت إلى أولاد إسماعيل عليه السلام بالحجاز، ولم تكن لغة إسماعيل عربية بل كان عِبرانيا على لسان أبيه إبراهيم عليه السلام، ثم انخرط في شعوب العرب بمجاورتهم ومصاهرته لجرهم الثانية حين نزل بمكة فنطق بلسانهم وورثه عنه أولاده؛ فأخذوا يصوغون الكلام بعضه مِن بعض ويضعون الأسماء بحسب ما يحدث مِن المعاني إلى أن ظهرت اللغة في كامل حسنها وبيانها وصار لها شأن عظيم وتأثير بليغ. ويدلك على عنايتهم بأمر الفصاحة ما وصل إلينا من نتائج أفكارهم وبدائع خُطَبِهم وقصائدهم في سوق عُكَاظ وسوق مُجنة؛ إذ يَفِدون عليها في موسم الحج ويقيمون في عكاظ ثلاثين يومًا وفي مجنة سبعة أيام يتناشدون ما وضعوه في الشعر ويتفاخرون بجودة صناعة الكلام وعند احتفالهم يضربون قبة للشاعر العظيم في وقته كالنابغة الذبياني ويعرضون عليه منتخبات أشعارهم، وكان بعضهم يهدد بعضا بنظم الهجاء وتسييره في ذينك الموضعين قال: أمية بن خلف يهدد حسان رضي الله عنه. ألا مَن مبلغ حسان عني ... مغلغة تدب إلى عكاظ وقال حسان في جوابه: أتاني عن أمية زُورَ قول ... وما هو في المغيب بذي حِفاظ سأنشر إن بَقِيتُ له كلامًا ... يُنشر في المَجنة مع عُكاظ ومِن شواهد هذا أن الحارث بن حِلزة اليشكري كان شاعرًا حكيمًا ولكنه ابْتُلِيَ بوضح (بَرَص) ومن أجله كان عمرو بن هند ملك الحيرة يكره النظر إليه ويأبى أن يستمع إلى خطابه إلا مِن وراء ستار، فدخل عليه يومًا وأنشد بين يديه قصيدته المعدودة في المعلقات: آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماء ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّواء وتعرض فيها إلى شيء من الصلح بين بكر وتغلب فبهرت عمرًا برائع نظمها واستولت على لبه بسحر بيانها فأخذته هِزة وارتياح ولم يتمالك أن أمر برفع الستار ما بينهما. واقتضت عناية العرب لذلك العهد بالإبداع في القول والتنافس في مقام الفصاحة أن ظهرت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في بلاغة ما أُنزل عليه من القرآن، كما جاء عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله لمّا أُرْسِل إلى قومٍ توفرت عندهم العناية بعلم الطب، وكما بُعث موسى عليه السلام إلى أمة انتهى السحر فيها إلى غاية فأتاهم في مقام المعجزة بأبدع ما يكون في قلب الأعيان وإراءتها في غير صورتها الأولى. ثم ارتقت اللغة في صدر الإسلام إلى طورها الأعلى ودخلت في أهم دور يحق علينا أن نسميه عصر شبابها فنمت عروقها وأثمرت غصونها بألوان مختلفة من الأساليب. ومِن مآثر هذه الحياة الراقية أَنْ كان كلام الناشئين في الإسلام من العرب أحلى نسقًا وأصفى ديباجة من كلام الجاهلية في شعرهم وخطبهم ومحاوراتهم. والأسباب التي ارتقت بها اللغة حتي بلغت أشدها وأخذت زخرفها أمور ثلاثة: أحدها: ما جاء به القرآن الحكيم من صورة النظم البديع والتصرف في لسان العرب على وجه يملك العقول؛ فإنه جرى في أسلوبه على منهاج يخالف الأساليب المعتادة للفصحاء قاطبة - وإن لم يخرج عما تقتضيه قوانين اللغة - واتفق كبراؤهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه اللائق به وإنْ تفاضل الناس في الإحساس بلطف بيانه تفاضلهم بسلامة الذوق وجودة القريحة. ومن النحاة من يحكم على بعض استعمالات يَردُ عليها القرآن بعدم القياس عليها كما قصروا حذف حرف المصدر ورفع المضارع بعده على السماع بعد أن أوردوا في مثاله قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} (الروم: 24) الآية، ولا أدري كيف يتفق لهم هذا مع علمهم بأنه صاحب البلاغة التي ليس وراءها مطلع، وإنَّا لنعلم قولهم في أصول العربية أنَّ ما قل في السماع إنْ كان مقبولاً في القياس صح القياس عليه، وإن وُجِدَ ما يعارضه في القياس يُوقَفُ على السماع فنسلم لهم إجراء هذه القاعدة في كلام العرب لاحتمال أن تزيغ ألسنتهم عن القصد فيحرفون الكلمة عن أصل استعمالها غلطًا، ولا نسلم لهم تحكيمها في كتاب الله الذي أخرس بفصاحته لسان كل منطيق. ثانيها: ما تفجر في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من ينابيع الفصاحة وما جاء في حديثه من الرقة والمتانة والإبانة عن الغرض بدون تكلف، رُوي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: لقد طُفْتُ في أحياء العرب فما رأيت أحدًا أفصح منك يا رسول الله، قال (وما يمنعني وأنا قرشي وأرضعت في بني سعد وبنو سعد أفصح قبيلة في العرب بعد قريش) . وإنما أغضى علماء اللسان النظر عن الاستشهاد بالحديث لأن رواته لم يَجْمعوا عنايتهم على ضبط ألفاظه كما كانوا يتثبتون في نقله على المعنى، ولو تحقق أهل العربية من رواية حديث بلفظه كالأحاديث المنقولة للاستشهاد على فصاحته صلى الله عليه وسلم لاستندوا إليه في وضع أحكامها يقينًا. ثالثها: ما أفاضه الإسلام على عقولهم بواسطة القرآن والحديث من العلوم السامية وبما نتج عن تعارف الشعوب والقبائل والتئام بعضها ببعض من الأفكار ومطارحة الآراء، ومعلوم أن اتساع العقول وامتلائها بالمعار مما يُرَقَّي مداركها ويزيد في تهذيب ألمعيتها فتقذف بالمعاني المبتكرة وتبرزها في أساليب مستحدثة فإن، كثرة المعاني ودقتها تبعث على التفنن في العبارة والتأنق في سياقها ويُوَضِّح لكم هذا أن الناشئين في الحواضر نجدهم في الغالب أوسع غاية في اجتلاب المعاني الفائقة وأهدى إلى العبارات الحسنة مِمَن يعادلهم في جودة القريحة وفصاحة المنطق بفطرته لاشتمال المدن على معانٍ شتى ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا المشاهدة. ولما فارقت العرب الحجاز لإبلاغ دعوة الإسلام وبث تعاليمه بين الأمم اقتضت مخالطتهم لِمَن يُحسن لغتهم ضعف ملكاتها على ألسنتهم ودخول التغيير عليها في مبانيها وأساليبها وحركات إعرابها وابتدأ التحريف يسري إلى اللغة في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأشار على أبي الأسود الدؤلي بوضع علم النحو ولم يزل أئمة العربية يحوطونها باستنباط القواعد حتى ضربوا عليها بسياج يقيها عادية الفساد، ويحول بينها وبين غوائل الضياع والاضمحلال وحين انتشرت المخالطة وتفشى داء اللحن أمسك العلماء عن الاستشهاد بكلام معاصريهم من العرب ويعدون أول المحدثين الذين لا يستشهد بأقوالهم بشار بن برد المتوفى سنة 167 واحتج سيبويه بشيء مِن شعر بشار بدون اعتماد عليه وإنما أراد مصانعته وكف أذايته حيث هجاه لتركه الاحتجاج بشعره كما استشهد أبو علي الفارسي في كتاب (الإيضاح) بقول أبي تمام: مَن كان مُرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا وليس مِن عادتهم الاستشهاد بشعر أبي تمام لأن عَضُد الدولة كان يُعجب بهذا البيت وينشده كثيرًا. واستشهد صاحب الكشَّاف عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (البقرة: 20) ببيت من شعر أبي تمام، وقال وهو وإن كان محدثًا لا يُستشهد بشعره في اللغة فهو مِن علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، فيؤخذ من صريحه أنه يرى صحة الاحتجاج بكلام المحدث إذا كان من أئمة اللغة وليس مذهبه هذا بسديد وقياس ما يقوله أبو تمام على ما يرويه غير صحيح فإن التكلم بالعربية الصحيحة لعهد أبي تمام ناشيء عن ملكة تُستفاد مَن تعلم صناعتها ومدارسة قوانينها فعلى فرض أن لا تفوته معرفة بعضها قد يذهل عن ملاحظة تلك القوانين فلا يأمن أن يَزِلَّ به لسانه في خطأ مبين، وأبو تمام نفسه صدرت عنه أبيات كثيرة خرج فيها عن مقاييس العربية قال ابن الأثير لم أجد أحدًا من الشعراء المُفْلَقين سَلِمَ مِن الغلط فإما أن يكون لَحِنَ لَحْنًا يدل على جهله بمواقع الإعراب، وإما أن يكون أخطأ في تصريف الكلمة ولا أعني بالشعراء مَن تقدم زمانه كالمتنبي ومَن كان قبله كالبحتري ومَن تقدمه كأبي تمام ومَن سبقه كأبي نُوْاس. أما العربي القَح فإنه يطلق العبارة بدون كُلفة في اختيار ألفاظها أو ترتيب وضعها فتقع صحيحة في مبانيها مستقيمة في إعرابها، ولا يكاد يَلْحِن في إعراب كلمة أو يُزيلها عن موضعها إذا ترك لسانه وسجيته ومن ثم كان قَرضُ الشعر كالخطابة على الارتجال والبديهة شائعًا عند العرب نادرًا في عصر المولدين، ولا يعترض هذا بأن كثيرًا من العرب يطيل المدة في عمل القصيدة كما فعل زهير في حولياته لأنه يستوفيها في أمد قريب ويتمها على شرط الصحة ولكنه لا يخرجها للناس إذا فرغ من عملها إلا بعد التروي وإعادة النظر في تقويم معانيها وحسن النسق في بنائها وإحكام قوافيها لا ليخلصها من اللحن ويطبق عليها أصول العربية كما هو شأن المُحْدَثِينَ. ثم نشأ بهذا التحريف الذي طرأ على اللغة مرض آخر انجر إليها بسبب من أسباب حسنها هو أن مسلم بن الوليد وأبا تمام أمعنا النظر في أشعار الفصحاء وخطبهم وحسروا اللثام عن وجه بيانها فأبصروا فيها محاسن من فنون البديع كالاستعارة والجناس والتورية فَشُغِفوا بها وثابروا على إيرادها في منظوماتهم توفيرًا لحسنها واستزادة من التأنق فيها فكان الناس يقولون: إن أول مَن أفسد الشعر مسلم بن الوليد وسمع أعرابي قصيدة أبي تمام التي يقول في طالعها: طلل الجميع أراك غير حميد ... فقال إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا أفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه، وما تعاصى فهمها على الأعرابي إلا لكونه سمع شعرًا حُشِي بوجوه من البديع خرجت به عن الأسلوب المألوف فثقل تأليفه وبَعُد عن الأفهام تناوله. واتبع طريقهما كثير من الأدباء وربما انتهى بهم الإعجاب بمحاسن البديع إلى مخالفة قانون العربية وتغيير بنية الكلمة من أجلها كقول بعضهم: انظر إليَّ بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلافِ قبل تلافي فكأنه زاد في مصدر تلف ألِفًا يتم له الجناس مع قوله تلاف ولا نعرف في كتب اللغة من ذكر التلاف مصدرًا لتلف وإنما يوردون في مصدره التلف بدون ألف. ولم تقف سيئة الإكثار من البديع عند حد الشعر بل تعدى وباؤها إلى النثر أيضًا فطفق كثير مِن الكُتَّاب يملأون رسائلهم بوجوه التحسين: الاستعارة والجناس ونحوها، واجتهدوا أن لا يفوتهم الشعراء بواحد منها حتى إذا ما تلقيت صحيفة من هذا القبيل وألقيت فيها نظرك ليطوف عليها بالمطالعة أدركته عند كل فقرة حبسة والتَوَتْ أمامه طرق فهمها، وإن كانت معاني مفرداتها جلية فتحس به كيف ينتقل مِن كلمة إلى أخرى بخطوات ضيقة كأنما حُمِل على قيد مِن حديد، وأكثر هؤلاء يهملون النظر إلى جانب المعنى والمحافظة عن إقامته واستيفائه، وهذا ما بعث الشيخ عبد القاهر الجرجاني حين قام ينادي بأبسط عبارة أن الألفاظ خدم للمعاني وأن المعاني مالكة سياسة الألفاظ، وأقام الحجة في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة [1] على أن مَزيَّة الفصاحة إنما استحقتها الألفاظ ووصفت بها من جهة معانيها وأزال كل شبهة عرضت لِمَن اعتقد أنها مزية استحقها اللفظ بنفسه. وأدرك غالب المحررين اليوم أن تتبع هذه الحسنات ومواصلة العمل بها في نظم الكلام يُبدلها سيئات تشمئز منها قلوب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بيانًا فأقلعوا عن الإكثار منها لاسيما في خطابات الجمهور وزهدوا فيها إلا ما سمح به الخاطر عفوا ورَمَتْه الطبيعة بدون كلفة ظاهرة. وكانت اللغة من خلال الأَعْصُر الماضية تعلو وتضعف وتنتشر في أنحاء المعمورة على حسب كرم الدولة وعناية رجالها بالفنون الأدبية فارتفع ذكرها حين كان الأمير سيف الدولة يباحث أبا علي الفارسي في غوامض علم النحو وينقد شعر أبي الطيب المتنبي بذوق لطيف ويجازيه وغيره من الشعراء بغير حساب. وارتقي شأنها يوم قام القاضي منذر بن سعيد في مجلس الملك الناصر لدين الله عند احتفاله برسول ملك الروم في قصر قرطبة وشرع يخطب من حيث وقف أبو علي البغدادي وانقطع به القول فوصل منذر افتتاح أبي علي بكلام عجيب وأطال النفس في خطبة مرتجلة فخرج الناس يتحدثون ببديهته المعجزة وارتواء لسانه من اللغة الفصحى ولا مِرْيَة في أن كرم الدولة باعث على ارتقاء حال اللغة عند من التفت إلى التأريخ وأقام الوزن بين الشعراء الناشئين في زمن أجواد العرب وملوك آل جفنة وملوك لخم كزهير والنابغة وبين مَن تقدمهم مِن الشعراء. |
|
08-08-2018, 08:27 PM | #54 |
| علة اهتمام الأمم بلغاتها مقال لحبيب أبو قيس من مقالات مجلة البيان إن وجود أمة قائمة ذات شخصية متميزة وكيان مستغل، وذات تقاليد وأعراف وطبائع نفسية وسلوكية مرتبط تمام الارتباط ببقاء لغة هذه الأمة، بل مرتهن بحياة هذه اللغة أو موتها ومحاذٍ لمستويات ازدهارها وضعفها. إن الأمة عندما تفقد لغتها الأصلية وتهيمن عليها لغة أخرى غير لغتها فإن ما يحدث هو أن نجد بعد فترة من الفترات أمة أخرى لها كيانها وخصائصها التي تختلف عن تلك الأمة الأولى، فكلاهما أمتان مختلفتان وإن كانوا في الأصل نفس الأمة السابقة في الموطن الجغرافي والسلالة البشرية، وينطبق هذا إلى حد كبير على أفراد الجيل الذين يطرأ عليهم هذا التغير اللغوي ويعيشون في عصرين مختلفي اللغة، فهؤلاء وإن كانوا جيلاً واحداً، إلا أنهم يصح القول عنهم: إنهم كانوا في اللغة الأولى أناساً مختلفين عما هم عليه الآن من غير نسيان لما للبيئة الأولى ولغتها على وضعهم الجديد من تأثير على أيّ مستوى يكون. إن اللغة ذات دلالة وسمة للأمة الناطقة بها، بل: (إن لغة الأمة دليل نفسيتها وصور عقليتها، بل هي أسارير الوجه في كيانها الاجتماعي الحاضر، وفي تطورها التاريخي الغابر، لأن وراء كل لفظة في المعجم معنى شعرت به الأمة شعوراً عاماً، دعاها إلى الإعراب عنه بلفظ خاص، فوقع ذلك اللفظ في نفوس جمهورها موقع الرضى، وكان بذلك من أهل الحياة، وما معجم اللغة إلا مجموعة من المعاني التي احتاجت الأمة إلى التعبير عنها، فاختارت لكل معنى لفظاً يدل على الجهة التي نظرت الأمة منها إلى ذلك المعنى عندما سمته باللفظ الذي اصطلحت عليه، فلغة الأمة تتضمن تاريخ أساليب التفكير عندها من أبسط حالاته إلى أرقاها، يعلم ذلك البصير في أبنية اللغة وتلازمها ومن له ذوق دقيق في ترتيب تسلسلها الاشتقاقي) [1] . وتزداد أهمية اللغة وضوحاً عندما نتكلم عن ما يعرف بصراع اللغات. الصراع اللغوي: لا يعني هذا المقال بالحديث المباشر عن صراع اللغات أو أسبابه أو نتائجه، وحسبنا هنا أن هذا الصراع قائم، وله وجود في لغات الأمم ذات الاحتكاك الكثير والمباشر بأمة أو ذات لغات أخرى. وتزداد فاعلية هذا الصراع وحدّته عندما تكون أمة من الأمم لها أطماع في أمة أخرى. ولا ريب أن الصراع اللغوي ينشأ من تجاور أو معايشة لغتين واحتكاكهما ببعضهما، وسواء أكانت اللغتان لأمتين مختلفتين أو أمة واحدة، ومعنى هذا أن الشعوب ذات اللغة الواحدة ولكنها تتخذ لغة أخرى في بعض شئونها الحيوية كتدريس بعض العلوم وبخاصة العلمية التطبيقية كالطب والهندسة وما إليهما في المعاهد أو الجامعات كشأن بعض البلاد العربية مثلاً، فهذه الشعوب قد فرضت على نفسها صراعاً لغوياً كان بإمكانها دفعه لو استخدمت لغتها الأصلية في هذه المعاهد أو تلك المصالح الحيوية. ولقد عرف الناس مغبة من أخذ العلم بغير لغة أمته من قديم، وشاعت في الناس حكمة يرددونها: إن التعليم باللغات الأخرى ينقل بعض الأفراد إلى العلم، ولكن التعليم باللغة الوطنية ينقل كل العلم إلى الأمة. وتقع في شراك الصراع اللغوي أيضاً بعض الشعوب التي تفتح الباب لاستقدام أناس لا يتكلمون لغة من يستقدمونهم ليباشروا كثيراً من الأعمال الحيوية التي تقف على إحيائها شركات أو مؤسسات تستخدم أعداداً غفيرة من البشر، فهذه الأفواج البشرية ستفرض صراعاً لغوياً مع لغة من وفدوا إليهم. ولا ريب أن نزوح العناصر الأجنبية إلى بلد ما -مع هيمنتهم لإدارة مصلحا هذا البلد مثلاً- مما يحدث هذا الصراع اللغوي كما هو مقرر عند علماء اللغة [2] ، ولعل الأمة التي استخدمت هذه العناصر التي لا تتكلم لغتها تنجو من الصراع اللغوي لو استقدمت أناساً يتكلمون بلسانها ولا غرو أن الأمم التي توقع نفسها في مثل هذا الصراع اللغوى تعرض نفسها لداء خفي وتقع في خطأ يدل على قصر النظر. الصراع اللغوي ليس بالأمر اليسر، بل له أبعاده وخطورته العميقة، ولا يشعر بحقيقة هذه الخطورة عامة الناس، بل ولا كثير من المثقفين، وإنما يفهم ذلك اللغويون الذين يعون ذلك جيداً، ولذلك فلا غرابة لما نسمعه من أن أبا الأسود الدؤلي هاله ما رأى من ظهور اللحن في زمانه، لقد شعر جيداً بالأمر فعدّه من الأهوال، وهو كما رأى -رحمه الله-، حتى أخذ يناشد الولاة ويستحثهم إلى وضع ما يدفع به ذلك الداء النازل بهم [3] . إن الصراع اللغوي يحتاج إلى عشرات بل مئات من السنين حتى يتضح أثره وتتجلى خطورته، إن هذا الصراع هو صراع بقاء ومحاولة هيمنة لإحدى هاتين اللغتين على الأخرى، وهذه أمثلة يتجلى بها للقارئ آثار الصراع اللغوي ونتائجه الخطيرة الأثر في حياة الشعوب [4] . لقد نتج عن غزو الرومان لوسط أوربا وشرقها وجنوبها أن تغلبت لغتهم اللاتينية على اللغات الأصلية لفرنسا وأسبانيا وايطاليا وغيرها، ذلك مع قلة الرومان المغيرين على هذه البلاد بالنسبة لسكانها، وفي العصر الحديث عندما انتشر الغزو الأوربي لأطراف الأرض كوّنت دول أوربا كتلاً بشرية في مناطق هجرتها، وكثُر أفرادها مع قوة سيطرتها كان من ذلك أن نجم عن استعمار الانجليز لأمريكا الشمالية واستراليا وبعض نواح في جنوب أفريقيا انتشار اللغة الإنجليزية في هذه الأرجاء الواسعة. ونجم عن استعمار الأسبان في أمريكا الجنوبية أن كانت الأسبانية لغة معظم دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وغيرها. وإذا كان هذا الصراع السابق مرتبطاً بالصراع السياسي، وكانت ظروفه تختلف عن صراع آخر أقل جرأة ووسائل كتغلب اللغة العربية بفضل انتشار الإسلام على كثير من لغات الشعوب الآسيوية وعلى لغة الأقباط ولغة البربر في أفريقيا؛ فإن هذا لا ينكر خطورة الصراع اللغوي الذي قد تحدثه عوامل أخرى غير سياسية أو حربية. وإنما قلت عن تغلب العربية: إنه أقل جرأة ووسائل، لأن المسلمين لم يفرضوا لغتهم ويتشددوا في ذلك في البلاد التي فتحوها، ولم يكن لهم من الوسائل العسكرية أو العلمية الحديثة ليستخدموا كل ذلك في نشر لغتهم كما حدث في الاستعمار في العصر الحديث، ولا ننسى أن العربية لما كانت لغة الدين كان ذلك دافعاً روحياً للشعوب الداخلة في الإسلام أن ترغب في هذه اللغة وتقبل عليها وتنشرها في بلادها. والذي ينتج من غلبة لغة على لغة وحلولها محلها أن تذوب شخصية الأمة صاحبة اللغة المغلوبة تدريجياً في الأمة الغالبة، وتصبح بعد أن كانت لها مقوماتها وخصائصها وهي على لغتها الأصلية، تصبح مندمجة في أمة أخرى، وقد فقدت ما كانت تحمله في ذاكرتها من الأفكار والمعتقدات وسائر المعاني المختلفة عما كانت تراها وتفهمها، وتراها بعد ذلك بمنظار فكر اللغة الأخرى الذي لابد أن يغاير فكر اللغة الأولى في كثير من المعاني والتصورات. ويأتي بعد هذه النتيجة أيضاً أن تُقطع الأمة التي استبدلت لغتها عن تراثها وأصلها، فتنشأ أجيال هذه الأمة المقطوعة فاقدة الهوية، لا تراث ولا انتماء، وهذا مما ييسر احتواء هذه الأجيال وإذلالها والتحكم في توجيهها. إن الجيوش العسكرية التي تتخذها الأمم لنشر سيطرتها وبسط سلطانها تسبقها جيوش لغوية، تحمل هذه الجيوش لغة الأمة الغازية وتبشر بأفكارها وتذيع مبادئها وترسم شخصيتها، ولقد كانت هذه الجيوش اللغوية عظيمة الأثر في بث فكرها والدعوة إليه بين القوم الذين وفدت إليهم، فقبل أن تجيء الجيوش العسكرية استطاعت جيوش اللغة الأجنبية أن تهيء لها أتباعاً وأنصاراً يحملون فكرها ويدافعون عنه ويدعون إليه فوق فخرهم بهذه اللغة وميلهم إلى أهلها. إن الحديث بلغة قوم يفضي إلى الميل إليهم والتعايش معهم -إن لم يكن هناك حصانة فكرية لمن يتحدث بها- ويقوى هذا الميل عندما تكون هذه اللغة لأمة أرقى وأقوى من لغة من يعيش معهم من أهل لغته. إن أصدق ما أدلل به على هذا الأمر ما كان من أمر الاستعمار الأوربي الحديث لكثير من أجزاء العالم وبخاصة العالم العربي، والذي سبق إليه بغزو جيوشه اللغوية في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديين [5] . لقد تركزت هذه الجيوش في المناطق الخصبة لنموها من حيث سعة الانتشار والأبعاد السياسية، أتت جيوش اللغة إلى مصر والشام على وجه الخصوص في شكل إرساليات علمية، اتخذت صوراً كثيرة منها المدارس والمعاهد، ومنها الكنائس والأديرة والمصحات وغيرها. لم تأت جحافل فرنسا وبريطانيا العسكرية إلا وللغة الفرنسية والإنجليزية في مصر والشام شأن لا يمكن تجاهله، يتحدث بها كثير من الناس، ولها مناطق ومصالح لا يمكن العيش فيها إلا بلسانها، ولقد طغى الأمر في بعض الفترات حتى كان من أفراد الأمة ومثقفيها من يستنكف عن الحديث بلغة بلاده أو التعامل بلهجة أهله، وينظر إلى لغته وثقافة أمته بازدراء كبير، وسمع من مثقفي الأمة العربية وعقلائها من صاح ورفع عقيرته في وجه هذه الظاهرة المزرية [6] . وأصبح من أفراد الأمة من يباهي بالثقافة الفرنسية لأنه يجيد لغتها، وآخرون ينافحون عن الإنجليزية لأنهم يلوكونها وقد تعلّموا شيئاً من ثقافتها، غدا كل منهم كأنما هو فرنسي أو إنجليزى وطبعوا حياتهم -في جوانبها المختلفة- بطابع الحياة الإنجليزية أو الفرنسية، ولا شك أن ذلك يفصح للناس عن أثر اللغة البعيد الذي قد لا يظن بعضنا أنه يصل إلى نحو من هذا السلوك في حياة الإنسان. ضرورة زيادة الاهتمام باللغة: تأتي هذه الزيادة في أهمية اللغة العربية لارتباط هذا اللسان العربي بملة الحنيفية دين الإسلام، ولا غرو فقد كانت خاتمة رسالات السماء إلى الأرض تفصح بلسان عربي مبين، وقد كانت هذه الرسالة هي الدين الذي أراد الله سبحانه ظهوره وهيمنته في الأرض على سائر الملل والأديان الأخرى، بل حذّر الله البشرية من العبودية بسواه [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] فكان -كما هو معلوم- أن نزل القرآن بلغة العرب وبعث الله خاتم رسله وهو عربي الجنس واللسان، وأوحى إليه من وحيه ما هو مماثل للقرآن من السنّة، وكان من ذلك الأصلان العظيمان لهذا الدين، أعني القرآن الكريم والسنة النبوية، وكلاهما بلسان العرب ولغتهم، فكان من ذلك الأصل والمرجع والقاعدة التي يُعَوَّل عليها في فهم هذا الدين في أصوله وأحكامه، وعلم أسراره وجزئياته، وبخاصة عندما تضطرب المفاهيم وتقع الخلافات في شيء مما يتعلق بعلوم هذا الدين وأحكامه، فالأصل موجود ولا مجال لبقاء النزاع، [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ... ] ولا مراء أن بقاء هذا الدين متوقف على بقاء حياة هذين المصدرين الأساسيين، وذهابه حاصل بفقدهما، ومن هنا يمكن القول: أ- إنّ أي محاولة للقضاء على اللغة العربية أو النيل منها، على أيّ وجه من أوجه النيل المتعددة، سواء ما استتر تحت وجه الإصلاح، أو تظاهر بادعاء التطوير، أو التفجير اللغوي، أو الدعوة إلى العامية كما حدث في عصرنا الحاضر أو غير ذلك، كل ذلك سيصل في آخر الأمر إلى مس هذين المصدرين، ومن ثمّ القضاء عليهما أو مسخهما وتحريفهما عن الحقيقة التي جاءا عليها، وهذا هو القضاء المبرم والهدم الحقيقي لإزالة هذا الدين من الوجود والتخطيط لاقتلاع جذوره أو قلب حقائقه. ب- إنّ معرفة حقيقة هذا الدين والإلمام بأصوله وفروعه والوقوف على أحكامه لاتكون دقيقة وصائبة إلا بالوقوف على أصول هذا الدين في لغتها الأصلية، والتي جاء بها النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- فكما هو معلوم لأهل اللغة أن الترجمة لأي عمل إبداعي وحتى غير الإبداعي تنقص وتعجز كثيراً عن الوفاء الكامل بما يحمله الأصل من دقة في أفكاره وأساليبه وإيماءاته، فكذلك الحالة هنا، مع العلم أن القرآن لم يترجم إلا معانيه كما يرى ذلك علماء الإسلام، ولا يغيب عن البال أن هذين المصدرين في الذروة العليا من الفصاحة والبيان، وقمة الإبداع اللغوي. ومن هنا، من هذا الإبداع اللغوي العظيم لهذين المصدرين يتضح لنا القصور العظيم في أي ترجمة لمعانيهما أو لهما إلى لغات أخرى عن الوفاء بدلالات لغتهما العربية، وذلك، بلا ريب مدعاة إلى تحريف هذين الأصلين أو الوقوع في ذلك على أقل تقدير، وتحريف الترجمة والفهم هنا هو تحريف لحكم شرعي أو استنباط فقهي، مما قد لا يكون هو الحكم الشرعي الصائب، أو ما جاءت به الشريعة المطهرة، وهذا كله من نتائج الترجمة المباشرة لأي من هذين المصدرين. أما اعتماد هذه الترجمة لهذين الأصلين عند وجودها لتقوم مقام أصلهما ومن ثم الركون إليها في استنباط أحكام الشرع والاجتهاد في استخراج الأحكام، فهنا تكون النتائج أشد خطراً وأبعد كثيراً عن مراد الشارع وما جاء به الدين، وبذا يظهر لنا جلياً ما ذهب إليه علماء الأمة الإسلامية -رحمهم الله- من سداد الرأي وصائب الحكمة عندما وضعوا شرط الإلمام الواسع والفهم الدقيق للغة العربية من ضمن الشروط التي لابد من توفرها في المجتهد، والذي قد بلغ درجة عالية في علوم الشريعة وفهم دقائقها وجزئياتها، حتى يستخرج للمسائل التي لم يقف على جواب لها ما يهديه اجتهاده إليه [7] . ولا يذهب الفهم بالقارئ هنا إلى أن المقصود رفض الترجمة أو جهل قدرها وفائدتها، وما تدعو إليه الضرورة منها، أو أن الإسلام لا يُقبل ممن لا ينطق اللسان العربي، فهذا لا يعتقده مسلم، ولكن ما أريده هو التذكير ببعض مزالق الترجمة، وعمق الطعنة التي تصيب الأمة ودينها من جراء ذلك. وثمة أمر آخر لا يمكن تجاهله حول أهمية اللغة العربية وهو أن تكون العربية لغة الثقافة الدينية للأمة الإسلامية، فهي بذلك اللسان الذي يصح اجتماعهم عليه، بعدما اجتمعوا على دين واحد، ولا غرو أن ذيوع اللغة العربية في الأمة الإسلامية كبير ويبشر بالمزيد، بل إنه كان لسان كثير من الأمم الإسلامية قبل أن تحيق بها مؤامرات أعداء الإسلام، والتي فرقت بين هذه الأمم في اللغة والثقافة حتى تصل إلى تفريق دين هذه الأمم، ومتى تحقق انتشار اللسان العربي بدرجة أكبر في الأمة الإسلامية كان من أعظم العناصر وآكد الدعائم التي تحيا بها الوحدة الإسلامية وتزدهر، وتتذلل في سبيلها كثير من العقبات والعراقيل التي منيت بها الأمة الإسلامية. |
|
08-08-2018, 08:28 PM | #55 |
| دِرَاسات في أُصوُل اللُّغة العَرَبيَّة مقال لعبد العزيز القارئ من مقالات مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عدد سابق من مجلة الجامعة الإسلامية [1] أتحفنا فضيلة شيخنا الجليل الدكتور محمد تقي الدين الهلالي ببحث قيم عن ما وقع في القرآن بغير لغة العربية، وكانت آراؤه التي أودعها بحثه وتعليقاته على كلام من سبقه من علماء الإسلام مهمة، ولقد استفدت منها كثيراً، وكنت أتتبع هذا الموضوع منذ زمن في غمرة تتبعي ودراستي لحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف ".. ومما أعطى البحث المذكور أهمية خاصة إلمام فضيلة كتابه بعدد من اللغات منها (العبرانية) وهذا مما يسهل مهمة المقارنة بين اللغات المعنية في هذا البحث. فأحببت أن أسهم فيه بحلقة أخرى تضم إلى حلقاته يتأمل فيها شيخنا الدكتور ويزودنا بمزيد من آرائه، ويستفيد منها القارئ، وخاصة من أشكل عليه هذا الأمر ولم يفهم سره [2] . ولقد رأيت من الضروري لاستكمال الصورة الواضحة أن تشمل دراستي موضوعين حيث ينبني أحدهما على الآخر: 1- أصل العرب ومنشؤهم. 2- اللغة العربية: نشأتها، والمراحل التي مرت بها. ولا أدعي أنني آت فيهما بآراء حاسمة ونتائج نهائية، أو أنني مستوفٍ للبحث ومعطٍ له حقه، إنما هي محاولة للدخول في دراسة واسعة متكاملة دقيقة تحتاج إلى جهد عظيم، وعناء شديد ووقت طويل.. 1- العرب: من المجمع عليه أن القرآن أنزل بلغة العرب، وأن الله عز وجل اختار هذه اللغة العظيمة لتكون الوعاء الذي يحمل كلامه المنزل على رسوله، كما اختار أمة العرب ليكونوا الرسل الذين يبلغون دعوته للأمم و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} : فاختياره عز وجل لهذه اللغة يدل بلا ريب على أنها أفضل اللغات وأفصحها , كما أن اختياره لأمة العرب ليكونوا حملة الرسالة ويكون الرسول منهم يدل بلا ريب على أنهم كانوا أفضل الأمم، وأقربها للحق، وأكثرها صلاحية وتهيؤاً لحمل رسالة الإسلام إلى العالم.. فمن هؤلاء العرب؟ أما تعريف العرب، وتحديد أصل بدايتهم، ونشأتهم ومساكنهم وديارهم التي يتضمنها اسمهم، فهذا مما كثر فيه الاختلاف، وندر فيه القطع واليقين وكل ما قيل فيه يحتمل مزيداً من النقد والتمحيص، ويحتاج إلى دراسة علمية دقيقة تستخدم فيها الوسائل المعاصرة التي هي أكثر فعالية في تحديد مثل هذه القضايا التاريخية.. ومن هذه الوسائل: إجراء مسح دقيق شامل لديارهم واستخراج بعض الآثار ودراستها، مع أن ما أخرجته الحفريات من آثار قديمة هي في حد ذاتها أيضاً لا تعطينا معلومات قطعية في غالب الأحوال، ولذلك فإن الدارسين في هذا المجال والمهتمين بهذه الحفائر سرعان ما تتغير آراؤهم كلما أنتجت الحفائر شيئاً جديداً، وقد بذل الغربيون جهداً كبيراً في هذا الشأن وحاولوا الاستفادة منه. ومما ساعد على تشعب الخلاف حول مسألة - أصل العرب - أن تاريخهم قبل الإسلام يلفه غموض شديد حيث لم يدون ولم ينقل إلينا بالقدر الكافي لإيضاح معالمه، لأن العرب في الغالب كانوا أمة أمية لا تدون ولا تقرأ، وقلما تؤرخ، فإن أرخت فبالحوادث المشهورة كقولهم: عام الفيل، وعام الغدر، وعام الماء، وزمن القتاد [3] . إلا أن هناك نواحي في هذا التاريخ يكاد ينعقد عليها إجماع علماء الأنساب والتاريخ، وأشارت نصوص القرآن والسنة إلى بعضها، فنحن نلم من هذين المصدرين بما يكفي لإعطاء صورة واضحة، وإلقاء ضوء ساطع على موضوعنا، ولعل استنتاجاتنا إذ حصرناها في ذلك تكون أقرب إلى القطع واليقين منها إلى الحدس والتخمين.. أصل العرب: اتفق علماء الأجناس وعلماء الأنساب على أنهم من - الفصيلة السامية - وكذلك المؤرخون المسلمون أرجعوا أصلهم إلى - سام بن نوح - عليه السلام وهو أحد الأصول الثلاثة التي تتفرع منها الأمم وهي (سام، وحام، ويافث) ، روى ابن عبد البر في كتابه عن أنساب العرب والعجم حديثاً عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم" ورواه أيضاً الترمذي وأحمد والحاكم عن سمرة، وذكره الحافظ العراقي في كتابه - القرب في محبة العرب -[4] وحسنه.. ومن المعلوم أن تمايز الأجناس والأمم إنما حدث بالتدريج ابتداءً بهؤلاء الأصول الذين يمثلون ذرية نوح الباقين في الأرض [5] . ولكننا لا نستطيع أن نجزم ببداية تميز العرب كأمة مستقلة في أي تاريخ كان فضلاً عن أن نحدد لهم أباً بعد - سام - تناسلوا منه: سواء كان هذا الأب هو يعرب، أو قحطان، أو عابر بن شالخ بن أرفخشذ، أو نابت بن إسماعيل، أو حتى إسماعيل عليه السلام نفسه.. فالخلاف محتدم في أي من هؤلاء هو الأب الأول الذي يرجع إليه العرب كما سيأتي بيانه عند الكلام على قحطان وعدنان.. لكن يبدو أن المنطقة التي عرفت لدى علماء التاريخ اليوم (بالمثلث) هي منشأ الحضارات ومنطلق الأجناس، وهي موطن الحضارة الأولى، وتمتد من أراضي الرافدين بالعراق في أحد ساقي المثلث وواد النيل في الساق الأخرى وبينهما بلاد الشام في قاعدة المثلث وعلى رأسه اليمن وحضرموت (انظر الشكل رقم - 1-) . فمن هذه المنطقة نزحت البشرية إلى سائر أرجاء المعمورة وانتشرت الحضارة وفيها أنزلت الرسالات التي ذكرها القرآن، ولكن في أي جزء من المثلث كان المنطلق في جنوبه - أي اليمن - أم في شماله أي (العراق) أو (سيناء) . . . مما يؤيد عندي الرأي القائل بأن (العراق) كان هو المنطلق أن أحداً من المفسرين لم يذكر أن الجودي الذي استوت عليه سفينة نوح هو في اليمن أو جنوب الجزيرة أو أي مكان آخر، وهذا ابن جرير وهو يستقصي أقوال السلف في تفسيره ينقل بأسانيده عن مجاهد، وسفيان، وقتادة، والضحاك وهم رواد التفسير أنه جبل بالعراق - بل بناحية الموصل منه - ويسند إلى ابن عباس أنه جبل دون تحديد موقعه، وإلى التابعي الجليل زر بن حبيش أنه ناحية بالعراق [6] ولكن ابن كثير يذكر في تفسيره أن بعضهم يرى أنه الطور دون أن يسمي القائل البشر - سواء كان من العراق بالتحديد أو من الطور أو مما بينهما - فإننا نستطيع أن نقول: إنه حدثت عمليات نزوح كبيرة، وحركات هجرة واسعة لأبناء نوح ومنهم - الساميون - إلى سائر الأرجاء شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ومن هذه - الهجرات - التحرك صوب الجنوب حيث أرض صحراوية تحيط بها البحار من الجهات الثلاث، وكانت هذه الهجرات بسبب الحروب والغارات أو بحثاً عن الكلأ والماء والأراضي الخصبة.. ويقول بعض الباحثين إن الإشارة إلى - بدو الآراميين - في التوراة يعني قسماً من الآراميين الذين كانوا يسكنون الشام تحركوا صوب الصحراء الجنوبية حيث عرفوا فيما بعد بالعرب، ويرى أن كلمة (عرب) ترجع إلى أصل - آرام -[7] . القبائل العربية القديمة: وفي زمن متقدم جداً عرفت بعض القبائل من هؤلاء التي استوطنت أنحاء من - الجزيرة العربية - كان معظمها في ثلاث مناطق منها حسبما علمنا.. (اليمامة) و (الشِحْر) من أرض اليمن و (الحِجْر) من أرض الحجاز.. ويسمي المؤرخون والنسابة المسلمون هذه القبائل بـ: طُسَم، وجَدِيس والعمالقة، وعاد، وثمود.. ويزيد ابن جرير الطبري وابن إسحاق: أمَيْم، وعبِيْل، وعبد ضَخْم، وجُرْهُم الأولى، أما طسم وجديس فسكنوا اليمامة في شرق الجزيرة العربية، وأما عاد فذكر القرآن مساكنهم وأنها (الأحقاف) وهي في جنوب الجزيرة العربية والأحقاف جمع حِقْف - بكسر الحاد - وهو الكثيب العظيم المستدير من الرمل، قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [8] . وأما ثمود فذكر القرآن منازلهم وأنها الحِجْر وهي في الشمال الغربي من الجزيرة العربية قال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [9] . أما العمالقة فنزل بعضهم بمكة وبعضهم بيثرب من أرض الحجاز وقد وجدت بعض آثارهم في المنطقة.. ويذهب بعض علماء الأنساب أن ثمود كانت تسكن اليمن ثم انتقلت منها إلى الحجر [10] . ويمكن القول أن جميع هذه القبائل ينحدرون من أولئك الذين تسميهم - التوراة - بدو الآراميين الذين نزحوا من الشام والعراق صوب الجزيرة العربية.. وهذا يفسر التشابه الواضح في اللغات ومفرداتها بين الكتابات التي وجدت في العراق وسوريا والتي تعود إلى العصور البابلية والآشورية والآرامية والكنعانية وبين الكتابات التي عثر عليها في منطقة اليمن أو حضر موت والتي تعود إلى العهود الحميرية والسبئية، حيث يدل ذلك على أن هناك أصلاً واحداً مشتركاً.. هذا هو ما أمكن أن أجزم به من تاريخ العرب القديم مما يمكن أن يكون ذا علاقة بموضوعنا.. القبائل القحطانية: وهذه فترة أخرى من تاريخ نشأة أمة العرب تلي تلك الفترة الموغلة في القدم وهي الفترة التي وجد فيها ما نسميه - بالعرب العاربة - وفيها ظهرت قبائل عربية أخرى ودول وحضارات وبدأت فيها ما يُسمى - بالقبائل القحطانية -. ويتركز الضوء في هذه الفترة على الجزء الجنوبي للجزيرة العربية حيث اليمن وحضرموت وحيث استوطنت تلك القبائل.. وكان لهم تاريخ وملك وحضارة ذكر القرآن شيئاً منها، وكان من أشهر ممالكهم وحضاراتهم: مملكة سبأ، وربما كانت هي أشهرها وأهمها حيث كانت هي المفترق بين مرحلتين والفاصل بين عهدين كما سيتبين.. قال تعالى في وصف حضارة سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [11] . وفي هذه الآيات ما يدل بوضوح على أن مناطق كثيرة من جزيرة العرب كانت عامرة خصبة وهي التي تمتد من اليمن حيث مسكن سبأ إلى الشام التي بها القرى المباركة وذلك في قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِين} [12] . فإن معنى وجود قرى ظاهرة آمنة بين اليمن والشام امتداد منطقة خصبة كثرة الزروع والثمار جيدة المناخ كثيرة العمران طيلة المسافة بينهما.. إذ أن خصوبة الأرض دائماً تابعة لجودة الهواء والمناخ وتوفر الأمطار وينتج منهما انتشار العمران.. ثم أخبرت الآية عن حدوث التحول في هذه الحضارة، بعد انهيار سد مأرب وقضاء السيل على مظاهر حضارتهم، فتبدل حال الأرض من خصوبة إلى جدب تصوره الأنواع المذكورة في الآية: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} فهذه أنواع من النباتات التي لا فائدة منها وتوجد غالباً في الأراضي القاحلة، ومعنى هذا أن المناخ تبدل أيضاً وشح المطر، وينتج من هذين العاملين تضاؤل مظاهر العمران ووعورة المنطقة التي تعبر عنها الآية ببعد المسافة: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وكان هذا بداية تفرق هذه القبائل القحطانية ونزوحها من اليمن إلى سائر أنحاء الجزيرة، ولكن ما هذه القبائل؟ أصول القبائل القحطانية: روى بعدة طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "رجل ولد عشر قبائل، فسكن اليمن منها ستة والشام أربعة". رواه الترمذي وأحمد وابن جرير وابن أبي حاتم ورواه ابن عبد البر في كتابه - القصد والأمَم - من عدة طرق، واستقصى الحافظ ابن كثير طرق هذا الحديث في تفسيره لسورة سبأ وبيّن أنه حديث حسن وفي بعض ألفاظه سمّى بعض هذه القبائل فقال صلى الله عليه وسلم: "تيامن الأزد والأشعريون وحمير ومَذْحج وأنمار الذين يُقال لهم بَجِيلَة وخَثْعَم وتشاءم لَخْم وجُذاَم وعامُلَة وغَسّان". ويفصّل علماء الأنساب ذلك فيقولون إن سبأ وَلدَ القبائل القحطانية الكبرى وهي: حِمْير، وكَهْلان، وعمرو، وأشْعَر، وعامُلَة. ومن هذه القبائل تفرعت العمائر والبطون: فمن (حمير) قضاعة ومن قضاعة جُهينة وبَلِي وكَلْب وبَهْراء وتنوخ ونَهْد ومَهْره وجَرْم، ومن (كهلان) جُذام ولَخْم وكِنْده وطيّء ومَذْحَج والأزْد وهَمْدان وبنو صُداء وخَوْلان وأنمار أما الأشعريون وعمرو وعامله فلم تتفرع إلى كثير من الفروع والمشهور لدى علماء التاريخ والأنساب أن الأشعريين بقوا في اليمن.. [13] . أما بقية القبائل فنزحت منها إلى الجزء الشرقي والشمالي من الجزيرة، فالأزد هاجر قسم منهم إلى عُمان وقسم إلى الحجاز، وطيّء نزلت عند جبلي أجأ وسلمى، وجهينة سكنت منطقة تمتد من ينبع إلى عقبة أيلة [14] ، ومن الأزد قسم نزل بيثرب وهم الأوس والخزرج ومنهم قسم نزح إلى الشام وهم غسان، ونزحت إلى الشام أيضاً عاملة، أما لخم فسكنت العراق، وأما جذام فتفرقوا في الديار وكان قسم كبير منهم بالشام. يتبع |
|
08-08-2018, 08:29 PM | #56 |
| القبائل العدنانية: في الوقت الذي كانت تتحرك فيه القبائل القحطانية في هجرتها الكبرى كان منتشراً في القسم الشمالي من الجزيرة العربية ما يُسمى - بالقبائل العدنانية - وهي التي تنحدر من عدنان، وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام فأبو العدنانيين بالإجماع هو إسماعيل عليه السلام الذي نشأ في كنف جرهم إحدى القبائل العاربة القديمة، وصاهرهم، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم من البابليين، من العراق، وأم إسماعيل (هاجر) من مصر، فكأنما أراد الله عز وجل لحكمة عظيمة أن يغذي أصول العدنانيين بكل ذلك، ثم يشاء أن يكمل صهرهم وتهذيبهم باختلاطهم بالقحطانيين بعد الهجرة الكبرى.. ولكن من هو أبو القحطانيين؟ هل هو إسماعيل نفسه؟ هذا هو رأي بعض علماء الأنساب والمحدثين: أن عدنان وقحطان كلاهما من ولد إسماعيل، ومن هؤلاء الزبير بن بكار، وابن إسحاق، وابن حجر العسقلاني [15] ، وعلى هذا القول يتخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم لناس من أسلم: "ارموا بني إسماعيل" [16] والمعروف أن أسلم من قبائل الأنصار، والأنصار قحطانيون، وكذلك قول أبي هريرة للأنصار بعد أن روى قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وزوجه سارة: "فتلكم أمكم يا بني ماء السماء" [17] . لكني لا أرى في قوله صلى الله عليه وسلم المذكور ولا في قول أبي هريرة ما يدل على أن القبائل القحطانية من نسل إسماعيل لاحتمال أن يكون داخل قبيلة أسلم المخاطبين في الحديث من الخلاف في أصلهم مثل ما داخل غيرها من القبائل التي اختلف في نسبتها إلى القحطانيين أو العدنانيين، هذا مع أنه روى ابن عبد البر من طريق القعقاع بن أبي حدرد أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بناس من أسلم وخزاعة وهم يتناضلون فقال: "ارموا بني إسماعيل" فيكون في الخطاب تغليب لخزاعة وفيها خلاف هل هي عدنانية أم قحطانية، وروى أحمد والبزار والطبراني عن عائشة أنه كان عليها رقبة من ولد إسماعيل فجاء سبي من خولان فأرادت أن تعتق منهم فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء سبي من مضر من بني العنبر فأمرها أن تعتق منهم، وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه محرر من ولد إسماعيل فلا يعتق من حمير أحداً". وفي هذا دلالة واضحة أن القحطانيين لا ينحدرون من إسماعيل عليه السلام. أصول القبائل العدنانية: تنحدر القبائل العدنانية من نزار بن معد بن عدنان ولذلك يقال: كل عدناني فهو نزاري ومن نزار تفرعت القبائل العدنانية وهي: (مضر) ومنها قيس عيلان التي تتفرع إلى بطون هي: بنو غطفان، وهوازن، وسَليم، وعُدْوان، (ربيعة) ومنها أسد ووائل، ومن أسد: عنَزَه، وجَدِيْلَة، وعُمَيْره، ومن وائل: بكر وائل، وتغلب، (خِنْدَف) : ومن أشهر عمائرها هُذَيْل (كنانة) : ومن عمائرها بنو مُدْلِج، وقريش، (قريش) وهي أشهر القبائل العدنانية وترجع كما ذكرت إلى كنانة: روى مسلم في صحيحه والترمذي وأحمد من حديث واثلة بن الأسقع أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم". قال ابن عبد البر: فقريش عمارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنانة قبيلته وعبد مناف بطنه. 2- لغة العرب: اللغة هي القدرة على تسمية الأشياء، وقد أخبر عز وجل أنها مما فضل به آدم عليه السلام فقال عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [18] فهذه الآيات تشير إلى أن اللغة تعلمها آدم من ربه عز وجل فيحتمل أن يكون ذلك تم بطريق الوحي فتكون اللغة حينئذ توفيقية ولكنني لا أرى في الآية ما يدل بوضوح على ذلك، إذ أن لفظة (علّم) ليست صريحة في الوحي ويمكن أن يكون ذلك قد تم بطريق آخر، وهو أنه عز وجل خلق في آدم القدرة على تسمية الأشياء ومعرفتها والإشارة إلى أشخاصها بأسمائها وألهمه ذلك إلهاماً لا عن طريق الوحي المباشر، ولا شك أن {الأَسْمَاء} في الآية يُراد بها أسماء الأشياء حيث أردفها بقوله: {كُلَّهَا} فلا معنى لحصرها في أشياء مخصوصة، إذ لا مزية حينئذ لآدم يستحق بها التفضيل على الملائكة أن يعلمه الله أسماء عدد مخصوص من الأشياء فالملائكة كذلك جبلهم الله على تسبحه وذكره ففعلوا، لكن المزية التي تستحق هذا الذكر والثناء هي تلك القدرة على تسمية الأشياء والتعرف عليها بتلك الأسماء فلما طلب من الملائكة أن تسمى لكل ما تراه من الموجودات اسماً لم تكن قادرة على ذلك فعلمت أن الله اختص هذا المخلوق الجديد الكريم دونها بما جعله أهلاً للخلافة في الأرض، وهذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة" [19] . هذه اللغة التي تعلمها آدم ونطق بها هي اللغة (الأم) ، ولا جدوى من أن نقول إنها كانت العربية أو العبرانية أو السوريانية لأن هذه اللغات وغيرها عبارة عن فروع امتدت وتكونت على مرّ العصور وتعاقب الأجيال من ذرية آدم، فكلها تعود إلى تلك اللغة الأم ولا تعود هي إلى واحدة منها ولذلك فإن الجهد الذي صرفه بعض العلماء لإثبات أن أول من تكلم بالعربية آدم، أو نوح، أو سام، أو جبريل كما يُروى عن كعب الأحبار، هو جهد عقيم مبني على التخمين، أو على أخبار الإسرائيلية التي لم تثبت، فلا يثبت بها حكم ولا خبر.. وقد سبق أن بينا في أول البحث أن الناس تناسلوا من أولاد نوح الثلاثة، الذين ترجع إليهم أصول الأمم بنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهم (سام ونوح) ، إليه تنسب (اللغة السامية) التي نطق بها ثم انتقلت إلى نسله من بعده.. ومع تكاثر (السامين) وتفرقهم في أنحاء مختلفة متباعدة من الأرض بدأت هذه اللغة تختلف لهجاتها وتتحول إلى عدد من اللغات، وهكذا كانت نشأة اللغات السامية.. وغيرها: وعلماء اللغات يقسمون اللغات ثلاث فصائل [20] : 1- الفصيلة الحامية السامية. 2- الفصيلة الهندية الأوربية. 3- الفصيلة الطورانية. أما (الحامية السامية) - وهي الفصيلة التي تعنينا في هذا البحث - فتحتوي على مجموعتين من اللغات: أ- اللغات السامية: وهي الآشورية، والبابلية، والآرامية، والكنعانية - ويراد بها العبرية - والفنيقية - ثم العربية، والحبشية. ب- اللغات الحامية: وهي المصرية، والبربرية، واللغات الكوشيتية. والذي يظهر - والله أعلم بالحقيقة - أن اللغات السامية في بداية نشأتها كانت متقاربة جداً كما أسلفنا، حتى إنه ليمكن القول إنها كانت عبارة عن لهجات للغة واحدة. والدارس لهذه اللغات يستطيع أن يلحظ التشابه الشديد بينها، إذ أن أصحاب تلك اللغات كانوا عبارة عن أبناء أمة واحدة تفرقوا في منطقة المثلث (العراق، والشام، ووادي النيل، واليمن وحضرموت) واستوطنوا أنحاء بين هذه المنطقة على مدى حقب التاريخ وأنشأوا ممالك وحضارات واختلط كل قسم منهم بمن جاوره فتأثر به واستفاد منه، وهذا من أهم العوامل لاختلاف اللهجات واللغات وأحياناً لتلاشيها وضعفها، ولذلك فإن كثيراً من الباحثين يعتبر (العربية، والسوريانية، والآشورية، والآرامية، والكنعانية) لهجات للغة واحدة، ثم تمايزت بشكل كبير جعلها تتحول على مدى الأزمنة إلى لغات، والذي حمل هؤلاء على هذا الرأي وجود مفردات متشابهة بمقدار كبير في هذه اللغات (انظر الجدول الملحق بآخر البحث) . بل إن بعض الدارسين يقول: إن السوريانية: أو الآسورية أو الآشورية المراد منها اللغة العربية التي كان ينطق بها أهل سورية وأن (آسورية) لهجة محرفة من (سورية) [21] . ووجدوا أن وجود التشابه بين (الحميرية) واللغة السوريانية أكثر من وجوه التشابه بينها وبين لغة قريش.. أما اللغة الآرامية: فقد سبقت الإشارة في أول البحث أن بعضهم يرى أن كلمة - آرام - تعني - عرب - وأن العين والباء قلبتا همزة وميماً، وأنهم ينقسمون إلى حضر وهم سكان (الهلال الخصيب) وبدو وهم سكان الأطراف الجنوبية الصحراوية من منطقة الهلال الخصيب ويسمون بدو الآراميين.. وأياً ما كان الأمر فإن الذي لا شك فيه أن كل هؤلاء أمة واحدة تسمى - السامية - أما أيهما يرجع إلى الآخر - الآراميين - أو العرب فمسألة ترجع إلى ما سبق أن أشرت إليه - من تحديث أصل بداية العرب كأمة مستقلة معروفة بهذا الاسم - ولكنني أستطيع أن أجزم بأن أحد تلك الفروع من - السامية الأم - استطاع على مدى التاريخ أن يحافظ على أهم خصائص اللغة السامية على حين فقدت الفروع الأخرى كثيراً استطاع ذلك الفرع أن يطور لغته السامية بشكل ضمن لها النماء والتحسن مع الإبقاء على معظم الخصائص دون أن يفسدها التطوير.. ذلك الفرع هو القسم من الساميين الذي اتجه إلى الجزيرة العربية وعرف فيما بعد باسم العرب، أما لماذا كان ذلك؟ فإن السبب الرئيسي يرجع إلى طبيعة المنطقة التي استوطنها وهي منطقة صحراوية وعرة بعيدة عن المناطق العامرة بالأمم الأخرى فأعطى ذلك العرب فرصة الابتعاد عن المؤثرات المباشرة على لغتهم وفرصة أخرى لصقل ما يصلهم من الأمم الأخرى من مفردات أو لهجات حتى إنه لا يصل إليهم إلا وقد عبر مناطق صحراوية تحتم عليه التغير بشكل يلائم تلك البيئة، ويناسب أذواق تلك الأمة الفطرية البعيدة عن تعقيدات المدنيات الفاسدة المختلفة.. المراحل التي مرّت بها اللغة العربية: مرت اللغة العربية بأدوار ومراحل، وارتقت في مختلف الفترات درجات التصاعد والتطور، حتى وصلت إلى درجة ومرحلة نهائية وضعتها في القمة بحيث أصبحت أهلاً لأن ينزل بها آخر كتب الله المنزلة، ولأن تكون وعاءً لكلام الله عز وجل.. 1- مرحلة النشأة: حيث اللغة الأم (السامية) وحيث كانت العربية في مرحلة مخاض كما سبق تفصيله.. 2- لغة العرب البائدة: وقد سبق في أول البحث أنهم: عاد، وثمود، وطُسَم، وجَدِيْس، وأمَيْم، وعَبِيْل، والعمالقة، وجُرْهُم.. وذكرنا أن مساكن عاد كانت بجنوب الجزيرة في طرف من صحراء الربع الخالي وثمود بمالها الغربي، وطسم وجديس بشرقها، والعمالقة وجرهم بالحجاز، وبمكة ويثرب.. هؤلاء هم الذين كانوا يتكلمون العربية التي استقلت عن السامية الأم وتطورت إلى أن اتخذت لنفسها شكلاً مستقلاً ونستطيع أن تعتبر عربيتهم فترة متطورة من العربية الأولى التي وجدت في فترة النشأة.. 3- لغة القبائل القحطانية: ويسميها الباحثون (الحميرية) وهذه القبائل كانت تسكن الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية - حضرموت واليمن - حيث جاوروا أقرب الأمم إليهم وهم (الأحباش) وكثر اختلاطهم بهم فتأثرت لغتهم باللغة (الحبشية) مما جعل بعض المستشرقين يعتبر (الحميرية) و (الحبشية) لغتين شقيقتين لما وجد من كثرة التشابه بينهما في المفردات والخصائص، ولا ننسى أنه لم يكن هناك مفراً أمام (الحميرية) من التأثر بشكل واسع بالحبشية بسبب هجرات اليمنيين والغزوات المتبادلة، وقد أقام (الأحباش) زمناً طويلاً باليمن وحكموها فاللغة الحميرية إذن أضافت إلى ما ورثته من لغة العرب البائدة خصائص ومفردات جديدة تأثرت كثيراً بعوامل خارجية..فبذلك هي تمثل فترة مهمة من فترات تطور العربية.. ولم تكن صالحة وحدها وهي في هذه المرحلة لأن ترشح لتلك المهمة العظيمة التي تجعلها - اللغة العربية المتكاملة الواحدة -، ألا وهي مهمة نزول القرآن بها، بل كل ما يمكن أن نقوله أنها كانت مرحلة تهيئ للمرحلة الأخيرة، وإرهاصاً من إرهاصات اللغة المختارة الكريمة المبينة التي كانت - العدنانية - يقول المستشرق - رينان -: إن الحميرية والحبشية لم يكن لهما مكان رئيسي سوى أنهما كانتا أداتين هيئتا لظهور العربية الحجازية [22] . 4- لغة القبائل العدنانية: وهي لغة القبائل التي تنتسب إلى عدنان بن إسماعيل عليه السلام، وكانت تسكن القسم الشمالي من الجزيرة العربية الذي يشمل: هجر، ونجد، والحجاز.. وقد سبقت الإشارة إلى أن إسماعيل عليه السلام نشأ في كَنَف إحدى القبائل البائدة - جرهم - أو هي فرع من فروعها، ويشير الحديث الصحيح [23] إلى أنه عليه السلام - أعجبهم وأنفسهم - أي أنه كما يبدو فاقهم فصاحة في لغته، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل"رواه الحاكم في مستدركه والزبير بن بكار في كتاب النسب وقال الحافظ ابن حجر في حديث الزبير: إنه حسن [24] . وتأمل قوله (العربية المبينة) تتوصل إلى كل ما نريد قوله عن اللغة العدنانية وأنها تمثل المرحلة النهائية في مراحل تطور العربية المرحلة التي بلغت فيها قمة الفصاحة - والفصاحة هي الإبانة - بعد أن كانت أقل إبانة وفصاحة، مرحلة تفتقت فيها اللغة العربية كأنها هي زهرة كانت منكمشة في كمها ثم انفتحت.. حُكي عن الشرقي بن قطامي أنه قال [25] : "إن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا جرهم وحمير". وانظر إلى آثار حكمة الله عز وجل العظيمة لما اصطفى لغة هذه الأمة لتكون وعاءً (لكلامه المقدس) سخر لها من عوامل النماء والنقاء ما لم يتوفر لأي لغة أخرى: أولاً: بيئة جغرافية نقية - صحراوية - بعيدة لوعورتها عن مختلف البيئات الأخرى وهذه البيئة هي أواسط جزيرة العرب التي اختارها الله مركزاً للّغة المصطفاة المتكاملة في خصائصها وثروتها اللغوية.. والتي تشمل نجداً والحجاز. يتبع |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
سطور , في , كتاب |
| |