الإهداءات | |
| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
08-08-2018, 07:20 PM | #29 |
| دواعي حفظ اللغة العربية عند الأوائل من كتاب تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا لَمَّا رَأَى عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ تَأْثِيرَ الْقُرْآنِ فِي جَذْبِ قُلُوبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُحْفَظُ إِلَّا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَرَبُ قَدِ اخْتَلَطُوا بِالْعَجَمِ، وَفَهِمَ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَعَاجِمِ مَا فَهِمَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِ أَجْمَعَ كُلٌّ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَدَوَّنُوا لَهَا الدَّوَاوِينَ وَوَضَعُوا لَهَا الْفُنُونَ، نَعَمْ إِنَّ الِاشْتِغَالَ بِلُغَةِ الْأُمَّةِ وَآدَابِهَا فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهِ وَمَادَّةٌ مِنْ مَوَادِّ حَيَاتِهَا، وَلَا حَيَاةَ لِأُمَّةٍ مَاتَتْ لُغَتُهَا. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الْحَامِلَ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ بِمُفْرَدَاتِهَا وَأَسَالِيبِهَا وَآدَابِهَا، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا. أَلَّفَ الْعَلَّامَةُ الْإِسْفَرَايِينِيُّ كِتَابًا فِي الْفِرَقِ خَتَمَهُ بِذِكْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَزَايَاهُمْ، وَعَدَّ مِنْ فَضَائِلِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْفِرَقِ: التِّبْرِيزَ فِي اللُّغَةِ وَآدَابِهَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَجْلَى بَيَانٍ. فَأَيْنَ هَذِهِ الْمَزَايَا الْيَوْمَ؟ وَأَيْنَ آثَارُهَا فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ؟ بَلْ فَهْمِ مَا دُونَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ! وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْحَاجَةِ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَهْمُ الْقُرْآنِ اهـ. أَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ، فَلَا بَقَاءَ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ فَهْمًا صَحِيحًا، وَلَا بَقَاءَ لِفَهْمِهِ إِلَّا بِحَيَاةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي بَعْضِ بِلَادِ الْأَعَاجِمِ فَإِنَّمَا بَقَاؤُهُ بِوُجُودِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَا يَكْفِي لِرَدِّ الشُّبُهَاتِ عَنِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَبِبَقَاءِ ثِقَةِ الْعَامَّةِ بِهِمْ وَبِمَا يَقُولُونَهُ تَقْلِيدًا لَهُمْ فِيهِ، أَوْ بِعَدَمِ عُرُوضِ الشُّبَهِ لَهُمْ مِنْ دُعَاةِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى، مَعَ تَأْثِيرِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ: بِحَرَكَةِ الِاسْتِمْرَارِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَنَشْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ الْعِلْمُ وَالدِّينُ فِي أَوْجِ الْقُوَّةِ بِحَيَاةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. كَانَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ صَارَ أَخًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ أُمَّتَهُ هِيَ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، لَا الْعَرَبِيَّةُ وَلَا الْفَارِسِيَّةُ وَلَا الْقِبْطِيَّةُ وَلَا التُّرْكِيَّةُ. . . . كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (21: 92) وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ وَحْدَةَ الْأُمَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ، وَلَا لُغَةَ تَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْبُطُهُمْ إِلَّا لُغَةُ الدِّينِ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِنِعْمَةِ اللهِ إِخْوَانًا، وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَعُدْ خَاصَّةً بِالْجِنْسِ الْعَرَبِيِّ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَجْنَاسِ - الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ فِي اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِ بِالْأَصْنَافِ - مِنْ جِهَةِ أَنْسَابِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ يَجْتَهِدُ مُسْلِمُو الْعَجَمِ فِي خِدْمَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ كَمَا يَجْتَهِدُ مُسْلِمُو الْعَرَبِ بِلَا فَرْقٍ، وَيَعُدُّونَهَا لُغَتَهُمْ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا حُجَّتُهُ: وَهُمْ مِنْ أُمَّةِ الْقُرْآنِ كَالْعَرَبِ بِلَا فَرْقٍ. قَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ - قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ - فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ". ثُمَّ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ وَشَدَّدَ فِي مَنْعِهَا، بَعْدَ أَنْ ضَعُفَ الْعِلْمُ وَالدِّينُ فِي الْمُسْلِمِينَ بِضَعْفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِمْ، حَتَّى قَامَ بَعْضُ الْأَعَاجِمِ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ. زَاعِمًا أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ لَيْسَ لَهُ لُغَةٌ. وَغَلَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي بُغْضِ الْعَرَبِيَّةِ فَدَعَا مُسْلِمِي قَوْمِهِ إِلَى الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعَمَلِ عَلَى إِقَامَةِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِلُغَةِ الْإِسْلَامِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَانَ مِنْ عَاقِبَةِ هَذَا الضَّعْفِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْأَعَاجِمِ - كَجَاوَةَ، الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِالدِّينِ وَلُغَتِهِ، الْقَادِرُونَ عَلَى دَفْعِ الشُّبَهِ عَنِ الْقُرْآنِ - صَارُوا يَرْتَدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لِإِيضَاعِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ خِلَالَهُمْ، وَسُؤَالِهِمُ الْفِتْنَةَ بِالتَّشْكِيكِ فِي الْقُرْآنِ وَالطَّعْنِ فِيهِ. وَأَيْنَ مَنْ يَفْهَمُهُ وَيُدَافِعُ عَنْهُ هُنَاكَ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ يَفْخَرُ بِسَلَفِهِ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَالْمَجُوسِ حَتَّى بِفِرْعَوْنَ الَّذِي لَعَنَهُ اللهُ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ. أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنْ نَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَنَعْتَبِرَ بِهِ، وَنَتَذَكَّرَ وَنَهْتَدِيَ، وَأَنْ نَعْلَمَ مَا نَقُولُهُ فِي صِلَاتِنَا مِنْ آيَاتِهِ وَأَذْكَارِهِ، وَأَكَّدَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالِامْتِثَالُ لَهَا وَالْعَمَلُ بِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى. وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ مُعْجِزًا لِلْبَشَرِ وَلَا تَقُومُ حُجَّتُهُ فِي هَذَا عَلَيْهِمْ إِلَّا بِفَهْمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ فَهْمُهُ إِلَّا بِفَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى، فَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ، نَدْعُو إِلَيْهَا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِدُعَائِهِمْ إِلَى الْقُرْآنِ. وَإِنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا ضَعُفُوا وَزَالَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ الْوَاسِعِ إِلَّا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فَقَدُوا مِنَ الْعِزِّ وَالسِّيَادَةِ وَالْكَرَامَةِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى هِدَايَتِهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ كَمَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى إِحْيَاءِ لُغَتِهِ فَالدُّعَاءُ لَهُ دُعَاءٌ لَهَا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (8: 24 - 26) وَبِالشُّكْرِ تَدُومُ النِّعَمُ، وَكُفْرُهَا مَجْلَبَةٌ لِلنِّقَمِ، وَلِذَلِكَ أَرْشَدَنَا اللهُ فِي فَاتِحَةِ كِتَابِهِ إِلَى الدُّعَاءِ بِأَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَبْدَأُ بِالْمَقْصُودِ بِعَوْنِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. |
|
08-08-2018, 07:21 PM | #30 |
| كيف يتألف النظام الصرفي في اللغة العربية؟ من كتاب اللغة العربية معناها ومبناها للدكتور تمام حسان النظام الصرفي للغة العربية الفصحى ينبني على ثلاث دعائم هامة هي: 1- مجموعة من المعاني الصرفية التي يرجع بعضها إلى تقسيم الكلم, ويعود بعضها الآخر إلى تصريف الصيغ. 2- طائفة من المباني بعضها صيغ مجردة, وبعضها لواصق, وبعضها زوائد, وبعضها مباني أدوات, وقلنا: إنه قد يدل على المبني دلالة عدمية بالحذف أو الاستتار حيث تغني القرينة في الحالتين عن الذكر. 3- طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية, وهي وجوه الارتباط بين المباني وطائفة أخرى من القيم الخلافية أو المقابلات, وهي وجوه الاختلاف بين هذه المباني. ولقد ذكرنا ما قبل أيضًا أن المباني الصرفية morphemes تعبِّر عن المعاني الصرفية الوظيفية التي أشرنا إليها, وأن هذه المباني نفسها أبواب تندرج تحتها الصرفية الوظيفية التي أشرنا إليها, وأن هذه المباني نفسها أبواب تندرج تحتها علامات تتحقق المباني بوساطتها لتدل بدورها على المعاني. فالمعاني الصرفية والمباني من نظام اللغة, ولكن العلامات المنطوقة أو المكتوبة تنتمي إلى الكلام, وسنضرب لذلك أمثلة تتضح بها الصلة بين المعاني والعلامات النطقية كما يأتي: وإذا نظرنا في هذ المباني الصرفية وجدنا أنّ من بينها ما يعبر عن معاني التقسيم كصيغة الاسم إذ تعبر عن الاسمية, وصيغة الفعل إذ تعبر عن الفعلية, وكصورة الضمير التي تعبر عن معنى الإضمار, وهذه الطائفة من المباني التي تعبر عن معان تقسيمية هي حجر الزاوية في النظام الصرفي للغة العربية الفصحى, وهذه المباني أبواب الكلم, وقد سماها النحاة: أقسام الكلام أو ما يتألف منه الكلام, فإذا تصورنا النظام الصرفي في صورة جدول تتشابك فيه العلاقات والمقابلات, فإن هذه النوع من المباني سيمثل البعد الرأسي لهذا الجدول, أما المباني التصريفية, أي: المباني التي يتم التصريف على أساسها كالمتكلم وفرعيه, والمفرد وفرعيه, وكالمذكر والمؤنث, والمعرفة والنكرة, فهي التي تمثّل البعد الأفقي لجدول النظام الصرفي. وهذه المباني التصريفية هي المسئولة عن التفريع الذي يتم داخل المباني التقسيمية, كأن ننظر إلى الأنواع المختلفة لتصريفات الاسم, ولإسنادات الفعل, ولفصل الضمائر ووصلها, وذكرها وحذفها واستتارها, وهلم جرا مما لا يمكن ضبطه إلّا بواسطة مباني التصريف. ولهذا كانت مباني التصريف هي المسرح الأكبر للقيم الخلافية بين الصيغ المختلفة التي تعتبر فروعًا على مباني التقسيم, بهذا يمكن أن نضع الصورة على النحو التالي: 1- مباني التقسيم: وتندرج تحتها الصيغ الصرفية المختلفة التي ينصبّ في قالبها كل قسم من أقسام الكلم, فكل الصيغ الصرفية التي للأسماء بأنواعها والصفات والأفعال, تندرج تحت مباني التقسيم, وتكون فروعًا على هذه الأقسام, وتشبهها في ذلك صور الضمائر والإشارات والموصولات والظروف والخوالف والأدوات حين ننظر إلى هذه الصور على إطلاقها. ومعنى ذلك أن معاني الصيغ كالمطاوعة والطلب والصيرورة والتفضيل والمبالغة التي نراها في انفعل واستفعل والأفعل وفعّال على التريب هي فروع على معاني التقسيم, وأن مبانيها فروع على مباني التقسيم. 2- مباني التصريف: وتندرج تحتها أوجه الاتفاق بين المباني, وأوجه الاختلاف بينها, وأقصد بأوجه الاتفاق العلاقات, وبأوجه الاختلاف المقابلات, ففي داخل المطاوعة نجد صيغة الفعل كانفعل وينفعل وانفعل, ونجد صيغة الاسم كانفعال, فتكون المطاوعة علاقة تربط بين كل هذه الصيغ, ولكن اللغة تعمد عند اتفاق المباني إلى إيجاد أنواع المقابلات بينها, فيكون إيجاد المقابلات بواسطة مباني التصريف, فتسند الأفعال إسنادات مختلفة بحسب التكلُّم والخطاب والغيبة, وبحسب الإفراد والتثنية والجمع, وبحسب التذكير التأنيث, وتتصرف الأسماء تصريفات مختلفة باختلاف الإفراد والتثنية والجمع, والتذكير والتأنيث, والتعريف والتنكير, فتكون معاني التصريف على هذا مجالًا للقيم الخلافية التي تفترق الصيغ على أساسها. ومقتضى هذا أننا إذا نظرنا في الأمثلة السابقة التي سقناها لإيضاح الصلة بين المعنى والمبنى والعلامة, وجدنا ما يأتي: تلك هي العلاقة بين معاني التقسيم ومبانيه, وبين معاني التصريف ومباينه أيضًا في النظر إلى الكلمات في التركيب, وفيما يلي جدول يبين النظام الصرفي والعلاقة بين معاني التقسيم ومباني التصريف في حدود الجدول, وسنرى في هذا الجدول أن التكلم والخطاب والغيبة تولد القيم الخلافية بين الضمائر والأفعال, فتكون أساس اختلاف صور هذه وإسناد تلك, ولا تفعل ذلك بين الأسماء؛ لأن الظاهر دائمًا في قوة ضمير الغائب كما يقولون, ولا بين الصفات ولا الخوالف ولا الظروف ولا الأدوات, ثم إن الإفراد والتثنية والجمع تولد القيم الخلافية بين صيغ الأسماء والصفات وصور الضمائر, وليس بين الأفعال والخوالف والظروف والأدوات, ثم إن التذكير والتأنيث يولدان القيم الخلافية بين صيغ الأسماء والصفات وصور الضمائر, ولا تتصل بالأفعال إلّا لمعنى المطابقة للاسم أو الضمير, وأما التعريف والتنكير فيولدان القيم الخلافية بين الأسماء, وربما الصفات دون البواقي. |
|
08-08-2018, 07:23 PM | #31 |
| مستويات التحليل اللغوي من كتاب أسس علم اللغة للدكتور أحمد مختار عمر إن دراسة اللغة -على ما جرى عليه العرف- سواء كان المنهج وصفيا أو تاريخيا، وتندرج في أربعة مستويات، وإن كانت الحدود بينها غير واضحة تماما كما قد نحب أن يكون. هذه المستويات هي: 1- مستوى الأصوات phonology، ويدرس أصوات اللغة، ويشمل كلا النوعين المعروفين باسم علم الأصوات العام phonetics وعلم الفونيمات phonemics. وسوف نحدد المراد بهذين المصطلحين فيما بعد. 2- مستوى الصرف Morphology، أو مستوى دراسة الصيغ اللغوية وبخاصة تلك التغييرات التي تعتري صيغ الكلمات فتحدث معنى جديدًا، مثل اللواحق التصريفية inflectional endings "على سبيل المثال S التي تضاف إليه Cat فتصيرها جمعا"، والسوابق prefixes "مثل re قبلtell لتعطيها معنى يخبر مرة ثانية"، والتغيرات الداخلية internal changes "مثل تغيير حرف العلة في sing إلى sang لإفادة الماضي". 3- مستوى النحو Syntax, الذي يختص بتنظيم الكلمات في جمل أو مجموعات كلامية "مثل نظام الجملة: ضرب موسى عيسى، التي تفيد عن طريق وضع الكلمات في نظام معين أن موسى هو الضارب وعيسى هو المضروب". 4- مستوى المفردات Vocabulary. الذي يختص بدراسة الكلمات المنفردة، ومعرفة أصولها، وتطورها التاريخي، ومعناها الحاضر، وكيفية استعمالها، ويدخل تحت دراسة المفردات فرع يسمى بالاشتقاق Etymology وهو يختص بدراسة تاريخ الكلمات، وفرع آخر يسمى الدلالة Semantics ويختص بدراسة معاني الكلمات وهناك فرع يسمى المعجم Lexicography وهو فن عمل المعجمات اللغوية، ويستمد وجوده من علم دراسة تاريخ الكلمات وعلم الدلالة، يضاف إلى ذلك اهتمامه ببيان كيفية نطق الكلمة، ومكان النبر فيها، وطريقة هجائها، وكيفية استعمالها في لغة العصر الحديث. وإن الحدود بين هذه المستويات الأربعة غير واضحة تمامًا ومتشابكة، فأصوات اللغة مثلا تتأثر كثيرًا بالصيغ، والعكس كذلك صحيح، والصوت والصيغة كلاهما يتأثران -غالبًا- بالمعنى، كذلك يوجد تبادل مطرد بين الصرف والنحو، كما هو الحال بالنسبة لبعض اللغات حين تستعمل واحدًا منهما وتستغني عن الآخر ولهذا فإن الصرف والنحو كثيرًا ما يجمعان تحت اسم واحد هو التركيب القواعدي Grammatical Structure. وإذا نظرنا من زاوية اكتساب اللغة نجد أن أولئك الذين يتعلمون لغتهم الأم يكتسبون النماذج الصوتية وقواعد اللغة الأساسية في وقت مبكر، وهم من ثم يستعملونها بصورة مشتركة، مع اختلافات بسيطة ترجع إلى الموقع الجغرافي "لهجات محلية"، وطبقة المتكلم الاجتماعية، ونوع تعليمه ولكن نفس الشيء لا يمكن أن يقال بالنسبة لمفردات اللغة التي تعكس اختلافات هائلة بين المتكلمين في مجتمع لغوي واحد، إلى جانب ذلك هناك قدر أساسي مشترك من المفردات يستعمله أبناء اللغة الواحدة بوجه عام. وإن التعليم الطبيعي لعملية اللغة يأتي عن طريق التكرار، والمحاكاة، وخصوصًا فيما يمس الأصوات وصور التنغيم وقواعد اللغة الأساسية، وإن دراسة اللغة عن طريق قواعد النحو قد وصفت -ببراعة- بأنها حيلة لاستنفاذ الوقت، حيث تستغل قدرة الشخص العقلية على التعميم والتجريد، بدلا من اللجوء إلى التكرار والتقليد اللانهائيين، كما هو الحال حيث يكتسب الشخص لغته الأم في مرحلة الطفولة. |
|
08-08-2018, 07:24 PM | #32 |
| ظهور اللحن وانتشاره من كتاب أصول علم العربية في المدينة للدكتور عبد الرزاق بن فراج الصاعدي للحن معان، منها ما اصطلح عليه النُّحاة، وهو مخالفة العرب في سنن كلامهم، أو كما يقول ابن فارس: "إمالة الكلام عن جهته الصَّحيحة في العربية". وهو الذي يعنينا من معانيه في هذا البحث. ويميل كثير من الباحثين إلى أنَّ اللحن بهذا المعنى لم يكن معروفاً في العصر الجاهلي، وإنّما شاع في العصر الإسلامي في المدينة ابتداءً، بسبب اختلاط العرب بغيرهم، ودخول الأعاجم في دين الله أفواجاً، واتّصال العرب بالأمم المجاورة. يقول أبو بكر الزُبيديّ: "ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها، حتَّى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل النَّاس فيه أفواجاً، وأقبلوا إليه أرسالاً، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، والُّلغات المختلفة، ففشا الفساد في اللُّغة العربيَّة، واستبان منه الإعراب الَّذي هو حليها، والموضح لمعانيها، فتفطّن لذلك من نافر بطباعه سوء أفهام النّاطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب، فعظم الإشفاق من فشوّ ذلك وغلبته حتَّى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سبَّبوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه، وتثقيفها لمن زاغت عنه". ومن المؤكّد أن البوادر الأولى للحنِ ظهرت في المدينة على مسمع من النَّبي- صلى الله عليه وسلم - فقد روت المصادر أنَّ رجلا لحن بحضرته فقال - عليه الصَّلاة والسلام -: "أرشدوا أخاكم فقد ضل" . أو "أرشدوا أخاكم فإنَّه قد ضلَّ" . وتكاد تنطق عبارة الحديث بأنّ هذا اللحن هو أوَّل لحن سمعه الرًّسول - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم دعا إلى ضرورة التّصدِّي له، ولو كان اللحن معروفا عند العرب قبل ذلك العهد لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه. ويبدو أن اللحن أخذ في التفشِّي والانتشار فأصبح أمره معروفاً، فقال النّبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بحين: "أنا من قريش، ونشأت في بني سعد فأنَّى لي اللحن؟ " . وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنّه كان يقول: "لأن أقرأ فأسقط أحبّ إليّ من أن أقرأ فألحن". وفي هذا النص - أيضاً - دلالة على أنَّ اللحن كان معروفاً زمن أبي بكر الصِّديق، متفشِّيا بين عامة النّاس، ومنه ما يقع في القرآن، وهو أشنع ما يكون من اللحن. وازدادت المرويات من اللَّحن في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فمن ذلك أنّه مرَّ بقوم يرمون ويسيئون الرمي، فغضب منهم وقال لهم: "بئس ما رميتم، فقالوا: إنّا قوم متعلمين [أو نحن قوم رامين] فقال: والله لخطؤكم في كلامكم أشد من خطئكم في رميكم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رحم الله امرأ أصلح من لسانه" . وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى عمر: "من أبو موسى" فكتب عمر إلى عامله: "سلام عليك، أما بعد، فاضرب كاتبك سوطاً واحدا، وأخّر عطاءه سنة" أو "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطاً واعزله عن عمله". وُيروى أنَّ أعرابيَّاً دخل السُّوق فوجدهم يلحنون فقال: "العجب، يلحنون ويربحون". وقد فشا اللَّحن زمن الأمويين، وانتشر بين العامة والخاصة، ولم يسلم منه الأمراء والوزراء وأهل الرِّياسة، فقد قيل: إنّ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك كان لُحَنَةً. رووا أنّه خطب النَّاس يوم عيد، فقرأ في خطبته: " ياليتُها كانت القاضية" بضم التَّاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك. وروى الجاحظ أنّ كُتُب الوليد كانت تخرج ملحونة، فسأل إسحاقُ بن قبيصة أحد موالي الوليد: "ما بال كتبكم تأتينا ملحونة، وأنتم أهل الخلافة؟ ". وخطب الوليد في أهل المدينة، وقال: "يا أهلُ المدينة" بضم اللام. وأحصوا اللّحّانين من البلغاء، فعدّوا منهم خالد بن عبد الله القسري، وخالد بن صفوان، وعيسى بن المدور، وكان الحجَّاج بن يوسف يلحن أحياناً. وهكذا انتشرت جرثومة اللحن مع مرور الأيام، فأعدت العامةُ الخاصةَ، وقد أثر عن إمام دار الهجرة أنّه كان يقول: "أي مطراً" بدل "أي مطرٌ" وكان شيخه ربيعة بن عبد الرَّحمن فقيه أهل المدينة المشهور بربيعة الرَّأي يلحن في الإِعراب - أيضاً - ويقول: بخيراً. وبلغ من أمر اللحن - فيما بعد - أن تسرب إلى ألسنة أكثر العلماء، فتساهلوا في أمره، قال ابن فارس: "فأما الآن فقد تجوَّزوا، حتَّى إنَّ المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب، وإنَّما نحن محدّثون وفقهاء". وصار من لا يلحن في زمن الأصمعي خارجاً عن المألوف، قالت الأصمعي: "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية، والحجاج أفصحهم". وقد كان النَّاس في صدر الإِسلام يجتنبون اللحن فيما يقولونه أو يقرأونه أو يكتبونه اجتنابهم بعض الذنوب، وكان دافعهم لاجتناب اللحن شعورهم بوراثتهم لغتهم معربة، وهي لغة القرآن والدين. وكان بعض السَّلف يقول: "ربما دعوت فلحنت فأخاف ألا يستجاب لي ". وقد يحدث بعضهم بحديث فيلحن فيه، فيقول: "استغفر الله" يعني أنَّه عدَّ اللحن ذنباً، فيقال له فيه فيقول: "من أخطأ فيها فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءاً". وروي عن عمر بن الخطاب أنَّه جعل اللحن من الافتراء. وكان عمر بن الخطاب يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ في غير اللغة. وأثر مثل هذا عن ابنه عبد الله - رضي الله عنهما -. وبعد هذا الفيض من الرِّوايات فإنَّه لا سبيل إلى إنكار ظهور اللحن في المدينة منذ الصدر الأول، واستفحال أمره فيما بعد في سائر الأمصار، لاختلاط العرب بغيرهم. ومن الطبيعي أن يصحب ذلك إحساس بالحاجة إلى ضبط قواعد اللّغة الفصحى، ومن المؤكد أنَّ ذلك الإحساس نشأ منذ الصَّدر الأول في المدينة في عهد الخلفاء الراشدين، وربما كان ذلك منذ عهد النَّبي - صلى الله عليه وسلم. وتدلًّ الرِّوايات الَّتي أوردنا شيئاً منها على إلمام النّبي - صلى الله عليه وسلم -وصحابته في المدينة إلماما فطرياً بالتَّراكيب النَّحويَّة، والإعراب بخاصة، وقد كانوا على قدر من الإدراك بأصول الكلمات واشتقاق الألفاظ، هدتهم إليه سلائقهم اللُّغويَّة النَّقيَّة، وسماعُهم ما يخالفها من لحن. روى ابن جني ما حُكي عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جاءه قومٌ من العرب،. فسألهم عليه السَّلام، فقال: من أنتم؟ فقالوا: بنو غيَّان، فقال: بل أنتم بنو رشدان، قال ابن جني معقّباً: "أولا تراه - صلى الله عليه وسلم - كيف تلقّى (غيان) بأنّه من الغيّ، فحكم بزيادة ألفه ونونه، وترك عليه السلام أن يتلقَّاه من باب (الغين) وهو إلباس الغيم من قوله: كَأنّي بَيْنَ خَافِيتَي عُقَابٍ ... تُرِيدُ حَمَامَةً فِي يَوْمِ غَيْنِ يدلُّك على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - تلقَّاه بما ذكرنا أنّه قابله بضده، فقال: بل أنتم بنو رشدان، فقابل الغي بالرُّشد، فصار هذا عياراً على كل ما ورد في معناه. وتدلُّ الرِّوايات على إلمام عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - بأساليب اللًّغة ودقائقها التّعبيريَّة، وكان من أشد النَّاس حرصاً على نقائها، وسلامة أساليبها، وكان يحثُّ على تعلُّمها، فقد روي عنه قوله: "تعلموا العربية، فإنَّها تثبت العقل، وتزيد في المروءة". وروي عنه - أيضاً - أنّه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "أن مُرْ من قِبَلَكَ بتعلم العربية، فإنَّها تدلُّ على صواب الكلام". والعربية هذه هي عربية المصطلح القديم الَّتي تقابل في مدلولها كلمة النَّحو، لأنَّها تدلُّ - كما يفهم من قول عمر - على صواب الكلام، أي يهتدي بها إلى صواب الكلام. ومهما يكن من أمر فإنَّ ثمة ما يشبه الإِجماع على أنَّ ظهور اللحن وتفشيه في الكلام وزحفه إلى القرآن والحديث هو الباعث الأول على تدوين اللُّغة. واستنباط النَّحو، لأنَّ علم العربيَّة ككل العلوم في نشأتها تتطلبه الحوادث وتقتضيه الحاجات. ولهذا قال الدُّكتور محمد خير الحلواني: "والحقّ أنَّ نشأة النَّحو ترتبط بجذور الحياة الإسلاميَّة في ذلك الزَّمن". وقال الدُّكتور أحمد إبراهيم سيد أحمد: "لو أنَّ منصفاً تتبع أصول النّحو الأولى لوجد أنّها نبتت في المدينة وظلت تنمو شيئا فشيئاً". وتلك نتيجة حتمية؛لأنَّ ضوابط اللُّغة وقوانين الإعراب هي العاصمة من الزَّلل، والمُعَوِّضة عن السَّليقة بعد أن شاع اللحن واضطربت الألسن، وتأثر العرب بالعجم في المدينة أولا، ثم في باقي الأمصار الإسلاميَّة ثانياً. |
|
08-08-2018, 07:26 PM | #33 |
| المراحل التي مرّت بها اللغة العربية من كتاب دراسات في أصول اللغات العربية لعبد العزيز بن عبد الفتاح بن عبد الرحيم بن الملاَّ محمد عظيم القارئ المدني مرت اللغة العربية بأدوار ومراحل، وارتقت في مختلف الفترات درجات التصاعد والتطور، حتى وصلت إلى درجة ومرحلة نهائية وضعتها في القمة بحيث أصبحت أهلاً لأن ينزل بها آخر كتب الله المنزلة، ولأن تكون وعاءً لكلام الله عز وجل.. 1- مرحلة النشأة: حيث اللغة الأم (السامية) وحيث كانت العربية في مرحلة مخاض كما سبق تفصيله.. 2- لغة العرب البائدة: وقد سبق في أول البحث أنهم: عاد، وثمود، وطُسَم، وجَدِيْس، وأمَيْم، وعَبِيْل، والعمالقة، وجُرْهُم.. وذكرنا أن مساكن عاد كانت بجنوب الجزيرة في طرف من صحراء الربع الخالي وثمود بشمالها الغربي، وطسم وجديس بشرقها، والعمالقة وجرهم بالحجاز، وبمكة ويثرب.. هؤلاء هم الذين كانوا يتكلمون العربية التي استقلت عن السامية الأم وتطورت إلى أن اتخذت لنفسها شكلاً مستقلاً ونستطيع أن تعتبر عربيتهم فترة متطورة من العربية الأولى التي وجدت في فترة النشأة.. 3- لغة القبائل القحطانية: ويسميها الباحثون (الحميرية) وهذه القبائل كانت تسكن الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية - حضرموت واليمن - حيث جاوروا أقرب الأمم إليهم وهم (الأحباش) وكثر اختلاطهم بهم فتأثرت لغتهم باللغة (الحبشية) مما جعل بعض المستشرقين يعتبر (الحميرية) و (الحبشية) لغتين شقيقتين لما وجد من كثرة التشابه بينهما في المفردات والخصائص، ولا ننسى أنه لم يكن هناك مفر أمام (الحميرية) من التأثر بشكل واسع بالحبشية بسبب هجرات اليمنيين والغزوات المتبادلة، وقد أقام (الأحباش) زمناً طويلاً باليمن وحكموها فاللغة الحميرية إذن أضافت إلى ما ورثته من لغة العرب البائدة خصائص ومفردات جديدة تأثرت كثيراً بعوامل خارجية..فبذلك هي تمثل فترة مهمة من فترات تطور العربية.. ولم تكن صالحة وحدها وهي في هذه المرحلة لأن ترشح لتلك المهمة العظيمة التي تجعلها - اللغة العربية المتكاملة الواحدة -، ألا وهي مهمة نزول القرآن بها، بل كل ما يمكن أن نقوله أنها كانت مرحلة تهيئ للمرحلة الأخيرة، وإرهاصاً من إرهاصات اللغة المختارة الكريمة المبينة التي كانت - العدنانية - يقول المستشرق - رينان -: إن الحميرية والحبشية لم يكن لهما مكان رئيسي سوى أنهما كانتا أداتين هيئتا لظهور العربية الحجازية. 4- لغة القبائل العدنانية: وهي لغة القبائل التي تنتسب إلى عدنان بن إسماعيل عليه السلام، وكانت تسكن القسم الشمالي من الجزيرة العربية الذي يشمل: هجر، ونجد، والحجاز.. وقد سبقت الإشارة إلى أن إسماعيل عليه السلام نشأ في كَنَف إحدى القبائل البائدة - جرهم - أو هي فرع من فروعها، ويشير الحديث الصحيح إلى أنه عليه السلام - أعجبهم وأنفسهم - أي أنه كما يبدو فاقهم فصاحة في لغته، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل " رواه الحاكم في مستدركه والزبير بن بكار في كتاب النسب وقال الحافظ ابن حجر في حديث الزبير: إنه حسن. وتأمل قوله (العربية المبينة) تتوصل إلى كل ما نريد قوله عن اللغة العدنانية وأنها تمثل المرحلة النهائية في مراحل تطور العربية المرحلة التي بلغت فيها قمة الفصاحة - والفصاحة هي الإبانة - بعد أن كانت أقل إبانة وفصاحة، مرحلة تفتقت فيها اللغة العربية كأنها هي زهرة كانت منكمشة في كمها ثم انفتحت..حُكي عن الشرقي بن قطامي أنه قال: "إن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا جرهم وحمير". وانظر إلى آثار حكمة الله عز وجل العظيمة لما اصطفى لغة هذه الأمة لتكون وعاءً (لكلامه المقدس) سخر لها من عوامل النماء والنقاء ما لم يتوفر لأي لغة أخرى: أولاً: بيئة جغرافية نقية - صحراوية - بعيدة لوعورتها عن مختلف البيئات الأخرى وهذه البيئة هي أواسط جزيرة العرب التي اختارها الله مركزاً للّغة المصطفاة المتكاملة في خصائصها وثروتها اللغوية.. والتي تشمل نجداً والحجاز. ثانياً: أوحى عز وجل إلى نبيه - إبراهيم الخليل - وهو بابلي من العراق أن يرحل بزوجه - هاجر - وهي مصرية ليتركها مع وليدها - إسماعيل - في هذه الأرض القاحلة الصحراوية من أرض الحجاز، ثم يتم اتصال - هاجر - بقبيلة جرهم فكأنما صبت الأصول: البابلية، المصرية، العربية البائدة في بوتقة واحدة لتفتق عربية إسماعيل.. ثالثاً: ثم يسخر الله عز وجل لذرية إسماعيل - العدنانيين - عاملاً آخر مهماً من العوامل التي ساعدت على نماء لغتهم وهي هجرة - القحطانيين - بعد انهيار سد مأرب واختلاطهم بهم.. فبقيت هذه اللغة - العدنانية - تأخذ طريقها إلى النمو والتصاعد لتشكل في نهاية الأمر اللغة العربية الرئيسية المتكاملة التي بقيت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بينما أخذت اللغات الأخرى ومنها (الحميرية) طريقها إلى الانقراض.. حتى لم يبق اليوم إلا بقايا أثرية في الأطلال والنقوش وكتب اللغة.. نتائج البحث: 1- اللغة العربية: أفصح اللغات البشرية، وأوسعها، وأغزرها مادة وأقواها تكوينًا، والدليل على ذلك: اختيارها لتكون وعاء لكتاب إلهي عظيم بعد بين الكتب الإلهية المنزلة: المنهاج الإلهي الشامل الكامل العالمي الذي وسع جميع البشر وسائر الأزمنة المتعاقبة، فلغة اتسعت للتعبير عن هذا المنهاج العظيم - القرآن- تعد بحق أعظم لغات الأرض ولولا أنها تملك من خصائص البيان ما لا تملكه اللغات الأخرى لما أمكنها ذلك: قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . ومثل هذه النصوص تدل على أن غير العربية من اللغات - الأعجمية - لا تملك من خصائص الإبانة والاستقامة ما تملكه اللغة العربية.. ولعلي أستطيع في وقت قريب - إذا شاء الله - أن أقدم نموذجاً من خصائص هذه اللغة التي تنفرد بها.. 2- معروف لدى جميع الباحثين من علماء اللغات أن اللغة متطورة متغيرة لأنه يستحيل أن تسلم لغة ما من عوامل التطوير والتغيير، واللغات الحية يستفيد بعضها من بعض، ولا يمكن للغة تنكمش على نفسها وتنقطع صلاتها الأخرى، والمدنيات الأخرى، أن تدوم على قيد الحياة طويلاً فلكي تستمر اللغة في الوجود يجب أن تتقبل التطوير، ولكي تزداد نمواً وازدهاراً يجب أن تتصل بلغات الأمم الأخرى وتستفيد منها.. لكن هذا الأمر دقيق عجيب، فإن بعض اللغات يقضي عليها التطوير وتتلاشى عند الاتصال بالأمم الأخرى، فهناك إذاً عوامل أخرى تصحب هذا العامل المهم ويمكن تلخيص أهمها فيما يلي: أولاً: استعداد اللغة في أصل تركيبها وتكوينها وخصائصها الذاتية للتطور والنمو، والقدرة على احتواء التغيرات الحضارية البشرية مهما اتسعت والقدرة على الصمود أمام مختلف العوامل المؤثرة.. ثانياً: قوة الأمة التي تتكلم بها: حضارياً، وفكرياً، وسياسياً، فإن الأمم الضعيفة التي لا تمتلك من الخصائص الحضارية والفكرية ولا يكون لها كيان سياسي قوي لا تستطيع أن تحافظ على لغتها فضلاً عن أن تنشرها وتفرضها على الناس. ثالثاً: انتشار هذه الأمة التي تتكلم بتلك اللغة: واتصالها بالأمم الأخرى بشتى وسائل الاتصال: إما بالغزو والفتوحات، أو بالمبادلات والعلاقات التجارية والثقافية، أو بحركات الهجرة والنزوح.. وإذا طبقنا هذه العوامل الثلاث على اللغة العربية وأمة العرب نجدها متوفرة جميعها، فقوة تكوينها الذاتي يمكن أن تستنتجه مما سبق بيانه والحديث عنه عند الكلام عن نشأتها والمراحل التي مرت بها، ويكفي دليلاً عليه صمودها طوال هذه القرون والحقب، على الرغم من تعرضها لشتى العوامل الرهيبة التي تكفي للقضاء على أي لغة أخرى كاللغة - العبرية - مثلاً.. فاللغة - العبرية - كانت لغة محلية، ولم تكن تملك من الخصائص ما يؤهلها للانتشار، ولا من المميزات الذاتية ما يسمح بالاستمرار، ثم تعرضت لهزات عنيفة نتيجة تشرد أهلها وتفرقهم بددًا في أرجاء العالم فانقرضت وهي منقرضة وإن استمات اليهود اليوم (عليهم لعائن الله) في محاولتهم لإحيائها.. أما اللغة العربية فنتيجة لقوة تكوينها الذاتي وامتلاكها لخصائص النمو والبقاء لم تؤثر فيها الهزات العنيفة، ولا انتشار أهلها واسع في عدة مراحل من التاريخ كما سأبينه في النقطة التالية.. وقد سبق أن أشرت إلى حركات النزوح والانتشار التي تعرضت لها أمة العرب وكان أشهرها وأعظمها: الهجرة الأولى: من منطقة الهلال الخصيب والرافدين باتجاه الجزيرة العربية ووادي النيل وربما شمالاً وشرقًاً إلى جهات أخرى.. الهجرة الثانية: من اليمن إلى سائر أنحاء الجزيرة والرافدين والشام ووادي النيل. الفتوحات الكبرى: وهي أعظم حركات الانتشار العربية، وقد أوصلت العرب إلى منطقة تمتد من مشارف الصين شرقاً وبلاد الهند والسودان جنوباً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ثم مشارف أوروبا شمالاً امتداداً من فرنسا وصقلية وقبرص وبيزنطة ثم القفقاس وبلاد الخزر وأواسط آسيا وفرغانة التي هي بلاد الترك، وهي منطقة كما نلاحظ تحتوي على أمم كبرى رئيسية: أمة الهند، والترك، والبربر، والروم، والفرس. فلو أن أي أمة غير أمة العرب انتشرت هذا الانتشار لم أشك لحظة أنه كان يُقضى على سائر خصائصها ومنها - اللغة -، أو على الأقل تضعف وتنضب مقوماتها وخصائصها، لكن الذي حدث بالنسبة للعرب والعربية أن صمدت مقوماتهم وازدادت العربية قوة وازدهاراً وتماسكاً فبدل أن تحتويها كل تلك الأمم والحضارات واللغات وتطغى عليها، احتوت هي كل تلك الأمم والحضارات، وطغت على سائر تلك اللغات، ولا شك أن العاملين الآخرين كان لهما دور رئيسي في ذلك وهما: نزول القرآن دستور الإسلام باللغة العربية وتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعربية فهذان جعلا - دين الإسلام - كله عربياً، وهو دين عالمي، فكان دخول الأمم في حظيرة الإسلام دخولاً في حظيرة العربية.. وهذا أعطى اللغة العربية عامل: الفكر والثقافة والخصائص الحضارية بأوسع نطاق، فسعدت العربية بظهير حضاري لم تسعد به أي لغة أخرى حتى ولا العبرانية أو الرومانية أو غيرها.. والعامل الآخر: قوة الكيان السياسي الذي تمثل في أوج الفتوحات بشكل لم يسبق له نظير في العالم، بحيث أصبحت الدولة العربية التي حملت لواء الإسلام أقوى دولة بلا منازع، وذلك أعطى اللغة العربية الفرصة لكي تكون اللغة العالمية بلا منازع أيضاً.. فكانت لغة الفكر والثقافة والعلم والأدب، والطب والحكمة وسائر ما يحتاج إليه البشر.. 3- النتيجة الثالثة والأخيرة وهي أهم نتائج هذا البحث بل هي مقصوده ومرامه، أن - اللغة العربية المتكاملة الرئيسية - التي نزل بها القرآن كانت هي - العدنانية - بسائر لهجاتها وفروعها.. وكان الفرع الرئيسي الذي حظي بأكبر حظ من الآيات والحروف لسان قريش - أعظم القبائل العدنانية -. ولما كانت اللغة العدنانية: البوتقة الأخيرة التي صبت فيها سائر اللغات العربية الأخرى خصائصها ومفرداتها وانصهرت فيها وجدنا أنها احتوت على أحسن ما في تلك اللغات من مفردات وخصائص واطّرحت ما لم يستحسنه لسان العدنانيين.. فاستحقت بذلك أن تكون هي اللغة الرئيسية التي انتشرت واكتسحت اللغات الأخرى: القحطانية، فإذا وجدنا من العلماء من يقول إن في القرآن لهجة أو مفردات (حميرية) فإنه يكون قد غفل عن هذه الحقيقة التي شرحناها في بحثنا هذا، أو وجدنا آخرين يقولون إن في القرآن ألفاظاً حبشية أو نبطية أو سوريانية أو عبرانية هكذا على إطلاقه فهو كذلك لم يعرف ما هي اللغة العربية ولا اطّلع على حقيقتها الرائعة، أو وجدنا آخرين يقولون إنه لا يوجد في القرآن (مُعرّب) ولا من لسان غير العرب، وأن تلك الألفاظ التي حُكي أنها أعجمية هي مما وافقت فيه لغة العرب لغة العجم تصادفاً لا عن نقل أو اقتباس فإننا نلحقه بصاحبيه ونقول له: هذا كلام من لم يفهم طبيعة اللغات جميعاً، فضلاً عن أن يدرك سر العربية، هذا هو ما حاولنا الرد عليه في بحثنا هذا. |
|
08-08-2018, 07:27 PM | #34 |
| تربية الذوق اللفظي من كتاب الآثار التربوية لدراسة اللغة العربية لخالد بن حامد الحازمي للغة العربية وعلومها آثار تربوية لاسيما إذا كان متعلمها له نصيب وافر من العلم الشرعي، حيث تكسبه فصاحة في الكلام، وبلاغة في البيان، وجمالاً في تركيب الكلام، وتعينه على إظهار ما استجاشت به نفسه من مشاعر مكارم الأخلاق وسمو النفس، فتكسبه ذوقاً لفظيًّا، ونمواً فكريًّا، وفهماً عميقاً، وعاطفة جياشة لما اكتسب من رقة الطبع، وحسن المشاعر. مفهوم الذوق اللفظي: الذوق مصدر ذاق الشيء يذوقه، وذواقًا ومذاقًا . الذوق في الأدب: هو حاسة معنوية يصدر عنها، انبساط النفس أو انقباضها لدى النظر في أثر من آثار العاطفة أو الفكر، ويقال: هو حسن الذوق للشعر، فهّامة خبير بنقده . والذوق اللفظي: هو حاسة معنوية يصدر عنها ما جمل من الألفاظ، وهجر ما قبح منها. أهمية الذوق اللفظي: تعتبر الكلمة الطيبة الجميلة ذات الألفاظ البديعة مدخلاً لقلوب السامعين، وجمالاً لألسنة المتحدثين تكسبهم إعجاب ومحبة الآخرين، وهي لا تقل عن الفعل القويم أثراً، جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً، أو إن بعض البيان سحرٌ). قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: "وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة" . وفي استخدام الألفاظ الجميلة والعبارات الطيبة الحسنة تربية اللسان على ما جمل وحسن من الألفاظ، فلا يألف المرء إلا الكلمات التي تجلب خيراً وتدفع شراً. وفي تعود اللسان على ما حسن من الألفاظ وقوي، تمكين لصاحبه في التنقل بين حديقة الكلمات الغناء، وتسعفه بأحسن العبارات وأجمل الألفاظ. وهذا ينعكس على سامعيه ومجالسيه، فتجده بينهم محبوب ولكلامه قبول، ولفكرته مستمعون، وأما صاحب الألفاظ البذيئة، فتجده لم يألف لسانه إلا أرذل الألفاظ وأبخسها، فإذا تحدث كان الناس عنه لاهون ولفكرته غير منتبهين يسأم منه جليسه ويئد فكرته بألفاظه، وسوء عباراته، ولنا في القرآن الكريم منهجاً قويماً، في عذوبة ألفاظه، وجزالة عباراته، وفصاحة بيانه، وحلاوة تراكيب ألفاظه حتى قال عنه أحد أعدائه الوليد بن المغيرة، عندما قال له قومه: "قل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال الوليد: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذه، والله إن لقوله الذي يقول: حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، ومغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته". كما أن لنا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ولأسوة المباركة، تحدث بأحسن العبارات لفظاً، وأوضحها معناً، وأقواها دلالة، اشتملت على إيجاز في غير إعجاز، ووضوحاً في غير إطناب، فقد أعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم. الآثار التربوية للذوق اللفظي: لجمال الألفاظ آثار تربوية عظيمة تنعكس على صاحبها وعلى مستمعيه،بعضها مباشر الأثر وبعضها مكنون الأثر، وبيانها فيما يلي: 1- الإصغاء للكلمة الجميلة: الكلمة الجميلة تأسر مستمعها، وتجعله يتابع أحداث معانيها ودلالاتها في تفاعل وتأثر؛ لأنها تجذب عواطفه وتأخذ بألبابه، فذاك عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقدم عليه وفود أهل البلدان، فيتقدم إليه وفد أهل الحجاز، فاشرأب منهم غلام للكلام فقال عمر: يا غلام ليتكلم من هو أسن منك فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لساناً لافظاً وقلباً حافظاً, فقد أجاد له الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان هاهنا من هو أحق بمجلسك منك، فقال: عمر صدقت، تكلم؛ فهذا السحر الحلال! .." . فتأمل كيف أثرت الفكرة الجميلة باللفظ البديع في عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، وأصغى إلى الغلام حتى انتهى من كلامه وبيانه، وكيف تقدم هذا الغلام على أقرانه وكبراء قومه؟ وكأنه كبيرهم الذي لا يعقد رأي بدونه. وليس من الجمال اللفظي التعمق، واستخراج المعاني والألفاظ الغريبة، يقول ابن قتيبة: "ويستحب له أن يدع في كلامه التقعر والتقعيب" فهو يستثقل، والأدب غض، والزمان زمان، وأهله يتحلون فيه بالفصاحة، ويتنافسون في العلم . ومثال ذلك قول علقمة عندما هاجت به مرة واجتمع عليه قوم، فقال لهم: ما لكم تتكأكؤن عليّ كتكأكئكم عليّ ذي جنة، افرنقعوا عني، فقال رجل منهم: دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية، وقال لحجام يحجمه أشدد قصب الملازم، وأرهف ظبة المشرط، وخفف الوضع وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً ولا تردن آتياً، فوضع الحجام محاجمه في جونته وانصرف . ويلزم ليحسن اللفظ ويجمل ترك اللحن في الكلام. قال عبد الملك: اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس. وقال أبو الأسود: إني لأجد اللحن غمراً كغمر اللحم، وقال مسلمة بن عبد الملك اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه . وقد اختصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ فجعلا يلحنان، فقال الحاجب: قما فقد آذيتما أمير المؤمنين، فقال عمر للحاجب: أنت والله أشد إيذاء منهما . فلحن حاجب أمير المؤمنين، كان أثره وألمه أشد عليه. وفي هذا إشارة إلى أهمية التربية اللغوية. والعناية بها من خلال وسائل ووسائط التربية المختلفة , فبهما تحفظ اللغة وتحسن الألفاظ. فلكي يحدث الأثر اللفظي من حيث الإصغاء للغة الجميلة، فلا بد من معالجة خوارمها من التقعر في الألفاظ واللحن في الكلام، فإنه يبعد عن الإصغاء وينفر من متابعة الكلام. ومن أمثلة الألفاظ المؤثرة والمعاني الجميلة: أنه دخل على عبد الملك بن مروان ابن القرية فبينما هو عنده إذ دخل بنو عبد الملك عليه فقال: من هؤلاء الفتية يا أمير المؤمنين؟ قال: ولد أمير المؤمنين، قال: بارك الله لك فيهم كما بارك لأبيك فيك، وبارك لهم فيك كما بارك لك في أبيك. قال: فشحن فاه دراً فجمال تلك الألفاظ تدل على الأثر التربوي العظيم للمتأدب والمتحلي ببديع البيان وحسن تركيب الكلام لألفاظ اللغة، فابن القرية لم يأت بألفاظ غريبة، وإنما أتى بألفاظ يستطيع أن يأتي بها كل أحد من المتكلمين بالعربية، غير أنه أبدع في تركيبها اللفظي فجاءت كالدرر. وتأمل جمال اللفظ الوصفي في الأبيات التالية التي تدل على أن من نشأ نفسه على حسن البيان والألفاظ، فإنما أطعم لسانه جواهر الكلام. قال السعدي أبو وجزة وقد قدم على المهلب بن أبي صفرة: يا من على الجود صاغ الله راحته ... فليس يحسن غير البذل والجود عَمَّتْ عطاياك من بالشرق قاطبة ... فأنت والجود منحوتان من عود 2- التفاعل العاطفي: كما تتفاعل العواطف مع الأحداث السارة والأحداث المؤلمة، فتبغض وتحب وتكرة وتميل، فإنها تتفاعل أيضاً مع الكلمات والألفاظ العذبة، بل ربما كان صور تلك العبارات الأدبية الجميلة أكثر تأثيراً من واقع الأحداث، فتتأثر لها القلوب وتتفاعل معها النفوس. فتأمل قول البحتري في وصف بركة واسعة وكأنها أجمل من البحر والأنهار: يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والانسات إذا لاحت مغانيها يحسبها أنها من فضل رتبتها ... تعد واحدة والبحر ثانيها ما بال دجلة كالغير تنافسها ... في الحسن طوراً وأطواراً تباهيها كأنما الفضة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها إذا علتها الصبا أبدت لها حبكاً ... مثل الجواشن مصقولاً حواشيها فرونق الشمس أحياناً يضاحكها ... وريق الغيث أحياناً يباكيها إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلاً حسبت سماءً ركبت فيها لا يبلغ السمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها فهذا الوصف الأدبي الجميل يجعل قارئ القصيدة كأنه ينظر إلى تلك البركة المملوءة ماءً، وقد بلغت من حسنها وفضل رتبتها أنها الأولى والبحر ثانيها، وقد نافسها نهر دجلة المتدفق بمائه العذب كغيرة النساء فيما بينهن، وشبه جمال الماء وتلألؤه بالفضة ناصعة البياض، تجري في مصباتها، وأما الليل فانعكاس السماء بنجومها المتلألئة في سعة مائها يخيل للناظر أن السماء قد ركبت فيها. وفي صورة أخرى من التفاعل العاطفي للكلمة أن دخل المختار بن أبي عبيدة على معاوية وكانت عليه عباءة رثة، فاستحقره، فقال له المختار: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك! ولكن يكلمك من فيها، وأنشد: أما وإن كان أثوابي ملفقة ... ليست بخزٍ ولا من نسج كتان فإن في المجد هماتي وفي لغتي ... فصاحة ولساني غير لحان فيلاحظ الأثر التربوي للألفاظ والمعاني التي خالف بها المخبر المظهر، فتفاعلت معها أحاسيس قارئها وكأنه ينظر إلى ذلك الموقف ويعايشه، بل يجد عطفاً وتفاعلاً مع ذلك الرجل رث الثياب ذرب اللسان، حتى ليخيّل للمرء أنه لن يبالي بثيابه قدر ما يهتم بمخبره ولسانه. ولما دخل ضمرة بن ضمرة على المنذر بن ماء السماء، وهو إذ ذاك ملك الحيرة واليمامة، وكان ضمرة ذا عقل وعلم، وحلم وحكمة وشجاعة إلا أنه كان دميم الخلقة، قصير القامة، وكان ذكره قد ذاع في الآفاق، فلما رآه المنذر احتقره لدمامة خلقته وقصر قامته، فقال سماعك بالمعيدي خير من أن تراه، فقال له ضمرة أيه الملك ليس المرء بحسنه وجماله، وبهائه وكماله وهيئته وثيابه، لا والله حتى يشرفه أصغراه لسانه وقلبه، وقد قال الشاعر: وما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومقوله والجسم خلق مصور فلتك العبارات التي ذكرها ضمرة أثرها على المنذر، إذ كشفت له عن شخصية تحمل صورة باطنة خلاف الصورة الظاهرة. فهو ذلق اللسان، فأشار بكلامه إلى قلبه ولسانه، فبهما تكون قيمة المرء لا بجسمه ومظهره فقط، والمستمع لهذه الألفاظ الأدبية في هذا الموقف يجد أثر الكلمة على عواطفه قد أينعت، فجاذبت عواطفه نحو خصال تربوية هي الاهتمام بالناس دون النظر إلى مظاهر هم، والتفاعل مع عوائدهم لا مع صورهم. فالتفاعل العاطفي مع اللغة الأدبية له تأثيراته وإيقاعاته على النفس البشرية فيربي فيها ما لا يتوقع من مكارم الأخلاق. وفي صورة أخرى تصف كلمات أدبية شيئاً، قد لا يأبه به الإنسان لصغر حجمه ورخص ثمنه، فيتجاهل قيمته وأثره العظيم، ولكن بالوصف الجميل والكلمات الرصينة والعبارات المنمقة وسِعَةِ الخيال ما يجعل النفوس تتفاعل مع ذلك الموصوف وتعرف له قدره بما يزيل غباراً قد أنسى فضله. وهذه المقطوعة الأدبية تحكي أن بعض الكتاب أهدى إلى أخ له أقلاماً وكتب إليه: (إنه أطال بقاءك! لما كانت الكتابة قوام الخلافة، وقرينة الرياسة، وعمود المملكة وأعظم الأمور الجليلة قدراً، وأعلاها خطراً، أحببت أن أتحفك من آلاتها بما يخف عليك محملة وتثقل قيمته، ويكثر نفعه، فبعثت إليك أقلاماً من القصب النابت في الأغذاء المغذو بماءِ السماء، كاللآلئ المكنونة في الصدف والأنوار المحجوب بالسدف، تنبو عن تأثير الأسنان، ولا يثنيها غمز البنان. كما قال الكميت: وبيض رقاقٍ صحاح المتو ... ن تسمع للبيض فيها صريرا مهندةٍ من عتاد الملوك ... يكاد سناهن يُعشي البصيرا وكقِدْح في ثقل أوزانها، وقضب الخيزران له في اعتدالها، ووشيج الخط في اطرادها، تمر في القراطيس كالبرق اللائح وتجري في الصحف كالماء السائح. فمهما تنوعت المجالات والفنون فتظل الألفاظ الأدبية مؤثرة في سامعيها بما يجعلهم يتفاعلون معها عاطفياً، فينسكب أثرها في قوالب تربوية منابعها كلمات اللغة العربية. 3- التفاعل العقلي والسلوكي: إن بلاغة التصوير اللفظي للأشياء تشد ذهن المستمع أو القارئ لترتسم مكونات الأحداث في عقل المرء، كأنه يشاهدها فتتجاذب لذلك الألباب والعواطف في تفاعل، يُحدث لدى الفرد آثاراً تربوية تظهر في سلوكه وتجاذبه مع الحدث نتيجة ما سمع. فكم نسمع من كلمات أدبية وقصائد شعرية تصف آلام الأمة في أقصى الكرة الأرضية، ونحن لم نشاهدها عياناً فتتفاعل لها العقول كأنها تشاهد تلك الأحداث وتعايشها، فيجول فكر المرء في جوانبها وربما تصور حلولاً، وهو في منأى عن مواقعها. حتى ليدفع المرء أغلى وأحسن ما يستطيع لتأثره بصورة بلاغية عن أحداث مؤلمة. وسويعات تقرأ في كتب الرحلات أو تسمع أديباً يقص رحلة من رحلاته، فتستغرق في أعطاف الرحلة، وتبحر بالعقل لا بالجسم في جوانبها، وربما تأثر السامع بمواقف، ومواقع وتفاعل معها كأنه يعايشها. يتبع |
|
08-08-2018, 07:29 PM | #35 |
| ومن صور الألفاظ البديعة التي تجعل المرء يقف ويفكر في سرعة البديهة وحضور الجواب، والقدرة على صياغة العبارات موقف امرأة وحسن جوابها مع المهدي، فقد قيل: (وقف المهدي على امرأة من بني ثعل، فقال لها: ممن العجوز قالت: من طيء، قال: ما منع طياً أن يكون فيها آخر مثل حاتم؟ قالت: الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك) . ولهذا الموقف الأثر التربوي الفاعل الذي يربي في المستمع بتكرار أمثاله، حسن الجواب وسرعة البديهة، ولما اشتملت عليه المحاورة من تسخير الكلمات والألفاظ لخدمة الأفكار، وربما أحجم البعض عن إيضاح الأفكار العظام التي يهتز لها أولى الألباب لضعف القدرة على تركيب الألفاظ وحسن البيان. والتفاعل السلوكي وليد التأثير اللفظي في الجانب العقلي كما هو حال التأثير الفعلي. ذلك أن الكلمة الزكية واللفظ الجميل يأسر الألباب، ويحرك العقول لتؤثر في العواطف الانفعالية، فيظهر السلوك في الصورة والهيئة المناسبة مع وقع الكلمات المؤثرة والصياغة الجميلة. قال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: "إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغض استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها، فيعرب فأجيبه إليها التذاذاً لما أسمع من كلامه، وقال: أكاد أضرس إذا سمعت اللحن" . وكذلك الكلمة المنمقة الجميلة التي تحمل في طياتها ما يهيج الشر، ويدعو إلى الرذيلة، تجدها تؤز سامعها إلى الشر أزاً، ما لم يكن له إيمان قوي يمنعه من اتباع زخرف القول غروراً، قال تعالى عن شياطين الإنس والجن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} . والمعنى: (أي يزين بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويزخرفون العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة، ليغتر به السفهاء، وينقاد إليه الأغبياء الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة المموهة، فيعتقدون الحق باطلاً، والباطل حقاً، ولهذا قال تبارك وتعالى {وَلِتَصْغَى إِلَيْهَِ} أي ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة يحملهم على ذلك) . وهذا يدل على التأثير الفاعل للكلمة المزخرفة على من ضعفت قلوبهم ووهنت عقولهم، فربما أحدثت أثراً تربوياً سيئاً في التصور والفعال والأخلاق. 4- تربية الذوق اللفظي وترسيخ المعاني: لاستماع وقراءة الكلمات والعبارات والقصائد والنثر الأدبي الجميل أثر في حس المستمع والقارئ إذ تغرس فيه تذوق الكلمات واستشعار جمال مبانيها، ومحسناتها البديعية، وتراكيبها اللغوية، بما شملته من جناس وطباق وتشبيه حتى يألف حسه تلك الجمل والعبارات فينمو ذوقه اللغوي كما ينمو ذوقه الفكري. ففي التعود على الألفاظ الجميلة وتربية اللسان عليها أثر عظيم الفائدة على المستمع أو القارئ؛ ذلك أن المتكلم يسحر الألباب بعذوبة ألفاظه وحسن بلاغته وجمال تراكيب كلامه، وقد كان للسلف عناية باللغة وألفاظها، فعن يونس بن عبد الأعلى، قال: ما كان الشافعي إلا ساحراً ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، كأن ألفاظه سكر، وكأن قد أوتي عذوبة منطق وحسن بلاغة، وفرط ذكاء وسيلان ذهن، وكمال فصاحة وحضور حجة . فتأمل موقع الكلمة وقدرها في هذا الوصف الجميل لألفاظ وكلام الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ وما أحدثته عند سامعيه. بل إن في الكون الذي يحيط بنا آيات بينات، فكيف إذا لفت الانتباه لها بأسلوب أدبي رفيع يربي في الناشئة قوة الملاحظة بالوصف الجميل والبيان الواضح، فالكون من حولنا فيه تناسق.. والسماء فيها زينة … والأرض فيها جنات معروشات، وغير معروشات.. والحيوان فيه جمال.. والنبات والثمر والأزهار بألوانها وأشكالها وروائحها، فيها تناسق وجمال، والإنسان نفسه في أحسن صورة، وأكرم تقويم . فإذا بينت الآيات الباهرات في هذه المخلوقات وغيرها بأسلوب أدبي بديع أحدثت في نفس السامع أثراً وذوقاً لغوياً، وترسخت تلك المعاني والألفاظ بصورها وأشكالها في ذهنه، ونسجت لها بيتاً لغوياً وأدبياً في ذاكرته، وعمرت معجمه اللغوي بألفاظ بديعة، تمكنه من التنقل بينها عند التعبير والإفصاح عن مراده. ومثال ذلك وصف الزروع والمروج وهي تكسي الأرض الصفراء حلة خضراء مليئة بالأزهار والأطيار كالقصيدة المشهورة للبحتري في وصف الربيع التي مطلعها : أتاك الربيع الطلق يختال ضحاكاً ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقد نبه النيروز في غسق الدجا ... أوائل وردكن بالأمس نوما فإن الاستمتاع بجمال الكون جزء أصيل مقصود في التربية الإسلامية لما له من آثار في النفس، فمن فوائد النظر إلى السماء، وآثاره النفسية أنه يذهب الخوف والوساوس، ويذكر بالله عز وجل، ويوقع في النفس تعظيمه وإجلاله، ويزيل الأفكار الرديئة من الذّهن. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} . بل إن الذوق اللفظي الممتزج بعطر الشريعة الخلقي امتد إلى هجر الكلمات التي اعتادها اللسان في فترة الجاهلية كقولهم: أبيت اللعن، وعم صباحاً، وعم مساءً، وظهرت ألفاظ جديدة لم تكن تستعمل في أدب الجاهلين، كالإيمان والتوحيد والجهاد، والوحي والزكاة، والركوع والسجود والحلال والحرام . كل هذه العبارات وتداولها في أدب اللغة شعره ونثره إنما تربي في المسلم حساً خلقياً وذوقاً رفيعاً يتعالى فيه ويسمو عن محقرات الأمور والدنايا إلى رفعة الكلمة وسمو معناها وذوقها اللفظي الذي يعبر عن الإنسان المسلم السوي. |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
سطور , في , كتاب |
| |