25-06-2018, 11:51 PM | #43 |
| وأما شهور الفرس، فهي موافقة لشهور القبض في العدد. لأن كل شهر منها ثلاثون يوما، إلا أبان ماه، وهو الشهر الثامن، فإنهم يضيفون إليه خمس أيام لأجل النسيء، ويسمونها الاندركاه. ولكل يوم من أيام الشهر اسم خاص، يزعمون أنه اسم ملك من الملائكة موكل به. فأسماء المشهور منها: افريدون ماه " وهو رأس سنتهم " ، أرديهشت ماه، حرداد ماه، تير ماه، ترد ماه، بر ماه، مهر ماه، أبان ماه، ادر ماه، دى ماه، بهمن ماه، اسفندر ماه. ويعنون بقولهم ماه القمر. قول بعض الشعراء: شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار. ما يختص بالسنة من القول وما جاء من اختلاف الأمم في ابتدائها وانتهائها، والفرق بين السنة والعام. أما الفرق بين السنة والعام، فإنهم يقولون سنة جدب و عام خصب. قال الله تعالى: " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات " . وقال تعالى: " ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون " . والصحيح أنهما اسمان موضوعان على مسمى واحد. قال الله تعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما " . والسنة طبيعية، واصطلاحية. فالطبيعية قمرية؛ وأولها استهلال القمر في غرة المحرم، وانسلاخها بسراره في ذي الحجة. وهي اثنا عشر شهرا، وعدد أيامها ثلثمائة يوم وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوم تقريبا؛ ويتم من هذا الخمس والسدس في ثلاث سنين يوم، فتصير السنة في الثالثة ثلثمائة وخمسة وخمسين يوما. ويبق شيء يتم منه ومن خمس اليوم وسدسه المستأنف في السنة يوم واحد إلى أن يبقى الكسر أصلا بأحد عشر يوما عند تمام ثلاثين سنة. وتسمى تلك السنة كبائس العرب. وأما السنة الاصطلاحية فإنها شمسية، وعدد أيامها عند سائر الأمم ثلثمائة يوم وخمسة وستون يوما وربع يوم. فتكون زيادتها على السنة العربية عشرة أيام ونصف يوم وربع يوم وثمن يوم وخمسا من خمس يوم. ويقال: إنهم كانوا في صدر الإسلام يسقطون عند رأس كل اثنتين وثلاثين سنة عربية سنة، ويسمونها الازدلاف. لأن كل ثلاث وثلاثين سنة قمرية اثنتان وثلاثون سنة شمسية تقريبا. وذلك تحرزهم من الوقوع في النسيء في عصرنا هذا بين كتاب التصرف التحويل. لأنا نحول السنة الخراجية إلى الهلالية، ولا يكون ذلك إلا بأمر السلطان. وسنة العالم - على ما اتفق عليه المنجمون - هي من حين حلول الشمس رأس الحمل، وهو الاعتدال الربيعي. ومنهم من يجعل أولها من حين حلول الشمس رأس الميزان، وهو الاعتدال الخريفي. وابتداء سنة القبط قطع الشمس اثنتي عشرة درجة من السنبلة، وابتدؤا بفعل ذلك في زمن اغسطش، وهو قيصر الأول على ما ذكره أصحاب الزيجات. وأما السر يانيون، فأول سنتهم عند قطع الشمس من الميزان ست عشرة درجة. النسيء ومذهب العرب فيه يقال إن عمرو بن لحي، وهو خزاعة - ويقال اسمه عمرو بن عامر الخزاعي - هو أول من نسأ الشهور، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وجعل الوصيلة، والحامي. وهو أول من دعا الناس إلى عبادة هبل، قدم به معه من هيت. ومعنى النسيء أنهم ينسئون المحرم إلى صفر، ورجب إلى شعبان. وكان جملة ما يعتقدونه من الدين تعظيم الأشهر الحرم الأربعة، وكانوا يتحرجون فيها من القتال. وكان قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا في شهر حرام، حرموا مكانه شهرا من أشهر الحل، ويقولون نسيء الشهر. وحكى ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية " على صاحبها أفضل الصلاة والسلام " أن أول من نسأ الشهور على العرب، وأحل منها ما أحل، وحرم ما حرم القلمس. وهو حذيفة بن فقيم بن عامر بن الحرث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. ثم قام بعده ولده عباد، ثم قام بعد عباد ابنه قلع، ثم قام بعد قلع ابنه أمية، ثم قام بعد أمية ابنه عوف، ثم قام بعد عوف ابنه أبو ثمامة جناده، وعليه ظهر الإسلام. فكانت العرب إذا فرغت من حجها، اجتمعت عليه بمنى، فقام فيها على جمل، وقال بأعلى صوته: " اللهم إني لا أخاف ولا أعاف، ولا مرد لما قضيت! اللهم إني أحللت شهر كذا " ويذكر شهرا من الأشهر الحرم، وقع اتفاقهم على شن الغارات فيه " وأنسأته إلى العام القابل " أي أخرت تحريمه " وحرمت مكانه شهر كذا من الأشهر البواقي! " وكانوا يحلون ما أحل، ويحرمون ما حرم. وفي ذلك يقول عمرو بن قيس بن جذل الطعان، من أبيات يفتخر: |
|
25-06-2018, 11:51 PM | #44 |
| ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل، نجعلها حراما؟ وحكى السهيلي في كتابه المترجم بالروض الأنف أن نسيء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير المحرم إلى صفر لحاجاتهم إلى شن الغارات وطلب الثأر، والثاني تأخير الحج عن وقته تحريا منهم للسنة الشمسية. فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوما حتى يدور الدور في ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته. فلما كانت السنة التاسعة من الهجرة حج بالناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوافق حجه في ذي القعدة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل فوافق عود الحج إلى وقته في ذي الحجة كما وضع أولا. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجه، خطب فكان مما قال في خطبته صلى اله عليه وسلم: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. يعني أن الحج قد عاد في ذي الحجة. السنة التي يضرب بها المثل يضرب المثل: بعام الجراد. كان سنة ثمان من الهجرة. عام الحزن. وهي لسنة التي مات فيها أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة رضي الله عنها وهي سنة عشر من الهجرة، وكان موتها بعده بثلاثة أيام وقيل بسبعة. عام الرمادة. كان سنة ثماني عشرة من الهجرة، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.أصاب الناس فيه قحط حتى صارت وجوههم في لون الرماد من الجوع. وقيل: كانت الريح تسفي ترابا كالرماد لشدة يبس الأرض، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في التاريخ. عام الرعاف. كان سنة أربع وعشرين من الهجرة، سمي بذلك لكثرة ما أصاب الناس فيه من الرعاف. عام الجماعة. كان سنة أربعين من الهجرة. فيه سلم الحسن بن علي رضي الله عنهما الخلافة لمعاوية، فاجتمعت الكلمة فيه. عام الجحاف. كان سنة ثمانين من الهجرة، وقع بمكة سيل عظيم ذهب بالإبل وعليها الحمول. عام الفقهاء. وهو سنة أربع وتسعين من الهجرة. فيها مات علي بن الحسين زين العابدين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يسار، وسعيد بن زيد بن ثابت. وفيه قتل الحجاج بن يوسف الثقفي سعيد بن جبير. سنيات خالد. يضرب بها المثل في الجدب. وهو خالد بن عبد الملك بن الحارث المعروف بأبي مطير. كان قد تولى لهشام بن عبد الملك المدينة سبع سنين توالى القحط فيها حتى أجلى أهل البوادي. سنة عشر ومائة. مات فيها فرينان في الزهد: الحسن البصري ومحمد بن سيرين، وقرينان في الشعر: جرير والفرزدق. سنة ست وخمسين وثلثمائة. مات فيها جماعة من الملوك، وهم: شمكير بن زياد صاحب طبرستان وجرجان، ومعز الدولة بن بويه، وكافور الأخشيدي صاحب مصر، ويقفور ملك الروم، وأبو علي محمد بن إلياس صاحب كرمان، وسيف الدولة ابن حمدان ممدوح المتنبي، والحسن بن فيرزان صاحب أذربيجان. الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الأول: الفصول في الفصول وأزمنتها وفصول السنة أربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. ولكل فصل منها ثلاثة بروج، وثلاثة أشهر، وسبع منازل، وموافقة من الطبائع الأربع. فأما فصل الربيع، وهو عند العرب الصيف، فطبعه حار رطب. ودخوله عند حلول الشمس برج الحمل، والثور، والجوزاء. وهذه البروج عندهم تدل على الحركة. وله من السن الطفولية والحداثة، ومن الرياح الجنوب، ومن الساعات الأولى والثانية والثالثة، ومن القوى القوة الجاذبية، ومن الأخلاط الدم، ومن الكواكب القمر والزهرة، ومن المنازل بعض الفرغ المقدم والفرغ المؤخر، والرشاء، والسرطان، والبطين، والثريا، والدبران، وبعض الهقعة. وعدد أيامه أربعة وستون يوما. وحلول الشمس في الثاني عشر من آذار، ويوافقه مارس من شهور الروم، وفي السادس عشر من برمهات من شهور القبط، وفي العشرين من اسفندار ما من شهور الفرس. وإذا حلت الشمس برج الحمل، اعتدل الليل والنهار، وصار كل واحد منهما اثنتي عشرة ساعة. ثم يأخذ النهار في الزيادة، والليل في النقصان. وفي هذا الفصل تتحرك الطبائع، وتظهر المواد المتولدة في الشتاء. فيطلع النبات وتزهر الأشجار وتورق، وتهيج الحيوان في للسفاد، وتذوب الثلوج، وتنبع العيون، وتسيل الأودية. وصف فصل الربيع وتشبيهه نظما ونثرا. فمن ذلك ما قاله الصنوبري: |
|
25-06-2018, 11:52 PM | #45 |
| ما الدهر إلا الربيع المستنير إذا ... جاء الربيع، أتاك النور والنور. فالأرض ياقوتة، والجو لؤلؤة، ... والنبت فيروزج، والماء بلور. وقال آخر: اشرب هنيئا قد أتاك زمان ... متعطر، متهلل، نشوان! فالأرض وشي، والنسيم معنبر، ... والماء راح، والطيور قيان. وقال الثعالبي: أظن الربيع العام قد جاء زائرا ... ففي الشمس بزازا، وفي الريح عطارا. وما العيش إلا أن تواجه وجهه ... وتقضي بين الوشي والمسك أوطارا. وقال آخر: وفصل فصل الربيع الرياض ... عقودا ورصع منها حليا. وفاخر بالأرض أفق السماء ... فحلى الثرى بنجوم الثريا. وقال الحسن بن وهب: طلعت أوائل للربيع فبشرت ... نور الرياض بجدة وشباب! وغدا السحاب يكاد يسحب في الثرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب. فترى السماء إذا أجدر بابها ... فكأنما التحفت جناح غراب. وترى الغصون إذا الرياح تناوحت ... ملتفة كتعانق الأحباب. وقال بعض فضلاء أصفهان في وصف فصل الربيع من رسالة ذكرها العماد الأصفهاني في الخريدة: أما بعد. فإن الزمان جسد وفصل الربيع روحه، وسر حكمة إلهية وبه كشفه ووضوحه؛ وعمر مقدور وهو الشبيبة فيه، ومنهل جم وهو نميره وصافيه؛ ودوحة خضرة وهو ينعها وجناها، وألفاظ مجموعة وهو نتيجتها ومعناها؛ فمن لم يستهو طباعه نسيم هوائه، ولم يدرك شفاء دائه في صفاء دوائه؛ لم يذق لطعم حياته نفعا، ولم يجد لخفض حظه من أيامه رفعا. وأما فصل الصيف، فإن طبيعته الحرارة واليبس، ودخوله عند حلول الشمس برج السرطان والأسد والسنبلة. وهذه البروج تدل على السكون. وله من السن الشباب؛ ومن الرياح الصبا؛ ومن الساعات الرابعة والخامسة والسادسة؛ ومن القوى القوة الماسكة؛ ومن الأخلاط المرة الصفراء؛ ومن الكواكب المريخ، والشمس؛ ومن المنازل بعض الهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة والطرف والجبهة " وهي أربعة عشر يوما " والخراتان وبعض الصرفة. وتنزل الشمس في برج السرطان في الرابع عشر من حزيران. وعدد أيامه ثلاثة وتسعون يوما، ويوافقه ينير من شهور الروم؛ وفي العشرين من بؤونة، وإذا حلت الشمس برج السرطان، أخذ الليل في الزيادة، والنهار في النقصان. والله أعلم. ذكر ما قيل في وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا فمن ذلك ما قاله ذو الرمة: وهاجرة حرها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبي. تلوذ من الشمس أطلائها ... لياذ الغريم من الطالب. وتسجد للشمس حربائها ... كما يسجد القس للراهب. وقال مسكين الدارمي. وهاجرة ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقرون سجود. تلوذ بشؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حرالسنان طريد. وقال ابن الفقيسي: في زمان يشوي الوجوه بحر، ... ويذيب الجسوم لو كن صخرا. لا تطير النسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا. ويود الغصن النضير به لو ... أنه من لحائه يتعرى. وقال أيضا: يا ليلة بت بها ساهدا ... من شدة الحر وفرط الأوار. كأنني في جناحها محرم ... لو أن للعورة مني استتار. وكيف لا أحرم في ليلة ... سماؤها بالشهب ترمي الجمار؟ وقال آخر: ويوم سموم خلت أن نسيمه ... ذوات سموم للقلوب لوداغ، ظللت به أشكو مكابدة الهوى ... فكوزي ملآن ومائي فارغ. وقال محمد بن أبي الثياب، شاعر اليتيمة: وهاجرة تشوي الوجوه كأنها ... إذا لفحت خدي نار توهج. وماء كلون الزيت ملح كأنه ... بوجدي يغلي أو بهجرك يمزج. وقال الثعالبي: رب يوم هواؤه يتلظى ... فيحاكي فؤاد صب متيم. قلت إذ صك حره حر وجهي: ... ربنا اصرف عنا عذاب جهنم! ومما وصف به من النثر قول بعضهم: |
|
25-06-2018, 11:53 PM | #46 |
| أوقدت الظهيرة نارها، وأذكت أوارها؛ فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب، هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق، حر تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمراكب الرمس، لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه سرج ولا خيش؛ فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور. وأما فصل الخريف، فإن طبعه بارد يابس؛ ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان والعقرب والقوس. وهذه البروج تدل على الحركة؛ وله من السن الكهولة؛ ومن الرياح الشمال؛ ومن الساعت السابعة والثامنة والتاسعة؛ ومن القوى القوة الهاضمة؛ ومن الأخلاط المرة السوداء؛ ومن الكواكب زحل؛ ومن المنازل بعض الصرفة والعواء و السماك والغفر والزبانيان والقلب وبعض الشولة؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما؛ ويكون حلول الشمس الميزان في الخامس عشر من أيلول، ويوافقه ستمبر من شهور الروم، وفي الثامن عشر من توت. وفي هذا الفصل يبرد الهواء، ويتغير الزمان، ويغبر وجه الأرض، ويصفر ورق الشجر، وتهزل البهائم، وتموت الهوام، وتنحجر الحشرات، وتطلب الطير المواضع الدفئة، وتصير الدنيا كأنها كهلة مدبرة. ويقال: فصل الخريف ربيع النفس كما أن فصل الربيع ربيع العين. والله أعلم. ذكر ما قيل في وصف فصل الخريف وتشبيه نظما ونثرا. فمن ذلك ما قاله الصنوبري، عفا الله عنه: ما قضى في الربيع حق المسرا ... ت مضيع زمانه في الخريف. نحن منه على تلقي شتاء ... يوجب القصف أو وداع مصيف. في قميص من الزمان رقيق ... ورداء من الهواء خفيف. يرعد الماء منه خوفا إذا ما ... لمسته يد النسيم الضعيف. وقال عبد الله بن المعتز: طاب شرب الصبوح في أيلول! ... برد الظل في الضحى والأصيل! وخبت جمرة الهواجر عنا، ... واسترحنا من النهار الطويل. وخرجنا من السموم إلى بر ... د نسيم، وطيب ظل ظليل، وشمال تبشر الأرض بالقطر كذيل الغلالة المبلول. فكأنا نزداد قربا إلى الجنة في كل شارق وأصيل. ووجوه البقاع تنتظر الغيث انتظار المحب رد الرسول. تبتغي غلة لتعمل روضا ... بكثير من الحيا أو قليل. وقال آخر: اشرب على طيب الزمان فقد حدا ... بالصيف من أيلول أسرع حاد. وأشمنا بالليل برد نسيمه ... فارتاحت الأرواح في الأجساد. وأفاك بالأنداء قدام الجيا ... فالأرض للأمطار في استعداد. كم في ضمائر تربها من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد. تبدو إذا جاد السحاب بقطره ... فكأنما كانا على ميعاد. وقال آخر: لا تضع للوم إن اللوم تضليل ... واشرب ففي الشرب للأحزان تحليل. فقد مضى القيظ واجتثت رواحله، ... وطابت الراح لما آل أيلول. وليس في الأرض نبت يشتكي يبسا ... إلا وناظره بالطل مكحول. وقال آخر: خذ بالتدثر في الخريف فإنه ... مستوبل، ونسيمه خطاف. يجري مع الأيام جري نفاقها ... لصديقها ومن الصديق يخاف. ومما وصف به النثر: قال أبو إسحاق الصابي يصفه: الخريف أصح فصول السنة زمانا، وأسهلها أوانا، وهو أحد الاعتدالين، المتوسطين بين الانقلابين، حين أبدت الأرض عن ثمرتها، وصرحت عن زينتها؛ وأطلقت السماء حوافل أنوائها، وتأذنت بانسكاب مائها؛ وصارت الموارد،كمتون المبارد؛ صفاء من كدرها، وتهدبا من عكرها؛ واطراد من نفحات الهواء، وحركات الريح الشجواء؛ واكتسب الماشية وبرها القشيب، والطائر ريشه العجيب. وقال ابن شبل: كل ما يظهر في الربيع نواره، ففي الخريف تجني ثماره، فهو الحاجب أمامه، والمطرق قدامه. وقال ضياء الدين ابن الأثير الجزري عن الخريف يفتخر على فصل الربيع: أنا الذي آتي بذهاب السموم، وإياب الغيوم، واعتصار بنات الكروم، وتكاثر ألوان المشروب والمطعوم؛ وفي يترقرق صفاء الأنهار، فتشبه القوابل بالأسحار، وأيامي هي الذهبيات وتلك نسبة كريمة النجار؛ ومن ثمراتي ما لا تزال أمهاته حوامل، وأوراقه نواضر وغيره ذوابل، وقد شبه بالمصابيح وشبهت أغصانه بالسلاسل. |
|
25-06-2018, 11:54 PM | #47 |
| ولقد أنصف من قال: محاسن للخريف بهن فخر ... على زمن الربيع، وأي فخر! به صار الزمان أمام برد ... يراقب نزحه وعقيب حر. وأما فصل الشتاء، فإن طبعه بارد رطب، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدي والدلو والحوت. وهذه البروج تدل على السكون. وله من السن الشيخوخة؛ ومن الرياح الدبور؛ ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة؛ ومن القوى القوة الدافعة؛ ومن الأخلاط البلغم؛ ومن الكواكب المشتري وعطارد؛ ومن المنازل بعض الشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد السعود وسعد الأخبية وبعض الفرغ المقدم؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما. ويكون حلول الشمس برأس الجدي في الثالث عشر من كانون الأول، وإذا حلت الشمس ببرج الجدي يشتد البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشجر، وتنجحر الحيوانات، وتضعف قوى الأبدان، وتكثر الأنواء، ويظلم الجو، وتصير الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: توقوا البرد في اوله، وتلقوه في آخره، فإنه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار: أوله يحرق وآخره يورق. ذكر ما قيل في وصف فصل الشتاء وتشبيهه. فمن ذلك ما قاله جرير شاعر الحماسة: في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في ظلمائها ظلما. لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خيشومه الدنيا. وقال ابن حكينا البغدادي: البس إذا قدم الشتاء برودا ... وافرش على رغم الحصير لبودا. الريق في اللهوات أصبح جامدا ... والدمع في الآماق صار برودا. وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا. وترى على برد المياه طيورها ... تختار حر النار والسفودا. يا صاحب العودين لا تهملهما ... أوقد لنا عودا وحرك عودا. وقال آخر: ويومنا أرواحه قرة ... تخمش الأبدان من قرصها. يوم تود الشمس من برده ... لو جرت النار إلى قرصها! وقال عبد الله بن المعتز: قد منع الماء من اللمس ... وأمكن الجمر من المس. فليس نلقى غير ذي رعدة ... ومسلم يسجد للشمس! وقال آخر: ليس عندي من آلة البرد إلا ... حسن صبري، ورعدتي، وقنوعي. فكأني لشدة البرد هر ... يرقب الشمس في أوان الطلوع. وقال ابن سكرة الهاشمي، عفا الله تعالى عنه ورحمه: قيل: ما أعدت للبر ... د وقد جاء بشدة؟ قلت: دراعة برد ... تحتها جبة رعده. وقال أبو سعيد المخرومي: إذا كنت في بلدة نازلا ... وحل الشتاء حلول المقيم، فلا تبرزن إلا أن ترى ... من الصخور يوما صحيح الأديم. فكم زلقة في حواشي الطريق ... ترد الثياب بخزي عظيم. وكم من لئيم غدا راكبا ... يحب البلاء لماش كريم. وقال الصاحب بن عباد: أنى ركبت فكف الأرض كاتبة ... على ثيابي سطورا ليس تنكتم. فالأرض محبرة، والحبر من لثق ... والطرس ثوبي، ويمني الأشهب القلم. قال أبو علي كاتب بكر شاعر اليتيمة: يا بلدة أسلمني بردها ... وبرد من يسكنها للقلق. لا يسلم الشاتي بها من أذى ... من لثق، أو دمق، أو زلق. ومما وصف به نثرا قول بعضهم: إذا حلتالشمس برج الجدي مد الشتاء رواقه، وحل نطاقه، ودبت عقارب البرد لاسبة، ونفع مدخور الكسب كاسبه. ومن رسالة لابن أبي الخصال، جاء منها. الكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه؛ والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الغراب؛ وجلده الجليد، وضربه الضريب وصعد أنفاسه الصعيد؛ فحماه مباح مباح، ولا هرير، ولا نباح، والنار كالصديق، أو كالرحيق، كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرب. وقال بعضهم: برد يغير الألوان، وينشف الأبدان، ويجمد الريق في الأشداق، والدمع في الآماق، برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره. |
|
25-06-2018, 11:56 PM | #48 |
| وقيل لبعضهم: أي البرد أشد؟ فقال: إذا دمعت العينان، وقطر النخران، وتلجلج اللسان، واصطكت الأسنان.ووصف ابن وكيع الفصول الأربعة في أرجوزة فقال: عندي في وصف الفصول الأربعة مقالة ... مقالة تغني اللبيب مقنعة. ما قيل في فصل الصيف أما المصيف، فاستمع ما فيه ... من فطن يفهم سامعيه. فصل من الدهر إذا قيل حضر، ... أذكرنا بحرة نار سقر. ظل فيه القلب مقشعرا ... والأرض تشكو خره المضرا. أوله فيه ندى منغص ... كأنه على القلوب يقنص. يلصق منه الجلد بالثياب ... ويعلق التراب بالأثواب. حتى إذا ما طردته الشمس ... وفرحت بأن يزول النفس. فتحت النار لنا أبوابها ... وشب فيها مالك شهابها. حر يحيل الأوجه الغرانا ... حتى ترى الروم به حبشانا. يعلو به الكرب ويشتد القلق ... وتنضج الأبدان فيه بالعرق. تبصره فوق القميص قد علا ... حتى ترى مبيضه مصندلا. إن كان رثا، زاد في تمزيقه؛ ... أو مستجدا، جد جبل زيقه. ثم يعيد الماء نارا حامية ... يزيد في كرب القلوب الصاديه. شاربه يكرع في حميم ... كأنه من ساكني الجحيم. ينسه ما يلقى من التهابه ... أن يحمد الله على شرابه. حتى إذا أعيا، انقضى نهاره ... وأرخيت من ليله أستاره، تحركت في جنحه دواهي ... سارية، وأنت عنها لاهي. من عقرب يسعى كسعي اللص ... سلاحها في إثره كالشص. وحية تنقث سما قاتلا ... تزود الملسوع حتفا عاجلا. تبصر ما بجلدها من الرقش ... كوجنة مصفرة فيها نمش. لو نهشت بالناب منها الخضرا، ... لنثرت منه الحياة نثرا. فلا تقل إن جاء يوما أهلا ... فلعنة الله عليه فضلا. ما قيل في فصل الخريف حتى إذا زال، أتى الخريف: ... فصل بكل سوأة معروف. أهونه يسرع في حل الجسد ... وهو كطبع الموت يبس وبرد. يجني على الأجسام من آفاته، ... وأرضه قرعاء من نباته. لا يمكن الناس اتقاء شره ... ولا خلاف برده وحره. تبصره مثل الصبي الأرعن ... من كثرة العشاق والتلون. فأنت منه خائف على حذر ... لأنه يمزج بالصفو الكدر. أحسن ما يهدي لك النسيما ... يقلبه في ساعة سموما. وهو على المعدود من ذنوبه ... خير من من الصيف على عيوبه. ما قيل في فصل الشتاء حتى إذا ما أقبل الشتاء ... جاءتك منه غمة عمياء. لو أنه روح، لكان فدما ... أو أنه شخص لكان جهما. يلقاك منه أسد يزير ... له وعيد وله تحذير. يأتيك في أيامه رياح ... ليس على لاعنها جناح. حراكها ليس إلا سكون ... تضر بالأسماع والعيون. يحدث من أفعالها الزكام ... هذا إذا ما فاتك الصدام. ثم يليها مطر مداوم ... كأنه خصم لنا ملازم. يقطعنا بعضا عن الطريق ... وعن قضاء الحق للصديق. وربما خر عليك السقف ... فإن عفا عنك أتاك الوكف. وإن أردت في النهار الشربا ... فيه، فقد قاسيت خطبا صعبا. واحتجت أن توقد فيه نارا ... تطير نحو الحدق الشرارا. يترك مبيض الثياب أرقطا ... يحكي السعيدي لك المنقطا. وبعد ذا تسدد النقابا ... من خوفه وتغلق الأبوابا. نعم، وترخى دونه الستورا ... حتى ترى صباحه ديجورا. |
|
25-06-2018, 11:59 PM | #49 |
| وإن أردت الشرب في الظلام ... عاقك عن تناول المدام. حسبك أن تدنس في اللحاف ... من خشية البرد على الأطراف. ورعده يشغل عن كل عمل ... ويؤثر النوم ويستحلي الكسل. حتى إذا جئت إلى الرقاد، ... نمت على فرش من القتاد. إن البراغيث عذاب مزعج ... لكل قلب ولجلد ينضج. لا يستلذ جلدك المضاجعا ... كأنما أفرشه مباضعا. تنح فصلا فوق ما ذممته ... لو أنه يظهر لي قتلته. حتى إذا ما هو عنا بانا ... وزال عنا بغضه لا كانا! ما قيل في فصل الربيع جاء إلينا زمن الربيع ... فجاء فصل حسن الجميع. لبرده وحره مقدار ... لم يكتنف حدهما إكثار. عدل في أوزانه حتى اعتدل ... وحمد التفصيل منه والجمل. نهاره في أحسن النهار ... في غاية الإشراق والاسفار. تضحك فيه الشمس من غير عجب ... كأنها في الأفق جام من ذهب. وليله مستلطف النسيم ... مقوم في أحسن التقويم. لبدره فضل على البدور ... في حسن إشراق وفرط نور. كجامة البلور في صفائها ... أذابت الجراد في نقابها. كأنها إذا دنت من بدره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره. رومية حلتها زرقاء ... في الجيد منها درة بيضاء. هذا وكم تجمع من أمور ... إطراء مطريها من التقصير. فيه تظل الطير في ترنم ... حاذقة باللحن لم تعلم. غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه وهو على ذا يغرمه. من كل دبسي له رنين ... وكل قمري له حنين. في قرطق أعجل أن يوردا ... خاط له الخياط طوقا أسودا. تبصره منه على الحيزوم ... كمثل عقد سبج منظوم. هذا وفيه للرياض منظر ... يفشىالسرىفي سره مايضمر. سر نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه. فيه ضروب لنبات الغض ... يحكي لباس الجند يوم العرض. من نرجس أبيض الثغور ... كأنه مخانق الكافور. وروضة تزهر من بنفسج ... كأنها أرض من الفيرزوج. قد لبست غلالة زرقاء ... وكايدت بلونها السماء. يضحك منها زهر الشقيق ... كأنه مداهن العقيق. مضمنات قطعا من السبج ... قد أشرقت من احمرار ودعج. كأنما المحمر في المسود ... منه إذا لاح عيون الرمد. وارم بعينيك إلى البهار ... فإنه من أحسن الأزهار. كأنه مداهن من عسجد ... قد سمرت في قضب الزبرجد. فانهض إلى اللهو ولا تخلف ... فلست في ذلك بالمنعف. واشرب عقارا طال فينا كونها ... يصفر من خوف المزاج لونها. دونك هذي صفة الزمان ... مشروحة في أحسن التبيان! وارض بتقليدي فيما قلته ... فإنني أدرى بما وصفته. الباب الرابع: من القسم الثالث من الفن الأول مواسم الأمم وأعيادها في ذكر مواسم الأمم وأعيادها، وأسباب اتخاذهم لها، وما قيل في ذلك والذي أورده في هذا الباب، هو مما وقفت عليه أثناء مطالعتي للكتب الموضوعة فيه، ونقلته منها لما تعذر على من أتلقاه من فيه. وضمنته أعياد المسلمين، والفرس والنصارى، واليهود. ذكر الأعياد الإسلامية والأعياد الإسلامية التي وردت بها الشريعة اثنان: عيد الفطر، وعيد الأضحى. |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
الأدب , المرة , في , فنون , نهاية |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
سلسلة لعلهم يتفكرون | تيماء | (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) | 65 | 24-09-2018 10:41 AM |
العقيدة من مفهوم القران والسنة | تيماء | (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الانبياء والصحابه ) | 34 | 20-07-2018 09:12 AM |
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه | سراج منير | ( همســـــات الإسلامي ) | 7 | 29-06-2017 02:53 AM |
فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه | سراج منير | ( همســـــات الإسلامي ) | 14 | 26-05-2017 03:24 PM |
مختصر كتاب( طوق الحمامة) | نزيف الماضي | ( همسات الثقافه العامه ) | 12 | 23-03-2015 10:14 AM |