26-02-2021, 06:11 PM
|
#312 |
بيانات اضافيه [
+
] | رقم العضوية : 5942 | تاريخ التسجيل : 16 - 3 - 2015 | أخر زيارة : 26-12-2024 (03:48 PM) | المشاركات : 873,030 [
+
] | التقييم : 2147483647 | الدولهـ | الجنس ~ | MMS ~ | SMS ~ | | لوني المفضل : Darkorange | شكراً: 0
تم شكره 7 مرة في 7 مشاركة
| تابع – سورة المطففين
محور مواضيع السورة :
ثم يعود إلى وصف كتاب الفجار ذاك فيقول : إنه «كِتابٌ مَرْقُومٌ» .. أي مفروغ منه ، لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، حتى يعرض في ذلك اليوم العظيم.
فإذا كان ذلك : كان «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ»! ويحدد موضوع التكذيب ، وحقيقة المكذبين :
«الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ..
فالاعتداء والإثم يقودان صاحبهما إلى التكذيب بذلك اليوم وإلى سوء الأدب مع هذا القرآن فيقول عن آياته حين تتلى عليه : «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. لما يحويه من قصص الأولين المسوقة فيه للعبرة والعظة ، وبيان سنة اللّه التي لا تتخلف ، والتي تأخذ الناس في ناموس مطرد لا يحيد.
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع : «كَلَّا!» ليس كما يقولون ..
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين :
«بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية. والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور ، ويفقده الحساسية شيئا فشيئا حتى يتبلد ويموت ..
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - قال : «إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه. فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت» .. وقال الترمذي حسن صحيح. والفظ النسائي :
«إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء. فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، فهو الران الذي قال اللّه تعالى : «كَلَّا! بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت .. ذلك حال الفجار المكذبين. وهذه هي علة الفجور والتكذيب .. ثم يذكر شيئا عن مصيرهم في ذلك اليوم العظيم. يناسب علة الفجور والتكذيب :
«كَلَّا! إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ. ثُمَّ يُقالُ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ..
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام ، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا. وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة .. فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه اللّه الكريم ، وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى ، التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها. ممن قال فيهم في سورة القيامة :
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» ..
وهذا الحجاب عن ربهم ، عذاب فوق كل عذاب ، وحرمان فوق كل حرمان. ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم. فإذا حجب عن هذا المصدر فقد خصائصه كإنسان كريم وارتكس إلى درجة يستحق معها الجحيم : «ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ» .. ومع الجحيم التأنيب وهو أمرّ من الجحيم : «ثُمَّ يُقالُ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ»!! ثم يعرض الصفحة الأخرى. صفحة الأبرار. على العهد بطريقة القرآن في عرض الصفحتين متقابلتين في الغالب ، لتتم المقابلة بين حقيقتين وحالين نهايتين :
«كَلَّا! إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ، خِتامُهُ مِسْكٌ. وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ. وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» ..
وكلمة «كَلَّا» تجيء في صدر هذا المقطع زجرا عما ذكر قبله من التكذيب في قوله : «ثُمَّ يُقالُ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .. ويعقب عليه بقوله : «كَلَّا» ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد.
فإذا كان كتاب الفجار في «سِجِّينٍ» فإن كتاب الأبرار في «عِلِّيِّينَ» ... والأبرار هم الطائعون الفاعلون كل خير. وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد ..
ولفظ «عِلِّيِّينَ» يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن «سِجِّينٍ» يفيد الانحطاط والسفول. ثم يعقب عليه بسؤال التجهيل والتهويل المعهود : «وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟» .. فهو أمر فوق العلم والإدراك! ويعود من هذا الظل الموحي إلى تقرير حقيقة كتاب الأبرار .. فهو «كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» وقد سبق ذكر معنى مرقوم. ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربين يشهدون هذا الكتاب ويرونه. وتقرير هذه الحقيقة هنا يلقي ظلا كريما طاهرا رفيعا على كتاب الأبرار. فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة ، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات. وهذا ظل كريم شفيف ، يذكر بقصد التكريم. ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم ، أصحاب هذا الكتاب الكريم. ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم :
«إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» .. يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار .. «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» أي إنهم في موضع التكريم ، ينظرون حيث يشاءون ، لا يغضون من مهانة ، ولا يشغلون عن النظر من مشقة .. وهم على الأرائك وهي الأسرة في الحجال. وأقرب ما يمثلها عندنا ما نسميه «الناموسية» أو الكلة! وصورتها الدنيوية كانت أرقى وأرق مظاهر النعيم عند العربي ذي العيشة الخشنة! أما صورتها الأخروية فعلمها عند اللّه. وهي على أية حال أعلى من كل ما يعهده الإنسان مما يستمده من تجاربه في الأرض وتصوراته! وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام ، تفيض النضرة على وجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء :
«تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» ..
«يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ» ..
والرحيق الشراب الخالص المصفى ، الذي لا غش فيه ولا كدرة. ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية. كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض. فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود! وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين : «وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» ..
أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة : «تَسْنِيمٍ» التي «يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» .. قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجيه : «وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» ..
وهو إيقاع عميق يدل على كثير ...
إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر ، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء ، ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية .. إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد. يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه. ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل ..
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس. إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم :
«وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» .. فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفق يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب.
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب. والدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة. ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه. فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة ..
( يتبع ) |
|
|
|
|
| |