ننتظر تسجيلك هنا


الإهداءات


العودة   منتدى همسات الغلا > ¨°o.O (المنتديات الاسلاميه) O.o°¨ > (همسات القرآن الكريم وتفسيره )

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-01-2021, 07:07 PM   #22


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (03:48 PM)
 المشاركات : 873,030 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي







.



.

.

[/ce

تابع – سورة البقرة

تحدي الكفار بمعارضة القرآن

ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي "" صلى الله عليه وسلم ""وكان المنافقون يرتابون فيها - كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها - فهنا يتحدى القرآن الجميع . إذ كان الخطاب إلى "الناس " جميعا . يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة:
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله , وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين). .
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال . . يصف الرسول "" صلى الله عليه وسلم ""بالعبودية لله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا). . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة:فهو أولا تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى ; دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك . وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية , في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده , واطراح الأنداد كلها من دونه . فها هو ذا النبي في مقام الوحي - وهو أعلى مقام - يدعى بالعبودية لله , ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام .
أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة . . فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم , فإن كانوا يرتابون في تنزيله , فدونهم فليأتوا بسورة من مثله ; وليدعوا من يشهد لهم بهذا - من دون الله - فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه .
وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول "" صلى الله عليه وسلم ""وبعدها , وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها . . وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا . وسيظل كذلك أبدا . سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية:
(فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين). .
والتحدي هنا عجيب , والجزم بعدم إمكانه أعجب , ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة . وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا , وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها . ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا , فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لأنهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا , ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس .
على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء ; وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء ; وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر . . لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر . والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز , أو غرض يلبس الحق بالباطل . .

ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح:
(فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين). .
ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة , في هذه الصورة المفزعة الرعيبة ? لقد أعدت هذه النار للكافرين . الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم , وعلى أبصارهم غشاوة). . والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون , ثم لا يستجيبون . . فهم إذن حجارة من الحجارة ! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية ! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر !
على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع:مشهد النار التي تأكل الأحجار . ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار . . في النار . .
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها - إلى جانب الأزواج المطهرة - تلك الثمار المتشابهة , التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل - أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل , وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل - فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة . . وهي ترسم جوا من الدعابة الحلوة , والرضى السابغ , والتفكه الجميل , بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة , وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد !
وهذا التشابه في الشكل , والتنوع في المزية , سمة واضحة في صنعة الباريء تعالى , تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره . ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة . . الناس كلهم ناس , من ناحية قاعدة التكوين:رأس وجسم وأطراف . لحم ودم وعظام وأعصاب . عينان وأذنان وفم ولسان . خلايا حية من نوع الخلايا الحية . تركيب متشابه في الشكل والمادة . . ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات ? ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات ? إن فارق ما بين إنسان وإنسان - على هذا التشابه - ليبلغ أحيانا أبعد مما بين الأرض والسماء !
وهكذا يبدو التنوع في صنعة الباريء هائلا يدير الرؤوس:التنوع في الأنواع والأجناس , والتنوع في الأشكال والسمات , والتنوع في المزايا والصفات . . وكله . . كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب .
فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده , وهذه آثار صنعته , وآيات قدرته ? ومن ذا الذي يجعل لله اندادا , ويد الإعجاز واضحة الآثار , فيما تراه الأبصار , وفيما لا تدركه الأبصار ?

اختلاف أثر الأمثال القرآنية على المؤمنين والكافرين

بعد ذلك يجيء الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن:
(إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما , بعوضة فما فوقها , فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم , وأما الذين كفروا فيقولون:ماذا أراد الله بهذا مثلا ? يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا , وما يضل به إلا الفاسقين . الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض . . أولئك هم الخاسرون). .
وهذه الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم مثل الذي استوقد نارا ومثل الصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق - وربما كان اليهود كذلك والمشركون - قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة , ومن وجود أمثال أخرى في القرآن المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى في المدينة , كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربهم (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون). . وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدعاة عن خلق الذباب: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب). .
نقول:إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين - وربما كان اليهود والمشركون - قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن , بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله , وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه ! . . وكان هذا طرفا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة , كما كان يقوم بها المشركون في مكة .
فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس , وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال , وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها , وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا .

(إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما , بعوضة فما فوقها). .
فالله رب الصغير والكبير , وخالق البعوضة والفيل , والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل . إنها معجزة الحياة . معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله . . على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل , إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير . وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره . والله - جلت حكمته - يريد بها اختبار القلوب , وامتحان النفوس:
(فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم). .
ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله ; وبما يعرفون من حكمته . وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم , وحساسية في أرواحهم , وتفتحا في مداركهم , واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله .







ll]


.

.



 

رد مع اقتباس
قديم 17-01-2021, 07:12 PM   #23


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (03:48 PM)
 المشاركات : 873,030 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي



.



.

.

[/ce

تابع – سورة البقرة

(وأما الذين كفروا فيقولون:ماذا أراد الله بهذا مثلا ?). .
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته , المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره . ثم هو سؤال من لا يرجو للهوقارا , ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب . يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار , أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله !
هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير:
(يضل به كثيرا , ويهدي به كثيرا , وما يضل به إلا الفاسقين). .
والله - سبحانه - يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها , ويتلقاها عباده , كل وفق طبيعته واستعداده , وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه . والابتلاء واحد . . ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق . . الشدة تسلط على شتى النفوس , فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية . وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا , وتخرجه من الصف إخراجا . والرخاء يسلط على شتى النفوس , فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا . وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء . . وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس . . (يضل به كثيرا). . ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله , (ويهدي به كثيرا)ممن يدركون حكمة الله . (وما يضل به إلا الفاسقين). . الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق , فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه !

ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء , كما فصل في أول السورة صفة المتقين ; فالمجال ما يزال - في السورة - هو مجال الحديث عن تلك الطوائف , التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور:
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض . أولئك هم الخاسرون). .
فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ? وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ? وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ?
لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال تشخيص طبيعة , وتصوير نماذج , لا مجال تسجيل حادثة , أو تفصيل واقعة . . إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها . فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض ; وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع ; وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع . . إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة , وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد . إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة , فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة . . ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين ; وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون .
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين ; والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات !
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه). .
وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة:إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي . . أن يعرف خالقه , وأن يتجه إليه بالعبادة . وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله , ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء . . وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم - كما سيجيء -: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). . وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده , وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته . . وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون . وإذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه , فكل عهد دون الله منقوض . فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدا من العهود .
(ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل). .
والله أمر بصلات كثيرة . . أمر بصلة الرحم والقربى . وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية , التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها . . وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى , وانحلت الروابط , ووقع الفساد في الأرض , وعمت الفوضي .
(ويفسدون في الأرض). .
والفساد في الأرض ألوان شتى , تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله , ونقض عهد الله , وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما , فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض , ومنهج الله بعيد عن تصريفها , وشريعة الله مقصاة عن حياتها . وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال , وللحياة والمعاش ; وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء .
إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله . . ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين .

استنكار كفر الكفار بالله

وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم:
(كيف تكفرون بالله , وكنتم أمواتا فأحياكم , ثم يميتكم , ثم يحييكم , ثم إليه ترجعون ? هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ; ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم). .
والكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع , مجرد من كل حجة أو سند . . والقرآن يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته , والاعتراف به , والتسليم بمقتضياته . يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم . لقد كانوا أمواتا فأحياهم . كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة . إنهم أحياء , فيهم حياة . فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة ? من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت ? إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات . فمن أين جاءت ? إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس ; ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات . من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزا عن كل ما عداها من الموات ? . . لقد جاءت من عند الله . . هذا هو أقرب جواب . . وإلا فليقل من لا يريد التسليم:أين هو الجواب !

وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام:
(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ?). .
كنتم أمواتا من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض فأنشا فيكم الحياة(فأحياكم). . فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة ?
(ثم يميتكم). .
ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلا , فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة , وتفرض نفسها عليهم فرضا , ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال .
(ثم يحييكم). .
وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون ; كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين , المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة . وهي حين يتدبرون النشأة الأولى , لا تدعو إلى العجب , ولا تدعو إلى التكذيب .
(ثم إليه ترجعون). .
كما بدأكم تعودون , وكما ذرأكم في الأرض تحشرون , وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة , ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه ويقضي فيكم قضاءه . .
وهكذا في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها ويطوى , وتعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة الباريء:ينشرها من همود الموت أول مرة , ثم يقبضها بيد الموت في الأولى , ثم يحييها كرة أخرى , وإليه مرجعها في الآخرة , كما كانت منه نشأتها في الأولى . . وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة , ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة .





llثم يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى:
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ; ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ; وهو بكل شيء عليم). .
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء , يتحدثون عن القبلية والبعدية . ويتحدثون عن الاستواء والتسوية . . وينسون أن "قبل وبعد" اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى ; وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود . . ولا يزيدان . . وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية , إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى , عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية , وللعقلية الإسلامية الناصعة . . وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة , فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام !!
فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان , ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني , وعلى دوره العظيم في الأرض , وعلى قيمته في ميزان الله , وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي ; وفي نظام المجتمع الإسلامي . .
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا). .
إن كلمة(لكم)هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق . إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم . خلقه ليكون مستخلفا في الأرض , مالكا لما فيها , فاعلا مؤثرا فيها . إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض ; والسيد الأول في هذا الميراث الواسع . ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول ; إنه سيد الأرض وسيد الآلة ! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم . وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون , الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه , فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم ! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان , ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه ; وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان , مهما يحقق من مزايا مادية , هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني . فكرامة الإنسان أولا , واستعلاء الإنسان أولا , ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة .
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا - وهو يستنكر كفرهم به - ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا , ولكنها - إلى ذلك - سيادتهم على ما في الأرض جميعا , ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا . هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم .

( يتبع )




]


.

.



 

رد مع اقتباس
قديم 17-01-2021, 07:17 PM   #24


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (03:48 PM)
 المشاركات : 873,030 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي





.



.

.

[/ce




تابع – سورة البقرة

(ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات). .
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة , والقصد بإرادة الخلق والتكوين . كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها . اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص , وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون , الذي سخر لهم الأرض بما فيها , ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة .
(وهو بكل شيء عليم). .
بما أنه الخالق لكل شيء , المدبر لكل شيء . وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير . حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد , والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد , وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل .
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة . . وكلها تركيز على الإيمان , والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين . .
قصة آدم واستخلافه

يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات . وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة , والحلقة التي تعرض منها , والصورة التي تأتي عليها , والطريقة التي تؤدى بها . تنسيقا للجو الروحي والفكري والفني الذي تعرض فيه . وبذلك تؤدي دورها الموضوعي , وتحقق غايتها النفسية , وتلقي إيقاعها المطلوب .
ويحسب أناس أن هنالك تكرارا في القصص القرآني , لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى . ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة , أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة , من ناحية القدر الذي يساق , وطريقة الأداء في السياق . وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه , ينفي حقيقة التكرار .

ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث أو تصرفا فيها , يقصد به إلى مجرد الفن - بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع - ولكن الحق الذي يلمسه كل من ينظر في هذا القرآن , وهو مستقيم الفطرة , مفتوح البصيرة , هو أن المناسبة الموضوعية هي التي تحدد القدر الذي يعرض من القصة في كل موضع , كما تحدد طريقة العرض وخصائص الأداء . والقرآن كتاب دعوة , ودستور نظام , ومنهج حياة , لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ . وفي سياق الدعوة يجيء القصص المختار , بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق , وتحقق الجمال الفني الصادق , الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق , ولكن يعتمد على إبداع العرض , وقوة الحق , وجمال الأداء .

وقصص الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد الواصل الطويل . ويعرض قصة الدعوة إلى الله واستجابة البشرية لها جيلا بعد جيل ; كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر , وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم . . وتتبع هذا الموكب الكريم في طريقه اللاحب يفيض على القلب رضى ونورا وشفافية ; ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز - عنصر الإيمان - وأصالته في الوجود . كذلك يكشف عن حقيقة التصور الإيماني ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة . .
إن السياق - فيما سبق - يستعرض موكب الحياة , بل موكب الوجود كله . ثم يتحدث عن الأرض - في معرض آلاء الله على الناس - فيقرر أن الله خلق كل ما فيها لهم . . فهنا في هذا الجو تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض , ومنحه مقاليدها , على عهد من الله وشرط , وإعطائه المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة . كما أنها تمهد للحديث عن استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهد من الله ; ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة الوافية بعهد الله [ كما سيجيء ] فتتسق القصة مع الجو الذي تساق فيه كل الاتساق .

فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من إيحاءات أصيلة:
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ; وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى:
(وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة). .
وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود , زمام هذه الأرض , وتطلق فيها يده , وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين , والتحليل والتركيب , والتحوير والتبديل ; وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات , وكنوز وخامات , وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة , والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات , وكنوز وخامات ; ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية .

وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته , كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ; وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة !

وإذن فهي منزلة عظيمة , منزلة هذا الإنسان , في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم .
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: (إني جاعل في الأرض خليفة). . حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة , ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض !
(قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء , ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ?). .
ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال , أو من تجارب سابقة في الأرض , أو من إلهام البصيرة , ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق , أو من مقتضيات حياته على الأرض ; وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض , وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق , وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له , هو وحده الغاية المطلقة للوجود , وهو وحده العلة الأولى للخلق . . وهو متحقق بوجودهم هم , يسبحون بحمد الله ويقدسون له ,ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته !
لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا , في بناء هذه الأرض وعمارتها , وفي تنمية الحياة وتنويعها , وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها , على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا , وقد يسفك الدماء أحيانا , ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو الدائم , والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة البانية . خير المحاولة التي لا تكف , والتطلع الذي لا يقف , والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير .
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء , والخبير بمصائر الأمور:
(قال:إني أعلم ما لا تعلمون). .
(وعلم آدم الأسماء كلها , ثم عرضهم على الملائكة , فقال:أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا:سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا . إنك أنت العليم الحكيم . قال:يا آدم أنبئهم بأسمائهم . فلما أنبأهم بأسمائهم , قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السماوات والأرض , وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون). .
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى . . ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري , وهو يسلمه مقاليد الخلافة . سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض . ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى , لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات , والمشقة في التفاهم والتعامل , حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . . الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية , لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم . ومن ثم لم توهب لهم . فلما علم الله آدم هذا السر , وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . . وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم , والاعتراف بعجزهم , والإقرار بحدود علمهم , وهو ما علمهم . . وعرف آدم . . ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة العليم الحكيم:
(قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السماوات والأرض , وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ?). .
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم . فسجدوا). .
إنه التكريم في أعلى صوره , لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء , ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة . لقد وهب سر المعرفة , كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق . . إن ازدواج طبيعته , وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه , واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة . . إن هذا كله بعض أسرار تكريمه .
ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل .
(إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين). .
وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة:عصيان الجليل سبحانه ! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله . والعزة بالإثم . والاستغلاق عن الفهم .
ويوحي السياق أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة , إنما كان معهم . فلو كان منهم ما عصى . وصفتهم الأولى أنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). . والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم , فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء , كما تقول:جاء بنو فلان إلا أحمد . وليس منهم إنما هو عشيرهم وإبليس من الجن بنص القرآن , والله خلق الجان من مارج من نار . وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة .
والآن . لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة . المعركة بين خليقة الشر في إبليس , وخليفة الله في الأرض . المعركة الخالدة في ضمير الإنسان . المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه , وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته . ويبعد عن ربه:
(وقلنا:يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة , وكلا منها رغدا حيث شئتما , ولا تقربا هذه الشجرة , فتكونا من الظالمين). .
لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة . . إلا شجرة . . شجرة واحدة , ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض . فبغير محظور لا تنبت الإرادة , ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق , ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط . فالإرادة هي مفرق الطريق . والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة , ولو بدوا في شكل الآدميين !
(فأزلهما الشيطان عنها , فأخرجهما مما كانا فيه). .
ويا للتعبير المصور أزلهما). . إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها . وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة , ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوي !
عندئذ تمت التجربة:نسي آدم عهده , وضعف أمام الغواية . وعندئذ حقت كلمة الله , وصرح قضاؤه:
(وقلنا:اهبطوا . . بعضكم لبعض عدو , ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين). .
وكان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها . بين الشيطان والإنسان . إلى آخر الزمان .
ونهض آدم من عثرته , بما ركب في فطرته , وأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها ويلوذ بها .

(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه , إنه هو التواب الرحيم). .
وتمت كلمة الله الأخيرة , وعهده الدائم مع آدم وذريته . عهد الاستخلاف في هذه الأرض , وشرط الفلاح فيها أو البوار .
(قلنا:اهبطوا منها جميعا . فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .
وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل , وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر . وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا شاء الانتصار , وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار . . .
لقد قال الله تعالى للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة). . وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى . ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة ? وفيم إذن كان بلاء آدم ? وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض , وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى ?
لعلني المح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا . كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه . كانت تدريبا له على تلقي الغواية , وتذوق العاقبة , وتجرع الندامة , ومعرفة العدو , والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين .
إن قصة الشجرة المحرمة , ووسوسة الشيطان باللذة , ونسيان العهد بالمعصية , والصحوة من بعد السكرة , والندم وطلب المغفرة . . إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة !
لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته , مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا , استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا . .
وبعد . . مرة أخرى . . فأين كان هذا الذي كان ? وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان ? ومن هم الملائكة ? ومن هو إبليس ? . . كيف قال الله تعالى لهم ? وكيف أجابوه ? . . .
هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ; وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته , فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به , بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض , وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب . وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرفه بأسرارها , بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب , فيما لا جدوى له في معرفته . وما يزال الإنسان مثلا على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلا مطلقا , ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة , وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه ? وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر , لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة , بل ربما كان معوقا لها لو كشف للإنسان عنه ! وهنالك الوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان , في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .
ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه , لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره . وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع , ذاهب سدى , بلا ثمرة ولا جدوى .
وإذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب ; فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر . . فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة . والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل , وليست في طوق وسائله , ولا هي ضرورية له في وظيفته !

( يتبع )



ll]


.

.



 

رد مع اقتباس
قديم 17-01-2021, 07:20 PM   #25


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (03:48 PM)
 المشاركات : 873,030 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي





.



.

.

تابع – سورة البقرة

إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة . ولكن أضر منه وأخطر , التنكر للمجهول كله وإنكاره , واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به . . إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده , ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق .
فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه , وحسبنا ما يقص لنا عنه , بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا , ويصلح سرائرنا ومعاشنا . ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية , ومن تصور للوجود وارتباطاته , ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه . . فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى .

وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مرورا مجملا سريعا .
إن أبرز إيحاءات قصة آدم - كما وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض , ولمكانه في نظام الوجود , وللقيم التي يوزن بها . ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله , وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه . .
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم , أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض ; كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له . وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى , وفي رعاية الله له أولا وأخيرا . .
ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء .
وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض , ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصا - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي , ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا . ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي . . لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة , ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي , أو إنتاج أي شيء مادي , أو تكثير أي عنصر مادي . . فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله . من أجل تحقيق إنسانيته . من أجل تقريروجوده الإنساني . فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية , أو نقص مقوم من مقومات كرامته .
والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول . فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها ; وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج , هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر , بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر !
[/ce

إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض , عاملا مهما في نظام الكون , ملحوظا في هذا النظام . فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار , ومع الشموس والكواكب . . وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض , وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . . فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية , ولا تسمح له أن يتعداه ? !
وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان ; وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها ; وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . . وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره , إلا أثرا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان , وحقيقة دوره في هذه الأرض !
كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره , وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية , وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته . فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . .)وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية , ولكن بحيث لاتصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته . بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية , وإهدار لكل القيم الأدبية , في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان !
وفي التصور الإسلامي اعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله , وهي مناط التكليف والجزاء . . إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته , وعدم الخضوع لشهواته , والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه . بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه , بتغليب الشهوة على الإرادة , والغواية على الهداية , ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه . وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه , يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى . كما أن فيه تذكيرا دائما بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة , والرفعة والهبوط , ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق !
وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة . إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر . بين الحق والباطل . بين الهدى والضلال . . والإنسان هو نفسه ميدان المعركة . وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها . وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة ; وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان ; وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان !
وأخيرا تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة . . إن الخطيئة فردية والتوبة فردية . في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . . ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي , كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام - [ ابن الله بزعمهم ] قام به بصلبه , تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم ! . . كلا ! خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية , والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة . وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية , والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة . . تصور مريح صريح . يحمل كل إنسان وزره , ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط . . (إن الله تواب رحيم). .
هذا طرف من إيحاءات قصة آدم - في هذا الموضع - نكتفي به في ظلال القرآن . وهو وحده ثروة من الحقائق والتصورات القويمة ; وثروة من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة ; وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصور اجتماعي وأوضاع اجتماعية , يحكمها الخلق والخير والفضيلة . ومن هذا الطرف نستطيع أن ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي ; وإيضاح القيم التي يرتكز عليها . وهي القيم التي تليق بعالم صادر عن الله , متجه إلى الله , صائر إلى الله في نهاية المطاف . . عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقي الهدى من الله , والتقيد بمنهجه في الحياة . ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله , أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان . وليس هناك طريق ثالث . . إما الله وإما الشيطان . إما الهدى وإما الضلال . إما الحق وإما الباطل . إما الفلاح وإما الخسران . . وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله , بوصفها الحقيقة الأولى , التي تقوم عليها سائر التصورات , وسائر الأوضاع في عالم الإنسان .

( يتبع - سورة ال عمران )




]


.

.



 

رد مع اقتباس
قديم 17-01-2021, 07:23 PM   #26


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (03:48 PM)
 المشاركات : 873,030 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي





.



.

.

[/ce

سورة آل عمران

تعريف بالسورة
هي سورة مدنية
من السور الطول
عدد آياتها 200 آية
هي السورة الثالثة من حيث الترتيب في المصحف الشريف
نزلت بعد سورة "الأنفال"
تبدأ السورة بحروف مقطعة " الم" .

سبب التسمية
سميت السورة بـ"آل عمران" لورود ذكر قصة تلك الأسرة الفاضلة " آل عمران " والد مريم أم عيسى عليه السلام وما تجلى فيها من مظاهر القدرة الإلهية بولادة مريم البتول وابنها عيسى عليهما السلام .

سبب نزول السورة

قال المفسرون : قَدِمَ وفد نجران وكانوا ستين راكبا على رسول الله وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم فالعاقب امير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد إمامهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم . وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده فقدموا على رسول الله ودخلوا مسجده حين العصر عليهم ثياب الحبرات جبابا وأردية في جمال رجال الحارث بن كعب يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله ما رأينا وفدا هم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله : دعوهم فصلوا إلى المشرق فكلم السيد والعاقب رسول الله :أسلما فقالا : قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما منعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير قالا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه في عيسى فقال لهما النبي : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شئ يحفظه ويرزقه قالوا : بلى قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا : لا قال : فإن ربنا صَوَّرَ عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث قالوا : بلى قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا فأنزل الله عز وجل فيهم سورة ال عمران إلى بضعة وثمانين آية منها .
محاور السورة

سورة آل عمران من السور المدنية الطويلة وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على ركنين هامين من أركان الدين هما :

الأول : ركن العقيدة وإقامة الأدلة والبراهين على وحدانية الله جل وعلا .
والثاني : التشريع وبخاصة فيما يتعلق بالمغازي والجهاد في سبيل الله .

فقد تضمنت هذه السورة الكريمة جملة من الممحاور والمقاصد ، نذكر منها:
أولاً: تقرير أصول الشريعة المتمثلة في عقيدة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، دل على ذلك قوله سبحانه: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (آل عمران:2). وقوله سبحانه: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط} (آل عمران:18). وقوله عز وجل: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران:33). وقوله سبحانه: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد} (آل عمران:9).

كما أنها قصدت إلى تقرير بعض الأحكام التكليفية كالحج {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران:97)، والجهاد {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } (آل عمران:169)، وغيرهما.

وأيضاً فقد قصدت إلى بيان جملة من الآداب السلوكية، وهو ما قررته الآية الجامعة وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (آل عمران:200).
ثانياً: من المقاصد الرئيسة التي نزلت لأجلها هذه السورة مجادلة النصارى فيما هم فيه من عقائد باطلة، وإبطال مذهبهم، ونفي الشبهات التي تضمنتها معتقداتهم المنحرفة، أو التي تعمدوا نثرها حول صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقصة عيسى عليه السلام -وما جاء من القصص مكملاً لها- تؤكد هذه الحقيقة، وتنفي فكرة الولد والشريك، وتستبعدهما استبعاداً كاملاً؛ وتظهر زيف هذه الشبهة، وسخف تصورها؛ وتبسط مولد مريم عليها السلام وتاريخها، ومولد عيسى عليه السلام وتاريخ بعثته وأحداثها، بطريقة لا تدع مجالاً لإثارة أية شبهة في بشريته الكاملة.

فكان من مقاصد هذه السورة الأساسية، بيان فيصل التفرقة بين عقيدة التوحيد الخالصة الناصعة، وبين عقائد أصحاب الديانات المنحرفة والمضللة.

ثالثاً: من مقاصد هذه السورة كشف الصراع الأصيل والدائم بين أهل الإيمان والتوحيد وبين أهل الكفر والشرك.
هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام، بل هو صراع مستمر ومتطور، يبذل فيه أعداء هذا الدين ما وسعهم من جهد وحيلة ومكيدة وخداع وكذب وتدبير؛ للبس الحق بالباطل، وبث الريب والشكوك، وتبييت الشر والضر لهذه الأمة، من غير ملل ولا كلل.
وقد بصَّرت هذه السورة المؤمنين بحقيقة ما هم عليه من الحق، وحقيقة ما عليه أعداؤهم من الباطل، وشرحت طباع أعداء هذه الأمة وأخلاقهم وأعمالهم ونياتهم، وفضحت ما يضفونه على أنفسهم من مظاهر العلم والمعرفة والتقدم.
رابعاً: من مقاصد هذه السورة بيان حال المؤمنين مع ربهم؛ حيث عرضت جملة صالحة من أخبار النخبة المختارة من البشر، التي اصطفاها سبحانه لأداء رسالته، وجعلها ذرية بعضها من بعض. وتتمثل هذه الصور المشرقة في حديث امرأة عمران مع ربها، ومناجاته في شأن وليدتها.

وفي حديث مريم مع زكريا عليه السلام. وفي دعاء زكريا عليه السلام ونجواه ربه. وفي رد الحواريين على نبيهم، ودعائهم لربهم.
خامساً: قصدت هذه السورة إلى ولوج ميدان النفس المؤمنة، من حيث تصوراتها، ومشاعرها، وأطماعها، وشهواتها، ودوافعها، وكوابحها.
وقد عالجت السورة هذه النفس بكل رفق وتلطف وإرشاد وتوجيه، نلمس ذلك في الآيات التي تحدثت عن وقائع غزوة أُحد، وما جرى فيها من تمحيص للنفوس، وفحص للقلوب، وتمييز للصفوف، وتحرير لكثير من آفات الفكر والسلوك والمشاعر في الصف المسلم؛ وذلك بتميز المنافقين من المؤمنين، وتوضيح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك، وتبيين تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالعلم والعمل، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه.

سادساً: هدفت هذه السورة إلى تقرير سُنَّة بالغة الأهمية في حياة المسلم، وهي أن وقائع الحياة وأحداثها -نصراً وهزيمة، نجاحاً وفشلاً، تقدماً وتأخراً- إنما تجري وفق سنن الله الجارية التي أقام على وفقها هذا الكون، أنها سُنَّة الأخذ بالأسباب الظاهرة، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:165)، فالأمور كلها منوطة بالعمل وَفْق سنن الله التي وضعها، فإذا أخذ بها المسلم نجح وتقدم، وإذا أعرض عنها أو تجاهلها خسر وتأخر، وما أصاب الإنسان من شر، إنما هو بما كسبت يداه.
سابعاً: من مقاصد هذه السورة بيان أن هذا الكون كتاب مفتوح، يحمل بذاته دلائل الإيمان وآياته; ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا حياة أخرى وحساباً وجزاء. يرشد لهذا المقصد ما جاء من آيات في أواخر هذه السورة، التي ابتدأت بقوله سبحانه: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} (آل عمران:190)، وخُتمت بقوله تعالى: {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} (آل عمران:193). فجاءت هذه الآيات لتوجه القلوب والأنظار إلى هذا الكتاب المفتوح -كتاب الكون-؛ الذي لا تفتأ صفحاته تقلب على مر السنين والأيام، فتتبدى في كل صفحة آية موحية، تستجيش في الفطرة السليمة إحساساً بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب، وفي روعة صنع هذا النظام، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الكون.

( يتبع )




ll]


.

.



 

رد مع اقتباس
قديم 17-01-2021, 08:12 PM   #27


ذابت نجوم الليل غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5956
 تاريخ التسجيل :  3 - 6 - 2014
 أخر زيارة : يوم أمس (11:17 PM)
 المشاركات : 3,292,427 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Saudi Arabia
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : red
افتراضي



دمت ودام لنا روعه مواضيعك
تحياااتي ومودتي


 

رد مع اقتباس
قديم 17-01-2021, 08:31 PM   #28


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (03:48 PM)
 المشاركات : 873,030 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي





 

رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
التعريف , الصور , النزول , القرآن , الكريم , بصور , ومحاور , وأسباب , ومقاصد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
معلومات قرآنية البرنس مديح ال قطب (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 16 29-11-2020 01:14 PM
ختم القرآن من الأعمال الجليلة البرنس مديح ال قطب (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 16 06-07-2020 06:12 PM
معجزة الإسلام الخالدة البرنس مديح ال قطب (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 18 05-03-2020 09:14 PM
تعرف على القرآن الكريم 2 تيماء (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 24 29-12-2018 10:05 PM
أسرار التكرار في القرآن الكريم ميارا (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 11 13-02-2013 11:33 PM

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML

الساعة الآن 06:46 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010