ننتظر تسجيلك هنا


الإهداءات


العودة   منتدى همسات الغلا > O.o°¨( منتدي الحصريات الأدبيه )¨°o.O > دآر عمدآء الأدب

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-08-2018, 08:49 PM   #71


الصورة الرمزية تيماء
تيماء غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7482
 تاريخ التسجيل :  27 - 10 - 2016
 أخر زيارة : 02-01-2023 (09:51 PM)
 المشاركات : 106,303 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Lebanon
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Floralwhite
افتراضي



التعليم والترسيم
من كتاب البديع في نقد الشعر لابن منقذ


اعلم أن التعليم والترسيم هو أن الشعر قول موزون مقفى دال على معنى، وله طرفان: أحدهما غاية الجودة، والآخر غاية الرداءة، وبينهما وسائط. والمعنى للشعر بمنزلة المادة، والشعر فيه بمنزلة الصورة. وهو أربعة أشياء: لفظ، ومعنى، ووزن، وقافية. وتهذيبه أن يكون اللفظ سمحاً سهل المخارج حلواً عذباً. وتهذيب الوزن أن يكون حسناً تقبله النفس والغريزة، غير منكسر ولا مزحف. فإن أمكن فهو التخليع مثل: المرء ما عاش في تكذيب طول الحياة له تعذيب.
وتهذيب القافية أن تكون سلسلة المخرج مألوفة، فإن القوافي حوافر الشعر.
والذي يمدح به الناس الصفات الإنسانية وهي السماحة والشجاعة والعدل والعفة. ومنها تولد ما يتولد منها كما قال زهير:
أخي ثقةٍ لا تهلكُ الخمرُ مآله ... ولكنه قد يهلكُ المال نائله
فمدحه بالعفة، ثم قال:
تراهُ إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ثم قال:
فمن مثلُ حصنٍ في الحروب ومثله ... لإنكار ضيمٍ، أو لأمرٍ نحاوله
ولو لم يكن في كفه غيرُ نفسهِ ... لجاد بها فليتق اللهَ سائله
فمدحه بالشجاعة والمعني التي يقصدها الشعراء هي المدح والهجاء والنسيب والمراثي والأوصاف والتشبيه. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان زهير لا يعاظل الكلام ولا يقصد الوحشي منه ولا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال.
وقد يكون الشاعر مقصراً ولا يكون مخطئاً. لأنه لا يمكنه الإحاطة بكل شيء.
ويحب أن يمدح كل واحد بما يصلح له، كما قال زهير:
من يلقَ يوماً على علاته هرماً ... يلقَ السماحةَ منهُ والندى خلقا
ليثٌ بعثرَ يصطاد الرجالَ، إذا ... ما الليثُ كذبَ عن أقرانه صدقا
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا عنقا
لو نالَ حيٌّ من الدنيا بمكرمةٍ ... أفقَ السماءِ لنالت كفه الأفقا
ولا يمدح لكثرة الأولاد؛ لأن الحيوان الكريم أعز نتاجا مثل قوله:
بغاثُ الطيرِ أكثرها نتاجاً ... وأمُ الصقر مقلاةٌ نذورُ
وليمدح بالجود وقلة المال مثل قوله:
وإني لا أخزى إذا قيلَ: مملقٌ ... جوادٌ، وأخشى أن يقال: بخيل
وقوله أيضاً:
فما كان من خير أتوهُ، فإنما ... توارثه آباءُ آبائهم قبلُ
وهل ينبتُ الخطيَّ إلاَّ وشيجه ... وتغرسُ إلاَّ في منابتها النخلُ
ومثل قوله:
إني سترحل بالمطيّ قصائدي ... حتى تحلَّ على بني ورقاء
مدحٌ لهم يتوارثون ثناءها ... رهناً لآخرهم فطول بقاءِ
حلماءُ في النادي إذا ما جئتهم ... جهلاءُ يومَ عجاجةٍ ولقاءِ
من سالموا نالَ الكرامةَ كلها ... وحاربوا ألوى مع العنقاء
وكما قال الحطيئة:
أقلوا عليهم، لا أبا لأبيكمُ ... من اللومِ أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
فإن كانت النعماءُ فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وتعذلني أفناءُ سعدٍ عليهمُ ... وما قلتُ إلا بالذي علمت سعد
وقال آخر:
نزورُ امرأً يعطي على الحمد ماله ... ومن يعطي أثمانَ المحامد يحمدِ
يرى البخلَ لا يبقي على المرء ماله ... ويعلم أنَّ المالَ غيرُ مخلدِ
كسوبٌ ومتلافٌ إذا ما سألته ... تهلل واهتزَ اهتزازَ المهندِ
من تأته تعشو إلى ضوءِ نارهِ ... تجد خيرَ نار عندها خيرُ موقدِ
وكما قال الشماخ:
فتى يملأ الشيزى ويروي سنانه ... ويضربُ في رأس الكميّ المدجج
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشةٍ ... ولا في بيوتِ الحيّ بالمتولج
وقوله أيضاً:
رأيتُ عرابةَ الأوسيَ يسمو ... إلى الخيرات منقطعَ القرين
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقاها عرابةُ باليمينِ
كما قال النابغة:
ألم ترَ أنَّ اللهَ أعطاكَ سورةً ... ترى كلَّ ملكٍ دونها يتذبذبُ
لأنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبدُ منهنَ كوكبُ
ومنه:
في كفه خيزرانٌ نشرهُ عبقٌ ... من كفّ أروعَ في عرنينه شممُ
يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلمُ إلا حينَ يبتسمُ
ويمدح الوزير بالحزم والسياسة، كما يمدح الملك بالعزم والرياسة، ويمدح الكاتب بالذكر والفكر والذكاء والذهن. كما قال السلمي:
بديهته مثلُ تفكيره ... متى رمته فهوَ مستجمعُ
يرومُ الملوك ندى جعفرٍ ... وهم يجمعون ولا يجمعُ
ويمدح القائد بالبأس، والشدة، والصرامة، والنجدة، كما قال منصور النمري:
ترى الخيل يومَ الروم تظمأ تحتهُ ... ويروى القنا من كفه والمناصلُ
حلالٌ لأطراف الأسنة نحرهُ ... حرامٌ عليها صدرهُ والكواهلُ
وكما قال بشار:
فقل للخليفة إن جئته ... نصيحاً لا خير في المتهمْ
إذا ايقظتك حروبُ العدى ... فنبه لها عمراً ثمَ نمْ
فتى لا يبيتُ على دمنةٍ ... ولا يشربُ الماءَ إلا بدمْ
وكقول أبي نواس:
قولا لهرونَ إمامِ الهدى ... عند اجتماع المجلس الحاشد:
نصيحة الفضل وإشفاقه ... أخلى له وجهك من حاسد
أنت على ما بك من قدرةٍ ... فلست مثل الفضل بالواجدِ
أوجده اللهُ، فما مثله ... لطالبٍ منهُ ولا ناشدِ
وليس على اللهِ بمستنكرٍ ... أن يجمعَ العالمَ في واحدِ
وأصل الهجاء سلب المديح، فكل ما مدح به فسلبه هجاء وضده أيضاً قد يخرجه الحاذق مخرج الحق، كما قال:
يروعكَ من سعدِ بنِ عمرو جسومها ... وتزهدُ فيها حينَ تقتلهم خبرا
فسلم له كثرة العدد وعظيم الخلق كأنه مدح وهو يهجو، لأن الكرام قليل، والقحة عما في النفس المميزة. وقول الآخر:
وإذا يسرك من تميمٍ خصلةٌ ... فلما يسوؤك من تميمٍ أكثرُ
ومن ذلك:
قومٌ إذا ما جنى جانيهمُ أمنوا ... من لؤمِ أحسابهم أن يقتلوا قودا
وأما المراثمي فلا فرق بينهما وبين المدح إلا بذكر الموت والذهاب، يقال: ذهب الجواد والجود. وبكته الخيل رديء؛ لأنها توصف بارتباطها بموته لراحتها.
ولذلك لا يقال في بكاء وما يشبهه إلا لما يعقل، كما قال الخنساء:
فقد فقدتك حرقة فاستراحت ... فليتَ الخيلَ صاحبها يراها
ومن ذلك التأسف قول الحطيئة:
فما كان بيني لو رأيتك سالماً ... وبين الغني إلا ليالٍ قلائلُ
فإن عشتُ لم أملك حياتي، وإن أمت ... فما في حياتي بعد موتكَ طائلُ
وأما الأوصاف والتشبيه فتهذيبه الصحة. كقول امرئ القيس:
له أيطلا ظبيٍ، وساقا نعامةٍ ... وإرخاءُ سرحانٍ وتقريبُ تتفلِ
وقوله يصف درعاً مطوية مبززة:
وممدودة البيت موضونةٍ ... تضاءلُ في الطيّ كالمبردِ
تفيض على المرءِ أردانها ... كفيض الأتي على الجدجدِ
ومثل قوله لآخر:
ونحنُ الثرايا وعيوقها ... ونحنُ السما كان والمرزمُ
وأنتمُ كواكبُ مجهولةٌ ... ترى في السماءِ ولا تعلمُ
وكقول عدي:
تزجى أغنَّ كأنَّ إبرةَ روقه ... قلمٌ أصابَ من الدواةِ مدادها
وقوله أيضاً:
يتعاوران من الغبار ملاءةً ... غبراءَ محكمةً هما نسجاها
تطوى إذا علوا مكاناً مشرفاً ... فإذا السنابك أسهلت نشراها
وقول الآخر:
يبدو وتضمره البلادُ كأنه ... سيفٌ على شرفٍ يسيلُ ويغمدُ


 
 توقيع : تيماء









z.s




رد مع اقتباس
قديم 08-08-2018, 08:50 PM   #72


الصورة الرمزية تيماء
تيماء غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7482
 تاريخ التسجيل :  27 - 10 - 2016
 أخر زيارة : 02-01-2023 (09:51 PM)
 المشاركات : 106,303 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Lebanon
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Floralwhite
افتراضي



مفهوم الفصاحة والبلاغة وبيان التفرقة بينهما
من كتاب الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز ليحيى بن حمزة العلوي


اعلم أنّ هذا الباب من أجل علوم البيان وأعلاها، وأرسخ قواعده وأسماها، وفيه تتفاوت القيم، وتتفاضل الهمم، والذى يتعلق بغرضنا منها هو الكلام فيما يتعلق بالبلاغة على الخصوص، وفيما يتعلق بالفصاحة على الخصوص، ثم نذكر التفرقة بينهما فهذه مطالب ثلاثة.
المطلب الأول فى بيان ما يتعلق بالفصاحة على الخصوص.
الفصاحة فى اللغة عبارة عن البيان والظهور، يقال أفصح العجمى إذا خلص كلامه عن اللكنة واللحن، وأفصح اللبن، إذا ذهب عنه اللباء وزالت عنه الرغوة، وأفصحت الشاة، إذا صفا لبنها عمّا يشوبه، وأفصح الصبح إذا ظهر وعلا ضوؤه، وفيه المثل «أفصح الصبح لذى عينين» .
وفى مصطلح علم البيان خلوص اللفظ عن التعقيد فى تركيب الأحرف والألفاظ جميعا، فمتى سلمت اللفظة الواحدة عن تنافر تركيبها ولم تكن من قبيل قولنا: عقجق، ولا من قولهم: «الهعخع» وهو شجر. وسلم تركيب الألفاظ عن التنافر أيضا كما قيل:
«ليس قرب قبر حرب قبر»
لأن التنافر فى الأول إنما كان من أجل تقارب مخارج تلك الأحرف، وحصل التنافر فى الثانى من جهة تركيب الألفاظ المتقاربة، فحصل من أجل ذلك عثار فى اللسان، وتوعر فى المخارج، فلأجل ذلك كان متنافرا فالألفاظ فى سهولة تركيبها وعثورته وسلاسته ووعورته بمنزلة الأصوات فى طنينها ولذة سماعها، ولهذا فإنه يستلذ بصوت «القمرىّ» ويكره صوت «الغراب» ويستظرف صهيل «الفرس» ويستنكر نهيق «الحمار» فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن مقصودنا من الفصاحة يحصل بالبحث عن أسرارها.
البحث الثانى فى بيان ما يجب مراعاته من حسن التركيب
اعلم أن هذا النظر إنما يختص بالمفردات فإنها وإن كانت مختلفة أعنى مفردات الحروف فى العذوبة والسلاسة فإن شيئا منها غير مستكره، لكن الاستكراه إنما يعرض من أجل التأليف لما يحصل بسببه من التنافر والثقل، فلأجل هذا كانت العناية فى أحكام التركيب والتأليف لأنه ربما حصل على وجه يفيد رقة اللفظ وحلاوته فيكون حسنا، وربما حصل على وجه يفيد ثقلا وتعثّرا فى اللسان فيكون قبيحا، فإذن العناية كلها فى التركيب فنقول:
قد بان من حسن تصرف واضع اللغة امتناعه من الجمع بين العين والحاء، وبين الغين والخاء، ومن الجمع بين الجيم والصاد، وبين الجيم والقاف، وبين الذال المعجمة والزاى، وما ذاك إلا لما يحصل من تأليف هذه من البشاعة والثقل على الألسنة فى النطق، وليس ذلك من أجل ما يحصل من تقارب مخارج الحروف وتباعدها كما يزعمه ابن سنان وغيره من أرباب هذه الصناعة، فإنهم عوّلوا على أن القرب منها يكون سببا فى قبح اللفظ، والتباعد فى المخرج فيها يكون سببا فى حسن اللفظ، وهذا فاسد فإنه ربما يعرض لما كانت حروفه متباعدة استكراه فى النطق، وهذا كقولنا: «ملع» أى عدا فالعين من حروف الحلق، والميم من الشفة، واللام من وسط اللسان، ومع ذلك فإنها ثقيلة على اللسان ينبو عنها الذوق ولا تستعمل فى كلام فصيح، وربما عرض لما تقاربت حروفه حسن الذوق فى اللسان فكان حسنا ومثاله قولنا: ذقته بفمى، فإن الباء والفاء والميم كلها أحرف متقاربة شفوية وهى رقيقة حسنة يخف محملها على اللسان، فبطل ما عول عليه هؤلاء، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن مستند الإعجاب فى حسن تأليف اللفظة من هذه الأحرف العربية، إنما هو الذوق السليم، والطبع المستقيم، لا من أجل ما زعموه ويؤيد ما قلناه من ذلك وهو أن مستند الحسن والقبح والإعجاب والنفور فى تأليف الكلام إنما هو سلامة الطبع وتحكيم الذوق، هو أن الكلمة الواحدة إذا ألّفت تأليفا مخصوصا كانت فى غاية الركة على اللسان يزدريها كل من سمعها فإذا عكست صارت أرق ما يكون على الألسنة وألطف وأعجب، ومثاله قولنا: ملع فإنها ركيكة كما أشرنا إليه فإذا قلب تأليفها قلبا مخففا وقيل فيها «علم» من العلم كانت أوقع ما يكون فى الفصاحة وأدخل ما يكون فى الرقة واللطافة، والأحرف فيهما واحدة من غير اختلاف، وما وقع الاختلاف إلا فى التأليف لا غير، وربما وقع فى الألفاظ ما يكون هو ومقلوبه فى غاية الحسن والرقة لا مزية لأحدهما على الآخر، وهذا كقولنا «غلب» إذا قهر، فإذا قلبته قلت «بلغ» فهاتان اللفظتان سواء فى الفصاحة، وهذا كقولنا «ملح» الشىء من الملاحة، فإذا قلبته قلت فيه: «حلم» من الحلم والرجاحة، فكل واحد منهما لا مزيد على حسنه، وكل هذا يدلك على أن المعول عليه فى ذلك هو ما يجده الإنسان عند التأليف من الذوق والرقة، ولهذا فإنك ترى الكلمات المستعملة فى كلام الله تعالى والسنة النبوية مؤلفة تأليفا معجبا على نهاية اللطافة والرشاقة والرقة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه لابد من مراعاة أمور فى تأليف الكلمة لتكون فصيحة.
«أولها» : أن لا تكون تلك الأحرف متنافرة فى مخارجها فيحصل الثقل من أجل ذلك.
«وثانيها» : أن تكون معتدلة فى الوزن فإن الأوزان ثلاثة: ثلاثية ورباعية وخماسية، فأكثرها استعمالا هو الثلاثى، وما ذاك إلا لخفته، وأبعدها فى الاستعمال الخماسى لأجل كثرة حروفه، وأوسطها الرباعى لحصوله بين الأمرين، والتعويل فى ذلك على الذوق، فإنها ربما كثرت وهى خفيفة على اللسان كقوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ
[البقرة: 137] وكقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
[النور: 35] ، ولهذا عيب على امرىء القيس فى قوله:
غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص فى مثنّى ومرسل
وثالثها: توالى الحركات فإذا حصل سكون الوسط كان أعدل ما يكون وأرق وإن توال ثلاث فتحات فهو أخف من حصول الضم فى وسطه، فلهذا فإن فرسا، أخف من عضد، والمعيار فى ذلك هو عرضه على ما قلنا من تحكيم الذوق، ولهذا فإنه قد يتوالى ضمتان وهو غير ثقيل كقوله تعالى ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
[القمر: 47] وقوله: فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
[القمر: 57] فالتعويل على ما ذكرناه فى كل أحواله وبالله التوفيق.
البحث الثالث فى مراعاة المحاسن المتعلقة بمفردات الألفاظ
اعلم أن هذا البحث متعلقه اللفظة الواحدة على انفرادها، وهو مخالف لما سبق مما أودعناه البحث الثانى، لأنه نظر يختص مفردات الحروف، وكيفية تأليفها فلا جرم كان مخالفا لما قبله، واعلم أن من الناس من زعم أنه لا قبيح فى الألفاظ وأنها كلها حسنة لأن الواضع لا يضع إلا الحسن، وهذا فاسد لأمرين أما أولا فلأنه لو كان الأمر كما زعموه لكان لا تقع التفرقة بين الألفاظ فى الأبنية، والأوزان، والخفة، والثقل، ولما عرفنا تفاوتها فى ذلك تحققنا أن منها ما يكون فى غاية الرقة واللطافة، ومنها ما يكون فى نهاية الثقل والبشاعة، وأما ثانيا: فلأنه كان يلزم أن لا تقع التفرقة بين الشاذ، والمألوف، والنادر، والمستعمل، من جهة الوضع، فلما كان الأمر فى ذلك ظاهرا بطل ما توهموه. ولنضرب فى ذلك أمثلة ثلاثة توضح المقصود:
المثال الأول: أسماء الخمر كثيرة ترتقى إلى خمسين اسما كلها متفاوتة فلفظ الخمر أحسن من قولنا زرجون وإسفنط، ولفظ السلافة أعجب من قولنا قرقف وخندريس.
المثال الثانى: فى أسماء الأسد وهى كثيرة فقولنا: أسد أحسن من قولنا: فدوكس، وهرماس، وقولنا: ورد، وهزبر، أحسن من قولنا غضنفر وما ذاك إلا من أجل اختصاص بعض الألفاظ برقة ورشاقة تخالف اللفظ الآخر.
المثال الثالث: فى أسماء السيف فإن لفظ الصارم، والمهند، والسيف، أحسن من لفظ خنشليل فمثل هذا كيف يمكن دفعه، وأنت إذا تأملت جميع ما ورد من ألفاظ التنزيل والسنة الشريفة وجدتهما على نهاية الكمال فى مراعاة الألفاظ الرقيقة والخفيفة والمألوفة، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن الفصاحة فى الألفاظ المفردة يجب أن تكون مختصة بخصائص:
الخاصة الأولى: أن تكون اللفظة عربية قد تواضع عليها أهل اللغة، لأن الفصاحة والبلاغة مخصوصان بهذا اللسان العربى دون سائر اللغات من الفارسية والرومية والتركية فلا مدخل لهذه الألسنة فى فصاحة وبلاغة، نعم ليس بمنكر استعمال شىء من هذه اللغات على جهة التعريب له، وقد ورد فى القرآن الكريم استعمالها، وحسن موقعها لما عربت واستعملها العرب كما ورد فى «السجيل» و «الإستبرق» و «المشكاة» وورد فى اللغة العربية «كاللجام» و «الفرند» و «الإسفنط» وغير ذلك، وقد أنكر أبو بكر الباقلانى أن يكون فى القرآن شىء من غير لغة العرب، وهذا خطأ. فإن هذه الألفاظ لا يمكن إنكار ورودها فى القرآن ولا يسمع جعلها من لغة العرب، فإنها غير جارية على قياسها فى الأوزان والأبنية.
الخاصة الثانية: أن تكون جارية على العادة المألوفة فلا تكون خارجة عن الاستعمال، فتكون شاذة عن الاستعمال المطرد فى معناها، وبنائها، وإعرابها، وتصريفها، لأن كل واحد من هذه الأمور له قياس يحصره، ومعيار يضبطه يجرى على مطرد القياس والعادة المألوفة، ولأن الفصاحة إنما تكون إذا كان اللفظ جاريا على ما ذكرناه فلأجل هذا وجب مراعاة ما ذكرناه وأنت إذا تصفحت آى القرآن وألفاظ السنة النبوية وجدتها كلها جارية على المعيار الذى لخصناه ولا تخرجان عنه بحال، فما خالف أوضاع اللغة فهو مردود، كمن يضع لفظ السماء يريد به الأرض، وما خالف الأبنية المقيسة فهو مردود أيضا، وما كان أيضا مخالفا للأقيسة الإعرابية فى رفع الفاعل ونصب المفعول ومخالفا للأقيسة التصريفية من قلب الواو والياء المفتوح ما قبلها ألفا، فهو لحن مردود، والكلام الفصيح مجنّب عما ذكرناه.
الخاصة الثالثة: أن تكون تلك اللفظة خفيفة على الألسنة لذيذة على الأسماع حلوة فى الذوق، فإذا كانت اللفظة بهذه الصفات فلا مزيد على فصاحتها وحسنها، ولهذا فإن ألفاظ القرآن يخف جريها على اللسان وتلذها الأسماع ويحلو مذاقها، وما كان على خلاف ما ذكرناه فلا مزيد على قبحه، ومخالفته لمنهاج الفصاحة والبلاغة جميعا فيما يكون ثقيلا على الألسنة كريها وحشيا فى غاية البشاعة، ولنضرب له أمثلة:
المثال الأول: لفظة «جحيش» فإنه وقع فى شعر «تأبط شرا» فى أبيات الحماسة فى قوله:
يظل بموماة ويمسى بغيرها ... جحيشا ويعرورى ظهور المهالك
فإنها قبيحة جدا، ونظيرها قولنا: «فريد» فإنه بمعناها، وبينهما بون لا يدرك بقياس.
المثال الثانى قولنا: «اطلخمّ الأمر كما وقع لأبى تمام حيث قال «قد قلت لما اطلخم الأمر» فإن هذه اللفظة منكرة قبيحة مجانبة للكلم الفصيحة.
المثال الثالث قولهم جفخت كما وقع فى شعر أبى الطيب المتنبى قال:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم
والمراد فخرت وهذه اللفظة من مستقبحات الألفاظ ومستهجناتها فما هذا حاله ينبغى تجنبه.
الخاصة الرابعة: أن تكون اللفظة مألوفة فى الاستعمال فلا تكون وحشية، ويقرب معناها فلا يبعد تناوله، فيكون سهلا بالإضافة إلى لفظه، سريع الوقوع فى النفوس بالإضافة إلى معناه، وقد زعم بعض النظار من أهل هذه الصناعة أن الكلام الفصيح ما كان فى ألفاظه عنجهية الغرابة وبعد عن الأفئدة الإحاطة بمعناه وعز عن الأفهام إدراكه، فما هذا حاله يصفونه بالفصاحة، وهذا جهل بمحاسن الفصاحة وأوضاع البلاغة فإنك ترى ألفاظ القرآن والسنة النبوية مع بلوغهما كل غاية من الفصاحة بحيث لا يدانيهما كلام فى غاية البيان والظهور بالإضافة إلى ألفاظهما، وفى نهاية القرب بمعانيهما، وقد وصف الله كتابه الكريم بأنه بيان وتبيان، ولهذا فإنه لا يكاد يشكل من ألفاظ القرآن والسنة على أحد إلا من جهة التركيب لا غير، فأما مفرداتهما ففى غاية الوضوح والبيان والظهور، فمتى حصلت هذه الخواص التى ذكرناها لكل لفظة كانت الغاية، وعد الكلام فصيحا بلا مرية.
الخاصة الخامسة: أن يكون اللفظ مختصا بالجزالة والرقة ولسنا نعنى بالجزالة فى الكلام أن يكون وحشيا فى غاية الغرابة فى معانيه والوعورة فى ألفاظه، ولا نريد بالرقة أن يكون ركيكا نازل القدر سفسافا، ولكن المقصود من الجزالة أن يكون مستعملا فى قوارع الوعيد، ومهولات الزجر وأنواع التهديد، وأما الرقة فإنما يراد بها ما كان مستعملا فى الملاطفات واستجلاب المودة والبشارة بالوعد، والقرآن العظيم وارد بالأمرين جميعا، ولنورد من ذلك أمثلة ثلاثة موضحات مقصودنا مما نريده ههنا.
المثال الأول: فى الجزالة وما ورد فيها وهى مخصوصة بذكر أهوال القيامة، والتحفظ على الأوامر والمناهى عن الحدود، وحكاية إيقاع المثلات بالأمم الماضية وغير ذلك مما يكون خطابا جزلا وقولا فصلا لا هزلا قال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ
[الكهف: 47] إلى آخر الآية، وقال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ
[الزمر: 68] إلى آخر السورة وقوله تعالى:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ
[الأعراف: 133] وقوله تعالى: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
[الأنعام:
44] وقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ
[التوبة: 5] .
وأما الرقة فهو ما كان مستعملا فى الملاطفة والاستعطافات، وأنواع الترحم، ومحادثة القلوب، بذكر الله تعالى إلى غير ذلك، وذلك نحو قوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
[الشرح: 1، 2] إلى آخرها وقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
[البقرة: 186] إلى آخر الآية وقوله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)
[الضحى: 1، 2، 3] إلى غير ذلك من مواقع الملاطفة والإبذان بالرحمة والتقريب للعباد وإعلامهم بعظيم الرحمة والمغفرة.
المثال الثانى: ما ورد فى السنة النبوية على مثال ذلك وحذوه، أما الجزالة فكما قال عليه السلام: «يا بن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص كل يوم من عمرك وأنت تفرح، أنت فيما يكفيك وتطلب ما يطغيك لا بقليل تقنع، ولا من كثير تشبع» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أما رأيت المأخوذين على الغرة المزعجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلهم، فلا ما أمّلوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، قدموا على ما عملوا، وندموا على ما خلفوا، ولن يغنى الندم، وقد جف القلم» فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا الكلام من جزالة اللفظ.
وأما الرقة فكقوله صلّى الله عليه وسلّم «كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، واعدد نفسك فى الموتى، فإذا أمسيت فلا تحدثها بالصباح، وإذا أصبحت فلا تحدثها بالمساء، وخذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك» . وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله امرأ تكلم فغنم، أو سكت فسلم، إن اللسان أملك شىء للإنسان» إلى غير ذلك من الرقائق فى كلامه وأنواع الملاطفات.
المثال الثالث: ما ورد من كلام أمير المؤمنين، كرم الله وجهه فإنه قد تفنن فى أساليب الكلام، واستولى منه على بدائعه وغرائبه، وقد نبهنا على ذلك فى شرحنا لكلامه فى نهج البلاغة.
فأما الجزالة فمنها قوله لأصحابه: تجهزوا رحمكم الله فقد نودى فيكم بالرحيل، وأقلوا العرجة على الدنيا، وأخرجوا منها قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختبرتم، ولغيرها خلقتم، فقدموا بعضا، يكن لكم قرضا، ولا تخلفوا كلّا، فيكون عليكم كلّا.
فانظر إلى هذا الكلام ما أجزله وما أوضحه لبيان ما اشتمل عليه وتناوله.
وأما الرقة، فمنها قوله عليه السلام: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوى عن الغى والعدوان من لهج به، وقوله عليه السلام فى بعض مناجاته: اللهم صن وجهى باليسار ولا تبذل جاهى بالإقتار، فأفتن بحب من أعطانى، وأبلى ببغض من منعنى، وأنت من وراء ذلك كله ولى الإعطاء والمنع، إنك على كل شىء قدير.
وله عليه السلام فى تعليم الحرف، والوعظ، وتذكير الآخرة من الفخامة والجزالة، وفى الرقائق فى تعليم معالم الدين، وإرشاد الخلق إلى مكارم الأخلاق، كلام بالغ، ووعظ زاجر، ما لا يوازيه كلام، ولا يساوى نظمه وإن انتظم أى نظام.
البحث الرابع فى مراعاة المحاسن المتعلقة بمركبات الألفاظ
وهذا نحو التجنيس كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ
[الروم: 55] والترصيع، كقول عبد الرحيم بن نباتة الواعظ فى بعض خطبه:
الحمد لله عاقد أزمة الأمور بعزائم أمره، وحاصد أئمة الغرور بقواصم مكره.
والتصريع: وإنما يكون فى المنظوم الشعرى وغير ذلك من فنون البديع، فإن هذه الأمور كلها سنوردها فى فن المقاصد، ونظهر أسرارها وما اشتملت عليه من المحاسن.
فصار تأليف الألفاظ والكلم المفردة فى إفادتهما للفصاحة بمنزلة تأليف العقد وانتظامه، فلا بد فى ذلك من مراعاة أمور ثلاثة.
أولها: اختيار الكلم المفردة كما فصلناه من قبل، كاختيار مفردات اللآلىء وانتقائها فى حسن جوهرها وصورتها.
وثانيها: نظم كل كلمة مع ما يشاكلها أو يماثلها كما يحسن ذلك فى تركيب العقد ونظمه، لأنها إذا حصلت مع ما يشاكلها وقعت فى أحسن موقع وجاءت فى أعجب صورة.
وثالثها: مطابقة الغرض المقصود من الكلام على اختلاف أنواعه وتباين فنونه فلا بد من أن يكون موافقا لما أريد به بعد اختصاصه بالتركيب، وهو غرض عظيم، لابد من رعايته ونظيره فى العقد، فإنه بعد إحكام تركيبه وإتقان تأليفه لابد من مطابقته لما صيغ له فتارة يجعل إكليلا على الرأس، ومرة يجعل طوقا فى العنق، وقد يجعل شنفا على الأذن، وإذا خالف فى ذلك بطل المقصود وفات الغرض، فإذا جعل إكليل الرأس على غيره، أو جعل طوق العنق فى غيره بطل المقصود وفات الغرض، والكلام بعد تركيبه إذا وضعته فى غير موضوعه ولم تقصد به ما هو موضوع له انخرم المقصود به وكان خاليا عن البلاغة.
فالأمر الأول والثانى من هذه الأمور الثلاثة يتعلق بالفصاحة، لأنها من عوارض الألفاظ، ومجموع الثلاثة كلها هو المراد بالبلاغة، لأنها من عوارض الألفاظ والمعانى جميعا كما سنوضح التفرقة بينهما بمعونة الله تعالى فهذا ما يتعلق بخصوص الفصاحة.


 
 توقيع : تيماء









z.s




رد مع اقتباس
قديم 08-08-2018, 08:52 PM   #73


الصورة الرمزية تيماء
تيماء غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7482
 تاريخ التسجيل :  27 - 10 - 2016
 أخر زيارة : 02-01-2023 (09:51 PM)
 المشاركات : 106,303 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Lebanon
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Floralwhite
افتراضي



مجمع اللغة، ما هي مهمته؟
من كتاب المعارك الأدبية لأحمد أنور الجندي


هذه معركة جرت حول مهمة المجمع اللغوي، بدأها الدكتور طه حسين بآراء عرض فيها وجهة نظره في أمر المجامع اللغوية وعملها بمناسبة قرب دخوله إلى المجمع اللغوي الذي أنشئ في مصر سنة 1931 وظل الدكتور بعيدًا عنه، عارضه فيها الدكتور منصور فهمي وإسماعيل مظهر وجرت بينهم مناقشات انتهت بأن مهمة المجمع اللغوي الذي يقوم في مصر تختلف عن مهمة المجمع الفرنسي الذي أراد الدكتور طه أن نسير على نهجه، وذلك لمدى الفوارق في الاحتياجات اللازمة للغتنا والفرق بين اللغة العربية والفرنسية.
قال الدكتور طه حسين:
1- إنها لكارثة كبرى أن يكلف مثلي وضع الاصطلاحات في الطب والطبيعة والفنون العملية المختلفة ولو أن الأكاديمية الفرنسية عنيت بوضع الاصطلاحات للعلوم والفنون لكانت موضع سخرية الفرنسيين جميعا والعلماء في مقدمتهم, فمن العبث إذن أن يكلف المجمع وضع الاصطلاحات أو يضيع وقته فيها.
وهناك مسألة اللهجات فليس المجمع مدرسة وإنما تدرس اللهجات في معاهد خاصة تلحق بالجامعات وبكليات الآداب، وما أعرف المجمع الفرنسي مثلا عنى في يوم من الأيام باللهجات، بل هو يحاربها لأن عمله الأول إنما هو الاحتفاظ ببقاء اللغة وفصلها فإذا أريد درس اللهجات العربية القديمة كما تمثلها قراءات القرآن الكريم فهذه شيء متصل بالمعجم التاريخي وبالنحو والصرف, وهو شيء مخالف كل المخالفة لما يراد من درس اللهجات الحديثة.
رد الدكتور منصور فهمي:
إن وضع المصطلحات العلمية من صميم عمل المجامع. وأعضاء المجمع ليسوا لغويين فحسب، وإنما منهم من اختص أيضًا بعلوم غير علوم اللغة فعند اتصال بعضهم بالبعض الآخر ثمرة طيبة تعين على وضع مصطلحات علمية موقعة في مختلف نواحي العلوم والفنون.
1- أخالف الدكتور طه في رأيه بأن الأكاديمية الفرنسية لو عنيت بوضع الاصطلاحات للعلوم والفنون لكانت موضع سخرية الفرنسيين جميعًا.
وهل يسخر أحد حين يعلم أن جماعة من أهل اللغة يضعون اصطلاحات لما يرتجل ارتجالا تكون أوفق لروح اللغة وقد يستساغ بعضها وقد يصقل الاستعمال البعض الآخر.
ولا أظن أن الدكتور طه حسين حين يستفهم ويقول نصا "أي أعضاء المجمع" يستطيع أن يضع الأسماء لأي آلة من الآلات المستحدثة التي لا عهد للعرب بها يحسب أن كتابا من الكتاب يرضى أن يستخدم كلمتي "فرملة" أو "دريكسون" التي يستخدمها عامل السيارة في حين أن أدباء المجمع بل وكل أديب بل وكل من له إلمام يسير باللغة يجد لهاتين اللفظتين من لغة العرب ما يناسب ذوقها وذوق الناس.
2- ما قولكم في دراسة اللهجات التي تعرض لها الدكتور طه حسين؟
أما اللهجات فنعلم أن دراستها قد تعين على معرفة معنى الكلمة على وجهها الصحيح. فغير قليل من الكلمات قد تستخدم من ناحية أو في عدة نواح من البلاد العربية لمعنى من المعاني، وإن العناية بمعرفة هذه الألفاظ ومعانيها قد تعين على وضع كثير من المعاني والألفاظ موضعها الصحيح الأوفق فضلا عن أن اللهجات لم تخرج عن أنها جزء من تاريخ اللغة وتطورها. ومن أراد أن يزيد رسوخا في اللغة فليس له أن يهمل أجزاء تاريخها، زد على هذا أن البلاد العربية قد تعددت لهجاتها لدرجة الصعوبة في التفاهم أحيانًا وأنه من أمل مجمع اللغة المصري أن يكون لمصر مركز ممتاز بين البلاد العربية لتوحيد الأدوات والأساليب في التخاطب والكتابة والتفاهم بلغة مشتركة فصحى رقيقة فمن حقه إذن أن يعنى بلهجات البلاد العربية المختلفة، وذلك لدفع تلك اللهجات إلى لغة سليمة فصحى توحد بين الجميع في الكتابة والتخاطب.
وما كان المجمع حين أراد أن يستبقي العناية باللهجات بغافل عن معرفة حقيقة نفسه وأنه ليس مدرسة كما يقول الدكتور وأن من حق الكليات ومعاهد العلم العالية أن تعنى بدراسة اللهجات. ولكن المجمع رأى أن تقرير العناية بدراسة اللهجات يعينه على تحقيق أغراضه السامية في خدمة اللغة.
أما قول الدكتور "أنه لم يعرف أن المجمع الفرنسي عنى في يوم من الأيام باللهجات وأنه يحاربها". فأحسبني لا أخطئ إذا قلت: إن العناية بدراسة اللهجات وما يتصل بها فائقة في فرنسا وفي غير فرنسا بل هي من الدراسات التي يحرص عليها العلماء خصوصا في الزمن الأخير لتفهم قانون تطور اللغات وما يستفاد من هذه الدراسة لتنمية ثروة القوانين العلمية والتاريخ. وقد ألفوا في ذلك المصورات والأطالس الكبرى.
2- طه حسين :
الدكتور منصور فهمي أعلم بشئون المجامع اللغوية من أن يحتاج إلى أن أنبه إلى أن هذه المجامع ليس من شأنها ولا ينبغي أن يكون من شأنها ولم تزعم قط أن من شأنها وضع اصطلاحات العلوم والفنون وإنما هي تسجل من ذلك ما يصنعه العلماء وأصحاب الفن إذا لائم اللغة وفرضه الاستعمال.
مازلت أقول وسأقول دائمًا وسيقول المثقفون الفرنسيون معي دائما: إن المجمع اللغوي الفرنسي يضحك الناس من نفسه لو أنه انصرف إلى وضع الاصطلاحات في العناية بصفاء اللغة ونقائها، فالعلماء وحدهم هم الذين يضعون اصطلاحاتهم وألفاظهم الخاصة وما ينبغي لغيرهم أن يتطفل عليهم أو يشاركهم في تسمية ما لا يتقنه من معاني العلم واصطلاحاته.
إن الأمور تقلب أوضاعها في مصر فنحن نريد أن يذهب الأطباء إلى أعضاء المجمع اللغوي يلتمسون منهم الأسماء لمعاني الطب التي لا يحسنونها ولعلهم لا يعرفون عنها قليلا ولا كثيرا على حين يذهب أعضاء المجمع اللغوي الفرنسي إلى الأطباء يسألونهم عن معاني الكلمات الطبية التي يفرضها الاستعمال والتي يحتاج إلى أن تأخذ مكانها في المجمع اللغوي.
3- إسماعيل مظهر :
لأول وهلة أدركت أن الأستاذ "طه حسين" يحاول أن يثبت أن لمجامع اللغة طبيعة واحدة لا تختلف باختلاف الشعوب واللغات وظروف الأحوال فمضى يطبق القواعد التي يجري عليها مجمع اللغة الفرنسي مثلا على ما يجب أن يكون لمجمع اللغة العربية كأن الطبيعة والتاريخ لا حساب لهما في قياس الفارق بين اللغتين "اللغة العربية واللغة الفرنسية" وحال الشعبين.
"أما ما ذكره" من أن المجامع اللغوية لا شأن لها بوضع المصطلحات العلمية وأخذه المثل على ذلك من المجمع الفرنسي ووضع بذلك مقياسا على الفارق البعيد والبعيد جدًا فلا جدال إطلاقا من أن المجمع اللغوي الفرنسي لن يقبل كلمة واحدة أو اصطلاحا يضعه عالم من العلماء أو مؤلف من المؤلفين ما لم ينطبق على القواعد المرعية في اللغة الفرنسية أولا أو في اللغتين اليونانية واللاتينية إذا كان المصطلح منهما، وإذا جاز هذا فإن ذلك يكون بمثابة حكم بالإعدام على المجمع يوقعه أعضاؤه على أنفسهم، فالمجمع الفرنسي يجيز المصطلحات الحدثية متى كانت صحيحة مطابقة لقواعد اللغات التي تؤخذ منها.
إن طبيعة لغتنا والظرف القائم بيننا يجعل من أوليات المهام التي يجب أن يباشرها مجمع اللغة العربية النظر في وضع المصطلحات العربية الصحيحة مع الاستعانة بأهل الذكر من العلماء الذين هم على استعداد للتضحية في سبيل اللغة، لا أهل الذكر الذين يضنون على المجمع بجهودهم وكثير ما هم, أهل الذكر الذين يستطيعون التأليف باللغة العربية ولا يستكبرون أن تصحح لغتهم أو مصطلحاتهم التي يستعملونها إسرافًا بالأخذ من الأصول الأعجمية بغير حساب.
4- الدكتور منصور فهمي:
إني أعلم أن المجامع تسجل ما يلائم اللغة وما يفرضه الاستعمال إذا لاءم اللغة ومنذ القديم عربت كلمات ودخلت في معاجمها لمواءمتها أو أشير إلى أنها معربة؛ ولكن هل علمت أن لغة من اللغات الراقية الحية أو معجما من معاجمها القائمة لخدمتها وسلامتها يجيز أن نسجل لفظا فرضه استعمال عامة الناس أو فرضه استعمال أهل حرفة من الحرف أو طائفة من الطوائف دون أن يكون حقا هذا اللفظ ملائما للغة صحة أو وضعا أو قالبا، فمن هو ذلك الحكم الذي يحتكم إليه لمعرفة ما إذا كان اللفظ ملائما للغة أو نابيا عنها أو هناك في اللغة ما يعوض عنه.
حدثني الأستاذ "فيشر" أن علماء الكيمياء والطبيعة من الألمان يستعينون بزملائهم العلماء في اللغات القديمة لعونهم على وضع مصطلحات في الكيمياء وفي الطبيعة فهل كان في ذلك خير.
بل على العكس كان ذلك الدليل القاطع على أن أهل العلم يحتاجون لعلماء اللغة وأن ذلك يحصل كل يوم في فرنسا التي يستشهد بها الدكتور وفي غير فرنسا من البلاد.
المسألة إذن ليس أمرها واضحا وحظها من البداهة لا يحتمل الخلاف.
بل إن المسألة هي خلاف بعيد في الرأي بيني وبينك.
فأنا أرى أن من عمل المجمع وضع المصطلحات الموافقة لسلامة اللغة وذوقها وأن من عمله مؤازرة العلماء وأهل كل فن وحرفة لتسمية المسميات الحديثة وأنت ترى أن أهل الحرفة وأهل العلم وحدهم هم الذين يضعون هذه المصطلحات حتى "دون أن يشاركهم في تسمية ما لا يتقنه من معاني العلم واصطلاحاته أحد".
تبارك الله يا صاحبي. إن الحياة كلها تقوم على التآزر والتعاون فالأمور لا تقلب أوضاعها في مصر كما تقول.
الأطباء يتصلون بأعضاء المجمع يلتمسون فهم الأسماء العربية لمعاني الطب وعندي أن مثل هذا هو وضع للأمور في مواضعها وسواه هو القلب العنيف.
أما اللهجات فأعود وأقول: لم يكن من مهمة المجمع أن يبحث فيها ليتوصل إلى توحيدها. لا لإحياء الميت منها وذلك بإصلاح ما فسد من مفرداتها ورده إلى الأصل العربي السليم الصافي وبهذا الاعتبار حرص المجمع على الاشتغال بمختلف اللهجات.
ومن أهم الأسباب التي تدعو إلى البحث في اللهجات هو الوقوف على وسائل تطورها في مختلف العصور إذ إن ذلك يعين على معرفة نفس التطورات التي حدثت في العربية الفصحى قبل أن تبلغ وحدتها.
5- طه حسين:
إذا أردت الحق فإن مجمعنا اللغوي قد أنشئ على عجل, وأخشى أن يكون إنشاؤه الأول قد قصد به الدعاية السياسية أكثر مما قصد به إلى المصلحة الحقيقة وإلا فقد كان الملائم لمصلحة مصر أن ينشأ فيها مجمع على طراز المجمع العلمي الفرنسي لا على طراز المجمع اللغوي.
حرام1 عليكم أيها الأصدقاء فلا يباح لكم أن تقتلوا هذه العامية الحلوة فإنا نجد في اختلافها لذة ومتعة وعزاء في كثير من الأحيان.
6- منصور فهمي :
حرام عليك أن تشجع تبلبل اللهجات وتطري اختلافها، فاللغة العربية هي التي تجمع بين البلاد العربية فلتكن موحدة في اصطلاحاتها اللغوية ولتكن موحدة في جمال نطقها فذلك أحرى للجمع والترابط والتفاهم.
فأنا أقول لك إنه حلال أن تقتل لهجات قد تقوى فتتحول إلى لغات مختلفة تفرق بين بعض الأهل والبعض الآخر وحلال أن نسعى نرتفع باللهجات إلى لغة عربية موحدة فصحى تجمع بين أهل اللغة العربية الموحدة. ثم توحد في الثقافة إخوانا في اللسان والإنسانية والبيان.
7- طه حسين:
إن المجمع الفرنسي لا ينظم لجانه على هذا النحو المصري الطريف الذي يفرض فيه الخبراء فرضًا لأن المجمع الفرنسي لا يكلف نفسه ولا يكلف أحد ما لا يطيق من وضع الاصطلاحات العلمية. ولو قد كلفه أحد ذلك لرفضه لأنه يرفع نفسه عن العرض لما لا يحسن.
واللهجات إن حديثها لعجب، ماذا يراد من مجمعنا اللغوي أن يصنع؟ بل وكيف يكون درسه لها وقوله فيها؟
إنني أحقق أن الذين يفرضون على مجمعنا درس اللهجات لم يصوروا لأنفسهم هذا الموضوع تصويرا واضحا.
كلا. إن لعلم اللهجات خطره وقيمته ولكن مكانه في الجامعة لا في المجمع, وإذا عرض المجمع له فإنما يعرض له مصادفة حين يحتاج إلى ذلك بين حين وحين. فأما أن يفرض درسه والعناية الخاصة به على المجمع فشيء لا يفهم ولا يستقيم.


 
 توقيع : تيماء









z.s




رد مع اقتباس
قديم 08-08-2018, 08:53 PM   #74


الصورة الرمزية تيماء
تيماء غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7482
 تاريخ التسجيل :  27 - 10 - 2016
 أخر زيارة : 02-01-2023 (09:51 PM)
 المشاركات : 106,303 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Lebanon
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Floralwhite
افتراضي



باب التصرف ونقد الشعر
من كتاب العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق القيرواني



يجب للشاعر أن يكون متصرفاً في أنواع الشعر: من جد وهزل، وحلو وجزل، وأن لا يكون في النسيب أبرع منه في الرثاء، ولا في المديح أنفذ منه في الهجاء، ولا في الافتخار أبلغ منه في الاعتذار، ولا في واحد مما ذكرت أبعد منه صوتاً في سائرها؛ فإنه متى كان كذلك حكم له بالتقدم، وحاز قصب السبق، كما حازها بشار بن برد، وأبو نواس بعده.
حكى الصاحب بن عبادة في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال: حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال: حضرت بمجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد حضره البحتري، فقال: يا أبا عبادة، أمسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس؛ لأنه يتصرف في كل طريق، ويبرع في كل مذهب: إن شاء جد، وإن شاء هزل، ومسلم، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ولا يتحقق بمذهب لا يتخطاه فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير، ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله؛ فإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة، إن حكمك في عميك أبي نواس ومسلم وافق حكم أبي نواس في عميه جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما ففضل جريراً، فقيل: إن أبا عبادة لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من علم أبي عبيدة؛ فإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر، وقد خالف البحتري أبا نواس في الحكم بين جرير والفرزدق، فقدم الفرزدق، قيل له: كيف تقدمه وجرير أشبه طبعاً بك منه؟ فقال: إنما يزعم هذا من لا علم له بالشعر، جرير لا يعدو في هجائه الفرزدق ذكر القين وجعثن وقتل الزبير، والفرزدق يرميه في كل قصيدة بآبدة، حكى ذلك غير واحد من المؤلفين.
فإذا كان هذا فقد حكم له بالتصرف، وبهذا أقول أنا، وإياه أعتقد فيهما، وإذا لم يكن شعر الشاعر نمطاً واحداً لم يمله السامع، حتى إن حبيباً ادعى ذلك لنفسه في القصيدة الواحدة فقال:
الجد والهزل في توشيع لحمتها ... والنبل والسخف، والأشجان والطرب
وقد كان إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:
لا يصلح النفس إذ كانت مصرفة ... إلا التصرف من حال إلى حال
وأنشد الصاحب لأبي أحمد يحيى بن علي المنجم في نقد الشعر:
رب شعر نقدته مثل ما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا
ثم أرسلته فكانت معاني ... هـ وألفاظه معاً أبكارا
لو تأتى لقالة الشعر ما أس ... قط منه الحلو به الأشعارا
إن خير الكلام ما يستعير النا ... س منه ولم يكن مستعارا
وقال الجاحظ:
طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب: كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبد الملك الزيات.
قال الصاحب على أثر هذه الحكاية: فلله أبو عثمان، فلقد غاص على سر الشعر، واستخرج أرق من السحر.


 
 توقيع : تيماء









z.s




رد مع اقتباس
قديم 08-08-2018, 08:54 PM   #75


الصورة الرمزية تيماء
تيماء غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7482
 تاريخ التسجيل :  27 - 10 - 2016
 أخر زيارة : 02-01-2023 (09:51 PM)
 المشاركات : 106,303 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Lebanon
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Floralwhite
افتراضي



أسرار النظام اللغوي
من كتاب تاريخ آداب العرب للرافعي


لا نريد بمعنى النظام هذه الأحكام الظاهرة في اللغة كالإعراب، والتصريف والقواعد اللسانية، من نحو عدم الجمع بين ساكنين أو متحركين متضادين؛ فهذا كله ليس إلا أسبابًا للنظام الذي نشرحه في هذا الفصل، وهو يشبه النظام النفسي من حيث تعلقه بالحكمة التي تضبط عواطف النفس وخطراتها؛ وقد رأينا ذلك في اللغة على ثلاثة ضروب:
1- نظام الألفاظ بالمعاني.
2- نظام المعاني بالألفاظ.
3- النظام المطلق، وهو نظام القرينة أو الحس النفسي.
نظام الألفاظ بالمعاني:
والمراد به مساوقة الصيغ اللفظية للمعاني الموضوعة لها؛ وقد ألممنا بأشياء منه في باب الاشتقاق، وذكرنا ثمة أن لابن جني صاحب "الخصائص" كلامًا في هذا المعنى؛ وابن جني هذا هو أول من ناهض هذا البحث اتقانًا؛ وتخلى بأمره افتنانًا؛ وإنما كان العلماء قبله يستروحون إلى أشياء منه عند الضرورة يتعللون به، وأكثرهم لزومًا لذلك شيخه أبو علي الفارسي1؛ ولهذا وضع ابن جني كتابه "الخصائص" لبيان ما أودعته هذه اللغة من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائم الإتقان والصنعة؛ أقام فيه القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بدئ وإلام نمي؛ وقال في المعنى الذي عقدنا له هذا الفصل: إنه غور من العربية لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به، وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلًا مسهوا عنه.
ومما حاوله في كتابه مما يتعلق بغرضنا سبعة أمور:
1- إثبات أن العرب تقارب حروب الألفاظ متى تقاربت معانيها، كقوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] أي: تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى "تهزهم هزا" والهمزة أخت الهاء، فكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة؛ لأنها أقوى من الهاء، كما أن المعنى نفسه أعظم في النفوس من الهز؛ لأنك قد تهز ما لا حراك له، كالجذع ونحوه؛ أي: فيبقى الهز المقرون بالإزعاج خاصا بذي الحياة؛ لأنه متعلق بالشعور؛ وذلك ما أفادته الهمزة وحدها.
2- إن هذه المقاربة بين الحروف تقع فيها المراعاة حتى في الحروف البعيدة التي لا تتشابه إلا بالتأويل، كقوله إن تركيب "ع ل م" في العلامة والعَلَم، وقالوا مع ذلك: بيضة غرماء، وقطيع أغرم، إذا كان فيه سواد وبياض، وإذا وقع ذلك بأن أحد اللونين من صاحبه، وكان كل واحد منهما "علمًا" للآخر، وهذا المعنى من "غ ر م" ولكنه مقارب لتركيب "علم" كما ترى!
3- إن المقاربة قد تكون بالمضارعة في الأصل الواحد بالحرفين، كسَحَل وصَهل "في معاني الصوت" فالصاد أخت السين، والهاء أخت الحاء، وسَحَل وزحر "في الصوت أيضًا" فالسين أخت الزاي، واللازم أخت الراء.
4- إن من المضارعة نوعًا أحكم من هذا، وهو المضارعة بالأصول الثلاثية في الفعل "الفاء والعين واللام" نحو: عصر الشيء وأزله، إذا حبسه، قال: والعصر ضرب من الحبس، والعين أخت الهمزة والصاد أخت الزاي والراء أخت اللام، ونحو: الأزم "أي: المنع" والعصب "أي: الشد"، فالمعنيان متقاربان، والهمزة أخت العين، والزاي أخت الصاد، والميم أخت الباء، وقد أتى بأمثلة من ذلك ثم قال: وهذا موجود في أكثر الكلام، وإنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه، بل من إذا وضح له وكشفت عنده حقيقته، أطاع طبعه له فوعاه، وهيهات ذلك مطلبًا، وعز فيهم مذهبًا.
5- إثبات أن العرب يصورون اللفظ على هيئة المعنى، وهذا مذهب قد نبه عليه الخليل وسيبويه، قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة، فقالوا: "في العبارة عنه" صر، وتهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صَرْصَر، وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على فَعَلان "بثلاث حركات" إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو: الغَلَيان، فقابلوا بتوالي الحركات في المثال توالي الحركات في الأفعال.
قال ابن جني: ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء على سمت ما حداه ومنهاج ما مثلاه؛ منها أن المصارد الرباعية المضعفة تأتي للتكرر والزعزعة: كالقلقلة والصلصلة إلخ؛ وإن الفَعَلى من المصادر والصفات تأتي للسرعة نحو: الجَمَزَى والوَقَلى إلخ؛ ومنها أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلًا على تكرير الفعل، نحو: كسر وقطع إلخ؛ وإنما خصوا العين بذلك؛ لأنها أقوى حروف الفعل، إذ الفاء قد تحذف، نحو: عِدَة وزِنَة، أصلها وعْدَة، ووزنة، واللام كذلك، نحو يد وفم، أصلهما: يَدَو، وفَمَو، ولكن قلما تجد الحذف في العين؛ فلما كانت الأفعال دليلة المعاني، كرروا أقواها، وجعلوه دليلًا على قوة المعنى المحدث به، وكذلك يضعفون العين للمبالغة، نحو: أسد غَشَمْشَم، ويوم عَصَبْصَب، ونحو: اعْشَوْشَب المكان، واغْدَودن الشعر إلخ. قلنا: ومن هذا الباب ما ذكره ابن فارس أنه سمع من يثق به يقول إن العرب تشوه صورة اللفظ وتقبحها لمقابلة مثل ذلك في المعنى، كقولهم للبعيد ما بين الطرفين المفرط الطول: طِرِماح، وإنما أصله من الطّرح، وهو البعيد، لكنه لما أفرط طوله سمي طرماح؛ ومثل ذلك كثير في أبواب الصفات.
6- ومن نظام الألفاظ بالمعاني أنهم يقابلوا الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، فيجعلون كثيرًا أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر عنها كقولهم: خَضم، وقَضم، فالخضم لأكل الشيء الرطب، والقضم لأكل الشيء الصلب اليابس، فاختاروا الخاء من أجل رخاوتها للرطب، والقاف من أجل صلابتها لليابس، فحذوا بمسموع الأصوات على حذو مسموع الأحداث. ومن ذلك النَّضْح، للماء الخفيف، لرقة الحاء، والنضخ لما هو أقوى منه، وذلك لغلظ الخاء. ومنه أيضا قولهم: القد، للقطع طولًا، والقط، له عرضًا؛ وذلك لأن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعًا له من الدال، فجعلوا الطاء لقطع العرض لقربه وسرعته، والدال لما طال من الأثر وهو قطعه طولًا، والأمثلة من ذلك كثيرة في اللغة تبادر من يلتمسها، وقد أتى ابن جني بعدة منها، ونقل السيوطي في أوائل "المزهر" عن غيره أشياء أخرى وكلها تدل على أنهم يضبطون الألفاظ المقترنة المتقاربة بالمعاني، فيجعلون الحرف الأضعف فيها، والألين والأخفى والأسهل والأهمس، لما هو أدنى وأقل وأخف عملًا أو صوتًا، ويجعلون الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر، لما هو أقوى عملًا وأعظم حسنًا؛ ومن أجمع الأمثلة لذلك ما أورده الثعالبي في "فقه اللغة"، قال: إذا أخرج المكروب أو المريض صوتًا رقيقًا فهو الرنين، فإن أخفاه فهو الهنين، فإن أظهره فخرج خافيًا فهو الحنين، فإن زاد فهو الأنين، فإن زاد في رفعه فهو الحنين.
7- إنهم قد يضيفون إلى اختيار الحرف تشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها, وتقديم ما يضاهي أول الحدث "المعنى" وتأخير ما يضاهي آخره؛ سوقًا للحرف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب، كقولهم: شد الحبل؛ فالشين لما فيها من التفشي تشبه بصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليها إحكام الشد والجذب، فيعبر بالدال التي هي أقوى من الشين لاسيما وهي مدغمة فهي أقوى لصيغتها وأدل على المعنى الذي أريد بها. وكذلك: جز الشيء، قدموا الجيم؛ لأنها حرف شديد، وأول الجر مشقة على الجار والمجرور جميعًا، ثم عقبوا ذلك بالراء، وهي حرف تكرير، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض اضطرب في غالب الأمر صاعدًا عنها ونازلًا، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق؛ فكانت الراء لما فيها من التكرير؛ ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها، أوفق بهذا المعنى من جميع الحروف.
ومما يلتحق بهذا الباب الذي هو نظام الألفاظ بالمعاني، ما وضعوه من حكاية الأصوات، وذلك أنهم يشتقون اللفظ من نفس الصوت القائم بمعناه على جهة الحكاية وتصوير الأشياء بأصواتها، وهذا النوع يعده أدباء الغربيين من مبدعات القرائح, ومما يحضرنا منه للعرب قولهم في حكاية صوت مصراعي الباب الكبير إذا أغلق: جَلَنْبَلَقَ، وقول الشاعر:
جرت الخيل فقالت حبَطَقْطَق
قول الآخر في الإبل: "تداعين باسم السيب" يحكي صوت مشافرها؛ وهذا غير الأصوات التي يعبرون بها عن الأحداث وإن كانت مشتقة منها، كالعطعطة للأصوات المتتابعة في الحرب، والقهقهة للاستغراب في الضحك، وأمثال لذلك كثيرة.
نظام المعاني بالألفاظ:
والألفاظ في هذا النوع هي التي تسوس المعاني وتنزلها في منازلها وتضعها على أقدارها، لا من حيث إن اللفظ هو الذي يوجد المعنى، فذلك ظاهر الاستحالة، ولكن على أنه هو الذي يخصص المعنى إذا كان جنسًا، وهو الذي يؤكد مبالغة في تلوين صورته النفسية حتى تنطق أجزاؤه، وحتى يقوم كل جزء منها في البيان اللغوي مقام الكل الذي هو مادة الشعور الطبيعي.
ولما كانت اللغة عملًا نفسيا محضًا، كان وجود هذا النوع فيها من أخص الدلائل على تمدنها؛ لأن النظام الذي يعين درجات المعاني إنما يفصل أجزاء الموجودات على درجات شعور النفس بذوات هذه الأجواء أو بصفاتها، وهذا لا يستقيم إلا إذا كان في اللغة حياة باطنة تشبه ما في الإنسان الراقي مما يسمى بالكمال أو الحياة الروحية العالية، حتى تتكافأ النفس واللغة في تصور أجزاء المعاني وتصويرها.
ولقد أثبت العلماء أن أظهر ما يكون الفقر في اللغات المنحطة، إنما هو في أنواع الدلالة المعنوية، فكلما انحطت اللغة قلت فيها هذه الأنواع، حتى لتبلغ بها تلك القلة أحيانًا إلى أن تشبه الجماد في تجرده من الشعور ومعانيه؛ ووجدوا من لغات القبائل المتوحشة في أواسط أفريقيا ما ليس فيها ألفاظ تعبر عن الحب والمؤاخاة والعبادة ونحوها من أمهات المعاني النفسية، كأن مادة تلك اللغات من الإحساس الحيواني المحض.
والعربية تعتبر أحكم اللغات نظامًا في أوضاع المعاني، وسياستها بالألفاظ، وهي من هذا القبيل أعظمها ثروة وأبلغها من حقيقة التمدن بحيث لا تدانيها في ذلك لغة أخرى كائنة ما كانت، فالعرب لم يدعوا معنى من المعاني الطبيعية التي تتعلق بالحياة الروحية أو البدنية مما تهيأ لهم إلا رتبوا أجزاءه وأبانوا عن صفاته بألفاظ متباينة تعين تلك الأجزاء والصفات على مقاديرها؛ فأول معاني الحياة الروحية الحب، وهذه مراتبه عندهم: الهوى، ثم العلاقة، وهي الحب اللازم للقلب؛ ثم الكَلَف، وهو شدة الحب؛ ثم العشق، وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب؛ ثم الشعف، وهو إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، فإن تلك حرقة الهوى وهذا هو الهوى المحرق؛ ثم الشغف، وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب وهي جلدة دونه، ثم الجوى، وهو الهوى الباطن؛ ثم التيم، وهو أن يستعبده الحب؛ ثم التبل، وهو أن يسقمه الهوى؛ ثم التدليه، وهو ذهاب العقل من الهوى؛ ثم الهيوم، وهو أن يذهب على وجهه لا يستقر، وذلك لغلبة الهوى عليه، ومنه رجل هائم.
وكذا فعلوا في معاني السرور والعداوة والغضب الحزب والسرعة وغيرها؛ ومن معاني الحياة البدنية أصول المعاش الطبيعية التي هي قوام أمرهم: اللبن، فإن له نحو سبعين اسمًا باعتبار اختلاف أحواله، وقد ذكرها السيوطي كلها في "المزهر" "الفصل 15- النوع 29"؛ وكذلك الخيل والإبل والشاء، ثم صفاتها وتسمية أجزائها ونحو ذلك مما نكتفي لشهرته بالإشارة إليه.
وعلى أكثر هذا النوع من نظام المعاني بالألفاظ بَنَى الثعالبي كتابه "فقه اللغة" وهو أشهر من أن ينبه عليه، ولذا أوجزنا في أمثلته اكتفاء، بالدلالة على مظنتها، والحقيقة تنهض بها الكلمة الواحدة.
ومما ننبه إليه في هذا الفصل، أن أرقى الأمم مدنية إذا بلغت فيها المعاني النفسية مبلغ الهرم، وتعلقت بها الخواطر من كل جهة بحيث تفصل أجزاءها تفصيلًا؛ فجهد الأمة عند ذلك أن تحيط المعنى باصطلاحات علمية، وتعرف حوادثه على نحو ما تعرف به فصول العلوم، كالحب مثلًا، فإن مراتبه التي يشير إليها العرب بالألفاظ المتقدمة يشير إليها غيرهم بتعاريف وفصول واصطلاحات، ثم لا تعدو بعد ذلك كله ما كان يفهمه العرب منها برقة شمائلهم ولطف حواسهم النفسية؛ فكأنهم لما عدموا العلوم جعلوا ألفاظهم فصولًا علمية، وذلك منتهى ما يكون من تمدن اللغات.
ثم أنت إذا تدبرت هذا النوع رأيته انتباهًا روحيا صرفًا، بيد أنه ممثل بالألفاظ، ورأيت فيما ترى كأن النفس العربي طيفًا يحرك اللغة حتى بأنفاس الخطرات، ويكشف لها كل عاطفة دقيقة ولو اختبأت في أشعة من النظرات!


 
 توقيع : تيماء









z.s




رد مع اقتباس
قديم 08-08-2018, 09:22 PM   #76


الصورة الرمزية تيماء
تيماء غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7482
 تاريخ التسجيل :  27 - 10 - 2016
 أخر زيارة : 02-01-2023 (09:51 PM)
 المشاركات : 106,303 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Lebanon
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Floralwhite
افتراضي



نظام القرينة:
وهو ما نسميه بالنظام البديع؛ لأنه في ظاهره نوع من الفوضى؛ وذلك أنهم يعتمدون في ضرب من كلامهم على اللمحة الدالة والإشارة التي تقع موقع الوحي، وعلى أضعف أثر يشير إلى وجه الكلام ومذهبه ويهدي إلى طريق المعنى فيه، ثم يطلقون الكلام إطلاقًا غير مقيد بنظام، ولا متبع لطريق غيره من سائر الكلام؛ وذلك نظم ينفردون به ولا تجد القليل منه في لغة غيرهم حيث تصيب أدلة النبوغ في أشعر الشعر ومأثور المنثور. وقد سماه علماؤنا "سنن العرب"، وعقد الثعالبي على أمثلة منه القسم الثاني من كتابه "فقه اللغة"، وسماه "سر العربية".
ونحن نرى أن هذا النوع لم يكن في اللغة إلا بعد أن انصرف العرب إلى صنعة الكلام، وهذبوا حواشيه، وبلغوا الغاية في تنميق الشعر وإجادته، وذلك قبل الإسلام بما لا يتجاوز مائة سنة على الأكثر؛ لأن التفنن في العبارات لا يأتي إلا من كمال صنعة الألفاظ؛ ولأن ما عرف للعرب من ذلك قليل في جنب ما أتى به القرآن الكريم، وهذا معنى من معاني إعجازه، إذ جعل من عبارته أزمة لعقولهم، فكان يلفتها فجأة عن المعنى الظاهر، ثم يبغتها بروح الكلام، فتكون لها بينهما هزة من الطرب الذي ينشأ عن إدراك العقل لما ليس في مقدوره مع رغبته فيه.
فمما ذكروه من سنن العرب التي يتحقق فيها نظام القرينة: مخالفة ظاهر اللفظ، كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره! فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه، وكذلك قولهم: هَبِلَته أمه، وثكلته، وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجل في رميه أو في فعل يفعله؛ ومنها الحذف والاختصار، فيقولون: والله أفعل ذاك، ويريدون لا أفعل؛ فيحذفون حرف النفي؛ ومنها ذكر الواحد والمراد الجمع، كقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} [الحجر: 68] وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77] والمراد الجماعة. وذكر الجمع والمراد واحد أو اثنان، كقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} [التوبة: 66] وهو يريد واحدًا، وقوله في خطاب موسى وأخيه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النحل: 37] "والخطاب لاثنين، وقوله في خطاب زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم. {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ "* فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وهما قلبان. ومنها صفة الجمع بصفة الواحد، كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] وصفة الواحد أو الاثنين بصفة الجمع، كقول العرب: ثوب أهدام، وجاء الشتاء وقميصي أخلاق1. ومنها أن تخاطب العرب الشاهد ثم تحول الخطاب إلى الغائب. وتخاطب الغائب ثم تحوله إلى الشاهد، وهو الالتفات المعروف في البديع؛ وأن تخاطب المخاطب ثم ترجع الخطاب إلى غيره، نحو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] الخطاب الأول للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والثاني للمشركين. ومنها الرجوع من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بدون تغيير في المعنى كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 13] أراد بكم، وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 21, 22] ومعناه: كان لهم، وقد جاء ذلك في الشعر أيضًا كما رواه ابن الأنباري في الأضداد. ومنها أن يبتدئ بشيء ثم يخبر عن غيره، كقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] فخبر عن الأزواج بلفظ {يَتَرَبَّصْنَ} وترك الذين, ومنها نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما كقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 19] وإنما يخرجان من الملح لا العذب, ونسبته إلى الجماعة وهو لأحدهم كقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] والقاتل واحد, وإلى أحد اثنين وهو لهما؛ كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . ومنها أن تأمر الواحد بلفظ أمر الاثنين، كقول العرب: افعلا ذلك، ويكون المخاطب واحدًا، وكان الفراء يرى في أصل ذلك أن الرفقة عند العرب أدنى ما تكون ثلاثة نفر، فيجري كلام الواحد على صاحبيه، ولذا كان شعراؤهم أكثر الناس قولًا: يا صاحبي، ويا خليلي. ومنها أن تأتي بالفعل بلفظ الماضي وهو حاضر، أو بلفظ المستقبل وهو ماض، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، أي: يأتي {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: ما تَلَتِ الشياطين. ومنها أن تأتي بالمفعول بلفظ الفاعل نحو: سر كاتم، أي: مكتوم، وأمر عارف، أي: معروف، وبالفاعل: على لفظ المفعول، كقولهم: بيع مغبون، ويكون المعنى غابنًا، ومنها وصف الشيء بما يقع فيه، كقولهم: ليلهم نائم، إذا ناموا فيه، وليلهم ساهر، إذا سهروه. ومنها البسط، بالزيادة في حروف الاسم والفعل متى أمن اللبس بقرينة تقتضي ذلك، كإقامة وزن الشعر وتسوية قوافيه، وعلى هذا قول بعضهم في صفة الظلماء.
وليلة خامدة خمودًا ... طخياء تخشى الجدي والفرقودا
فجعل الفرقد كما ترى، ثم قال فيها:
"لو أن عمرًا هم أن يرقودا"
يريد يرقد. ومنها القبض محاذاة لذلك البسط. وهو النقصان من عدد الحروف كقولهم: لاه ابن عمك؛ أي: لله، ودرس المنا، أي: المنازل؛ ومنها الإضمار للأسماء والأفعال والحروف، كقولهم: ألا يا اسلمي، أي: يا هذه، وقولهم: أثعلبا وتفر؟ أي: أترى ثعلبًا وتفر؟ وقوله طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أشهد الوغى
يريد أن أشهد الوغي. منها إقامة المصدر مقام الأمر، نحو: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] أي: فاضربوا، واسم الفاعل مقام المصدر، كقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] أي: تكذيب، واسم المفعول مقام المصدر نحو: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] أي: الفتنة. ومنها المحاذاة، وذلك أن تجعل كلامًا بحذاء كلام فتؤتى به على وزنه لفظًا وإن كانا مختلفين في أصل الوزن، وهذا النوع يسمى الازدواج أيضًا، كقولهم: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، فجمعوا الغداة وهي من الواو على غَدَايا، محاذاة للفظ العشايا وهي جمع العشية، وقول بعضهم:
هتاك أخبية ولاج أبوية
فجمع الباب على أبوية ليشاكل لفظ الأخبية. ومنها إتيانهم بالمصدر من غير الفعل لأن المعنى واحد، كقولهم: اجتوروا تجاورًا، وتجاوروا اجتوارًا، وانكسر كسرًا وكُسِر انكسارًا، وعليه قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] . ومنها مجيء صفات المؤنث على فاعل، كقولهم: امرأة بادن أي: بادنة، وجارية عاتق، بمعنى صغيرة، ومجيء فاعل في المؤنث بمعنى المفعول كقولهم: دابة حاسر، أي: حسرها السير. وغلالة رادع، أي: مردعة بالطيب بالزعفران في مواضع منها، وقد أفاض صاحب "المخصص" في أبنية المؤنث والمذكر مما يجري هذا المجرى "الجزء 16".
ومن سننهم العجيبة حذف الحرف وهو مقدر لصحة معنى الكلام، فيسقطون الوسيط تفننًا، كقوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوفكم بأوليائه، ومثله كثير في كلامهم، وقد عقد له ابن سيده بابًا في "المخصص" "الجزء 14".
ومنها أيضًا قلب الكلام تفننًا، كقول العباس بن مرداس:
فديت بنفسه نفسي ومالي
أي: فديت نفسه بنفسي ومالي، وقول الأعشى في قلب الإعراب:
ما كنت في الحرب العوان مغمرًا ... إذ شب حر وقودها أجزالها
وإنما هو: إذ شب حر وقودها أجزالها، ولكن روي القصيدة بالفتح. ولكل ما قدمناه أمثلة كثيرة، وإنما أوجزنا فيها؛ لأننا نرمي بما شرحناه إلى تعيين الجهات التي تحصر معاني التمدن في اللغة، وبيان كل شيء في حصر معانيه.
وبعد، فهذا ما حضرنا من القول في إثبات ما سميناه "تمدن العرب اللغوي" وهو كما ترى يصح أن يكون غرضًا لكتاب من أمتع الكتب، بيد أنه لا يخرج إلا من الصدر الرحب والقلب المعتزم، وبعد أن يتعاون على إخراجه الفكر الصحيح والذهن الشفاف والفطنة الوقادة، وبعد أن تبلغ به الوسائل في تصفح العربية ومقابلة معانيها ومعارضة ألفاظها بعضها ببعض، فإن ثم ما وصفناه وإلا فهو أمر منتشر ومذهب وعر وفن غامض وما برح ذلك شأن الحكمة من قديم؛ لأنها الطبقة الباطنة من كل الأشياء، حيث تخلق الأسرار، وتسدل عليها الأستار، فلا يرفع منها شيء إلا بعون من الله، وكل شيء عنده بمقدار.


 
 توقيع : تيماء









z.s




رد مع اقتباس
قديم 08-08-2018, 09:23 PM   #77


الصورة الرمزية تيماء
تيماء غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7482
 تاريخ التسجيل :  27 - 10 - 2016
 أخر زيارة : 02-01-2023 (09:51 PM)
 المشاركات : 106,303 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Lebanon
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Floralwhite
افتراضي



فصل فيما يحتاج مؤلف الكلام إلى معرفته
من كتاب سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي


الذي يحتاج مؤلف الكلام إليه من معرفة اللغة التي هي لغة العرب قدر ما يعرف كل شئ باسمه الذي وضعته له. ويجب أن يكون ذلك الاسم أفصح أسمائه إن كانت له عدة أسماء وقد بينا الطريق إلى معرفة الفصيح فيما مضى من كتابنا هذا فإذا عرف ما ذكرته من اللغة احتاج إلى معرفة ما يتصرف ذلك الاسم عليه من جمع وتثنية وتذكير وتأنيث وتصغير وترخيم ليورده على جميع ما يتصرف فيه صحيحا غير فاسد ولهذا افتقر إلى علم النحو وسأذكر قدر ما يحتاج منه فإذا علم ما أشرت إليه افتقر إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر كثيراً ليجد إذا ضاق به موضع أو حظر عليه وزن إيراد اسم العدول إلى غيره.
ويحتاج في علم النحو إلى معرفة أعراب ما يقع له في التأليف حتى لا يذكر لفظة إلا موضوعة حيث وضعتها العرب من إعراب أو بناء على حسب ما وردت عنهم وليس لأحد أن يظن أن هذا هو معرفة النحو كله والاشتمال على جميع علمه لأن الكثير من النحو علم تقدير مسائل لا تقع اتفاقا في النظم ولا في النثر وكذلك التصرف من علم النحو لا يكاد مؤلف الكلام يحتاج إلا إلى الشئ اليسير منه فأما أن يكثر منه حتى يسوغ له أن يبنى من الدال في قد مثل عصفور وغير ذلك من مسائل قد وضعت في هذا الجبس فما لا أرى النحوي يفتقر إلى معرفته فضلا عن غيره.
ويحتاج الشاعر خاصة إلى معرفة الخمسة عشر بحرا التي ذكرها الخليل ابن أحمد وما يجوز فيها من الزحاف ولست أوجب عليه المعرفة بها ولينظم بعلمه فإن النظم مبنى على الذوق ولو نظم بتقطيع الأفاعيل جاء شعره متكلفاً غير مرضى وإنما أريد له معرفة ما ذكرته من العروض لأن الذوق ينبو عن بعض الزحافات وهو جائز في العروض وقد ورد للعرب مثله فلولا علم العروض لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وبين ما لا يجوز.
يفتقر أيضاً من العلم بالقوافي إلى معرفة الحروف والحركات التي يلزم إعادتها وما يصلح أن يكون روياً أو ردفاً مما لا يصح. ويحتاج أيضاً إلى معرفة المشهور من أخبار العرب وأحاديثها وأنسابها وأمثالها ومنازلها وسيرها وصفة الحروب التي كانت لها وما له قصة مشهورة وحديث مأثور فإنه قد يفتقر في النظم إلى ذكر شئ منه ويكون للمعنى به تعلق شديد وإذا ورد استحسن.
ويحتاج الكاتب إلى جميع هذا أيضاً ويختص بما يفتقر إليه من معرفة المخاطبات وفنون المكاتبات والتوقيعات ورسوم التقليدات مع الاطلاع على كتاب الله تعالى وشريعته وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فإنه مدفوع إلى تقليد الولاة وعهود القضاة والتوقيعات في المظالم والمكاتبة في ضروب الحوادث.
وبالجملة أن مؤلف الكلام لو عرف حقيقة كل علم واطلع على كل صناعة لأثر ذلك في تأليفه ومعانيه وألفاظه لأنه يدفع إلى أشياء يصفها فإذا خبر كل شئ وتحققه كان وصفه له أسهل ونعته أمكن إلا أن المقصود في هذا الموضع بيان ما لا يسعه جهله دون ما إذا علمه أثر عنده علمه فإن ذلك لا يقف على غاية.
والوصية لهما لهما ترك التكلف والاسترسال مع الطبع وفرط التحرز وسوء الظن بالنفس ومشاورة أهل المعرفة وبغض الإكثار والإطالة وتجنب الإسهاب في فن واحد من فنون الصناعة فإن كلام الإنسان ترجمان عقله ومعيار فهمه وعنوان حسه والدليل على كل أمر لولاه لخفي منه وبحسب ذلك يحتاج إلى فضل التثقيف واجتماع اللب عند النظم والتأليف.


 
 توقيع : تيماء









z.s




رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
سطور , في , كتاب


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


RSS RSS 2.0 XML MAP HTML

الساعة الآن 06:51 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010