26-06-2018, 02:51 PM | #316 |
| فرأيك نجم في دجى الليل ثاقب ... وعزمك عضب في طلى كل ناجم وقال المشوق الشامي: ما زال يبني كعبة للعلى ... ويجعل الجود لها ركنا حتى أتى الناس فطافوا بها ... وقبلوا راحته اليمنى وقال المأموني من قصيدة: همام يبكي المشرفية ساخطا ... ويضحك أبكار الأماني راضيا ولو أن بحرا يستطيع ترقيا ... إليه لأم البحر جدواه راجيا ما قيل في الافتخار قالوا: أفخر بيت قالته العرب قول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا قال: دخل رجل من بني سعد على عبد الملك بن مروان فقال له: ممن الرجل؟ قال: من الذين قال لهم الشاعر: إذا غضبت عليك بنو تميم، البيت. قال: فمن أيهم أنت؟ قال: من الذين يقول فيهم القائل: يزيد بنو سعد على عدد الحصى ... وأثقل من وزن الجبال حلومها قال: فمن أيهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر: بنات بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غران قال: فمن أيهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر: فلا وأبيك ما ظلمت قريع ... بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا قال: فمن أيهم أنت؟ قال: من الذين يقول لهم الشاعر: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يستوي بأنف الناقة الذنبا قال: اجلس، لا جلست، والله لقد خفت أن تفخر علي! وقالوا: أفخر بيت قالته العرب قول الفرزدق: ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا! وقال عمرو بن كلثوم وهو أبلغ ما قاله جاهلي في الافتخار: ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العائفون إذا عصينا ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا وقال إبراهيم بن العباس: إما تريني أمام القوم متبعا ... فقد أرى من وراء الخيل أتبع يوما أبيح فلا أرعى على نشب ... وأستبيح فلا أبقي ولا أدع لا تسألي القوم عن حي صبحتهم ... ماذا صنعت وماذا أهله صنعوا وقالوا: من أحسن ما مدح به الرجل نفسه قول أعشى ربيعة: وما أنا في نفسي ولا في عشيرتي ... بمهتضم حقي ولا قارع سني ولا مسلم مولاي عند جناية ... ولا خائف مولاي من شر ما أجنى وأن فؤادي بين جنبي عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني وفضلني في الشعر واللب أنني ... أقول على علم وأعلم ما أعني فأصبحت إذ فضلت مروان وابنه ... على الناس قد فضلت خير أب وابن وقال أبو هفان: لعمري لئن بيعت في دار غربة ... بناتي إذ ضاقت علي المآكل فما أنا إلا السيف يأكل جفنه ... له حلية من نفسه وهو عاطل قال أبو هلال العسكري، ولا أعرف في الافتخار أحسن مما أنشده أبو تمام وهو: فقل لزهير إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتامين للمتشتم ولكننا نأبى الظلام ونقتضي ... بكل رقيق الشفرتين مصمم وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم ومن الافتخار قول السموءل بن عاديا من كلمته التي أولها: إذ المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل وقائلة ما بال أسرة عاديا ... تنادي وفيها قلة وحمول تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل وما قل من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل وأنا أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل |
|
26-06-2018, 02:52 PM | #317 |
| تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل صفونا فلم نكدر وأخلص سرنا ... إناث أطابت حملنا وفحول علونا إلى خير الظهور وحطنا ... لوقت إلى خير البطون نزول فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول وما أخمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمنا في النازلين نزيل وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول وأسيافنا في كل شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول معودة أن لا تسل نصالها ... فنغمد حتى يستباح قبيل سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول فإن بني الديان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول وقال أبو هلال العسكري من قصيدة: وما ضاع مثلى حيث حلت ركابه ... بل حيث ضاع المجد مثلى ضائع ومثلى مخضوع له غير أنه ... إذا كان مجهول الفضائل خاضع ومثلى متبوع على كل حالة ... فإن ينقلب وجه الزمان فتابع وقال عبد الله بن المعتز: سألتكما بالله هل تعلمانني ... ولا تكتما شيأ فعندكما خبري أأرفع نيران القرى لعفاتها ... وأصبر يوم الروع في ثغرة الثغر وأسأل نيلا لا يجاد بمثله ... فيفتحه بشرى ويختمه عذري ومن الافتخار قول بعض الشعراء، ويروي حسان بن ثابت من قصيدة أولها: أنسيم ريحك أم خيار العنبر ... يا هذه أم ريح مسك أزفر قولي لطيفك أن يصد عن الحشى ... سطوات نيران الأسى ثم اهجري وانهي رماتك أن يصبن مقاتلي ... فينال قومك سطوة من معشري إنا من النفر الذين جيادهم ... طلعت على كسرى بريح صرصر وسلبن تاجي ملك قيصر بالقنا ... واجترن باب الدرب لابن الأصفر كم قد ولدنا من كريم ماجد ... دامي الأظافر أو ربيع ممطر خلقت أنامله لقائم مرهف ... ولبذل مكرمة وذروة منبر يلقي الرماح بوجهه وبصدره ... ويقيم هامته مقام المغفر ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا ... فهدمت ركن المجد إن لم تصبر وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال ثوب أغبر أوما إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الأعداء إذ لم تنحر الجود والكرم وأخبار الكرام |
|
26-06-2018, 02:53 PM | #318 |
| حقيقة الجود بذل المال، قال الله عز وجل: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وقال تعالى: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله استخلص هذا الدين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزينوا دينكم بهما " وقال صلى الله عليه وسلم : " تجاوزوا عن ذنب السخي فإن الله عز وجل آخذ بيده كلما عثر وفاتح له كلما افتقر " وقال صلى الله عليه وسلم: " الجود من جود الله تعالى فجودوا يجود الله عليكم " . " ألا أن السخاء شجرة في الجنة أغصانها متدلية في الأرض فمن تعلق بغصن منها أدخله الجنة " . " ألا إن السخاء من الإيمان والإيمان في الجنة " . وقال علي بن عبد الله بن عباس: سادة الناس في الدنيا الأسخياء. وقال بعض الحكماء: الجواد من جاد بماله وصان نفسه عن مال غيره. وقيل لعمرو بن عبيد: ما الكرم؟ فقال: أن تكون بمالك متبرعا، وعن مال غيرك متورعا. ويقال: مراتب السخاء ثلاثة: سخاء وجود وإيثار، فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر، والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك بشيء، وهو أشرف درجات الكرم، وبه استحقوا ثناء الله عز وجل عليهم في قوله: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " . ومن كلام ينسب إلى جعفر بن محمد: لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره. الجود زكاة السعادة، والإيثار على النفس موجب لاسم الكرم، وقال: لا يستحي من بذل القليل فإن الحرمان أقل منه. قال بعض الشعراء: أعط القليل ولا يمنعك قلته ... فكل ما سد فقرا فهو محمود وقال علي بن الحسين: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بماله. وقال الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما: أيها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وأن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه. وقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود؟ قال: أن تعطي المال من لا تعرف، فإنه لا يصير إليه حتى يتخطى من تعرف. وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه: لو لم يكن في الكرم، إلا أنه صفة من صفات الله تعالى، تسمى بها فهو الكريم عز وجل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " . وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: إن الله عز وجل قد عودني بعادة أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عباده، وأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني. وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: إنك متلاف، قال: منع الجود، سوء ظن بالمعبود. قال الله تعالى: " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " . وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب: ذللوا أخلافكم للمطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلموها المكارم، ولا تقيموها على خلق تذمونه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم وتحلوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل، لتعجلوا الفقر، أخذه الشاعر فقال: أمن خوف فقر تعجلته ... وأخرت إنفاق ما تجمع فصرت الفقير وأنت الغني ... وما كنت تعدو الذي تصنع وكتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإنفاق على نفسه ويخوفه الفقر، فأجابه: " الشيطان يعد كم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعد كم مغفرة منه وفضلا " وإني أكره أن أترك أمرا قد وقع لأمر لعله لا يقع. وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر: من رزقه الله رزقا حسنا، فلينفق منه سرا وجهرا، حتى يكون أسعد الناس به، فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين، إما لمصلح، فلا يقل عليه شيء، وإما لمفسد، فلا يبقى له شيء. أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال: اسعد بمالك في الحياة فإنما ... يبقي خلافك مصلح أو مفسد فإذا جمعت لمفسد لم يغنه ... وأخو الصلاح قليله يتزيد وقال أبو ذر رضي الله عنه: لك في مالك شريكان الحدثان، والوارث، فإن استطعت أن لا تكون أبخس الشركاء حظا فافعل. وقال بزرجمهر الفارسي: إذا أقبلت عليك الدنيا، فانفق منها، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك، فانفق منها، فإنها لا تبقى، أخذ الشاعر هذا المعنى فقال: لا بتخلن بدينا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف |
|
26-06-2018, 02:54 PM | #319 |
| وكان كسرى يقول: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن ظن بالله، ولو أن أهل البخل، لم يدخل عليهم من ضر بخلهم، ومذمة الناس لهم، وإطباق القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف، لكان عظيما، أخذه محمود الوراق فقال: من ظن بالله خيرا جاد مبتدئا ... والبخل من سوء ظن المرء بالله وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: رأيت رغبته في الشكر، وحاجته إلى قضاء الحاجة، أشد من حاجة صاحبها. وقال زياد: كفى بالبخيل عارا، أن اسمه لم يقع في حمد قط. وقال أسماء بن خارجة: ما أحب أن أرد أحدا عن حاجة طلبها، لأنه لا يخلو أن يكون كريما، فأصون له عرضه، أو لئيما، فأصون عرضي منه. وقال إبراهيم بن المهدي: قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجف بيده قلم، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال، وإدخال المرافق على الضعفاء: أخبرني عن الحالة التي خففت عنك النصب، وهونت عليك التعب، في القيام بحوائج الناس، ما هي؟ قال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار، في فروع الأشجار، وسمعت خفق أوتاد العيدان وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قط، طربي من ثناء حسن، بلسان حسن، على رجل قد أحسن، ومن شكر حر لمنعم حر، ومن شفاعة محتسب، لطالب شاكر، قال إبراهيم: فقلت، لله أبوك! لقد حشيت كرما. وكان طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري من أجود قريش في زمانه، فقالت له امرأته: ما رأيت قوما ألام من إخوتك، فقال لها: لمه؟ وأني قلت ذاك؟ فقالت: أراهم إذا أيسرت أتوك، وإذا أعسرت تركوك، قال: هذا والله كرمهم، يأتوننا في حال القوة عليهم، ويتركوننا في حال العجز عنهم. وحكي أن رجلا شيخا أتى سعيد بن سالم، وكلمه في حاجة وما شاه، فوضع الشيخ زج عصاه التي يتوكأ عليها، على رجل سعيد حتى أدماها، فما تأوه لذلك، وما نهاه، فلما فارقه، قيل له: كيف صبرت على هذا منه؟ فقال: خفت أن يعلم جنايته، فينقطع عن ذكر حاجته. من انتهى إليهم الجود في الجاهلية وذكر شيء من أخبارهم والذي انتهى إليهم الجود في الجاهلية حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، وهرم بن سنان المري، وكعب بن مامة الإيادي، وضرب المثل بحاتم وكعب، والمشهور حاتم. وكعب هذا: هو الذي جاد نفسه، وآثر رفيقه بالماء في المفازة، ولم يشهر له خبر غير هذا. وأما حاتم فأخباره مشهورة. منها: أنه كان إذا اشتد البرد، أمر غلامه يسارا، فأوقد نارا في بقاع من الأرض، لينظر إليها من ضل عن الطريق، وفي ذلك يقول: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر عسى يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر قالوا: ولم يك حاتم يمسك غير سلاحه وفرسه، ثم جاد بفرسه في سنة أزمة. قالت النوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء، وضنت المراضع عن أولادها، لا تبض بقطرة، وأيقنا بالهلاك، فوالله، إني لفي ليلة صنبرة، بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغي صبيتنا جوعا، عبد الله، وعدي، وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت إلى الصبية، فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعللني، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تهورت النجوم، إذا بشيء قد رفع كسر البيت، فقلت: من هذا؟ فولى، ثم عاد آخر الليل، فقال من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عوى الذئاب، فما وجدت معولا إلا عليك أبا عدي، فقال: أعجليهم، فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل اثنين، ويمشي بجانبها أربع كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه، فوجأ لبته بمدية، فخر، ثم كشط عن جلده، ودفع المدية إلى المرأة، وقال: شأنك، فاجتمعنا على اللحم نشوي، ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتا بيتا، فيقول: هبوا عليكم بالنار، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا، لا والله إن ذاق منه مضغة وإنه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما في الأرض إلا عظم أو حافر. وقيل: كان مبدأ الأمر لحاتم في الجود، أنه لما ترعرع، جعل يخرج طعامه فإن وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه، أنه يهلك طعامه، قال له: ألحق بالإبل، فخرج إليها، فوهب له جارية، وفرسا وفلوها. |
|
26-06-2018, 02:54 PM | #320 |
| وقيل: بل هلك أبو حاتم وهو صغير، وهذه القصة كانت مع جده سعد بن الحشرج، فلما أتى حاتم الإبل، طفق يبتغي الناس، فلا يجدهم، ويأتي الطريق، فلا يجد عليه أحدا، فبينا هو كذلك، إذ بصر بركب على الطريق، فأتاهم، فقالوا: يا فتى، هل من قرى؟ فقال: تسألونني عن القرى؟ وقد ترون الإبل! وكان الذي بصر بهم، عبيد ابن الأبرص، وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذبياني، وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا اللبن، وكانت تكفينا بكرة، إن كنت لا بد متكلفا لنا شيئا، فقال حاتم: قد عرفت، ولكن رأيت وجوها مختلفة، وألوانا متفرقة، فظننت أن البلدان غير واحد، فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى، إذا أتى قومه فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها، وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم، فصار لكم الفضل علي، وإني أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها، أو تقدموا إليها فتقتسموها ففعلوا! فأصاب كل واحد تسعا وثلاثين بعيرا، ومضوا على سفرهم إلى النعمان، وأن أبا حاتم أو جده، سمع بما فعل، فقال: أين الإبل؟ فقال: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجدا وكرما، لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثنى به علينا عوضا عن إبلك، فلما سمع أبوه ذلك، قال: أبإبلي فعلت ذلك؟ قال: نعم، قال: والله لا أساكنك أبدا، فخرج أبوه بأهله، وترك حاتما، ومعه جاريته وفرسه وفلوه. قال: فبينما حاتم يوما نائم، إذا انتبه، وحوله نحو مائتي بعير تجول وتحطم بعضها بعضا، فساقها إلى قومهن فقالوا: يا حاتم، أبق على نفسك، فقد رزقت مالا، ولا تعودن إلى ما كنت فيه من الإسراف، قال: فإنها نهب بينكم، فانتهبت، ثم أقبل ركب من بني أسد ومن قيس يريدون النعمان، فلقوا حاتما، فقالوا له: إنا تركنا قومنا يثنون عليك خيرا، وقد أرسلوا إليك برسالة، قال: وما هي؟ فأنشده الأسديون شعرا، لعبيد، وأنشده الليئيون شعرا للنابغة، ثم قالوا: إنا لنستحي أن نسألك شيئا وإن لنا لحاجة، قال: وما هي؟ قالوا: صاحب لنا راجل، فقال حاتم: خذوا فرسي هذه، فاحملوا عليها صاحبكم، فأخذوها، وربطت الجارية فلوها بثوبها، فأفلت فاتبعته الجارية لترده، فقال حاتم: ما لحقكم من شيء فهو لكم، فذهبوا بالفرس والفلو والجارية. وأما هرم بن سنان، فمن أخباره: أنه آلى على نفسه أنه لا يسلم عليه زهير إلا أعطاه فقل مال هرم، وكان زهير يمر بالنادي وفيه هرم فيقول: أنعموا صباحا ما خلا هرما، وخير القوم تركت، قالوا: وكان عبد الله بن جدعان، حين كبر، أخذت بنو تميم على يده، ومنعوه أن يعطي شيئا من ماله، فكان الرجل إذا أتاه يطلب منه، قال له: ادن مني، فإذا دنا منه لطمه، ثم قال: اذهب فاطلب لطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تميم من ماله، وفيه يقول الشاعر: والذي إذا أشار نحوك لطما ... تبع اللطم نائل وعطاء |
|
26-06-2018, 02:55 PM | #321 |
| ومن أخبار الكرام: ما حكي عن خالد بن عبد الله القسري أمير العراق، كان يكثر الجلوس ثم يدعو بالبدر ويقول: إنما هذه الأموال ودائع العرب لا بد من تفرقتها، فقال ذلك مرة، وقد وفد عليه أخوه أسد بن عبد الله من خراسان، فقام، فقال أيها الأمير إن الودائع تجمع ولا تفرق، فقال: ويحك! إنها ودائع المكارم، وأيدينا وكلاؤها، فإذا أتانا المملق فأغنيناه، والظمآن فأرويناه، فقد أدينا فيها الأمانة، ومر يزيد بن المهلب بأعرابية في هروبه من سجن عمر بن عبد العزيز، وهو يريد البصرة، فقدمت له عنزا فقبلها، ثم قال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ قال ثمانمائة دينار، قال: ادفعها إليها! فقال له ابنه: إنك تريد الرجال، ولا تكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعد لا تعرفك، فقال: إن كانت ترضي باليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي، ادفعها إليها، فدفعها إليها. قال الأحنف: كثرت على الديات بالبصرة، لما قتل مسعود، فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين، فسألت: من المقصود هناك؟ فأرسلت إلى قبة، فإذا شيخ جالس بفنائها، مؤتزر بشملة، محتب بحبل، فسلمت عليه، وانتسبت له، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: توفي، قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذي الذي كان يحفظ العرب ويحطها؟ قلت: مات، قال: فأي خبر في حاضرتكم بعدهما؟ قال: فذكرت الديات التي لزمتنا للأزد وربيعة، قال: أقم، فإذا راع قد أزاح عليه بألف بعير، فقال: خدها، ثم أراح عليه آخر بمثلها، فقال: خذها، قلت: لا أحتاج إليها، فانصرفت بالألف، ووالله ما أدري من هو إلى الساعة. وروي عن معن بن زائدة، قال: لما هربت من المنصور، خرجت من باب حرب، بعد أن أقمت في الشمس أياما، وخففت لحيتي وعارضي، ولبست جبة صوف غليظة، وركبت جملا، وخرجت عليه لأمضي إلى البادية، قال: فتبعني أسود متقلد سيفا، حتى إذا غبت عن الحرس، قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض علي، فقلت: ما شأنك؟ فقال: أنت بغية أمير المؤمنين فقلت له: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟ فقال معن بن زائدة فقلت: يا هذا! اتق الله وأين أنا من معن؟ فقال: دع هذا عنك، فأنا والله أعرف بك، فقلت له: فإن كانت القصة كما تقول، فهذا جوهر حملته معي، بأضعاف ما بذله المنصور، لمن جاءه بي فخذه ولا تسفك دمي، فقال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر إليه ساعة، وقال: صدقت في قيمته، لست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، فقلت: قل، فقال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت قط مالك كله! قلت: لا، فنصفه! قلت: لا، قال: فثلثه! قلت، لا حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت: إني أظن قد فعلت هذا، فقال: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل، ورزقي على أبي جعفر، عشرون درهما، وهذا الجوهره قيمته ألف دينار، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك، ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك، ولا تعجبك نفسك، ولتحقر بعد هذا كل شيء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى بالعقد إلي، وخلي خطام الجمل وانصرف، فقلت: يا هذا! قدو الله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته إليك، فإني عنه في غنى، فضحك، ثم قال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا، فوالله لا آخذه، ولا آخذ لمعروف ثمنا أبدا، ومضى، فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن جاءني به ما شاء، فما عرفت له خبرا، وكأن الأر ابتلعته، وكان سبب غضب المنصور على معن ابن زائدة: أنه خرج مع عمرو بن يزيد بن عمرو بن هبيرة وأبلى في حربه بلاء حسنا. ويقال: إن شاعرا أتى وهب بن وهب، وكان جوادا، فمدحه فهش وبش له وثنى له الوسادة وأضافه ورفده وحمله، فلما أراد الرجل الرحلة، لم يخدمه أحد من غلمان وهب، فأنكر الرجل ذلك مع جميل فعله، فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنا إنما نعين النازل على الإقامة ولا نعين الراحل على الفراق. وكان الحارث بن هشام المخزومي في وقعة اليرموك، وبها أصيب فاثبته الجراح، فاستسقى ماء، فأتي به، فلما تناوله، نظر إلى عكرمة بن أبي جهل صريعا في مثل حاله، فرد الإناء على الساقي، وقال: امض إلى عكرمة بن أبي جهل، فمضى إليه، فأبى أن يشرب قبله، فرجع إلى الحارث، فوجده ميتا، فرجع إلى عكرمة، فوجده قد مات، فلم يشرب واحد منهما. |
|
26-06-2018, 02:55 PM | #322 |
| وقد وصف الناس أهل الجود والكرم بمدائح، سنذكر ما استجودناه منها. فمن ذلك ما حكي عن أبي العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، قال: كان ببغداد فتى يجن ستة أشهر، فاستقبلته ببعض السكك ذات يوم، فقال: ثعلب؟ قلت: نعم، قال: فأنشدني فأنشدته: وإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها ... فكذا يكون أخا دم وذبائح فضحك، ثم سكت ساعة، وقال: ألا قال؟ اذهبا بي إن لم يكن لكما عق ... ر على ترب قبره فاعقراني وانضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان ثم رآني يوما بعد ذلك فتأملني، وقال: ثعلب! قلت: نعم، قال: أنشدني فأنشدته. أعار الجود نائله ... إذا ما ماله نفدا وإن ليثا شكا جبنا ... أعار فؤاده الأسدا فضحك، وقال: ألا قال؟ علم الجود الندى حتى إذا ... ما حكاه علم البأس الأسد فله الجود مقر بالندى ... وله الليث مقر بالجلد وقال مسلم بن الوليد وهو مما يجوز إيراده في الشجاعة والكرم. يجود النفس إن ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود وأول من أتى بهاذ المعنى علقمة بن عبدة حيث قال: تجود بنفس لا يجاد بمثلها ... فأنت بها يوم اللقاء خصيب وهذا مثل قول يزيد بن أبي يزيد الشيباني: من جاد بنفسه عند اللقاء، وبماله عند العطاء، فقد جاد بنفسية كلتيهما. قالوا: وأجود ما قيل في ذلك قول أبي العتاهية يمدح العباس بن محمد: لو قيل العابس يا ابن محمد ... قل لا وأنت مخلد ما قالها إن السماحة لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عقالها وإذا الملوك تسايرت في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها فلم يثبه العباس، فقال: هززتك هزة السيف المحلى ... فلما أن ضربت بك انثنيت فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت فلما سمع العباس الأبيات غضب، وقال: والله لأجهدن في حتفه، قال: فمر أبو العتاهية بإسحاق بن العباس، وقال له إسحاق: أنشدني شيئا من شعرك فأنشده: ألا أيها الطالب المستغيث ... بمن لا يفيد ولا يرفد ألا تسأل الله من فضله ... فإن عطاياه لا تنفد إذا جئت أفضلهم للسؤا ... ل رد وأحشاؤه ترعد كأنك من خشية للسؤا ... ل في عينه الحية الأسود ففر إلى الله من لؤمهم ... فإني أرى الناس قد أصلدوا وإني أرى الناس قد أبرقوا ... بلؤم الفعال وقد أرعدوا ثم مضى، فقيل لإسحاق: إن هذا الشعر له في أبيك، فقال إسحاق: أولى له، لم عرض نفسه وأحوج أبا العتاهية إلى مثل هذا مع ملكه وقدرته؟ وقد أورد أبو الفرج الأصفهاني خبر هذه الأبيات، فقال: امتدح ربيعة الرقي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بقصيدة لم يسبق إليها حسنان وهي طويلة يقول فيها: لو قيل للعباس يا ابن محمد ... قل لا وأنت مخلد ما قالها ما إن أعد من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمها أو خالها وإذا الملوك تسايرت في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها إن المكارم لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عقالها قال: فبعث إليه بدينارين، وكان يقدر فيه ألفين، فلما نظر إلى الدينارين، كاد أن يجن غضبا، وقال الرسول: خذ الدينارين فهما لك على أن ترد إلى الرقعة، من حيث لا يدري العباس، ففعل الرسول ذلك، فأخذها ربيعة، وأمر من كتب في ظهرها. مدحت مدحة السيف المحلى ... لتجري في الكرام كما جريت هبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وآفتريت أنت المرء ليس له وفاء ... كأني إذ مدحتك قد زنيت |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
الأدب , المرة , في , فنون , نهاية |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
سلسلة لعلهم يتفكرون | تيماء | (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) | 65 | 24-09-2018 10:41 AM |
العقيدة من مفهوم القران والسنة | تيماء | (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الانبياء والصحابه ) | 34 | 20-07-2018 09:12 AM |
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه | سراج منير | ( همســـــات الإسلامي ) | 7 | 29-06-2017 02:53 AM |
فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه | سراج منير | ( همســـــات الإسلامي ) | 14 | 26-05-2017 03:24 PM |
مختصر كتاب( طوق الحمامة) | نزيف الماضي | ( همسات الثقافه العامه ) | 12 | 23-03-2015 10:14 AM |