الإهداءات | |
| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
08-08-2018, 06:53 PM | #8 |
| قراءات القرآن من كتاب "المعجزة الكبرى القرآن" للشيخ محمد أبي زهرة يقرأ القرآن الكريم بقراءات مختلفة: مختلفة في حركات أواخر الكلمات، أو في بناء الكلمة، أو في الوقوف في أواخر الكلمات، أو في الهمزات قطعًا ووصلًا، كهمزة الأرض، فهي تقرأ موصولة ومقطوعة، وهكذا، وإنَّه يجب التنبيه في هذا إلى أمرين: أولهما: إنَّ قراءات القرآن متواترة ليست هي الأحرف السبعة كما ذكرنا، بل إن الرأي القويم الذي انتهى إليه الباحثون كابن جرير الطبري وغيره إلى أنَّ القراءات كلها تنتهي إلى حرف واحد، وهو الذي كُتِبَ به المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة، وهو الذي جمعه عثمان بن عفان -رضي الله عنه، وألزم به الأقاليم الإسلامية، وهو مطابق تمام المطابقة للمصحف الذي كُتِبَ في عهد أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما، وهو الذي حفظ في بيت أم المؤمنين حفظة -رضي الله تعالى عنها وعن أبيها الفاروق. الأمر الثاني: إنَّ هذه القراءات تنتهي في نهايتها إلى أنَّها من ترتيل القرآن الذي رتله الله -سبحانه وتعالى، وتفضَّل بنسبته إلى ذاته الكريمة العلية، فقال تبارك وتعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] فهي الأصوات التي أثرت عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وإذا كان فيها موسيقى -إن صحَّ لنا أن نقول عنها هذا التعبير- فهي الأصوات القرآنية التي اتبعناها عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فهي في مدّها وغنّها، وإهمازها، وإهمال همزاتها، وإمالها وإقامتها، أصوات القرآن المأثورة؛ إذ إنَّ القراءة سُنَّة متبعة، وإن اختلاف القراءات الصحيحة وكلها متواترة عن الصحابة الذين أقرأهم النبي -صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم طرق الأداء التي تعلمها عن ربه، كما يشير إلى ذلك ما تلونا من قبل، وهو قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16-19] . فكانت القراءة التي وعد الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- هي الترتيل، وهي تلك القراءات المأثورة عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين تلقَّوها عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد رأيت أنَّه تلقَّاها عن ربه. وهذه القراءات نجد الاختلاف فيها مع أنَّه تنتهي جميعها إلى المورد العذب، والمنهل السائغ، وهو تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تلقَّاها عن ربه، ليس اختلاف تضاد في المعاني، أو اختلاف تباين في الألفاظ، بل يكون الاختلاف: أولًا: في شكل آخر الكلمات أو بنيتها، مما يجعلها جميعًا في دائرة العربية الفصحى، بل أفصح هذه اللغة المتسقة في ألفاظها، وتآخي عباراتها ورنَّة موسيقاها، والتواؤم بين ألفاظها ومعانيها. وثانيًا: في المد في الحروف من حيث الطول والقِصَر، وكون المد لازمًا أو غير لازم، وكل ذلك مع التآخي في النطق في القراءة الواحدة، فكل قراءة متناسقة في ألفاظها من حيث البنية للكلمة، ومن حيث طول المد أو قصره. وثالثًا: من حيث الإمالة، والإقامة في الحروف، كالوقوف بالإمالة في التاء المربوطة وعدم الإمالة فيها. ورابعًا: من حيث النقط، ومن حيث شكل البنية في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] ، فقد وردت فيها قراءتان متواترتان: فتبينوا، وقراءة أخرى "فتثبتوا" وهما متلاقيتان، فالأولى طالبت بالتبين المطلق، والأخرى بينت طريق التبيين، وهو التثبت بتحري الإثبات، فإن لم تكن طرق الإثبات، ولا دليل على القول، فإنه يرد الكلام، ولا يتمسَّك بما قيل متظننًا فيها من غير دليل، وكلتا القراءتين مروية بسند متواتر لا مجال للريب فيه، فكانت إحدى القراءاتين مفسرة للأخرى. وخامسًا: زيادة بعض الحروف في قراءة، ونقصها في أخرى، مثل: زيادة الواو في قراءة، وزيادة مِنْ في أخرى، وهذه نادرة لم أرها إلَّا في حالتين اثنتين فقط، فقد ذكر بن الجزري إمام القراء المتأخرين المتوفَّى في سنة 823هـ، أنّ ابن عامر وهو من القرَّاء السبعة يقرأ {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [يونس: 68] وقرأ غيره: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وإن حذف الواو ثابت في المصحف الشامي، وكان ابن كثير يقرأ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} وقراءة غيرها {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَار} ، ومفهوم كلام ابن الجزري أنَّ القراءتين متواترتان، وأن هذا يؤدي إلى أمر جوهري، وهو أن المصاحف في هذا الموضع ليست نسخًا متحدة اتحادًا كاملًا، منسوخة كلها من المصحف الإمام، وهو المصحف الذي احتفظ به الإمام عثمان في دار الخلافة، وقد اتفقت الروايات على أنه لم يكن كالمصحف الشامي الذي كان على قراءة ابن عامر؛ لأنَّ مصحف الشام خالف كل المصاحف في نقص الواو -ومنها: المصحف الإمام مصحف عثمان، وبذلك يكون الرجوع لمصحف عثمان وما نقل عنه من المصاحف، وهو المصحف المجموع في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وحفظ عند حفصة، وهو أيضًا المتطابق مع المكتوب في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وكذلك الأمر في زيادة "من" في قراءة ابن كثير، المتفق مع المصحف المكيّ وغيره من المصاحف، ومنه المصحف الإمام، على عدم زيادة من في الآية التي زيدت فيها في المصحف المكيّ. وإن النتيجة لهذا أن نقول: إنَّ الأصل وهو المصحف الإمام مصحف المدينة يقبل ما يتفق معه، وينعقد الإجماع عليه، وما لا يتفق معه ينظر فيه، وربما كان رده أظهر لولا ما يقال من أنَّ القراءة بالزيادة ليست آحادًا، ولا شاذة، بل متواترة. ومن أجل ذلك حاول القرطبي التوفيق بين الزيادة وحذفها، فقال: "وما وجد بين هؤلاء القرَّاء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم، فذلك لأنَّ كلًّا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه؛ إذ كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ، ولم يكتبها في بعض، إشعارًا بأنَّ كل ذلك صحيح، وأن القراءة بكل منها جائزة". |
|
08-08-2018, 06:54 PM | #9 |
| دلالة الكلمة العربية من كتاب خصائص الحروف العربية ومعانيها - دراسة - للدكتور حسن عباس إن كل ما أضفاه الرمزيون على كلماتهم: "حياة، حيوية، أناقة، رشاقة إيحاء وجدان، انفعال.." إنما هو بعض ما علق بالكلمة العربية عفو الفطرة في خصائص أحرفها تعبيراً عن معانيها. خصائص حسية وشعورية (وجدانية)، قد جاءت الكلمة العربية إرثاً عن مراحل (غابية ثم زراعية ثم رعوية شعرية). فتحول كل حرف من حروفها بفعل تعامله مع الأحاسيس والمشاعر الإنسانية طوال آلاف الأعوام، إلى وعاء من الخصائص والمعاني. فما أن يعيها القارئ أو السامع، حتى تتشخص الأحداث والأشياء والحالات في مخيلته أو ذهنه أو وجدانه. وبذلك ينوب الحرف في العربية عن الكلمة وتنوب الكلمة عن الجملة، ولا رمز ولا اصطلاح. فمما قاله (ابن جني) في هذا الصدد: إن العربي قد أبدع كلماته: "سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد". بمعنى أنه، "كان يضع الحرف الأول بما يضاهي بداية الحديث والحرف الوسط بما يضاهي وسطه، والأخير بما يضاهي نهايته". فكان العربي بذلك يصور الأحداث والأشياء والحالات بأصوات حروفه (الخصائص ج2-ص162-163). وهكذا إذا كان الرمزيون قد رفعوا من مقام لغاتهم الأجنبية من وسيلة إلى غاية بموسيقة صيغ كلماتها وأصوات حروفها، فإن العربية هي بالضرورة غاية في حد ذاتها بلا موسيقة مفتعلة. ففي الكلمة العربية موسيقى باطنية عفوية بلا تصنع، قوامها التوافق الفطري بين خصائص أحرفها وبين ما تدل عليه من المعاني إيحاءً أو إيماءً. فما أن تنشد الكلمة في الشعر العربي الأصيل أو ترتل في القرآن الكريم، حتى نجد أن خصائص الحروف ومعانيها هي التي تتحكم بموسيقاها طواعية ذوقٍ أدبي رفيع بلا قسر ولا تصنع. (إعجاز القرآن - مصطفى صادق الرافعي ص214-215-218). ولا غرو، فالشعراء هم الذين (موسقوا) الكلمة العربية طوال المراحل الرعوية بإنشادها في أهازيجهم وقصائدهم، فشحنوا أحرفها بشتى الأحاسيس والانفعالات لتتحول الكلمة العربية بذلك إلى تفعيلة (مموسقة) جاهزة للدخول في شتى الأوزان ومهيأة للتداول في شتى القوافي للتعبير عن شتى المعاني بلا موسقة مصطنعة. (الحرف العربي والشخصية العربية) ص98-100. ولعل أغرب ما يميز العربية من سواها أنها ظلت على الفصحى بلا عامية حتى الإسلام، وإلى ما بعد أن شاع اختلاط أبنائها بمختلف الشعوب. فلقد أجمع علماء اللغة على استحالة وجود فصحى بلا عامية (في فلسفة اللغة ص223). ظاهرة (لغوية واجتماعية) متميزة في اللسان العربي. |
|
08-08-2018, 06:55 PM | #10 |
| نظرية المحاكاة الصوتية ومناسبة اللفظ للمعنى من كتاب بحوث ومقالات في اللغة للدكتور رمضان عبد التواب يحاول بعض العلماء أن يفسر لنا نشأة اللغة الإنسانية، بما يسمى بنظرية "المحاكاة الصوتية" Onomatopoeia، وقد عرض لهذا الرأي من علماء المسلمين، العلامة ابن جني في كتابه "الخصائص" فقال: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغة كلها، إنما هو الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس ... ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد". وقد ارتضى "ابن جني" هذا الرأي، فقال معقبًا عليه: "وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل". ومما قد يؤيد هذه النظرية، ما قد نجده في بعض الأحيان، من اشتراك بعض الأصوات في الكلمات التي تحاكي الطبيعة في عدة لغات، فإن الكلمة التي تدل على الهمس، هي في العربية كما نعرف: "همس"، وفي الإنجليزية: whisper وفي الألمانية Flustern وفي العبرية Safsaf صفصف، وفي الحبشية: Fasaya فاصي، وفي التركية Susmak، فالعامل المشترك بين هذه اللغات جميعها في تلك الكلمة، هو: صوت الصفير السين أو الصاد، وهو الصوت المميز لعملية الهمس في الطبيعة. غير أن اشتراك اللغات في الكلمات المحاكية للطبيعة، على هذا النحو، أمر نادر. ولو كانت هذه النظرية صحيحة، للاحظنا اشتراكا بين اللغات في الكلمات التي تحاكي الطبيعة، مثل: الشق، والدق، والقطع، والصهيل، والعواء، والمواء، وما إلى ذلك. ولقد سمعت الديك العربي في بلاد العرب، والديك الألماني في بلاد الألمان، يصيحان بطريقة واحدة دون أدنى فرق، غير أننا نحاكي صوت الديك فنقول: كوكوكو! ويقول الألمان: kikeriki كيكيركي! ويرى بعض العلماء، بناء على هذه النظرية، أن مناسبة اللفظ للمعنى، مناسبة حتمية، بمعنى أن اللفظ يدل على معناه دلالة وجوب، لا انفكاك فيها. وممن نادى بهذا الرأي "عباد بن سليمان الصيمري من المعتزلة، فقد ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية، حاملة للواضع على أن يضع هذه اللفظة أو تلك، بإزاء هذا المعنى أو ذاك. ويروون عن بعض من تابعه على رأيه هذا، أنه كان يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسئل عن معنى كلمة: "إذغاغ"، وهي بالفارسية: الحجر، كما يقولون. فقال: أجد فيه يبسا شديدا، وأراه الحجر! وإننا نشك كثيرا في صحة هذه الراوية، وصدق نظرية الصيمري، فإنه لو صح ما قاله، لاهتدى كل إنسان إلى كل لغة على وجه الأرض. نعم، قد يحدس الإنسان معنى كلمة من الكلمات في لغة من اللغات، بخبراته في هذه اللغة، فإن مجرد النطق باللفظ، يستدعي إلى الذهن أمثاله من الألفاظ، ويستدعي معها دلالاتها، ويستوحي المرء من كل هذا دلالة لذلك اللفظ المجهول، على أساس ما اختزنه في حافظته، وقد يوفق في هذا الاستيحاء، غير أنه كثيرا ما يخيب، وهنا يؤدي اختلاف الخبرات السابقة إلى اختلاف الحدسات الناتجة. وخذ مثلا كلمة: "عتيد" فإنك إذا ذكرتها أمام من لا يعرف معناها الأصلي، وهو: "حاضر، معد، مهيأ"، فهو لا شك سيقيسها على كلمة: "عنيد" إن كانت من حصيلته اللغوية، فيعطيها نفس معناها، وهو: "جبار" أو "قوي مثلا"، أو يقيسها على كلمة: "عتيق" إن برزت له وقتئذ من بين خبراته اللغوية السابقة، فيعطيها نفس معناها، وهو: "قديم" أو "موغل في القدم". ومن أنصار المناسبة بين اللفظ والمعني، من علماء العربية، العلامة اللغوي أبو الفتح عثمان بن جني، الذي عقد في كتابه "الخصائص" بابا طويلا، جعل عنوانه: "باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني"، ذكر فيه ألفاظا كثيرة من اللغة العربية، تؤكد كلها نظريته في مناسبة الصوت للمعنى الدال عليه. وأغلب الظن أن بذرة هذه الفكرة، قد وجدت عند قدامى النحويين واللغويين، قبل ابن جني؛ لأنه يرجع في هذا الباب إلى بعض آراء الخليل وسيبويه، فهو يروي عن الخليل أن العرب قالوا في الدلالة على صوت الجندب: "صَرَّ"؛ لأن في صوته امتدادا واستطالة، أما البازي فدلت العرب على صوته بالفعل: "صرصر"؛ لأن فيه تقطيعا وعدم استمرار. كما يذكر عن سيبويه تفسيره لوجود الحركات الكثيرة، في المصادر التي جاءت على وزن: "فعلان" بمناسبتها لدلالة هذا النوع من المصادر، على الاضطراب والحركة، مثل: الغليان" و"الهيجان" و"الطيران" و"الفوران"، وما أشبه ذلك. وأخذ ابن جني بعد ذلك، يذكر نظائر لهذا الذي أتى به الخليل وسيبويه، من مناسبة الصوت للمعنى، فعنده أن المصادر الرباعية المضعفة، إنما تأتي لتكرير الفعل، كالزعزعة، والقلقلة، والجرجرة، والصلصلة، وما إلى ذلك، فإن تكرير المقاطع هنا مناسب لتكرير الفعل، وحدوثه مرات متعددة. أما توالي الحركات في المصادر والصفات، التي تأتي على وزن: "فعلى" مثل: "الجمزَى" لحمار الوحش، و"البشكَى"، و"الحيدَى" من صفات المشي السريع، فإن ابن جني يرى أن هذه الحركات المتوالية في هذا الوزن من أوزان الكلمات العربية، إنما تناسب سرعة الحركة في الحمار الوحشي وصفات المشي المذكورة. كما يرى ابن جني أن تكرير عين الفعل، وهي وسطه، وقلبه، ومركزه، وأهم جزء فيه، يدل على تكرير الفعل والشدة فيه، مثل: "كسَّر" و"قطَّع" و"فتَّح" و"غلَّق" وغير ذلك. وهذا الذي ذكره ابن جني، يصح في بعض نصوص اللغة، دون غيرها، فلو أننا نظرنا مثلا إلى الآية القرآنية التي تقول: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَك} ، لأحسسنا بصوت المزاليج وهي تحكم رتاج الأبواب، وينعدم هذا الإحساس مع الفعل: "أغلق"، الذي يدل على مجرد الإغلاق. غير أن هذا -كما قلنا- لا يطرد في كل نصوص اللغة. ولو راجعنا المعاجم العربية، لعرفنا أن هناك كلمات كثيرة، يستوي في معناها الصيغ المشددة وغيرها، والمجرد منها وغير المجرد، فمن ذلك مثلا: "بدأ يبدأ" و"أبدأ يُبدئ". والقرآن الكريم خير شاهد على أن معناهما واحد، يقول الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق} . ومثله كذلك. برقت السماء وأبرقت، وجنه الليل وأجنه، إذا أظلم عليه وستره، وحَدَّت المرأة على زوجها وأحدَّت بمعنى: تركت الزينة، وخسرت الميزان وأخسرته، أي: نقصته. وغير ذلك كثير. وقد نزع كثير من نقاد الأدب العربي القديم، منزع بعض اللغويين، في محاولة عقد الصلة بين اللفظ ومعناه، فهذا هو "ابن الأثير"، يكمل ما بدأه "ابن جني" وأسلافه من علماء اللغة، حول مناسبة الألفاظ للمعاني، فيقول: "اعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان، ثم نقل إلى وزن آخر أكثر منه، فلا بد من أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا". ومن هنا نشأت الفكرة التي تقول إن "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى". وقد ضرب "ابن الأثير" من الأمثلة على ذلك قولهم مثلا: "خَشُن" و"اخشوشن"، فمعنى: خشن، دون معنى: اخشوشن، لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو. كما يرى "ابن الأثير" أن "اقتدر" أقوى في الدلالة على القدرة من: "قدر" المجردة، وأن الإنسان يحس في قوله تعالى مثلا: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} بالدلالة على تفخيم الأمر، وشدة الأخذ، الذي لا يصدر إلا عن قوة الغضب. وإذا صدق هذا على بعض الأمثلة في اللغة، فإنه لا يصح أن يغيب عن بالنا، أنه ليس ثمة بين الاصطلاح اللغوي، والشيء الذي وضع له هذا الاصطلاح أية علاقة طبيعية، وإنما هي علاقة تقاليد، كما يقول: "أنطوان مييه". وهذا معناه عدم الارتباط الطبيعي بين الاسم والمسمى، فالضمائر: أنا وأنت وهو مثلا، ليس فيها شيء يدل بذاته على أحد الأشخاص، وإنما يستعمل لأنه في جماعة بشرية معينة، جرت التقاليد بأن تستعمل تلك الصيغ، ومن ثم نرى أكثر علماء اللغة دربة، عاجزا كغيره من الناس، أمام خطبة أو نص مكتوب في لغة مجهولة جهلا تاما. ولذلك يجب ألا ننساق وراء الفكرة التي تقول بأن "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى"، ونعممها على كل مثال وجدت فيه هذه الظاهرة، فقد تكون هناك مثلا كلمتان تدلان على معنى معين، غير أن إحداهما مقتطعة في الأصل من الأخرى، وليست الثانية مزيدة منها، كما توهم علماء البصرة ذلك في "السين" و"سوف"، فقالوا إن "سوف" تدل على الاستقبال البعيد، و"السين" تدل على الاستقبال القريب. وليس في نصوص اللغة ما يشهد لتكلفهم هذا، فقوله تعالى مثلا: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ليس معناه تحقق هذه الكفاية في الغد، كما أن قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ليس معناه تأخر الإعطاء عاما أو عامين، بل إن الحقيقة أن "سوف" أقدم من "السين" وأن "السين" جزء مقتطع منها، فمن الحقائق المقررة عند المحدثين من علماء اللغة أن كثرة الاستعمال تبلي الألفاظ، وتجعلها عرضة لقص أطرافها، تماما كما تبلى العملات المعدنية والورقية، التي تتبادلها أيدي البشر. وهذا هو ما حدث لسوف، التي توجد في صورتها القديمة في الآرامية، وقد روى لنا اللغويون العرب صورا عدة من صور البلي اللفظي في هذه الكلمة، فقد ذكروا أن العرب يقولون: "سَوْ يكون، وسَفْ يكون، وسَايكون، وسَيَكون". وعندما جاء القرآن الكريم، سجل لنا إحدى صور التطور في "سوف"، مع الأصل الذي كان لا يزال يعيش معه جنبا إلى جنب، وروى لنا اللغويون العرب، صور التطور الأخرى، التي لم يكتب لها ما كتب لغيرها من الخلود، حين تبنتها الفصحى، ولغة القرآن الكريم. |
|
08-08-2018, 06:57 PM | #11 |
| العربية الباقية وأشهر لهجاتها من كتاب دراسات في فقه اللغة للدكتور صبحي إبراهيم الصالح لقد أوضحنا أن اللغة العربية الباقية هي التي ما نزال نستخدمها في الكتابة والتأليف والأدب, وهي التي وصلتنا عن طريق الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والسنة النبوية؛ لذلك تنصرف إليها "العربية" عند إطلاقها, والواقع أن الإسلام صادف -حين ظهوره- لغة مثالية مصطفاة موحدة, جديرة أن تكون أداة التعبير عند خاصة العرب لا عامتهم، فزاد من شمول تلك الوحدة وقوّى من أثرها بنزول قرآنه بلسان عربي مبين هو ذلك اللسان المثالي المصطفى1، وكان تحدّيه لخاصة العرب وبلغائهم أن يأتوا بمثله, أو بآية من مثله, أدعى إلى تثبيت تلك الوحدة اللغوية، على حين دعا العامة إلى تدبر آياته وفقهها وفهمها، وأعانهم على ذلك بالتوسعة في القراءات، ومراعاة اللهجات، في أحرفه السبعة المشهورة والوحدة اللغوية التي صادفها الإسلام حين ظهوره، وقوّاها قرآنه بعد نزوله، لا تنفي ظاهرة تعدد اللهجات عمليًّا قبل الإسلام وبقاءها بعده، بل من المؤكد أن عامة العرب لم يكونوا إذا عادوا إلى أقاليمهم يتحدثون بتلك اللغة المثالية الموحدة، وإنما كانوا يعبرون بلهجاتهم الخاصة، وتظهر على تعابيرهم صفات لهجاتهم، وخصائص ألحانهم, قال ابن هشام: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكلٌّ يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها, ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات". ويبدو أن اللغوين الأقدمين لم يعرضوا للهجات العربية القديمة في العصور المختلفة عرضًا مفصلًا يقفنا على الخصائص التعبيرية والصوتية لهاتيك اللهجات؛ لأنهم شغلوا عن ذلك باللغة الأدبية الفصحى التي نزل بها القرآن، وصيغت بها الآثار الأدبية في الجاهلية وصدر الإسلام. وهم -لشعورهم بعدم توفرهم على دراسة هذا الموضوع دراسة دقيقة عميقة- كانوا يتخلصون من اختلاف اللهجات بالاعتراف بتساويها جميعًا في جواز الاحتجاج بها، بعد الاكتفاء بإشارات عابرة مبثوثة في كتبالرواية واللغة, إلى بعض تلك اللهجات. فهذا ابن جني على عنايته بدقائق الدراسة اللغوية لا يتردد في "خصائصه" في عقد فصل خاص حول ما سماه: "اختلاف اللغات وكلها حجة", وهو يقصد باللغات لهجات العربية المختلفة، وينصّ على جواز الاحتجاج به جميعًا، ولو كانت خصائص بعضها أكثر شيوعًا من خصائص بعضها الآخر, فيقول: "إلّا أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه يكون مخطئًا لأجود اللغتين؛ فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع, فإنه مقبول منه غير منعي عليه، وكذلك أن يقول: على قياس مَنْ لغته كذا كذا، ويقول: على مذهب مَنْ قال كذا كذا؛ وكيف تصرفت الحال؛ فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه". ومن يعترف بأن اللغات كلها حجة، لا يتعذر عليه أن يتصور اجتماع لغتين فصاعدًا في كلام الفصيح، فحين قال الشاعر: فَظَلْتُ لدي البيت العتيق أخيلهو ... ومِطْوايَ مشتاقانِ لَهْ أرقانِ لم يكن عسيرًا على ابن جني أن يرى في إثبات الواو في "أخيلهو", وتسكين الهاء في قوله: "لَهْ" لغة جديدة انضمت إلى لغة الشاعر الفصيح، فليس إسكان الهاء في "لَهْ" عن حذفٍ لحق بالصنعة الكلمة،لكن ذاك لغة! ". ومثل هذا الفصيح الذي يجتمع في كلامه لغتان فصاعدًا, ينصح ابن جني بتأمل كلامه، "فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال، كثرتهما واحدة، فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على تينك اللفظتين؛ لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها، وسعة تصرف أقوالها"؛ وهكذا ينقل ابن جني تنوع الاستعمال من الفرد إلى القبيلة، أو قل: من الانحراف الشخصي إلى العرف الجماعي؛ تهربًا من الاعتراف بشذوذ الفرد، ما دام فصيحًا!! وهذا التهرب واضح في دفاع ابن جني عن الفصيح, حين تكون إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها، فهو يرى حينئذ أن التي كانت أقلَّ استعمالًا "إنما قلَّت في استعماله لضعفها في نفسه, وشذوذها عن قياسه، وإن كانت جميعًا لغتين له ولقبيلته"؟. ويستشهد على ذلك بحكاية أبي العباس عن عمارة قراءته {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بنصب النهارَ, وأن أبا العباس قال له: ما أردت؟ فقال: أردت سابقٌ النهارَ, فعجب أبو العباس لم لم يقرأه عمارة على ما أرداه فقال له: فهلّا قلته؟ فقال عمارة: لو قلته لكان أوزن: أي أقوى! والنتيجة المنطقية لهذه المقدمات أن تتساوى اللغتان القوية والضغيفة في كلام الفصحاء، فهم "قد يتكلمون بما غيره عندهم أقوى منه، وذلك لاستخفافهم الأضعف؛ إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى فلا ضير إذن أن يقول الشخص الواحد في المسمَّى الواحد: رُغوة اللبن, ورَغوته، ورِغوته، ورُغاوته، ورِغايته، ورُغايته, فـ "كلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد، من هنا وهناك". وأطرف من ذلك كله أنه يخلص ابن جني إلى تداخل اللغات وتركّبها، فيصم بضعف النظر وقلة الفهم كل من يفسر هذا التداخل بالشذوذ، أو ينسبه إلى الوضع في أصل اللغة، ولا يتردد في الاحتجاج لثبوت تركب اللغات بحكاية يرويها عن الأصمعي أنه قال: "اختلف رجلان في الصقر، فقال أحدهما: "الصقر" بالصاد، وقال الآخر: "السقر" بالسين، فتراضيا بأول وراد عليهما، فحكيا له ما هما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما, إنما هو "الزقر! ", ويعلق ابن جني على هذا بقوله: "أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة، كيف أفاد في هذه الحالة، إلى لغته لغتين أخريين معها؟ وهكذا تتداخل اللغات! ". وابن فارس نظر إلى هذا الموضوع أيضًا من خلال المنظار نفسه،فبعد أن ذكر صورًا متباينة من اختلاف لغات العرب، وصرَّح بأنها "كانت لقوم دون قوم" لم يرتب في تداولها على ألسنة العرب، على ما كان في بعضها من اللغات الضعيفة، "فإنها لما انتشرت تعاورها كلٌّ". فهل على أبي حيّان من حرج بعد هذا إذا رأى أن "كل ما كان لغةً لقبيلة قيس عليه"؟ . وعلى هذا الأساس من تساوي جميع اللهجات العربية في جواز الاحتجاج بها، لم تكن ثمة بواعث قوية تحمل القدامى على العناية باللهجات عناية خاصة، فوقعوا في كثير من التناقص حين استنبطوا قواعدهم النحوية والصرفية من كل ما روي عن القبائل، وأقحموا على الفصحى خصائص اللهجات المتباينة بوجوهها المتعددة، ولم يصدروا -كما قال الأستاذ سعيد الأفغاني- في تنسيق شواهدهم عن خطة محكمة شاملة؛ فأنت تجد في البحث من بحوثهم قواعد عدة، هذه تستند إلى كلام رجل من قبيلة أسد، وتلك إلى كلام رجل من تميم، والثالثة إلى كلمة لقرشيّ, وتجد على القاعدة تفريعًا دعا إليه بيت لشاعر جاهلي، واستثناء مبنيًّا على شاهد واحد اضطر فيه الشاعر إلى أن يركب الوعر حتى يستقيم له وزن البيت!! ". ومنشأ هذا كله خلطهم بين اللغة الأدبية المثالية الموحدة, التي هي لغة الخاصة, وبين لهجات التخاطب العامة لدى القبائل الكثيرة المشهورة، على حين أنَّ شرط اللغة هو الاطراد والتوحيد في الخصائص ويزداد الأمر تعقيدًا بعد ذلك، فتدرس اللهجات في ضوء ما وضعه النحاة من القواعد والمقاييس، ويحكم عليها -مع تنوع أصولها- من وجهة نظر واحدة, هي مطابقتها أو مخالفتها لهاتيك القواعد، كما فعل الهمذاني "334 " في "صفة جزيرة العرب". والحق أن العرب -ككل شعوب العالم- كانوا قبل الإسلام وبعده منقسمين إلى فئتين؛ فئة الخاصة التي كانت تتطلع إلى صقل لغتها وتحسينها، فتسمو في تعابيرها إلى مستوى أرفع من مستوى التخاطب العادي، وفئة العامة التي كانت تكتفي بحظ قليل من فصاحة القول وبلاغة اللتعبير، وتمضي تبعًا لتقاليدها الخاصة وبيئاتها الجغرافية الخاصة إلى الاستقلال في صياغة جملها وتركيب مفرداتها ولحن أصواتها. ومما لا ريب فيه أن البيئة الحضرية في مكة والمدينة كانت بضرورة الحال تختلف لهجاتها عن لهجات البيئات البدوية المنعزلة التي لا تكاد تستقر على حال, فمهما تكن اللغة العربية قد صُقِلَت وتوحدت قبل الإسلام، ومهما تكن وحدتها قد قويت وتمت بعد الإسلام، لا يسعنا أن نتصورها إذ ذاك إلّا مؤلفة من وحدات لغوية مستقلة منعزلة, متمثلة في قبائلها الكثيرة المتعددة. على أن الكتب التي عرضت لتلك اللهجات كثيرًا ما تغفل أسماء قبائل معينة تنسب إليها لهجةٌ ما، ومن خلال الكتب المذكورة -على ندرتها- نستنتج أن أشهر القبائل التي تورى لها لهجات خاصة تختلف عن اللغة الأدبية المثالية اختلافًا ذا بالٍ هي: تميم وطيئ وهذيل، وهي جميعًا قبائل معروفة بالفصاحة، بدوية ضاربة في أنحاء الصحراء.ومع كثرة من ينتمي إلى هذه القبائل من الشعراء يلاحظ أن أحدًا من رجال الطبقة الأولى لم ينسب إليها، وإنما كان المنتسبون إليها من الجاهليين مقلِّين، لا يروى عنهم إلا النزر اليسير, فمن التميميين أوس بن حجر، وسلامة بن جندل، وعلقمة بن عبدة، وعديّ بن زيد، وعمرو بن الأهتم، والبرَّاق بن رَوْحَان، والأسود بن يعفر, ومن الطائيين حاتم الطائي، وأبو زبيد الطائي، وإياس بن قبيصة, ومن الهذليين: أبو ذؤيب الهذلي، وعامر بن حُلَيْس، وخويلد بن خالد. وإذا آثرنا عدم التوسع في اللهجات -حتى لا يطول بنا البحث كثيرًا والمقام لا يسمح له- فإن أقصى ما يُغْتَفَرُ لنا الاقتصار عليه من لهجات العربية الباقية مجموعتان رئيستان عظيمتان، إحداهما حجازية غربية أو كما تُسَمَّى أحيانًا "قرشية", والأخرى نجدية شرقية, أو كما تدعى أحيانًا "تميمية"، فهذه القسمة الثنائية الرئيسة للهجات العربية الباقية, هي الحد الأدنى لتلك المجموعة الواسعة من الوحدات اللغوية المنعزلة المستقلة. وليستحيلنَّ علينا بدون هذه القسمة أن نعلل تعليلًا علميًّا صحيحًا وجود تِعْلم ونِعْلم بكسر حرف المضارعة إلى جانب تَعْلم ونَعْلم، ووجود حُمْر وجُمْعة إلى جانب حُمُر وجُمُعة، ووجود حَقِدَ يَحْقَدُ إلى جانب حَقَدَ يَحْقِدُ، ووجود مَدْيون إلى جانب مَدِين، ومُرْيَة ومِرْيَة، وهيهات وأيهات، وأمثال ذلك أكثر مما نتصور، والخلاف حوله في أصل لهجتي قريش وتميم أوسع نطاقًا مما نُقَدِّرُ أو نستشعر, وسنرى أن لهجة قريش، التي جعلتها العوامل السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية اللغة العربية الفصحى المقصودة عند الإطلاق، لم تكن في جميع الحالات أقوى قياسًا من لهجة تميم؛ بل كثيرًا ما تفوقها في بعض ذلك تميم، ولكنها -أي القرشية- باعتراف من جميع القبائل وبطواعية واختيار من مخلتف لهجاتها، كانت أغزرها مادةً، وأروقها أسلوبًا، وأغناها ثروة، وأقدرها على التعبير الجميل الدقيق الأنيق في أفانين القول المختلفة؛ "فقد ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء". ولقد أكد الفراء صفاء لغة قريس, وأوضح أسرار ذلك الصفاء بقوله: "كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ", لذلك اصطنعت لغة قريش وحدها في الكتابة والتأليف والشعر والخطابة، فكان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته، ويتجنب صفاتها الخاصة في بناء الكلمة وإخراج الحروف وتركيب الجملة، ليتدث إلى الناس بلغة ألفوها، وتواضعوا عليها، بعد أن أسهمت عوامل كثيرة في تهذيبها وصقلها. وفي كتب اللغة إشارات إلى بعض المذموم من لهجات العرب؛ من ذلك الكشكشة, وهي في ربيعة ومضر، يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شيئًا، فيقولون: رأيتكش، وبكش وعليكش، فمنهم من يثبتها حالة الوقف فقط، وهو الأشهر، ومنهم من يثبتها في الوصل أيضًا، ومنهم من يجعلها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكّنها في الوقف، فيقول: مِنْش وعَلَيْش. وفي ذلك أنشد قائلهم: فعيناشِ عيناها، وجيدشِ جيدُها ... ولونُشِ، إلا أنها غيرُ عاطلِ ومن ذلك الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاء عينًا. ومن ذلك الطُمْطُمانية في لغة حِمْيَر؛ كقولهم: طاب امهواء, أي: طاب الهواء. ومن ذلك: العَجْعَجة في لغة قضاعة، يجعلون الياء المشددة جيمًا، يقولون، في تميميّ: تميمج, وقال أبو عمرو بن العلاء: قلت لرجل من بني حنظلة: ممن أنت! قال: فُقَيْمجّ, فقلت: من أيهم؟ قال: مُرِّج، أراد فُقَيْميّ ومُرّيّ, ولذلك اشتهر إبدال الياء جيمًا ملطقًا في لغة فقيم, حتى أنشد شاعرهم: خالي عُوَيْفٌ وأبو عَلجِّ ... المطعمان اللحم بالعشجِّ وبالغداة فلق البرنجّ ومن ذلك شنشنة اليمن؛ تجعل الكاف شينًا مطلقًا كلبّيش اللهم لبَّيْشَ، أي: لبيك. ولخلخانيّة أعراب الشّحْر وعُمان، كقولهم: مشا الله كان, أي: ما شاء الله كان. وعنعنة تميم، تقول في موضع أن: عن, أنشد ذو الرمة: أعَنْ ترسّمت من خرقاء منزلة. فلو أن شاعرًا ضمَّن شعره شيئًا من كشكشة ربيعة, أو طمطمانية حمير, أو عجعجة قضاعة، وغدا ينشده في بعض أسواق العرب لغلبوه على أمره بالمكاء والتصدية، ولصيروه أضحوكة من التهكم به والتندر عليه, ولكي تتصور مثل هذا الموقف تخيل رجلًا يكشكش الكافات في قول امرئ القيس من معلقته: أغركِ مني أن حبكِ قاتلى ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل فهو سينشد البيت هكذا: أغرَتَشْ مني أن حبتْشِ قاتلي ... وأنتشِ مهما تأمري القلب يفعل وتخيل رجلًا آخر يطمطم لامات التعريف، فيسأل الرسول العربي -صلى الله عليه وسلم: هل من امبر امصيام في امسفر؟ يقصد: هل من البر الصيام في السفر، فيضطر -عليه السلام- لاستخدام لغته ليفهمه الحكم الشرعي فيجيبه "ليس من امبر امصيام في امسفر" ثم تخيل رجلًا ثالثًا يجعجع الياءات المسبوقة بالعينات، فيقول: "الرّاعج خرج معج" بدلًا من "الراعي خرج معي". فلا غرو بعد هذا كله إذا نزل القرآن بلغة العرب المثالية، وبارك توحّدها، وسما بها إلى الذروة العليا من الكمال, بعد أن كانت لهجة محدودة لإحدى قبائل العرب، ولا عجب إذا اقتصر على تحدّي خاصة العرب القادرين على التعبير بتلك اللغة الموحدة، ثم لا غرابة أخيرًا إذا تعددت وجوه قراءاته تخفيفًا على القبائل، وحلًّا لمعضلة تباين اللهجات. |
|
08-08-2018, 06:58 PM | #12 |
| مقدمة عن موت الألفاظ في العربية من كتاب موت الألفاظ في العربية للدكتور عبد الرزاق بن فراج الصاعدي وفي العربية الفصحى ألفاظ هُجِرَتْ في الاستعمال لأسباب عديدة فماتت، كالمِرْباع، والنَّشيطة، والفُضُول، والحُلْوَان، والصَّرورة من الأسماء، وجَعْتَبَ، وحَنْجَدَ، وخَنَدَ، وحَبَّ، وكَهَفَ، وعَذَطَ، من الأفعال. وهذه مع غيرها ألفاظ أميتت في العربية منذ وقت مبكر، وقد صادفها علماء العربية عند تدوين اللغة في عصور الاحتجاج مماتة ساقطة من الاستعمال، فوردت عنهم إشارات لها متفرقة في مصادر اللغة المتنوعة؛ تدل على موتها؛ فأردت أن أجمع ما تفرق مما أميت من ألفاظ العربية زمن الفصاحة وأدرسه، أما ما هجر بعد عصور الاحتجاج منذ نهاية القرن الرابع إلى عصرنا هذا فليس مما أهدف إليه في هذا البحث، وهو كثير، ولا اعتداد بهجره من الاستعمال، ولا يعدّ من المُمَات في العربية، وإنما تركه المولدون لابتعادهم عن منابع اللغة وضعف سلائقهم ولما استجد من أمور الحضارة، و ((لو ذهبنا إلى المعارضة بين ألفاظ الحياة العربية الأولى وما اختصت به من المعاني وبين هذه الحياة الحضرية ومستحدثاتها، لرأينا قسماً كبيراً من اللغة يتنزل منها منزلة البقايا الأثرية)) مما يعد من فضول الحاجات كأسماء الإبل وصفاتها وأسماء الحشرات وأدوات البداوة، وأسماء النبات، وما جاءت به اللغات المتعددة، وهو كثير مستفيض، وليس هو من المُمَات، وإن تركه المعاصرون. وقد حافظ علماء اللغة على الممات القديم ودونوه في معجماتهم، ولعل من أبرز العوامل التي أدت إلى اشتمال العربية على هذا الثراء اللفظي أن الممات من ألفاظها كتب له البقاء، بتدوينه، وكأن احتفاظهم به إرهاص لإحيائه. إلا أن التدوين بعامة لم يشمل اللغة كلها لسعتها، وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقول: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير". ويقول: "قد ذهب من كلامهم شيء كثير". وقال ابن فارس: "ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل. قال: ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاء شعر كثير وكلام كثير. وأحرى بهذا القول أن يكون صحيحاً". ولهذا وجب الحذر في الأحكام بموت الألفاظ، والتسليم بأن الإلمام بكل الممات في اللغة غاية لا يمكن الوصول إليها، فثمة ما أميت قديماً من العربية القديمة؛ كالثمودية والصفوية واللحيانية من العربية الشمالية، والسبئية والمعينية والقتبانية والحميرية، من العربية الجنوبية، وهي مما يسمى ((العربية البائدة)) أو عربية النقوش التي بادت قبل الإسلام بما فيها من ألفاظ وظواهر لا نكاد نعرف منها إلا القليل. وللمات في اللغة وجهان رئيسان: الأول: موت الألفاظ، وهو موضوع هذا البحث. الثاني: موت المعاني، أي أن يموت المعنى ويبقى اللفظ لتطوّر دلالته وانتقالها إلى معنى آخر، كالألفاظ الإسلامية التي تركت معانيها القديمة مثل: الصلاة، والزكاة، والصّوم، والكفر، وما أشبه هذا، وهو كثير، ولا يدخل في هذا البحث. وقد دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع ((موت الألفاظ في العربية)) أمور، من أهمها: 1- أهمّيّة البحث في الممات، لكونه أحد الظّواهر اللّغويّة الّتي تحتاج إلى درس، يفصّل فيها ويكشف عن مخبوئها ويبحث في أسبابها. 2- دور الممات في نموّ اللّغة وإثرائها عن طريق إحيائه واستعماله، كما سيأتي بيانه في الباب الأخير من هذا البحث. 3- دوره في وصل الحلقات المفقودة في التطوّر اللّغويّ والكشف عن تاريخ العربيّة، وإسهامه في التّعرف على أحوال العرب الغابرين، وتفهّم شؤون حياتهم الاجتماعية، فهو لا يقلّ في قيمته العلميّة عن القطع الأثريّة الّتي يُعنى بها علماء الحفريّات والآثار. 4- جِدّة الموضوع، وطرافته، إذ لم يكتب فيه - فيما أعلم - بحث مستقلّ يجمع شتاته ويبسط القول فيه، ويبين أسبابه، ودوره في نمو اللغة، فليس في تراثنا اللّغويّ قديمه وحديثه شيء منه سوى إشارات وأقوال متناثرة في بعض الألفاظ المماتة، وعلى رأس هؤلاء: الخليل في ((العين)) وسيبويه في ((الكتاب)) وابن دريد في ((الجمهرة)) والسّيوطي في ((المزهر)) . أو مباحث قصيرة عارضة في مؤلّفات بعض المعاصرين؛ كالّرافعي في ((تاريخ آداب العرب)). وأنستاس الكرملي في ((نشوء اللّغة ونموّها واكتهالها)). والدكتور حلمي خليل في كتابه ((المولّد في العربية)) وقد استلّ ما كتبه في كتابه هذا فنشره في ((المجلة العربية)) بعنوان: ((انقراض الكلمات)) ((وهو عنوان مطابق لفصل قصير كتبه ستيفن أولمان في كتابه: ((دور الكلمة في اللغة)) إلا أن ما كتبه ((أولمان)) لا يخصّ لغة بعينها، فهو يبحث في علم اللغة العام، مع تركيز على اللغات الأوربية، كالإنجليزية والفرنسية. وللأستاذ شفيق جبري محاضرة بعنوان ((حياة الألفاظ)) أشار فيها إلى شيء من الممات والمهجور، ومسهما مسًّا خفيفًا، ونشرت محاضرته في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق. وللشيخ عبد القادر المغربي مقالة وجيزة بعنوان ((توهم الميت حيًّا)) نشرها في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ناقش فيها أربع كلمات مناقشة صرفية موجهاً ما جاء فيها من شذوذ صرفي في الجمع أو اشتقاق اسم المفعول توجيهاً يستند على قاعدة سماها: توهم الميت حيًّا. |
|
08-08-2018, 06:59 PM | #13 |
| أَسبَاب كَثْرَة المترادفات فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة شبه المترادفة من مقدمة كتاب اللطائف في اللغة لأحمد بن مصطفى اللَّبَابِيدي الدمشقي 1-كَثْرَة اللهجات: فقد يكون للشى الْوَاحِد كل لهجة اسْمًا وَعند احتكاك اللهجات بَعْضهَا بِبَعْض ونشأة اللُّغَة الْعَرَبيَّة الْمُشْتَركَة تتعدد التسمياتُ للمسمَّى الواحد، كما ذكرنا في مثال: السِّكِّين والمُدْيَةُ وَقد فطن إِلَى هَذَا الأصفهانى بقوله: "ينبغى أَن يحمل كَلَام منع الترادف على مَنعه فِي لُغَة وَاحِدَة أما فِي لغتين فَلَا يمنعهُ عَاقل". كَمَا يَقُول الأصوليون:" إِن من أَسبَاب الترادف أَن تضع إِحْدَى القبيلتين أحد الاسمين وَالْأُخْرَى الاسم الآخر للمسمى الْوَاحِد من غير ان تشعر إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى، ثمَّ يشْتَهر الوضعان وَيخْفى الواضعان أَو يلتبس وضع أَحدهمَا بِوَضْع الآخر". 2 -أَن يكون للشىء الْوَاحِد اسْم وَاحِد ثمَّ يُوصف بِصِفَات مُخْتَلفَة باخْتلَاف خَصَائِص ذَلِك الشىء. وَقد ينسى الْوَصْف أَو يتناساه المتحدث باللغة، وَمن أَمْثِلَة ذَلِك السَّيْف وأسماؤه، والأسد وأسماؤه.. وَغير ذَلِك. فَمن صِفَات السَّيْف الْمُخْتَلفَة الهندوانى، لِأَنَّهُ صنع فِي الْهِنْد، والصارم، والباتر، والصقيل، والقاضب ،لحدته فِي الْقطع وَغير ذَلِك. 3- الطّور اللغوى للفظة الْوَاحِد: فقد تتطور بعض الْأَصْوَات للكلمة الْوَاحِدَة فتشأ للكلمة عدَّة مترادفات لاخْتِلَاف النُّطْق بهَا أَكثر من شكل كتابى، فيعدها اللغويون ترادفًا؛ مثل: هطلت السَّمَاء، وهتلت، وهتنت، وأصلهم وَاحِد وتمتلىء كتب الأبدال بِمثل هَذِه الْكَلِمَات. 4-الِاسْتِعَارَة من اللُّغَات الْأَجْنَبِيَّة: مثل الْأَلْفَاظ المستعارة من الفارسية والرومية وَغَيرهَا مثل كلمة دستفشار من أَسمَاء الْعَسَل، قَالَ ابْن مَنْظُور :كلمة فارسية مَعْنَاهَا مَا عصرته الأيدى وغير ذَلِك. وبهذه الْأَسْبَاب الْأَرْبَعَة وجدنَا كَثْرَة مترادفات اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَوجدنَا هَذَا التراث الضخم من الْأَسْمَاء للمسمى الْوَاحِد وَلَيْسَ ترادفا تَامًّا بل شبه ترادف؛ إِذْ قد تُوجد فروق دقيقة فِي الْمَعْنى بين الْكَلِمَات بَعْضهَا وَبَعض، ويكفى أَن أضْرب مثلا بِكَلِمَات أَسمَاء الدَّهْر وَأَسْمَاء السّنة وَأَسْمَاء السَّمَاء وَأَسْمَاء النُّور فِي هَذَا الْكتاب، فقد ذكرت فِي هَامِش الصفحات معانى كل كلمة من الْكَلِمَات لتظهر لنا الفروق الدقيقة الَّتِى وَضَعتهَا بعض المعاجم اللُّغَوِيَّة لهَذِهِ الْكَلِمَات الَّتِي تعبر مجَازًا مترادفات أَو قد تطلق مجَازًا بَعْضهَا مَكَان بعض، وَلَكِن فِي الْحَقِيقَة لكل لَفْظَة معنى محدد لَهُ. وَلذَا نفى الْعلمَاء وجود الترادف التَّام فِي الْقُرْآن؛ لِأَنَّهُ قمة الفصاحة وَالْبَيَان فَكل لَفْظَة تُوضَع مَكَانهَا فمثلا كلمة "جلس" تذكر فِي مَكَانهَا، وكلمة "قعد" فِي مَكَانهَا مَعَ أَن بعض اللغويين قد يذكرهَا فِي بَاب الترادف. وَكَذَلِكَ كلمتى "أَتَى، جَاءَ"، وَكَذَلِكَ كلمتى "السغب، الْجُوع" وَغير ذَلِك مِمَّا يطول بِنَا الحَدِيث عِنْد ذكره، وَإِن وجدنَا كَثْرَة من اللغويين والبلاغيين تنبهوا لمثل هَذَا .. |
|
08-08-2018, 07:00 PM | #14 |
| الأصوات العربية من كتاب مناهج البحث في اللغة للدكتور تمام حسان المخرج مكان النطق؛ ويمكن أن نحصر المخارج والصفات التي تستخدمها اللغة العربية الفصحى في التمييز بين أصواتها، وهذا الاستخدام للتميز، إنما يعتبر من منهج التشكيل الصوتي لا من منهج الأصوات، ولكن منذ الذي يستطيع أن يكتفي من العملة النقدية بأحد وجهيها عن كليهما؛ فالأصوات والتشكيل الصوتي، كما قلنا وصف ثم تقعيد للموصوف، والمعروف أن كل شيء يمكن أن يحد إيجابا وسلبا، والحد الإيجابي ذكر الماهية، والسلبي ذكر النقيض، أو بعبارة الأصوليين، والإيجابي مفهوم الموافقة، والسلبي مفهوم المخالفة، وكما أن بعض حد الشيء أنه هو نفسه، يمكن أن يقال: إن بعض حده أيضا أنه ليس هو ذلك الشيء الآخر، وهذا البعض الأخير من الحد يستخدم كثيرا باعتباره "قيمة خلافية"، ضرورية في فهم أي شيء، "فالقيم الخلافية" إذا هامة جدًّا في دراسة الأصوات والتشكيل الصوتي، بل لها من الأهمية ما يساوي أهمية "القيم الوفاقية"، وسنحاول بعد ذكر المخارج أن نطبق هذا الكلام، والمخارج التي نذكرها هنا تختلف إلى حد ما، عن تلك التي توجد في علم التجويد والقراءات، اختلافًا اقتضاه منهج البحث الحديث، وسنشير عند كل نقطة من نقطة الخلافة بين هذه المخارج، وتلك إلى وجه النقص، الذي نراه في وجهة نظر النحاة والقراء. هذه المخارج هي: 1- شفوي Bi-labial: ويكون بتقريب المسافة بين الشفتين بضمهما، أو إقفالهما في طريق الهواء الصادر عن الرئتين. 2- شفوي أسناني Labio 0 dental هو نتيجة اتصال الشفة السفلى بالأسنان العليا، لتضييق مجرى الهواء. 3- أسناني Dental: مبني على اتصال طرف اللسان بالأسنان العليا. 4- أسناني لثوي Dentil - alveolar: وهو ما اتصل طرف اللسان فيه بالأسنان العليا، ومقدمة اللسان باللثة، وهي أصول الثنايا. 5- غازي: Patatal: وهو الذي تحدث فيه صلة بين مقدم اللسان، وبين الغار "وهو الحنك الصلب الذي يلي اللثة". 6- طبقي Velar: وهو ما نتج عن اتصال مؤخر بالطبق، "وهو الجزء الرخو الذي في مؤخرة سقف الفم"، وهذه التسمية خلقت خلقًا، لتناسب أغراض البحث اللغوي، وقد أخذتها من كلمة "مطبق"، وكلمة "إطباق" بعد خلق صلة بين معاني الكلمات الثلاث: 7- لهوي Uvalar وهو ما اتصل فيه مؤخر اللسان باللهاة، "وهي آخر جزء في مؤخر الطبق". 8- حلقي Pharyngal: ونقصد به المخرج الناتج من تضييق الحلق، والحلق في اصطلاح هذا الكتاب، هو ما يعرف في الإنجليزية بكلمة Pharynx، ولا يشمل المنطقة التي تسمى baccal area، فهو ما بين الحنجرة وبين جذر اللسان، ويسمى في العامية "الزور". 9- حنجري Glottal: وهو نتيجة الإقفال، أو التضييق في الأوتار الصوتية التي في قاعدة الحنجرة. ولقد خلط النحاة العرب خلطًا كبيرًا في تحديد هذه المخارج، وحسبك أن ترى أن ابن الجزري، يفاضل بين الآراء المختلفة في تحديد عدد منها، وحتى إذا عد سبعة عشر مخرجًا، وجدناه يسمي النون مثلا مرة زلقية؛ لأنها تخرج من زلقة اللسان، ومرة أخرى خيشومية؛ لأنها تنطق في تجويف الفم وهو الخيشوم، ومرة ثالثة يقول: إنها من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا؛ فهو بهذا يعطي النون مخرجًا خاصًّا حينًا، ويجمعها مع الراء واللام حينًا، ويضمها إلى الميم في مخرج حينًا آخر. ثم يغلط في تحديد مخارج أصوات الخاء، والغين والكاف والطاء والدال والتاء. فيقول: إن صوتي الخاء والغين من أدنى الحلق إلى الفم، وراء مخرج القاف، مع أنهما من مؤخر اللسان مع الطبق أمام مخرج القاف، وهو يجعل الكاف خلف القاف، والعكس أصح، فصوت الكاف من نفس مخرج صوتي الخاء والغين، ثم هو يقول: إن الأصوات الثلاثة الأخيرة نطعية، ويقصد أنها من نطع الغار "ونسميه في هذا الكتاب الغار"، والصحيح أنها أسنانية لثوية. وأما صفات الأصوات، فيمكن النظر إليها من زوايا متعددة: 1- الطريقة التي يتم بها النطق في مخرج ما "الشدة والرخاوة والتركيب والتوسط". 2- حدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية، وعدمه "الجهر والهمس". 3- تحرك مؤخر اللسان، أو مقدمة تحركًا ثانويًّا أثناء حدوث النطق في موضع آخر، "الإطباق والتغوير والتحليق". أما من الناحية الأولى فإن الهواء الخارج من الرئتين، إما أن يصادف مجراه مسدودًا سدًّا تامًّا عند أية نقطة في الجهاز النطقي من الأوتار الصوتية إلى الشفتين، وإما أن يصادف في طريقه تضييقًا لا سدًّا، وهذا التضييق يسمح للهوء بالمرور، ولكن مع الاحتكاك بنقطة التضييق. وفي الحالة الأولى، عندما ينسد مجرى الهواء انسدادًا تامًا، تحتجز كمية الهواء خلف نقطة الانسداد في حالة ضغط أعلى من ضغط الهواء الخارجي، حتى إذا انفك هذا الانسداد، وانفصل العضوان المتصلان لسد المجرى انفصالا مفاجئًا، اندفع الهواء الداخلي ذو الضغط الثقيل إلى الهواء الخارجي، ذي الضغط الأخف محدثًا جرسًا انفجاريًّا، وهو عنصر مهم من عناصر نطق الأصوات الشديدة، ونقول: إنه من عناصر نطق الأصوات الشديدة؛ لأن نطق الصوت الشديد يتكون من أكثر من عنصر واحد، ويمكن أبيان ذلك بالإيضاح الآتي: يحدث ذلك في الأصوات الشداد مثل الباء، والتاء، والدال، والضاد، والطاء، والقاف، والكاف، والهمزة. فإذا وجد الهواء مجراه مضيقًا غير مسدود، مر في هذا المجرى محتكًّا بالعضوين اللذين سببا تضييقه، والأصوات التي يصحبها هذا النوع من طريقة النطق تسمى الأصوات الرخوة، وذلك مثل أصوات الثاء، والحاء، والخاء، والذال، والسين، والشين، والصاد، والظاء، والعين، والغين، والفاء. قلنا: إن انفصال العضوين اللذين يسدان مجرى الهواء في الأصوات الشداد انفصال سريع مفاجئ، والسرعة والمفاجأة، هنا شرط مهم من شروط تسمية الصوت شديدًا، ولكن في أصوات اللغة العربية التي نقرأ بها القرآن في مصر واحدًا منها، لا يصحابه هذا الانفصال المفاجئ، بل يصاحبه انفصال بطيء، وفي هذا الانفصال البطيء مرحلة بين الانسداد المطلق، والانفتاح المطلق شبيهة كل الشبه بالتضييق، الذي وصفانه حين الكلام عن الأصوات الرخوة، وتأتي هذه المرحلة بعد الانفجار مباشرة، فتسمح للهواء المسبب عن الانفجار بأن يحتك بالعضوين، اللذين في طريق التباعد البطيء احتكاكًا شبيهًا بما يصاحب الأصوات الرخوة، ومعنى ذلك أن هذا الصوت العرب، يجمع بين عنصر الشدة وعنصر الرخاوة؛ فهو مركب منهما؛ ولهذا سميناه صوتًا مركبًا، ذلك هو صوت الجيم. ومن الممكن أن يمر الهواء بمجراه دون انحباس، أو احتاك من أي نوع، إما؛ لأن مجراه في الفم خال من المعوقات، كما في صوتي الواو والياء، وإما؛ لأن مجراه في الفم يتجنب المرور بنطقة السد أو التضييق، كما في صوت اللام، وإما؛ لأن هذا التضييق غير ذي استقرار على حاله، كما في صوت الراء، أو؛ لأن الهواء لا يمر بالفم وإنما يمر بالأنف، كما في أصواتي الميم والنون، وكل هذه الطائفة من الأصوات تسمى الأصوات المتوسطة؛ لأنها ليست شديدة ولا رخوة. إذا يجتمع لنا من الأنواع والأصوات بالنسبة لطريقة النطق في مخرج ما أربعة: 1- الصوت الشديد. 2- الصوت الرخو. 3- الصوت المركب. 4- الصوت المتوسط. وأما بالنسبة لحدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية تصاحب نطق الصوت، أو عدم وجود هذه الذبذبة، فيمكن تقسيم الأصوات إلى قسمين: 1- المجهور، وهو الصوت الذي تصحب نقطة ذبذبة في الأوتار الصوتية. 2- المهموس، وهو ما لا يصحب نقطة هذه الذبذبة. فالجهر والهمس ناحيتان تختلف فيهما الأصوات وتتقابل، حتى لو اتحدت مخارجها، كما في صوتي الدال والتاء، وكما في صوتي الزين والسين، فالصوت الأولى من كل زوج مجهور والثاني مهموس، والزوج الأول شديد والثاني رخو، والزوجان معًا من الأصوات الأسنانية اللثوية، ونحن نعود بذاكرتك مرة ثانية إلى فكرة تحديد الصوت تحديدًا إيجابيًّا أو سلبيًّا، وإلى المعنى الذي نقصده بالقيم الخلافية. انظر مثلا إلى الجدول الآتي: فبعض معنى "د" أنها صوت شديد مجهور، وبعض هذا المعنى أيضًا أنها ليست "ت" ولا "ز"، مع اشتراك بينها، وبين القرين الأول في الشدة، وبينها وبين الثاني في الجهر، فالبعض الثاني من المعنى، أو سمه مفهوم المخالفة إن أردت أو الجانب السلبي إن شئت؛ هو الذي ينبني على القيمة الخلافية بين "د"، و"ت" من ناحية، وبين "د" و"ز" من ناحية أخرى، ومثل ذلك يقال في التفريقبين كل صوت وآخر من أصوات اللغة، ولعلك قد لاحظت أن "ج" و"ل" في هذا الجدول الصغير ليس لهما مقابل مهموس. والواقع أن المخارج "Articulations"، والصفات "Correlations"، وهي الأساس الذي يقوم عليه بناء التطريز اللغوي، الذي سيأتي الكلام عنه في منهج التشكيل الصوتي، ولم ينته تطبيق الصفات عند هذا الحد، فهناك ظاهرة عضيلة تصحب النطق، وتتسبب في وجود ظاهرة أخرى أصواتية تطرد معها وجودًا وعدمًا؛ تلك الظاهرة هي ما يسميه القراء الإطباق، وليحذر القارئ من الخلط بين اصطلاحين يختلفان أكبر اختلاف، وإن اتحدا في كثير مما يخلق صلة بينهما ذانك هما: 1- الطبقية، "أو النطق في مخرج الطبق" Velar Articulation". 2- الأطباق، "أو ما يسمى في علم الأصوات" Velarization". فالطبيقة ارتفاع مؤخر اللسان، حتى يتصل بالطبق فيسد المجرى أو يضيقه تضييقًا يؤدي إلى احتكاك الهواء بهما في نقطة التقائهما، فهي إذا حركة عضوية مقصودة لذاتها، يبقى طرف اللسان معها في وضع محايد، أما الإطباق فارتفاع مؤخر اللسان في اتجاه الطبق بحيث لا يتصل به، على حين يجري النطق في مخرج آخر غير الطبق، يغلب أن يكون طرف اللسان أحد الأعضاء العاملة فيه، فالأطباق إذًا حركة مصاحبة للنطق الحادث في مخرج آخر، وتنتج عنه قيمة صوتية معينة، تلون الصوت المنطوق، برنين خاص كما في نطق أصوات الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والخاء والغين، والقاف، فإذا عرفنا أن الإطباق صفة تطرد وجودًا وعدما مع قيمته صوتية معينة، أمكن أن نقول: إن الإطباق يصلح نقطة اتفاق، أو نقطة اختلاف بين الأصوات اللغوية، فهو مثلا نطقة اتفاق بين صوتي الصاد والضاد، ونقطة اختلاف بين صوتي الصاد والسين؛ لأن الصاد مبطقة، والسين ليست كذلك، وقد عبر النحاة والقراء الأقدمون عن الطبقية والإطباق كليهما باصطلاح "الاستعلاء"، وقصدوا بذلك علو مؤخر اللسان في اتجاه الطبق، سواء اتصل به كما في الطبقية، أم لم يتصل كما في الإطباق. ويقابل الإطباق "Velarization" التغوير "Palataliaziton"، والتغوير الميل بالصوت ذي المخرج، الذي خلف الغار إلى أن ينطق في الغار، أو أقرب ما يكون إليه، فصوت الكاف المجاور لأحد أصوات الكسرة مغور في لهجة العراق، كما في قولهم: "فيك" و"ركيك" وفي اللغة الفارسية، كما في قولهم "حاكم"، وحتى صوت "ch"، في الألمانية يقسمونه إلى نطق مغور "jout ich"، وآخر غير مغور ويسمى "jout ach"، فأنت ترى أن مخارج الأصوات، وصفاتها أساس ينبني عليه التفريق بينها، من حيث مكان كل منها في المنظمة التشكيلية التي تسمى بالأبجدية، وليس الإطباق السبب الأول والأخير في ظاهرة التفخيم، بل هو أحد عنصري هذه الظاهرة. أما العنصر الآخر من عناصر التفخيم، فهو التحليق Pharyngalization" وهو قرب مؤخر اللسان من الجدار الخلفي للحلق، نتيجة لتراجع اللسان بصفة عامة، فالتفخيم إذا ظاهرة أصواتية ناتجة عن حركات عضوية، تغير من شكل حجرات الرنين بالقدر، الذي يعطي الصوت هذه القيمة الصوتية المفخمة، أما التغوير فنتيجته قيمة أصواتية مرفقة ترقيقا عظيما، كما في الأمثلة التي ذكرناها. |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
سطور , في , كتاب |
| |