ننتظر تسجيلك هنا


الإهداءات


العودة   منتدى همسات الغلا > ۞ (المنتديات الاسلاميه) ۞ > (همسات القرآن الكريم وتفسيره )


إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-11-2017, 06:45 PM   #22


مبارك آل ضرمان غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 6704
 تاريخ التسجيل :  22 - 12 - 2015
 العمر : 34
 أخر زيارة : 29-10-2024 (09:03 PM)
 المشاركات : 287,431 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي



البلاغة في القرآن الكريم - ظالم النفس والسوء

في الآية الكريمة .. : (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) .. وقوله تعالى : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ) بعض الناس يتساءل : أليست الفاحشة والسوء هما ظلم النفس .. انهما نفس الشيء . . فالذي يظلم نفسه يقودها إلى العذاب .. والذي يفعل فاحشة يقود نفسه إلى العذاب .. نفس الشيء .. بل إن بعض الناس يقولون إن العطف هنا غير واجب ولكنني أقول لهم أن دقة التعبير .. ودقة اللفظ من دقة القائل .. والله سبحانه وتعالى يبين لنا إعجاز القرآن .. ويقول لنا إن هناك فارقا بين من يفعل سوءا أو فاحشة .. ومن يظلم نفسه .. ما هو هذا الفارق ؟ الذي يفعل سوءا أو فاحشة يفعلها ليحقق لذة عاجلة .. نفس ضعيفة يغلبها الهوى وتخضع لبريق الدنيا .. إنسان شرب الخمر .. حقق لنفسه لذة الخمر .. إنسان زنا .. حقق لنفسه شهوة عاجلة .. إنسان سرق مال غيره .. حقق لنفسه شهوة عاجلة بالتمتع بهذا المال .. هذا هو الإنسان الذي يفعل السوء أو الفاحشة .. أما الإنسان الذي يظلم نفسه فهو إنسان آخر ... إنه يرتكب إثما ولا يستفيد منه .. لا يعطي نفسه شيئا في الدنيا ولا في الآخرة .. حينئذ يكون قد ظلم نفسه .. بمعنى إنه لا أعطاها شيئا عاجلا .. ولا نجاها من عذاب الآخرة ومن الناس من يبيع دينه بدنياه .. ومنهم من يبيع دينه بدنيا غيره .. الذي يبيع دينه بدنياه يطلب العاجلة .. أما من باع دينه بدنيا غيره .. خاب في الأولى والآخرة .. هو الذي ظلم نفسه .. ولكن كيف يظلم الإنسان نفسه ارتكب إثما .. شهادة الزور دون أن يحقق نفعا دنيويا إذا قبض ثمن شهادة الزور .. يكون قد حقق نفعا دنيويا .. ولكن الذي يظلم نفسه هو الذي يفعل ذلك ليرضي غيره .. ونجد كثيرين في الدنيا مثل هؤلاء . إنسان يتهم إنسانا آخر بتهمة باطلة .. لا يستفيد هو شيئا ... ويرتب الإثم , إذن هو ظلم نفسه .. إنسان يكتب تقريرا كاذبا في إنسان ليمنع ترقيته .. أو يتطوع بحديث يختلقه عن شخص ليمنع الخير عنه أو يؤذيه .. أو يشي بشخص كذبا ليدخله السجن .. أو يضعه في الاعتقال .. أو يتجسس على إنسان ليلفق له تهمة لمجرد الانتقام التافه .. كل هؤلاء يظلمون أنفسهم .. إنهم يرتكبون الإثم في الدنيا .. ولا يجعلون له فائدة لا في دنياهم .. ولا في آخرتهم .. فكأن الذي ظلم نفسه هو الذي جعلها تدخل النار .. هو الذي جعلها ترتكب الإثم .. وفي نفس الوقت لم يعطها شيئا على وجه الإطلاق .. فهو ظالم لنفسه في الدنيا .. ظالم لنفسه في الآخرة .. وهنا فرق بين التعبيرين .. ومن هنا لا نقول أبدا هذا عطف .. ولا ألفاظ مترادفة بل دقة بالغة في التعبير


 

رد مع اقتباس
قديم 08-11-2017, 06:51 PM   #23


مبارك آل ضرمان غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 6704
 تاريخ التسجيل :  22 - 12 - 2015
 العمر : 34
 أخر زيارة : 29-10-2024 (09:03 PM)
 المشاركات : 287,431 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي



هلا بيك دكتورتنا العظيمة - نور اليقين
ارحب في طرحكم المهم والمميز حيث يتحدث
عن اهم نقطة في حياتنا وخاصة فيما يتعلق
ببلاغة القرآن الكريم والموضوع جدا مفيد وتافع
لمن أراد ان يتعرف على بلاغة القرآن الكريم
وهو بحر عميق يحتاج منها إلى وقفات نبين
للجميع ماهي بلاغة القرآن والأساليب التي جاء
بها القرآن الكريم وحلي بنا ان نقف ونبين للمشاهدين
الاعجاز في القرآن الكريم وماجاء به من ألفظ تحدي
فنقول بسم الله ونتوكل على الله ونحاول انا وانتي دكتورتنا
لم الموضوع بما يليق به في القرآن الشريف ونكسب الأجر من الله
ومنكم دكتورتنا نتعلم ونستفيد من علمك جزاكم الله خير الجزاء



الأستاذ القدير جزيت أخيراً أيها المتأمل المتفكر


لقد أتعبت فصاحة القرآن الكريم وبلاغته كل الفصحاء والبلغاء الذين وقفوا وقفة إجلال وتعظيم أمام هذا الإعجاز الرباني كلنا نقطة في بحر علوم القران وتلامذة ننهل من هذا العطاء الكريم

الله يرضي عليك ويوفقك امين


 
التعديل الأخير تم بواسطة د/ نور اليقين ; 08-11-2017 الساعة 07:11 PM

رد مع اقتباس
قديم 08-11-2017, 07:08 PM   #24


مبارك آل ضرمان غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 6704
 تاريخ التسجيل :  22 - 12 - 2015
 العمر : 34
 أخر زيارة : 29-10-2024 (09:03 PM)
 المشاركات : 287,431 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي










فصاحة القرآن وبلاغته


القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة، وهو أحسن الحديث، وهو في أعلى درجة من الفصاحة، وأرفع رتبة في البلاغة، وفصاحة القرآن وجه من وجوه إعجازه، ولفصاحته العالية، وبلاغته الرفيعة: قال الوليد بن المغيرة لما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً".

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ! إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ فو الله مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ. وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، ووالله إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ.[1]

قبل أن نتكلم عن فصاحة القرآن وبلاغته، وعن إعجازه الذي بهر العقول، وأدهش الألباب، وسلم له أساطين البلاغة، وسجد له الفصحاءُ اللسنُ، نذكر حد الفصاحة والبلاغة، ليتبين المراد، ويعلم القصدُ والسدادُ، وتتميز الذرى من الوهاد.

حد البلاغة:
البَلاغةُ لغةً: مصدر (بَلُغَ الرَّجُلُ) الضَّم: إِذا صَارَ بَلِيغًا.[2]
وَرَجُلٌ بَلِيغٌ حسَنُ الْكَلَامِ فَصِيحُه يُبَلِّغُ بِعِبَارَةِ لِسَانِهِ كُنْهَ مَا فِي قَلْبِهِ.[3]
قال أبو هلال العسكري: (وهي إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة).[4]
وقال الرومي: (البلاغة هي الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة).
وقال الفارسي: (البَلَاغَةُ معرفة الفصل من الوصل).[5]
وقيل البَلاغةُ فِي الْكَلَام: مطابقته لمقْتَضى الْحَال مَعَ فَصَاحَته).[6]

واصطلاحًا: البلاغة هِيَ التَّعْبِير عَن الْمَعْنى الصَّحِيح لما طابقه من اللَّفْظ الرَّائِق من غير مزِيد على الْمَقْصد وَلَا انتقاص عَنهُ فِي الْبَيَان، فعلى هَذَا فَكلما ازْدَادَ الْكَلَام فِي الْمُطَابقَة للمعنى وَشرف الْأَلْفَاظ ورونق الْمعَانِي والتجنب عَن الركيك المستغث كَانَ بلاغته أَزِيد.[7]

وقال السكاكي: (بلاغةُ المتكلِّمِ بُلُوغه فِي تأدية الْمَعْنى حدا لَهُ اخْتِصَاص بتوفية خَواص التراكيب حَقّهَا، وإيراد أَنْوَاع التَّشْبِيه، وَالْمجَاز، وَالْكِنَايَة على وَجههَا).[8]

وَقيل: (بُلُوغه فِي كَلَامه لعبارة كنه مُرَاده مَعَ إيجاز بِلَا إخلال، وإطالة بِلَا إملال، وَقيل: ملكة يقتدر بهَا على تأليف كَلَام بليغ).[9]

حد الفصاحة:
الفصاحة لغةً: الخلوصُ، ومنه: فصُحَ وأَفْصَحَ فهو مفصِحٌ وفصيحٌ، أي: خلُصَ من الرِّغوة.
ومنه قولهم: وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ.
ومنه: فصُحَ الرَّجُلُ إذا جادت لغته، وأفصح: تكلَّم بالعربية.

وأما في اصطلاح أهل البيان، فهي: صوغ الْكَلَام على وَجه لَهُ تَوْفِيَة بِتمَام الإفهام لمعناه بتبيين المُرَاد، وتزيين الْأَلْفَاظ بِمَا يقرب فهمه، ويعزب نظمه، ويعذب استماعه، ويعجب ابتداعه، وَيدل مطالعه على مقاطعه، وينم مبادئه على تواليه لَا بِاسْتِعْمَال الشوارد الَّتِي لَا تفهم، والأوابد الَّتِي لَا تعلم.

وقيل الفصاحة هي: خُلُوص الكلمة من تنافر الحروف، كقوله: تَرَعَى الهُعْخُعَ. ومن الغرابة، كقوله: وَمَرْسِنًا مُسَرَّجَا.
ومن مخالفة القياس اللُّغوي كقوله: العَلِيِّ الأَجْلَلِ.
وخلوص الكلام من ضعف التأليف كقوله:
جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ.












 

رد مع اقتباس
قديم 08-11-2017, 07:10 PM   #25


مبارك آل ضرمان غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 6704
 تاريخ التسجيل :  22 - 12 - 2015
 العمر : 34
 أخر زيارة : 29-10-2024 (09:03 PM)
 المشاركات : 287,431 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي










ومن تنافر الكلمات كقوله:

وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانِ قَفْرٍ ♦♦♦ وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ



ومن التعقيد، وهو إما إخلال نظم الكلام فلا يُدْرَى كيف يتوصل إلى معناه، كقوله:

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكًا ♦♦♦ أبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُه



وإما عدم انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهِر كقوله:

سَأَطْلُبُ بَعْدَ الدَّارَ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا ♦♦♦ وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا



فانظر هل ترى في القرآن شيئًا مما ذُكِرَ مما يقدحُ في فصاحةِ الكلامِ، أو يوسمُ بأنه ركيكُ من الألفاظ، أو هل ترى فيه تنافرًا بين حروفِهِ، أو لفظًا غريبًا يصعب في النطق، أو ينبو عنه السمع؟

﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾.[10]

فانظر إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.[11]

وفيها تكرر حرف الميم ستَ عشرةَ مرةً، ومع ذلك لا يشعر القارئ بشئٍ من العسر عند النطق بها، ولا بشئ من الثقل عند سماعها.



ثم انظر إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.[12]

وفيها تكرر حرف القاف عَشْرَ مراتٍ، ولا يكاد القارئ يشعرُ بتوالي هذا الحرف مع شدته وقلقلته، وجهره، واستعلائه، ومع ذلك لايشعر القارئ إلا بسهولة النطق، وسلاسة الألفاظ.

وصدق الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾.[13]



عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "جَاءَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. قَالَ: أَعِدْ، فَأَعَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَاللهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلُهُ لَمُغْدِقٌ وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ".[14]



وذكر أبو عبيدة: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: ﴿ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ﴾ فسجد وقال: "سجدت لفصاحته".

وسمع آخر يقرأ: ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾.[15]

فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مَخْلُوقًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ.

وَحُكِيَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَوْمًا نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ بِقَائِمٍ عَلَى رَأْسِهِ يَتَشَهَّدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَاسْتَخْبَرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن ذلك، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ مِمَّنْ يُحْسِنُ كَلَامَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِكُمْ فَتَأَمَّلْتُهَا فَإِذَا قَدْ جُمِعَ فيها ما أنزل الله على عيسى بن مَرْيَمَ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ﴾.[16]

وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ جَارِيَةٍ، فَقَالَ لَهَا: "قَاتَلَكِ اللَّهُ مَا أَفْصَحَكِ"!

فَقَالَتْ: أو يعدّ هَذَا فَصَاحَةً بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾.[17]

فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَنَهْيَيْنِ، وَخَبَرَيْنِ، وَبِشَارَتَيْنِ). [18]

وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾.[19]

جمع فى ثلاثِ كلماتٍ بين: العنوانِ، والكتابِ، والحاجةِ.



وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾.[20]

قال بعض العلماء هذه الآية ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ.. ﴾ من عجائب القرآن لأنها بلفظة ﴿ يَا ﴾ نادت، و: ﴿ أَيُّهَا ﴾ نبَّهت، و: ﴿ النَّمْلُ ﴾ عيَّنت، و: ﴿ ادْخُلُوا ﴾ أمرت، و: ﴿ مَسَاكِنَكُمْ ﴾ نصَّت، و: ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ حذَّرت، و: ﴿ سُلَيْمَانُ ﴾ خصت، و: ﴿ وَجُنُودُهُ ﴾ عمَّت، و: ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ اعتذرت.



فجمع فى هذه الآية على لسان النملة بين النداء، والتنبيه، والأمر، والنهى، والتحذير، والتخصيص، والعموم، والإشارة، والإعذار.



قال ابن كثير رحمه الله: (وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَجَمِيعُهُ فَصِيحٌ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا مِمَّنْ فَهِمَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ التَّعْبِيرِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَهُ وَجَدْتَهَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَبْسُوطَةً أَوْ وَجِيزَةً، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ أَمْ لَا وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ حَلَا وَعَلَا لَا يَخلق عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَمَلُّ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنْ أَخَذَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ جَاءَ مِنْهُ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِبَالُ الصُّمُّ الرَّاسِيَاتُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْقُلُوبِ الْفَاهِمَاتِ، وَإِنْ وَعَدَ أَتَى بِمَا يَفْتَحُ الْقُلُوبَ وَالْآذَانَ، وَيُشَوِّقُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَمُجَاوَرَةِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: ﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.[21]

وَقَالَ: ﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.[22]

وَقَالَ فِي التَّرْهِيبِ: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ﴾.[23]

﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾.[24]

وَقَالَ فِي الزَّجْرِ: ﴿ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾.[25]

وَقَالَ فِي الْوَعْظِ: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾.[26]



إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَلَاوَةِ، وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ حَسَنٍ نَافِعٍ طَيِّبٍ مَحْبُوبٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ رَذِيلٍ دَنِيءٍ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فَأَوْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ مَا يُأْمَرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يُنْهَى عَنْهُ.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾. الْآيَةَ.[27]



وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ الْمَعَادِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَفِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِمَا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ وَالْمَلَاذِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، بَشَّرَتْ بِهِ وَحَذَّرَتْ وَأَنْذَرَتْ؛ وَدَعَتْ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرَاتِ، وَزَهَّدَتْ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَتْ فِي الْأُخْرَى، وَثَبَّتَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَهَدَتْ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَشَرْعِهِ الْقَوِيمِ، وَنَفَتْ عَنِ الْقُلُوبِ رِجْسَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).[28]



وقال شهاب الدين القسطلاني: (والثانى: أن إعجازه هو الوصف الذى صار به خارجًا عن جنس كلام العرب من النظم، والنثر، والخطب، والشعر، والرجز، والسجع، فلا يدخل فى شىء منها، ولا يختلط بها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة فى نظمهم ونثرهم، ولذلك تحيرت عقولهم، وتدلهت أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله فى حسن كلامهم، فلا ريب أنه فى فصاحته قد قرع القلوب ببديع نظمه، وفى بلاغته قد أصاب المعانى بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقيٌ إلا تهافت تهافت الفراش فى الشهاب، وذلَّ ذُلَّ النقد حول الليوث الغضاب.



وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كَفَّتْهُ عن ذلك، كما حُكِى عن يحيى بن حكيمٍ الغَزَالِ- بتخفيف الزاى وقد تشدد- وكان بليغَ الأندلسِ فى زمانه أنه قد رام شيئًا من هذا، فنظر فى سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته خشية ورقة، حملته على التوبة والإنابة.



وحكى أيضًا أن ابن المقفع - وكان أفصحَ أهلِ وقْتِهِ - أنه طلب ذلك ورامه، ونظم كلاما وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبى يقرأ فى مكتب قوله تعالى: ﴿ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾. الآية، فرجع ومحى ما عمل وقال: أشهد أن هذا لا يُعَارَضُ أبدًا، وما هو من كلام البشر).[29]



وقال صاحب سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد: (ووجه إعجازه معلوم ضرورة بجزالة لفظه، وفخامة تأليفه، وبلوغه أقصى درجات مراتب البلاغة والفصاحة وحسن التئام كلماته ونظم آياته وبراعة إيجازه وغرابة فنونه وفصاحة وجوه فواتحه وخواتمه، فلا يحتاج العلم به إلى دليل).[30]



وقال أبو عيسى الرماني: (فأما البلاغة فهي على ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في والوسائط، بين أعلى طبقة وأدنى طبقة، فما كان في أعلاها بقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس، وليست البلاغة إفهام المعنى، لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عيي، ولا البلاغة أيضًا بتحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يحقق اللفظ على المعنى وهو غث مستكره، ونافر متكلف.



وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.



فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن، وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة، وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب والعجم، كإعجاز الشعر المفحم، فهذا معجز للمفحَم خاصة، كما أن ذلك معجز للكافة).[31]



وقال أبو بكر الجصاص: (وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَلَاغَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ التَّحَدِّي لِلْعَجَمِ وَاقِعًا بِأَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَلَاغَةِ بِلُغَتِهِمْ الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ بِهَا).[32]



وقال أبو بكر الباقلاني: (وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها، على حدٍ واحدٍ، في حسنِ النظمِ، وبديعِ التأليفِ والرصفِ، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا.



وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حدٍ واحدِ لا يختلف.



وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كبيرا.



ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة.



فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار وعند تباين الوجوه، واختلاف الاسباب التي يتضمن).[33]



وقال الزرقاني: (أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة، من قصائد محدودة، أما سائر شعرهم بعد فبين متوسط ورديء، وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه على الناثرين من الخطباء والكتاب.



وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة فافتح المصحف الشريف مرة واعمد إلى جملة من كتاب الله وأحصها عددًا، ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أي كلام آخر، وقارن بين الجملتين، ووازن بين الكلامين، وانظر أيهما أملأ بالمعاني مع القصد في الألفاظ ثم انظر أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها في ذلك الكلام الإلهي، وكم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها في ذلك الكلام البشري؟



إنك إذا حاولت هذه المحاولة فستنتهي إلى هذه الحقيقة التي أعلنها ابن عطية فيما يحكي السيوطي عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد.



وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا، حتى كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي أوتي جوامع الكلم، وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي، وصيغ على أكمل ما خلق الله، فإنه مع تحليقه في سماء البيان وسموه على كلام كل إنسان، لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن، وسبحان الله و بحمده سبحانه الله العظيم).[34]



ويقول الدكتور محمد بكر إسماعيل: (اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام, وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرًا على القلوب, وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركَّبَها تركيبًا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد، وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس، وتقتَحِم شغاف القلوب.



وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ, مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت.



فقد جاء رصف المباني وفق رصف المعاني، فالتقى البحران على أمر قد قُدِرَ، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعًا.



واستسلمت لهذا النسق الفريد، والترتيب العجيب أساطين البلاغة في كل زمان ومكان، واستمدَّت منه النفوس المؤمنة روحها وريحانها، فلم يشبع من دراسته العلماء، ولم يملّ تلاوته أحد من الأتقياء).[35]



وَقَالَ حَازِمٌ فِي مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ: إِنَّ الْإِعْجَازَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اسْتَمَرَّتِ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي جَمِيعِهِ اسْتِمْرَارًا لَا تُوجَدُ لَهُ فَتْرَةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ لَا تَسْتَمِرُّ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِي جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي الْعَالِي مِنْهُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْمَعْدُودِ ثُمَّ تَعْرِضُ الْفَتَرَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ فَتَقْطَعُ طَيِّبَ الْكَلَامِ وَرَوْنَقَهُ فَلَا تَسْتَمِرُّ لِذَلِكَ الْفَصَاحَةُ فِي جَمِيعِهِ بَلْ تُوجَدُ فِي تَفَارِيقَ وَأَجْزَاءٍ مِنْهُ وَالْفَتَرَاتُ فِي الْفَصَاحَةِ تَقَعُ لِلْفَصِيحِ إِمَّا بِسَهْوٍ يَعْرِضُ لَهُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ أَوْ مِنْ جَهْلٍ بِهِ أَوْ مِنْ سَآمَةٍ تَعْتَرِي فِكْرَهُ أَوْ مِنْ هَوًى لِلنَّفْسِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا فِيمَا يَحُوشُ عَلَيْهَا خَاطِرُهُ مِنِ اقْتِنَاصِ الْمَعَانِي سَمِينًا كَانَ أَوْ غَثًّا فَهَذِهِ آفَاتٌ لَا يَخْلُو مِنْهَا الْإِنْسَانُ الْفَاضِلُ وَالطَّبْعُ الْكَامِلُ.[36]



وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: (ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ علماء النظر إلى أن وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ لَكِنْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا وَصَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ.



قَالَ: وَالعِلَةُ فِيهِ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَاتِ الْتِبْيَانِ متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة، غير متساوية، فمنها الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ، وَمِنْهَا الْفَصِيحُ القريب السَّهْلُ، وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ.



وَهَذِهِ أَقْسَامُ الْكَلَامِ الْفَاضِلِ الْمَحْمُودِ، دون النوع الهجين المذموم، الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة.

فَالقسمُ الْأَوَّلُ: أعلى طبقات الكلام وأرفع.

وَالقسم الثَّانِي: أَوْسَطُهُ وأقصده.

وَالقسم الثَّالِثُ: أَدْنَاهُ وَأَقْرَبُهُ.



فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً، وَأَخَذَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شُعْبَةً، فَانْتَظَمَ لَهَا بِامتِزَاجِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ، وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ نِتَاجُ السُّهُولَةِ، وَالْجَزَالَةَ وَالْمَتَانَةَ يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الوُّعُورَةِ فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِهَا الْقُرْآنُ؛ لِيَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودلالةً له على صِحَّةِ مَا دَعَا إِليهِ مِنْ أَمْرِ دِينهِ.



وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبِأَلفَاظِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي، وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَلَا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُمْ لاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ ائْتِلَافُهَا، وَارْتِبَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فيتوصلوا بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأَحْسَنِ مِنْ وُجُوهِهَا إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: لَفْظٌ حَاصِلٌ، وَمَعْنًى بِهِ قَائِمٌ، وَرِبَاطٌ لَهُمَا نَاظِمٌ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الأمور مِنْهُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ حَتَّى لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَفْصَحَ وَلَا أَجْزَلَ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَلَا تَرَى نَظْمًا أَحْسَنَ تَأْلِيفًا، وَأَشَدَّ تَلَاؤُمًا وَتَشَاكُلًا مِنْ نَظْمِهِ، وَأَمَّا المَعَانِي فلا خفاءَ على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بِالتَّقَدُمِ فِي أَبْوَابِهَا، وَالتَّرَقِيِّ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الفضل من نعوتها وصفاتها.



وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا أَنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ فَلَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي كلام العليم القدير، الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عَدَدًا.



فتفهم الآن واعلم أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا صَارَ مُعْجِزًا لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَفْصَحِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ مُضَمَّنًا أَصَحَّ الْمَعَانِي).[37]



وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أيضًا: (وَقَدْ قُلْتُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجْهًا ذَهَبَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ صَنِيعُهُ فِي الْقُلُوبِ وَتَأْثِيرُهُ فِي النُّفُوسِ فَإِنَّكَ لَا تَسْمَعُ كَلَامًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ خَلَصَ لَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ فِي حَالِ ومن الرَّوْعَةِ وَالْمَهَابَةِ فِي حَالٍ آخَرَ مَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾؛ وَقَالَ: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾) انتهى.[38]



وكان طبيعيًا أن يستكين العرب أمام هذه الذروة الرفيعة من البلاغة والبيان، وهي ذروة ليس لها في اللغة العربية سابقة ولا لاحقة، ذروة جعلت العرب حين يستمعون إلى آية تعنو وجوهم لربهم، ويخرون ركعا وسجدًا مشدوهين بجماله مبهورين ببلاغته، وفي ذلك يقول جل وعز: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ ويقول: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾. ولا يزال هذا الشعور الذي كان يختلج في قلوب العرب الأولين تخفق به القلوب في كل عصر لما يفتح من آفاق العالم العلوي، ولما يؤثر به في صميم الوجدان الروحي، وهو يمتاز بأسلوب خاص به ليس شعرًا، ولا نثرًا مسجوعًا، وإنما هو نظمٌ بديعٌ، فصلت آياتُهُ بفواصلَ تنتهي بها، وتطمئنُ النفسُ إلى الوقوف عندها.



وتتنوع الفواصل بين طوال، وقصار ومتوسطة بتنوع موضوعاته وتنوع المخاطبين، فقد كان يغلب عليه الإيجاز والإشارة في بدء الدعوة قبل الهجرة، حين كان يدعو إلى عبادة الله ونبذ الديانة الوثنية، والإيمان بالبعث والنشور، فلما انتقل الرسول عليه السلام إلى المدينة غلب عليه البسط، والإطناب لبيان نظم الشريعة، وما ينبغي أن يكون عليه نظام الحياة الاجتماعية، مما تقتضيه مصالح البشر في حياتهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة.[39]



قال الراغب: (فألفاظ القرآن هي لبّ كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم، وحكمهم، وإليها مفزع حذّاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرّعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتّبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة).[40]



(والإعجاز فِي كَلَام الله تَعَالَى أَن يُؤَدِّي الْمَعْنى بطرِيق هُوَ أبلغ من جَمِيع مَا عداهُ من الطّرق. فإعجاز كَلَام الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ بِهَذَا الطَّرِيق وَهُوَ كَونه فِي غَايَة البلاغة وَنِهَايَة الفصاحة على مَا هُوَ الرَّأْي الصَّحِيح).[41]



وإنما أطلت النفس في النقل عن أئمة الإسلام ردًا على من يتوهم أن القرآن ككلام البشر، يعتريه من الضعف ما يعتري كلام البشر، أو أن فصاحته يدانيها كلام الفصحاء، ويقاربها أساليب البلغاء.












 

رد مع اقتباس
قديم 08-11-2017, 07:29 PM   #26


مبارك آل ضرمان غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 6704
 تاريخ التسجيل :  22 - 12 - 2015
 العمر : 34
 أخر زيارة : 29-10-2024 (09:03 PM)
 المشاركات : 287,431 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي








لفظ (وراء) في القرآن الكريم





تبحث معاجم اللغة كلمة (وراء) تحت مادة (ورى)، التي تعني الستر والاختفاء. و(الوراء) ظرف من ظروف المكان. ومثله: الخلف. ومقابله: الأمام، والقدام؛ قال الزجاج: "(وراء) يكون لخلف ولقدام، ومعناها ما تَوارَى عنك فاستتر. قال: وليس من الاضداد كما زعم بعض أهل اللغة، وأما (أمام) فلا يكون إِلا قدام أبداً".

وقال الفراء: "لا يجوز أَن يقال لرجل وراءك: هو بين يديك، ولا لرجل بين يديك: هو وراءك، إِنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهور. تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك حرٌّ شديد؛ لأَنك أنت وراءه، فجاز لأنه شيء يأْتي، فكأَنه إِذا لَحِقَك صار من وراءك، وكأنه إِذا بَلَغْتَه كان بين يديك؛ فلذلك جاز الوجهان".

ولفظ (وراء) بصيغته الظرفية المكانية ورد في القرآن الكريم أربعاً وعشرين مرة، من ذلك قوله تعالى: {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} (الإنسان:27)، وورد من أصل هذه المادة الفعل (ورى) بمعنى الستر في ستة مواضع، منها قوله عز وجل: {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} (النحل:59)، وورد هذا الفعل بمعنى قدح النار في موضعين، أحدهما: قوله تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون} (الواقعة:71) أي: النار التي يشعلها الحطب الرطب. ثانيهما: قوله عز وجل: {فالموريات قدحا} (العاديات:2) هي الخيل حين توري النار بحوافرها، وهي سنابكها.

ولفظ (وراء) جاء في القرآن الكريم على خمسة معان، هي:

- وراء بمعنى قُدام، من ذلك قوله تعالى في قصة الخضر عليه السلام: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} (الكهف:79). قال القرطبي: "الأكثر على أن معنى (وراء) هنا أمام، يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصباً).

وقال ابن عاشور: "ويستعار (الوراء) لحال تعقب شيء شيئاً، وحال ملازمة طلب شيء شيئاً بحق، وحال الشيء الذي سيأتي قريباً، كل ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء، لا يلبث أن يتصل به". وذهب ابن عطية إلى أن (وراء) هنا على بابها؛ وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان؛ وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو الأمام، والذي يأتي بعده هو الوراء، وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي.

ومن مجيء (وراء) بمعنى (قدام) كذلك قوله عز وجل: {من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد} (إبراهيم:16). قال الطبري: "(وراء) في هذا الموضع، يعني أمام، كما يقال: إن الموت من ورائك، أي: قدامك". وقال النحاس: "أي: من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى، أي: استتر؛ فجهنم توارى ولا تظهر، فصارت من وراء؛ لأنها لا تُرى".

وقس على ذلك قوله تعالى: {ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} (الإنسان:27) أي: أمام الكافرين يوماً تشيب لهوله الولدان. وقوله سبحانه: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} (المؤمنون:100) أي: ومن أمامهم حاجز يحجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا.

- وراء بمعنى (الإعراض) عن أمر الله والانصراف عنه، من ذلك قوله تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم} (آل عمران:187) أي: جعلوه خلف ظهورهم. وهذا مثل، يقال لكل رافض أمراً كان منه على بال: قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره، يعني به: أعرض عنه، وصد، وانصرف. والمعنى: أنهم لم يعملوا به، ولم يتدبروا آياته.

ووفق هذا المعنى أيضاً قوله تبارك وتعالى: {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا} (هود:92) أي: استخففتم بربكم، فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تأتمرون لأمره، ولا تنتهون لنهيه، ولا تخافون عقابه، ولا تعظمونه حق عظمته.

- وراء بمعنى (خلف)، من هذا القبيل قوله عز وجل: {وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} (الأنعام:94) أي: خلفكم. ومن أيضاً قوله تبارك وتعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} (الأحزاب:53) أي: من خلف ستار. ومن كذلك قوله تبارك وتعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} (الحجرات:4). وهذا غير قليل.

- وراء بمعنى (سوى)، من ذلك قوله تعالى: {ويكفرون بما وراءه} (البقرة:91) قال الطبري: "تأويل (وراءه) في هذا الموضع (سوى)، كما يقال للرجل المتكلم بالحسن: ما وراء هذا الكلام شيء، يراد به: ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام. فكذلك معنى قوله: {ويكفرون بما وراءه} أي: بما سوى التوراة، وبما بعدها من كتب الله التي أنزلها إلى رسله".

وبحسب هذا المعنى أيضاً قوله عز وجل: {فمن ابتغى وراء ذلك} (المؤمنون:7).) يقول: فمن التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته، وملك يمينه، فهم المتعدون حدود الله، المجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم. وأيضاً جاء وفق هذا المعنى قوله عز وجل: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} (النساء:24) قال الطبري: "أخبرهم جل ثناؤه أنه قد أحل لهم ما عدا هؤلاء المحرمات المبينات في هاتين الآيتين".

- وراء بمعنى (بعد)، جاء على هذا المعنى قوله تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي} (مريم:5) أي: من بعدي، يعني: بعد موتي، قال الطبري: "من بعدي أن يرثوني". ومنه أيضاً قوله عز وجل: {والله من ورائهم محيط} (البروج:20) أي: من بعد أعمالهم محيط بهم، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على جميعها. وبحسب هذا المعنى فسر القرطبي قوله عز وجل: {من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد} (إبراهيم:16) قال: "أي: من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعد،
قال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب


أي: بعد الله جل جلاله".

وحاصل ما تقدم أن لفظ (وراء) أكثر ما جاء في القرآن بمعنى (أمام) أو بمعنى في قابل الأيام. وجاء بدرجة تالية بمعنى (الخلف) الذي هو مقابل (الأمام). وجاء بدرجة أقل بمعنى (سوى) أو (ما عدا)، وبمعنى (بعد)، وبمعنى (الإعراض) عن أمر الله ونبذه.









 

رد مع اقتباس
قديم 08-11-2017, 07:31 PM   #27


د/ نور اليقين غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 8086
 تاريخ التسجيل :  15 - 9 - 2017
 أخر زيارة : 17-10-2018 (11:29 PM)
 المشاركات : 10,789 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Morocco
 الجنس ~
Female
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Navajowhite
افتراضي



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد

قوله تعالى :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) سورة فاطر
من الأوجه البلاغية في هذه الآية :
- إظهار قدرة الله تعالى على الخلق والتكوين والإبداع .
- الاكتفاء بذكر "ثمرات" عن ذكر دورة الحياة النباتية من البذرة وحتى الثمرة ، وكذلك في "مختلف ألوانها" عن تعدد الألوان وأصناف الفواكه .
- الإيجاز ، حيث حذف "ذو" أي : ذو جدد ، أو : منها جدد بيض ومنها جدد حمر مختلف ألوانها ، ومنه غرابيب سود .
- الإطناب في وصف الجدد في الجبال حتى أتى على كل ألوانها .
- العنوان ، وهو التوجيه ولفت الانتباه إلى علم طبقات الأرض والجيولوجيا .
- الالتفات في "أنزل" و "فأخرجنا" من الغائب إلى المتكلم .
- التدبيج وصحة التقسيم ، وهو نوع من الطباق ، فذكر الألوان ما بين أبيض وأسود غربيب وأحمر وما بينهما ، وهو أمر مشاهد في الجبال .
- المبالغة في " غرابيب سود " حيث بالغ في شدة السواد ، وهذا من بلاغة وبديع القرآن العظيم .
- ذكر السيوطي في الإتقان "وغرابيب سود" من التأكيد اللفظي ، وهو تكرار اللفظ بمرادفه من الإطناب .
والله أعلم .
وأختم بنقل جميل من كلام صاحب تفسير الكشاف :
" أَلْوانُها أجناسها من الرّمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها. والجدد : الخطط والطرائق. قال لبيد : أو مذهب جدد على ألواحه
ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه وَغَرابِيبُ معطوف على بيض أو على جدد ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب. وعن عكرمة رضى اللّه عنه : هي الجبال الطوال السود. فإن قلت : الغربيب تأكيد للأسود. يقال : أسود غربيب ، وأسود حلكوك : وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه. ومنه الغراب. ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق ،وما أشبه ذلك ".
علم البلاغة ذو فنون وشجون فهو بحر لا ساحل له ، وبالأخص إذا ولجََنا باب الاستقراءات


 
التعديل الأخير تم بواسطة د/ نور اليقين ; 08-11-2017 الساعة 07:40 PM

رد مع اقتباس
قديم 08-11-2017, 07:39 PM   #28


د/ نور اليقين غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 8086
 تاريخ التسجيل :  15 - 9 - 2017
 أخر زيارة : 17-10-2018 (11:29 PM)
 المشاركات : 10,789 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Morocco
 الجنس ~
Female
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Navajowhite
افتراضي



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد

هذه آية من آيات الله تعالى
المختارة المبهرة في خلق الأنهار والبحار وجعل العذوبة والملوحة فيها وجريان السفن عليها ، التي تذوقتها واستوقفتني من خلال الأساليب البلاغية الرائعة والبيان العجيب معاني لم نكن من قبل نحسُّ ونشعر بها أو نتذوقها لتأخذ باللباب ، كيف لا وهو آيات كتاب الله الذكرالحكيم والصراط المستقيم والسراج المنير الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه ولا يُسأم ويخلق عن كثرة الرد ، فهو كما قال الشاطبي : " وترداده يزداد فيه تجملاً " .
ومن هذه الآيات العظيمة التي تذوقتها ما قاله الله تعالى في سورة النحل : وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) سورة النحل
فاستخرجت بعض الصور البلاغية فيها بإيجاز منها :
- استعارة في قوله تعالى : "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ" ، فجعله تعالى كالحيوان المسخر للإنسان .
- مجاز عقلي ، حيث قال تعالى : "لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ" فالأكل من الحيوانات والأحياء البحرية .
- أيضاًُ إيجاز فاستغنى بـ" مِنْهُ " عن ذكر أسمائه وحيتانه وأحياءه .
- أيضاً الكناية ، حيث كنى سبحانه عن الحيتان والأسماك باللحم الطري .
- وأيضاً فيه العنوان ، وهو لفت الانتباه للعلوم التجريبية الدنيوية وهي هنا صناعة الحلي للتزين بها .
- الكناية أيضاً في : " حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا " بدل اللؤلؤ والمرجان .
- الالتفات ، من أفعال ( لتأكلوا.. وتستخرجوا.. تلبسونها.. وترى.. ) .
- كناية وإيجاز ، في : " وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ " أي : كناية عن طلب الكسب والرزق فيه من صيد الأسماك والحيتان وغيرها من الأحياء البحرية ، وتستخرجوا منه اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك .
فما أجمل تمعن وتدبر بلاغة الآيات القرآنية فهي تورث الحلاوة والذوق القرآني المجيد


 

رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
التلاعب , القران , تعرفوا , على , في


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
القران الكريم يشرح نظرية تطور الانسان من الأحسن تقويم الى الادنى منه مبارك آل ضرمان (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 12 16-04-2017 12:53 AM
🌹: علمني القران ....✏ ساره الطنايا ( همســـــات الإسلامي ) 10 04-04-2017 07:13 PM
قصة جميلة عن القران Beautiful story about QURAN ميارا (همســـــات English word) 31 13-06-2014 06:11 PM
واحة القلوب في رحاب القران الكريم قطرات احزان (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 51 21-03-2014 12:16 AM
إن لم نبدأ الآن في حفظ القران فمتى سنبدأ ؟؟؟ النـور (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 13 12-04-2013 11:41 AM

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML

الساعة الآن 12:00 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010