الإهداءات | |
| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
09-08-2018, 08:40 AM | #134 |
| توجيه إعراب كلمة في قولهم: "وكان أجود ما يكون في رمضان" من كتاب أمالي ابن الحاجب النحوية وقال ابن الحاجب ممليًا بدمشق سنع أربع عشرة على قولهم : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان": الرفع في " أجود" الثاني هو الوجه، لأنك إن جعلت في "كان" ضميرًا يعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن "أجود" بمجرده خبرًا، لأنه مضاف إلى ما يكون، فهو كون، ولا يستقيم الخبر بالكون عما ليس بكون. ألا ترى أنك لا تقول: زيد أجود ما يكون. فيجب أن يكون إما مبتدأ، خبره قوله: في رمضان، من باب قولهم: أخطب ما يكون الأمير قائمًا، وأكثر شربي السويق في يوم الجمعة، فيكون الخبر الجملة بكمالها، كقولك: كان زيد أحسن ما يكون في يوم الجمعة، وإما بدلا من الضمير في "كان"، فيكون من بدل الاشتمال كما تقول: كان زيد علمه حسنًا. وإن جعلته ضمير الشأن تعين رفع "أجود" على الابتداء والخبر. وإن لم تجعل في "كان" ضميرًا تعين الرفع أنه اسمها، والخبر محذوف قامت الحال مقامه على ما تقرر في باب: أخطب ما يكون الأمير قائمًا. وإن شئت جعلتَ" في رمضان" هو الخبر كقولهم: ضربي في الدار، لأن المعنى الكون الذي هو أجود الأكوان حاصل في هذا الوقت، فلا يتعين أن يكون من باب: أخطب ما يكون الأمير قائمًا. |
|
09-08-2018, 08:41 AM | #135 |
| مفردات القرآن من كتاب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب؛ وليس المراد بغرابتها أنها مُنكرة أو نافِرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربَة في التأويل؛ بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وجملة ما عدوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو تزيد قليلاً؛ جميعها روي تفسيره بالسند الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه، كان رحمه الله يقول: الشعر ديوانُ العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. ولقد كان رضي الله عنه يجلس بفناء الكعبة ثم يكتنفه الناس يسألونه عن التفسير وثبته من كلام العرب، وأسئلة نافع بن الأزرق التي ألقاها عليه وأومأنا إليها في باب الرواية من تاريخ آداب العرب - مشهورة، وقد أجابه عليها ابن عباس، واستشهد لجوابه بنيف وتسعين بيتاً من الشعر العربي الفصيح، فلا نطيل بسردها؛ فإن الكلام يتسع بما لا فائدة منه إلا معرفة الألفاظ وتفسيرها. ومنشأ الغرابة فيما عدوه من الغريب أن يكون ذلك من لغات متفرقة، أو تكون مستعملة على وجه من وجوه الوضع يخرجها مُخرَجَ الغريب: كالظلم، والكفر، والإيمان، ونحوها مما نقل عن مدلوله في لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدَثة، أو يكون سياق الألفاظ، قد دل بالقرينة على معنى معين غير الذي يُفهم من ذات الألفاظ، كقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) . أي فإذا بيناه فاعمل به. وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يسمون فهم هذا الغريب (إعراب القرآن) لأنهم يستبينون معانيه ويخلصونها؛ وقد روى أبو هريرة في ذلك: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبهُ " وبهذا الأثر ونحوه مما تأتي فيه لفظة (الإعراب) زعم طائفة من أبناء الطيالسة وطائفة من قومنا الذين في قلوبهم مرض، أن اللحن - أي الزيغ عن الإعراب - كان يقع من الصحابة في القرآن لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ضلة من القائلين، وذهاباً إلى معنى (الإعراب) النحوي، ثم غفلة عن لغة الإصطلاح، والاصطلاحُ في أهله ضربَ من الوضع: لا يحمل على كلامهم غير ما حملوه عليه. وكذلك عد العلماء في القرآن من غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة، ترجع إلى لغات الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريان والعبران والقِبط، وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن لأنه لا يسد مسدها إلا أن توضع لمعانيها ألفاظ جديدة على طريقة الأول، فيكون قد خاطب العرب بما لم يوقفهم عليه، وما لا يدركون بفطرتهم اللغوية وجه التصرف فيه، وليس ذلك مما يستقيم به أمر ولا هو عند العرب من معاني الإعجاز في شيء، لأن الوضع يعجز أهله، وهم كانوا أهل اللغة. ولذا قال العلماء في تلك الألفاظ المعربة التي اختلطت بالقرآن: إن بلاغتها في نفسها أنه لا يوجد غيرها يغني عنها في مواقعها من نظم الآيات، لا إفراداً ولا تركيباً، وهو قول يحسن بعد الذي بيناه. ومن ألفاظه ما يسميه أهل اللغة بالوجوه والنظائر، والأفراد. أما الوجوه والنظائر فهي الألفاظ التي وردت فيه بمعان مختلفة: كلفظ الهدى، فإنه فيه على سبعة عشر وجهاً، بمعنى: الثبات، والدين، والدعاء، ونحوها. ومن هذه الألفاظ: الصلاة، والرحمة، والسوء، والفتنة، والروح، وغيرها. وكلها مما يتبسط في استعماله بوجوه من القرائن وسياسة القرينة في العربية شريعة من شرائع الألفاظ. وأما الأفراد فهي ألفاظ تجيء بمعنى مفرد غير المعنى الذي تستعمل فيه عادة، ولابن فارس في إحصاء هذا النوع كتاب قال فيه: كل ما في القرآن من ذكر الأسف فمعناه الحزن، إلا قوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) فمعناه: أغضبونا. وكل ما فيه من ذكر البروج فهي الكواكب، إلا قوله: (وَلَؤ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) فهي القصور الطوال الحصينة. وكل ما فيه من ذكر البر والبحر؛ فالمراد بالبحر: الماء، وبالبر: التراب، إلا قوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فالمراد به البرية والعمران. وعد من مثل ذلك هو وغيره أشياء؛ فهذا ما يسمونه في لغة القرآن بالأفراد. *** |
|
09-08-2018, 08:42 AM | #136 |
| الإعراب وغير المشهور من اللغات من كتاب الأصلان في علوم القرآن لمحمد القيعي قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} ، وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . والإعراب: هو إظهار حركة آخر الكلمة لتفهم المعنى، ولتبيين الغرض الذي سيق من أجله الكلام. عن يحيى بن عتيق قال: قلت للحسن البصري: يا أبا سعيد، الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حُسْنَ المنطق، ويقيم بها قراءته، قال: حسن يابن أخي، فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها. وعلى الناظر في كتاب الله تعالى، والكاشف عن أسراره، النظر في الكلمة وصيغتها ومحلها وموقعها في الكلام؛ من: الابتداء أو الجواب أو الطلب أو الإخبار أو انتهاء الكلام أو غير ذلك. ومن المعلوم أن الإعراب فرع فهم المعنى؛ إذ لا يستقيم إعراب ما لم تفهم المعنى. ومن الخطأ أن تصير تابعًا للإعراب.. فنحن لا نميز الفاعل عن المفعول إلا إذا علمنا مَن تعلق به الفعل ومَن وقع عليه ذلك الفعل. ومن هنا كان الواجب الأول أن تفهم المعنى، ثم يكون الإعراب المبني عليها. فمثلًا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} لا يستقيم الإعراب إلا بعد فهم المراد من الكلالة، أهو الميت فيعرب حالًا، و"يورث" خبر كان. وصفة لرجل و"كان" تامة، أو هي ناقصة، و"كلالة" خبرها؟ والتقدير: وإن وجد رجل موروث حال كونه كلالة.. إن قُدرت "كان" تامة. أما إن قدرتها ناقصة.. فيكون التقدير: وإن كان رجل موروث ميتًا. فإن كان المراد بـ"كلالة" الورثة.. قدرت مضافًا؛ ليكون التقدير: وإن كان رجل يورث ذا كلالة. وإن أردت بها القرابة كانت مفعولًا لأجله، والتقدير: وإن كان رجل يورث لأجل الكلالة. وبهذا يتبين ضرورة فهم المعنى والمراد قبل الإعراب. ولا بد في التفسير من توضيح المعنى أولًا، فهو الهدف الأسمى من التفسير، والانشغال بالإعراب عن توضيح المعنى خروج عن التفسير، والاشتغال بتوضيح المعنى وترك الإسراف في الإعراب هي الطريقة المثلى في التفسير، فلا يعمد إليه إلا عند قيام احتمالات؛ فيقال: يكون الإعراب كذا إن كان المعنى كذا. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} .. إن كان المراد بالمثاني القرآن فـ"من" للتبعيض. وإن أريد بها سورة الفاتحة فـ"من" بيانية لسبع. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} .. إن كان "تقاة" بمعنى الاتقاء فتعرب مصدرًا.. أي: مفعولًا مطلقًا. وأن أريد متق.. أي: أمرًا يُتقى.. فمفعولًا به. وإن كانت جمعًا كرماة.. فهي حال. فأنت ترى أن كلمة "تقاة" يحتمل أن تكون مفعولًا مطلقًا، وأن تكون مفعولًا به، وأن تكون حالًا.. ولا يُعرف الموقع الإعرابي إلا بعد تحديد المراد منها وفهم معناها. وقوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} .. إن أريد بالأحوى: الأسود من الجفاف واليبس.. فهو صفة لغثاء. وإن أريد به شدة الخضرة.. فهو حال من المرعَى. وقد زلَّت أقدام كثير من المعربين راعوا في الإعراب ظاهر اللفظ ولم ينظروا في موجب المعنى؛ من ذلك قوله تعالى عن قوم شعيب قولهم له: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} . فإنه يتبادر إلى الذهن عطف "أن نفعل" على "أن نترك"، وذلك باطل؛ لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون. وإنما هو عطف على "ما"، فهو معمول للترك، والمعنى: أن نترك أن نفعل.. وعلى الكاشف عن أسرار الكتاب، والغائص في دقائقه أن يراعي ما تقتضيه الصناعة، فربما راعَى المعرِب وجهًا صحيحًا ولا نظر في صحته في الصناعة فأخطأ. من ذلك إعراب بعضهم "ثمود" مفعولًا مقدمًا في قوله {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} .. وتقديم المفعول على الفعل سائغ، إلا أنه هنا ممتنع؛ لأن ما بعد "ما" النافية لا يعمل فيما قبلها. والصواب: أنه معطوف على "عاد"، أو هو مفعول لـ"أهلك"؛ إذ الآيات: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} .. ومن ذلك أيضًا -فيما راعى المعرب وجهًا صحيحًا، وإغفاله ما تقضيه الصناعة- تعليقه "الباء" بناظرة من قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} . فتعلق حرف الجر بما قبله سائغ، إلا أن الاستفهام له الصدارة، و"ما" استفهامية.. والصواب: أنه متعلق بيرجع. وكذا قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} .. جعله بعضهم حالًا من معمول "ثقفوا".. والصواب: أنه منصوب على الذم؛ لأن معمول الشرط لا يتقدم على أداة الشرط؛ إذ الأداة لها الصدارة كالاستفهام. وبعدما يجب على المعرب: فهم المعنى ومراعاة الصناعة، يجب أن يكون ملمًّا بقدر كافٍ من العربية؛ حتى لا يقع فيما وقع فيه من جعل "الكاف" للقسم في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} . وتوهم حذف أول التاءين من الفعل الماضي في قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} . ومن المعلوم أن "الكاف" ليست من أحرف القسم، ولا تحذف إحدى التاءين إلا في أول المضارع. وعلى المعرب أن يتجنب الأمور البعيدة والأوجه الضعيفة واللغات الشاذة، ويخرج على القريب الفصيح القوي.. فإن لم يظهر فيه إلا الوجه البعيد فهو معذور. ولذلك أخطأ من وقف على "جناح" من قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ} ثم ابتدأ بقوله: {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ} .. وجعل {أَنْ يَطَّوَّفَ} منصوبًا على الإغراء بقوله: {عَلَيْهِ} . والتقدير عند هذا المخطئ: عليه الطواف، بالنصب على الإغراء، وضعف هذا أن الإغراء بضمير الغائب نادر، أما بضمير الخطاب كثير؛ نحو: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . ومن المستحسن أن تستوفي كل الوجوه المحتملة إن دعت إليها الحاجة؛ فتقول: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} .. يجوز في "الأعلى" أن يكون صفة منصوبًا، وأن يكون مجرورًا صفة لربك، والأول صفة لاسم. وعلى المعرِب أن يراعي في كل تركيب ما يشاكله؛ فمثلًا: يقف على "لا ريب" من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} ويبتدئ بقوله: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} . ويعتبر ذلك مبتدأ وخبرًا، والتركيب الآخر يأباه؛ كما في قوله من سورة السجدة: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ويترجح وجه على وجه إن أيد بقراءة؛ كما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} .. قدر بعضهم: ولكن ذا البر، وقدره آخر: ولكن البر بر مَن آمن. ويؤيد الأول قراءة: "ولكن البار بر من آمن". ويجوز أن تتعدد الاحتمالات مع تأييد كل احتمال، فيتغير المعرَب أي واحد منها؛ قال تعالى: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوَىً، قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} . يحتمل أن يراد بالموعد المصدر، ويؤيده: {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ} .. ويحتمل أن يراد به اسم المكان، ويؤيده: {مَكَانًا سُوَىً} .. ويحتمل أن يراد به اسم الزمان، ويؤيده: {يَوْمُ الزِّينَةِ} . ومما يجب على المعرِب مراعاته ملاحظة الرسم حتى لا يصل منفصلًا ولا يفصل متصلًا. فمن الأول اعتبار "اللام" من قوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} وجعلها لام الابتداء؛ لأنها اتصلت بـ"الذين". والصواب: أنها "لا" النافية. ومن الفصل بين المتصل قولهم في {سَلْسَبِيلًا} : "سل سبيلا"؛ إن "سل" فعل أمر، والمعنى: سل طريقًا يوصلك إليه، والحق أنها كلمة واحدة. ومما يجدر التنبه له أنه في حالة تعارض المعنى مع الإعراب يُقدم مراعاة المعنى؛ ومثاله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} والمعنى: إن الله قادر على رجع الإنسان يوم القيامة ليحاسبه؛ لكن الإعراب يأبَى أن يتعلق "يوم" بالمصدر الذي هو "رجع"؛ لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله.. وقد فصل هنا بـ"الهاء"، وبقوله: "لقادر". والخلاصة: إن على المعرِب مراعاة ما يأتي: 1- تحديد المعنى قبل الإعراب. 2- مراعاة كل ما تقتضيه الصناعة النحوية؛ ليلاحظ الفروق بين المشتبهات كالتوابع، وما له الصدارة، ومتعلقات حروف الجر، وغير ذلك. 3- تُراعى التراكيب في الآيات الأخرى المشابهة للآية؛ حتى لا يتعارض إعراب مع تركيب آية أخرى؛ فيكون كالتفسير بالرأي يعارض المأثور. 4- تترجح بعض الوجوه بالقراءة أو بالأمارات القوية، فإن اقتضى توضيح المعنى مخالفة ما تأباه الصناعة ولم يمكن توضيحها إلا على ذلك فلا بأس، ويُلتمس لذلك مخرج في النحو ولو ضعيفًا. 5- يجب مراعاة الرسم؛ حتى لا تتجزأ الكلمة الواحدة، ولا تدمج الكلمتان.. تلك الشروط تجب مراعاتها فيما يتعلق بقواعد الإعراب. وأما غير المشهور من اللغات.. فاعلم أن قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قاطع بعربية القرآن، والإحاطة باللغة أمر عسير جدًّا؛ ولذا تبدو بعض الكلمات غريبة على بعض الناس، فيحسبونها غير عربية، ومن المقطوع به أن كل العرب يعرفون لغتهم، فما يجهله البعض يعرفه الآخرون. وقال ابن عباس: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه. وقد سبق أن بينت معاني المفردات، وهذا بيان ما هو معرَّب، أو لم يزل غير عربي ومع ذلك قد وُجد في القرآن الكريم. ومن العلماء مَن أنكر وجود كلمات غير عربية في القرآن.. استدلالًا بقول الله: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ، ولو وجدت في القرآن كلمات غير عربية لكان عجزهم من الإتيان راجعًا إلى وجود كلمات ليست من لغتهم. ويُرد على الاستدلال بالآية؛ بأن المعنى: أكلام أعجمي ومخاطب عربي؟ ومن المعلوم أن القرآن كما يطلق على الكل يطلق على البعض، وأن وجود كلمات يسيرة لا تبرر عجزهم، فجل ما فيه عربي.. والذي أميل إليه أن في القرآن من أسماء الأعلام ما هو غير عربي، ولا يقدح في عربية القرآن وجود كلمات اتفقت فيها لغة العرب ولغة غيرهم، فتوافق اللغتين في كلمة واحدة أمر ممكن وواقع، وكل واحد ينسب تلك الكلمة إلى اللغة التي يعرف أن الكلمة منها، وإن كانت أيضًا بنفس المعنى في لغة أخرى. ورسالة الإسلام عامة، فلا حرج أن تستعمل كلمة هي عربية الأصل ومع ذلك هي في اللغات الأخرى انتقيت؛ لعذوبتها وسهولتها، ولا يحيط باللغة إلا نبي، كما قال الشافعي رضي الله عنه. |
|
09-08-2018, 08:43 AM | #137 |
| فى مراعاة أحوال التأليف وبيان ظهور المعانى المركبة من كتاب الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز ليحيى بن حمزة العلوي اعلم أن جميع ما أسلفناه إنما هو كلام فى الأمور الإفرادية إلا أن يعرض عارض فيجرى فى الأمور المركبة، والذى نذكره الآن إنما هو كلام فى الأمور المركبة، إلا أن يعرض ما يوجب الإفراد، وقبل الخوض فيما نريده من ذلك نذكر تمهيدا لما نريد ذكره من بعد، وينبنى على قواعد ثلاث. القاعدة الأولى [مراعاة ما يقتضيه علم النحو] يجب على الناظم والناثر فيما يقصد من أساليب الكلام مراعاة ما يقتضيه علم النحو أصوله وفروعه من تعريف المبتدأ وتقديمه وجوبا، إذا كان استفهاما، أو شرطا، وجوازا فى غير ذلك، ومراعاة تنكير الخبر، وتقديمه إذا كان المبتدأ نكرة، وأن يراعى فى الشرط والجزاء، كون الجملة الأولى فعلية وجوبا، والثانية بالفاء إذا كانت جملة اسمية، أو فعلية إنشائية، كالأمر والنهى، أو خبرية ماضية، وأن يأتى بالواو فى الجملة الاسمية إذا وقعت حالا، وتحذف مع المضارع المثبت، وأن يضع كل حرف لما يقتضيه معناه بالأصالة، فيأتى «بما» لنفى الحال و «بلا» لنفى الاستقبال و «بإن» الشرطية فى المواضع المحتملة المشكوك فيها و «بإذا» فى المواضع الصريحة و «بإذ» لما مضى وينظر فى الجمل، وما يجب من مراعاة عود الضمير فيها وما لا يجب، ويتصرف فى التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، والإضمار، والإظهار ومواضع الاتصال والانفصال فى الضمائر، وتعلقات الحروف إلى غير ذلك مما توجبه صناعة علم الإعراب، ويوجبه حكمه. القاعدة الثانية [مراعاة ما يقتضيه اللفظ من الحقيقة والمجاز] يجب عليهما مراعاة ما يقتضيه اللفظ من الحقيقة والمجاز، واعلم أن المجاز يدخل دخولا أوليا، وله مدخل عظيم، وهو أحق بالاستعمال فى باب الفصاحة والبلاغة، وقد شرحنا قوانينه فيما سبق فأغنى ذلك عن الإعادة، والذى نريد ذكره ههنا هو أن فائدة الكلام الخطابى إنما يكون لإثبات الغرض المقصود فى نفس السامع، وتمكنه فى نفسه على جهة التخيل والتصور، حتى يكاد ينظر إليه عيانا، وبيان ذلك أنا إذا قلنا زيد أسد، فإنه يفيد فائدة قولنا زيد شجاع، لكن التفرقة بين القولين فى التصور والتخيل ظاهرة، فإن قولنا: زيد شجاع، لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جرىء فى الحروب، مقدام على الأبطال، وإذا قلنا، زيد أسد، فإنه يتخيل عند ذاك صورة الأسد وهيئته وما هو متصف به من الشجاعة والبطش، والقوة والاستطالة على كل حيوان، واختصاصه بدقّ الفرائس وهضمها، وهذا لا نزاع فيه، ومما يوضح ما ذكرناه هو أن العبارة المجازية تكسب الإنسان عند سماعها هزة وتحرك النشاط، وتمايل الأعطاف، ولأجل ذلك يقدم الجبان، ويسخو البخيل، ويحلم الطائش، ويبذل الكريم نهاية البذل، ويجد المخاطب بها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع ذلك الكلام أفاق من تلك السكرة، وهب من سنة تيك النومة، وندم على ما كان منه من بذل مال، أو ترك عقوبة، أو إقدام على أمر هائل، وهذه هى فائدة سحر لسان الفصيح اللوذعىّ، المستغنى عن إلقاء الحبال والعصىّ، ومصداق هذه المقالة قوله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من البيان لسحرا، يشير به إلى ما قلناه، فهذه هى فائدة المجاز، نعم إذا ورد كلام يكون محتملا للحقيقة والمجاز جميعا فى موارد الشريعة، كان حمله على حقيقته أحق من حمله على مجازه، لأنها هى الأصل، والمجاز فرع، وقد قررنا هذا المأخذ فى الكتب الأصولية، وهمنا ما يتعلق بعلوم البلاغة. القاعدة الثالثة [مراعاة أحوال التأليف بين الألفاظ المفردة، والجمل المركبة] يجب مراعاة أحوال التأليف بين الألفاظ المفردة، والجمل المركبة، حتى تكون أجزاء الكلام متلائمة آخذا بعضها بأعناق بعض، وعند ذلك يقوى الارتباط، ويصفو جوهر نظام التأليف، ويصير حاله بمنزلة البناء المحكم المرصوص المتلائم الأجزاء، أو كالعقد من الدر فصلت أسماطه بالجواهر واللآلىء، فخلص على أتم تأليف، وأرشق نظام، ولنضرب فى ذلك مثالين: المثال الأول فى المدح وهذا كقول البحترى: بلونا ضرائب من قد مضى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزما وشيكا ورأيا صليبا تنقّل فى خلقى سؤدد ... سماحا مرجّى وبأسا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا فانظر إلى إجادته فى تأليف هذه الكلمات التى صارت كالأصباغ التى يعمل منها النقوش، فما أحسن موقع قوله هو المرء، كأنه قال «فتح» هو الرجل الكامل فى الرجولية، ثم تأمل إلى تنكيره السؤدد وإضافة الخلقين إليه، ثم عقّبه بقوله: فكالسيف، فلقد أجاد فى التشبيه وأحسن فى صوغه «وليس كلّ آذان تسمع القيل» فليس إذا راق التنكير فى موضع يروق فى كل موضع، بل ذاك على حسب الانتظام، ومأخذ السياق يفوق ويزداد إعجابا وحسنا، فأنت إذا فكرت فى هذه الأبيات وجدتها قد اشتملت على نهاية المدح مع ما حازته من جودة السبك وحسن الرصف فى أسهل مأخذ وأعجبه، وهكذا يكون الإعجاب فى القلة والكثرة بحسب ما ذكرناه. المثال الثانى فى الذم وهذا كقول الشاعر: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولى على النار فتأليف هذا البيت مشتمل على نهاية الهجاء حتى لا تكاد لفظة من ألفاظه إلا ولها حظ فى الذم والنقص لهؤلاء، فقوله «قوم» هو مخصوص بالرجال، وفيه دلالة على أنهم أعراب جفاة ليس لهم ثروة ولا تمكن فلا يألفون شيئا من مكارم الأخلاق، ثم إنه أتى «بإذا» التى تؤذن بالشرط المؤقت المعينّ، ليدل به على أن الأضياف لا يعتادونهم إلا فى الأوقات القليلة، ثم إنه عقبه بسين الاستفعال لتوذن أن كلبهم ليس من عادته النّباح، وإنما يقع منه ذلك على جهة الندرة لإنكاره للضيف، وأنه لا عهد له بهم، ثم جاء بالأضياف على جمع القلة، لما كانوا لا يقصدهم إلا نفر، قليل، ثم عرّفه باللام إشارة إلى أنهم قوم معهودون لا يقصدهم كل أحد، وفيه دلالة أيضا على أن كلبهم لا ينبح إلا بالاستنباح لهزاله وقلة قوته من الجوع والضعف، ثم أفرد الكلب ليدل على أنهم لا يملكون سواه لحقارة الحال، وكثرة الفقر، ثم إنه أضاف الكلب إليهم استحقارا لحالهم، ثم إنه أتى بقالوا، ليعرف من حالهم أنهم لا خادم لهم يقوم مقامهم فى ذلك، وأنهم يباشرون حوائجهم بأنفسهم، ثم جعل القول منهم مباشرة لأمهم، ليدل على أنه لم يكن هناك من يخلفها من خادمة وغيرها فى إطفاء النار، فأقام أمهم مقام الأمة والخادمة فى قضاء الحوائج لهم، ولم يشرّفوها عن ذلك، ثم جعلهم قائلين لما يستنكر من لفظ البول لأن ذكره يشعر بذكر مخرجه من العورة فى حق الأم فلم يكن هناك حشمة لهم ولا مروءة فى إضافة ما أضيف إليها من ذلك، ثم قال على النار، فيه دلالة على ضعف نارهم لقلة زادهم، وأنه يطفئها بولة، وأنها إنما أمرت بذلك، كى لا يهتدى الأضياف إليهم ولا يعرفوا مكانهم، ثم أتى بلفظة على، ولم يقل فوق النار، ليدل بحرف الاستعلاء على أنها قصدت حقيقة الاستعلاء بالبول قائمة من غير مبالاة فى التستر ولا مروءة فى تغطية العورة، فقد وضح لك بما قررناه أن التأليف هو العمدة العظمى والقانون الأكبر فى حسن المعانى وعظم شأنها وفخامة أمرها، ومن الأمثلة الرائقة ما يؤثر عن أمير المؤمنين قاله فى أول خلافته: «إن الله سبحانه أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشرّ، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشرّ تقصدوا، الفرائض الفرائض، أدّوها إلى الله تؤدّكم إلى الجنّة، إن الله تعالى حرّم حراما غير مجهول، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين فى معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم وهو الموت فإن الناس أمامكم وإن الساعة تحدوكم من خلفكم، تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأوّلكم آخركم، اتقوا الله فى عباده وبلاده، فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه» . فلينظر الناظر ما اشتمل عليه هذا الكلام من حسن التأليف وبديع التصريف، وليلحظ ما تضمنه قوله: تخففوا تلحقوا، بعين البصيرة وما اشتمل عليه من بلاغة المعانى وجزالة الألفاظ، وإنه لكلام من استوى على عرش البلاغة واستولى، ودل بالإرشاد على مصالح الدين والدنيا، فعليك بمراعاة جانب التأليف فإنه القطب الذى تدور عليه أرحية البلاغة، ولا سبيل إلى جذبه بزمامه، والاستيلاء على كماله وتمامه، إلا بعد إحراز فصول تكون محتوية على أسراره، ومستولية على المقصود منه. |
|
09-08-2018, 08:43 AM | #138 |
| في الصناعة اللفظية من كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير في الصناعة اللفظية وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: في اللفظة المفردة اعلم أنه يحتاج صاحب هذه الصناعة في تأليفه إلى ثلاثة أشياء: الأول منها: اختيار الألفاظ المفردة وحكم ذلك اللآلئ المبدَّدَة، فإنها تتخير وتنتقي قبل النظم. الثاني: نظم كل كلمة مع أختها المشاكلة لها لئلَّا يجيء الكلام قلقًا نافرًا عن مواضعه، وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كل لؤلؤة منها بأختها المشاكلة لها. الثالث: الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه وحكم ذلك الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم، فتارةً يجعل إكليلًا على الرأس، وتارةً يجعل قلادة في العنق، وتارةً يجعل شنفًا1 في الأذن، ولكل موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصه. فهذه ثلاثة أشياء، لا بُدَّ للخطيب والشاعر من العناية بها، وهي الأصل المعتَمَد عليه في تأليف الكلام من النظم والنثر. فالأول والثاني من هذه الثلاثة المذكورة هما المراد بالفصاحة، والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة. وهذا الموضع يضل في سلوك طريقه العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم والنثر، فكيف الجهال الذين لم تنفحهم رائحة? ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة, يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار, حتى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ فيضعها في موضعها. ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن في الاستعمال، وهما على وزن واحد وعدة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك، وهذا لا يدركه إلا من دقَّ فهمه وجلَّ نظره. فمن ذلك قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}وقوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فاستعمل "الجوف" في الأولى, و"البطن" في الثانية، ولم يستعمل "الجوف" موضع "البطن"، ولا "البطن" موضع "الجوف"، واللفظتان سواء في الدلالة، وهما ثلاثيتان في عددٍ واحد، ووزنهما واحد أيضًا، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف تفعل. ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة، وإن كانا مختلفين في الوزن، ولم يستعمل القرآن أحدهما في موضع الآخر وعلى هذا ورد قول الأعرج من أبيات الحماسة: نحن بنو الموت إذا الموتُ نزل ... لا عار بالموت إذا حُمَّ الأجل الموت أحلى عندنا من العسل وقال أبو الطيب المتنبي: إذا شئت حَفَّت على كل سابحٍ ... رجالٌ كأنَّ الموت في فمها شهد فهاتان لفظتان هما "العسل" و"الشهد"، وكلاهما حسن مستعمل, لا يُشَكُّ في حسنه واستعماله، وقد وردت لفظة "العسل" في القرآن، دون لفظة "الشهد"، لأنها أحسن منها، ومع هذا, فإن لفظة "الشهد" وردت في بيت أبي الطيب فجاءت أحسن من لفظة "العسل" في بيت الأعرج. وكثيرًا ما نجد أمثال ذلك في أقوال الشعراء المفلقين وغيرهم، ومن بلغاء الكتاب ومصقعي الخطباء، وتحته دقائق ورموز إذا علمت وقيس عليها أشباهها ونظائرها, كان صاحب الكلام في النظم والنثر قد انتهى إلى الغاية القصوى في اختيار الألفاظ, ووضعها في مواضعها اللائقة بها. واعلم أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها؛ لأن التركيب أعسر وأشق. ألا ترى ألفاظ القرآن الكريم -من حيث انفرادها- قد استعملها العرب ومن بعدهم، ومع ذلك يفوق جميع كلامهم ويعلو عليه، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب. وهل تشك أيها المتأمّل لكتابنا هذا إذا فكَّرت في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، أنك لم تجد ما وجدته لهذه الألفاظ من المزيّة الظاهرة إلا لأمر يرجع إلى تركيبها، وأنه لم يعرض لها هذا الحسن إلّا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وكذلك إلى آخرها. فإن ارتَبْتَ في ذلك فتأمَّل, هل ترى لفظة منها لو أخذت من مكانها, وأفردت من بين أخواتها, كانت لابسةً من الحسن ما لبسته في موضعها من الآية؟ ومما يشهد لذلك ويؤيده أنك ترى اللفظة تروقك في كلام، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها، فهذا ينكره من لم يذق طعم الفصاحة، ولا عرف أسرار الألفاظ في تركيبها وانفرادها. وسأضرب لك مثالًا يشهد بصحة ما ذكرته، وهو أنه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلةً متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة، فأثر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين،أما الآية فقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}. وأمَّا بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي: تلذُّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذُّ له الغرام وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة، إلا أن لفظة "تؤذي" قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن, فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها, وحسن موقعها في تركيب الآية. فأنصف أيها المتأمّل لما ذكرناه، واعرضه على طبعك السليم حتى تعلم صحته. وهذا موضع غامض يحتاج إلى فضل فكرة، وإمعان نظر، وما تعرَّض للتنبيه عليه أحد قبلي3. وهذه اللفظة التي هي "تؤذي" إذا جاءت في الكلام, فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به كقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} وقد جاءت في قول المتنبي منقطعة، ألا ترى أنه قال: "تلذ له المروءة وهي تؤذي" ثم قال: "ومن يعشق يلذ له الغرام" فجاء بكلام مستأنف. وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوي، وأُضِيف إليها كاف الخطاب، فأزال ما بها من الضعف والركة، وذاك أنه اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم، فجاءه جبريل -عليه السلام- ورقاه، فقال: "باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك". فانظر إلى السرّ في استعمال اللفظة الواحدة، فإنه لما زيد على هذه اللفظة حرف واحد أصلحها وحسنها. ومن ههنا تزاد الهاء في بعض المواضع، كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} ثم قال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} فإن الأصل في هذه الألفاظ كتابي وحسابي ومالي وسلطاني، فلمَّا أضيفت الهاء إليها -وتسمَّى "هاء السكت"- أضافت إليها حسنًا زائدًا على حسنها، وكستها لطافةً ولباقة. وكذلك ورد في القرآن الكريم: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} فلفظة "لي" أيضًا مثل لفظة "يؤذي" وقد جاءت في الآية مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطعة لا تجيء لائقة، كقول أبي الطيب أيضًا: تمسي الأمانيُّ صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيءٍ ليت ذلك لي وربما وقع بعض الجهَّال في هذا الموضع, فأدخل فيه ما ليس منه، كقول أبي الطيب: ما أجدر الأيام والليالي ... بأن تقول مَالَه ومَالِي فإن لفظة "لي" ههنا قد وردت بعد "ما", وقبلها "ما له", ثم قال: "وما لي", فجاء الكلام على نسقٍ واحد، ولو جاءت لفظة "لي" ههنا كما جاءت في البيت الأول لكانت منقطعة عن النظير والشبيه، فكان يعلوها الضعف والركة. وبين ورودها ههنا وورودها في البيت الأول فرق يحكم فيه الذوق السليم. وههنا من هذا النوع لفظة أخرى قد وردت في آية من القرآن الكريم، وفي بيت من شعر الفرزدق، فجاءت في القرآن حسنة، وفي بيت الشعر غير حسنة، وتلك اللفظة هي لفظة "القمل", أما الآية فقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ}. أما بيت الشعر فقول الفرزدق: من عِزِّهِ احتجرت كليبٌ عنده ... زربًا كأنَّهم لديه القمَّل وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون البيت من الشعر؛ لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن الكلام، ولم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في الشعر قافية، أي: آخرًا انقطع الكلام عندها. وإذا نظرنا إلى حكمة أسرار الفصاحة في القرآن الكريم غُصْنَا منه في بحر عميق لا قرار له. فمن ذلك هذه الآية المشار إليها، فإنها قد تضمَّنت خمسة ألفاظ، وهي: الطوفان، والجراد، والقمَّل، والضفادع، والدم، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي الطوفان والجراد والدم، فلمَّا وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قُدِّمَ منها لفظتا "الطوفان" و"الجراد"، وأُخِّرَت لفظة "الدم" آخرًا، وجعلت لفظة "القمل والضفادع" في الوسط، ليطرق السمع أولًا الحسن من الألفاظ الخمسة, وينتهي إليه آخرًا، ثم إن لفظة "الدم" أحسن من لفظتي "الطوفان" و"الجراد"، وأخف في الاستعمال، ومن أجل ذلك جيء بها آخرًا، ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية. وقد ذكر من تقدَّمَني من علماء البيان للألفاظ المفردة خصائص وهيآت تتصف بها، واختلفوا في ذلك، واستحسن أحدهم شيئًا فخُولف فيه، وكذلك استقبح الآخر شيئًا فخولف فيه. ولو حققوا النظر ووقفوا على السرِّ في اتصاف بعض الألفاظ بالحسن وبعضها بالقبح لما كان بينهم خلاف في شيء منها. وقد أشرت إلى ذلك في الفصل الثامن من مقدمة كتابي هذا الذي يشتمل على ذكر الفصاحة، وفي الوقوف عليه والإحاطة به غنىً عن غيره، لكن لا بُدَّ أن نذكر ههنا تفصيلًا لما أجملناه هناك، لأنا ذكرنا في ذلك الفصل أن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات؛ لأنها مركَّبة من مخارج الحروف، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح. |
|
09-08-2018, 08:44 AM | #139 |
| باب ما غيروه من أسماء الفاعلين والمفعولين. من كتاب تثقيف اللسان وتلقيح الجنان لابن مكي الصقلي يقولون لصانع السفن: نشاء. والصواب: منشئ، لأنه من أنشأ. ويقولون: رجل مهاب، ومعاب. والصواب: مهيب، ومعيب، لأنه لا يقال: أهبته، ولا أعتبه. ويقولون: أنا معجب بك. والصواب: معجب أيضا، فأما المعجب فهو الذي يعجبك. قال الأعور الشني: وكائن ترى من معجب لك شخصه ... زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم. ويقولون: أنت معزم على السفر. والصواب: عازم. ويقولون: هو مذهول العقل، ويوم مهول. والصواب: ذاهل، وهائل. ويقولون: قصيدة مردوفة بألف، وسلعة مقرورة للبيع. والصواب: مردفة، ومقردة. ويقولون: شيء مفسود، ومصلوح. والصواب: مفسد، ومصلح. ويقولون لمن أقعد عن المشي: مقعد، والصواب: مقعد، بضم الميم. ويقولون: أنت مربح في تجارتك، وفلان مخسر، ورجل مشغب. والصواب: رابح، وخاسر، وشاغب، لأنه لا يقال: أشغبني، وإنما يقال شغبني. ويقولون: جاء محثا، إذا جاء مسرعا. والصوابك حاثا، إذا حث دابته، أو محثوثا، إذا حثه غيره. ويقولون: مال محروز، ومركب موسوق، وخبز محروق. والصواب: محرز، وموسق، ومحرق. ويقولون: رجل نفاق، والصواب: منفق، وكثير الإنفاق. ويقولون: رجل مبطول، ومبطول اليد، والصواب: مبطل. ويقولون: هو متعوب، ومبغوض، وموجوع القلب. والصواب: متعب، ومبغض، وموجع القلب. وكذلك يقولون: لحم موقوع. وذلك خطأ. لأنه وقع لا يتعدى، لا يقال وقعته، وإنما يقال: أوقعته فوقع. يقولون: ماء طلوب، أي بعيد. والصواب: مطلب، يقال: أطلب الماء، إذا بعد، فأحوجك إلى أن تطلبه. ويقولون: عالم مبرز. والصواب: مبرز، بكسر الراء، برز الرجل في العلم وغيره، إذا نفد فيه. ويقولون: هذا حديث مزاد فيه، وثوب مصان. والصواب: مزيد، ومصون، وقد قيل فيه: مصوون، على التمام. ولم يجيء في ذوات الواو على التمام إلا حرفان: مسك مدووف، وثوب مصوون، فأما ذوات الباء فتجيء على النقص وعلى التمام، نحو: طعام مكيل ومكيول، وثوب مخيط ومخيوط، وطعام مزيت ومزيوت. ويقولون: زاد المحكي في حكايته كذا. والصوابك الحاكي. ويقولون: شرب المسكر. والصواب: المسكر، بكسر الكاف، فأما المسكر بفتح الكاف فهو السكران نفسه. ويقولون: حديث مستفاض. والصواب: مستفيض، أو مستفاض فيه. ويقولون: دار مخروبة، ونار موقودة، وخرقة ملزوقة. والصوابك مخربة، وملزقة، يقال: ألصقت الشيئ فلصق، وألزقته فلزق. ويقولون: رجل نهمي في الأكل. والصواب: نهم، فأما النهمي فمنسوب إلى نهم قبيلة من همدان. ويقولون للشيء المطروح: مرمي، وحبل مثنى، وملوى، والمقضى كائن، وحوت مقلي. والصواب: مرمي، ومثني وملوي، والمقضي كائن، وحوت مقلي ومقلو، لأنه يقال: قليت وقلوت، والواو أفصح. فأما في البغض فإنما يقال: قليته أقليه، وقليته أقلاه، وعليها جاء المثل: أخبر تقله. وذكر عن المأمون أنه قال: لولا أن أمير المؤمنين عليا صلوات الله عليه قال: أخبر تقله، قلت: اقله تخبر. وكذلك يقولون: إناء مطلي، ورجل مكري، وسيف مجلي. والصواب: مطلي، ومكري، ومجلو. ويقولون للحصير التي يصلي عليها: مصلية. والصواب: مصلى. وكذلك يقولون: كلة مرخية. والصواب: مرخاة. ويقولون: أللهم اجعلنا من المنسيين في قلوب المؤذنيين. والصواب: المنسيين، بفتح الميم. والمؤذين، على وزن المعطين، والمؤذون، في حالة الرفع. ويقولون: أنا عيان من المشي، والصواب: معي. ويقولون للذي يطرز: طراز، والصواب: مطرز. ويقولون: فرس مسروج، ملجوم. والصواب: مسرج، ملجم، ويقولون، متاع مقارب، والصواب: مقارب، بكسر الراء. ويقولون: رجل فاطر، وامرأة فاطرة. والصواب: مفطر، ومفطرة. ويقولون: هو مهدور الخبابة: والصواب: مهدر، لأنه لا يقال: هدر دمه، وإنما يقال: أهدر. ويقولون: رجل معلول، وكلام معلول، والصواب: معل، وكذلك: رجل مألوم، والصواب: مؤلم. ويقولون: رجل مسمن. والصواب: مسمن، بفتح الميم الثانية. ويقولون: أنا مويس من كذا، والصواب: يائس، وآيس كلاهما على وزن فاعل مقلوب، والفعل منهما على فعل: يئس وأيس ويروى البيت بالوجهين جميعا: وما أنا من أن يجمع الله بيننا ... على خير ما كنا عليه بآيس وأنشدوا للعرب: أيا أم عمرو أخفضي الطرف وارفعي ... ولا تيأسي أن يكسب المال آيس ويقال: استيأس بمعنى يئس، فأما المؤيس فهو الذي يؤيسك من الشيء. |
|
09-08-2018, 08:45 AM | #140 |
| الأدب ينمي العقول من كتاب الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع قال ابن المقفع: أما بعد، فإن لكل مخلوقٍ حاجةً، ولكل حاجةٍ غايةً، ولكل غاية سبيلاً. والله وقت للأمُور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب الحاجات ببلاغها. فغايةُ الناسِ وحاجاتهم صلاحُ المعاشِ والمغاد، والسبيل إلى دركها العقل الصحيح. وأمارةُ صحةِ العقلِ اختيارُ الأمورِ بالبصرِ، وتنفيذُ البصرِ بالعزمِ. الأدب ينمي العقول وللعقولِ سجياتٌ وغرائزُ بها تقبل الأدب، وبالأدبِ تنمى العقولُ وتزكو. فكما أن الحبة المدفونة في الأرضِ لا تقدر أن تخلعَ يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرضِ بزهرتها وريعها ونضرتها ونمائها إلا بمعونةِ الماء الذي يغورُ إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقةُ العقلِ مكنونةٌ في مغرزها من القلبِ: لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدبُ الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها. وجل الأدب بالمنطق وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف متعجمه، ولا اسم من أنواع أسمائها إلا وهو مروي، متعلمٌ، مأخوذٌ عن إمام سابقٍ، من كلامٍ أو كتابٍ. وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبلِ العليمِ الحكيمِ. فإذا خرجَ الناسُ من أن يكونَ لهم عملٌ أصيلٌ وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلمِ الواصفونَ المخبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبر حداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها ما يعجبُ الناس من الحلي والآنية، وكالنحل وجدت ثمراتٍ أخرجها الله طيبةً، وسلكت سبلاً جعلها الله ذللاً، فصار ذلك شفاءً وطعاماً، وشراباً منسوباً إليها، مذكوراً به أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسنهُ أو يستحسنُ منهُ، فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدعِ، فإنه إنما اجتناهُ كما وصفنا. الاقتداء بالصالحين ومن أخذ كلاماً حسناً إن غيره فتكلم به في موضعه وعلى وجهه، فلا ترين عليه في ذلك ضؤولة. فإن من أعين على حفظِ كلامٍ المصيبين، وهدي للإقتداء بالصالحين، ووفق للأخذِ عنِ الحكماء، ولا عليهِ أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس بناقصهِ في رأيه ولا غامطهِ من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه. فإنما إحياء العقل الذي يتم به وستحكم خصالٌ سبعٌ: الإيثارُ بالمحبةِ، والمبالغة في الطلب، والتثبتُ في الاختيارِ، والاعتيادُ للخيرِ، وحسنُ الرعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعهُ قولاً وعملاً. أما المحبة فإنها تبلغ المرء مبلغَ الفضلِ في كل شيء من أمرِ الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته. فلا يكون شيءٌ أمرأ ولا أحلى عنده منه. وأما الطلبُ، فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون وهو أهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه. ولا تدركُ لهم بغيتهم ونفاستها في أنفسهم، دون الجد والعمل. وأما التثبتُ والتخيرُ، فإن الطلبَ لا ينفعُ إلا معهُ وبه. فكم من طالب رشدٍ وجدهُ والغي معاً، فاصطفى منهُما الذي منهُ هربَ، وألغى الذي إليه سعى، فإذا كان الطالبُ يحوي غير ما يريدُ، وهو لا يشك في الظفرِ، فما أحقهُ بشدةِ التبيينِ وحسنِ الابتغاء! وأما اعتقادُ الشيء بعد استبانته، فهو ما يطلبُ من إحراز الفضل بعد معرفته. وأما الحفظُ والتعهد، فهو تمام الدركِ. لأن الإنسان موكل به النسيانُ والغفلةُ: فلا بد لهُ، إذا اجتبى صواب قولٍ أو فعلٍ من أن يحفظهُ عليه ذهنهُ لأوان حاجته. وأما البصرُ بالموضعِ، فإنما تصيرُ المنافعُ كلها إلى وضعِ الأشياء مواضعها، وبنا إلى هذا كله حاجةٌ شديدةٌ. فإنا لم نوضع في الدنيا موضعَ غنى وخفضِ ولكن بموضعِ فاقةٍ وكدٍ، ولسنا إلى ما يمسكُ أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يشبتُ عقولنا من الأدبِ الذي به تفاوتُ العقول. وليس غذاءُ الطعامِ بأسرعَ في نباتِ الجسدِ من غداء الأبدٍ في نباتِ العقلِ. ولسنا بالكد في طلبِ المتاعِ الذي يلتمسُ بهِ دفعُ الضررِ والغلبةُ بأحق منا بالكد في طلبِ العلمِ الذي يلتمسُ بهِ صلاحُ الدينِ والدنيا. ما وضع في هذا الكتاب وقد وضعتُ في هذا الكتاب من كلام الناسِ المحفوظِ حروفاً فيها عونٌ على عمارةِ القلوبِ وصقالها وتجليةِ أبصارها، وإحياءٌ للتفكيرِ وإقامةٌ للتدبير، ودليلٌ على محامدِ الأمور ومكارمِ الأخلاقِ إن شاء اللهُ! انظر أين تضع نفسك الواصفون أكثرُ من العارفين، والعارفون أكثرُ من الفاعلينَ. فلينظرُ امرؤ أين يضعُ نفسه. فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفةً نصيباً من اللب يعيشُ به، لا يُحب أن لهُ به من الدنيا ثمناً. وليس كل ذي نصيبٍ من اللب بمستوجبٍ أن يسمى في ذوي الألبابِ، ولا يوصفُ بصفاتهم. فمن رام أن يجعل نفسهُ لذلك الاسم والوصفِ أهلاً، فليأخذ له عتادهُ وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائهِ. فإنهُ قد رام أمراً جسيماً لا يصلحُ على الغفلة، ولا يدركُ بالعجزةٍ، ولا يصيرُ على الأثرةِ. وليس كسائرِ أمورِ الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدركُ منها المتواني ما يفوتُ الثابرُ، ويصيبُ منها العاجزُ ما يخطئ الحازمُ. |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
سطور , في , كتاب |
| |