تنزيـل القــرآن
لاشك أن نزول الآيات الخمس الأولى من الوحي على رسول الله (ع) يظل من أشهر حلقات حياته. ففي خلوته بغار حراء أتاه جبريل (ع) بالوحي فاعتراه الخوف عند مخاطبة جبريل (ع) له ، وكان ذلك إيذانا ببدء رسالة إلهيّة وهو حينئذ في سنّ الأربعين.
بعد هذا تتابع الوحي وامتد على فترة طويلة وهي 23 سنة[29]. ولم يكتمل الوحي إلا مدّة قصيرة قبل وفاة الرسول (ع).
إن الآيات نزلت تدريجيا ولم ترتب حسب نزولها أي حسب العامل الزمني لتلقّيها بل حسب توجيهات أوحيت إلى النبي محمد (ع) ثمّ أمر بها هو نفسه كتبة الوحي. لهذا نرى أن أوّل ما أوحي من القرآن إلى محمد (ع) أصبح بدايـة للسورة التي تحمل رقم 96 في المصحف (العلق).
أمّا آخر وحي فقد جاء حسب توجيهات الرسول (ع) في الآية 3 من السورة 5 (المائدة) :
وهكذا يوجد اختلاف ظاهر بين ترتيب سور القرآن كما نزلت أوّل الأمر وترتيبها كما هي عليه في المصحف. فترتيب المصحف هو الترتيب الذي تُقْرَأُ فيه سور القرآن كما هي مكتوبة في المصاحف أمّا ترتيب التنزيل فهو الترتيب الزمني الذي نزلت عليه هذه السور.
في إحدى ليالي مكة خلال القرن السابع للميلاد ، تخلّل ظلمةَ الليل مجموعةٌ صغيرة من الرجال والنساء ولم تكد تلوح حركاتهم حتّى اختفوا فجأة في أزقّة مكّة ملتمسين باب بيت بعيد عن الأنظار ، تاركين الليل من وراءهم بسمائه المتلألئة نجوما ، وبسكونه العامّ الذي لا يترك في آفاق الصحاري المحيطة بمكّة رِكزا...
بعد وصولها إلى البيت حيّت الجماعة الصغيرة مَن وصل إليه قبلها : "السلام عليكم" ، "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته". ثمّ أعلنوا الواحد بعد الآخر إيمانهم لبعضهم بعضا تعهّدا بالانتماء إلى هذه الجماعة بعبارات : "أشهد ألاّ إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله".
إنّ هذه الجماعة ما هي إلاّ فوج من المسلمين اجتمع في سرّيّة تامّة اتقـاءً بطشَ قريش بها. فعلا ، منذ أعلن محمّد ؛ وهو ابن هذه البلدة ، أن لا إله إلاّ الله وأنّ الآلهة التي تؤمن بها العرب والتي تعود عبادتها بالربح الوافر على سكان مكّة آلهة باطلة ، فقد حلّت نقمة كبار قريش ووُجَهائها عليه وعلى من اتّبعه.
وبعد فشل محاولة هؤلاء في استمالة النبيّ الجديد وإغرائه بملذّات الدنيا لجئوا إلى القوّة لإرغام الذين أسلموا لله بأن يعودوا إلى ملّتهم الأولى.
إنّ الهدف من التقاء هذه الجماعة في هذه الليلة هو قراءة وحي جديد تلقّاه محمّد (ع) اليوم نفسه. أخرج أحدهم من تحت قميصه رقعة وشرع في تلاوتها :
ثم شرع الحاضرون الواحد تلو الآخر يكررون هذه الآيات حتى حفظوها عن ظهر قلب كما حفظوا ما نزل من القرآن قبلها. وبعد أن عرض بعضهم على بعض ما حفظوه من قبل تسرّبوا خارج البيت خفية كما جاءوا.
إن ظاهرة الحفظ كانت شائعة عند العرب منذ القديم. كما أنّ العرب قد اشتهروا بفصاحتهم وبيانهم وشعرهم ، ورغم هذا فإن بلاغة وبيان القرآن قد أعجزهم فلم يستطيعوا تحديده ضمن الأنواع الأدبية المعروفة آنذاك. فلا هو بالشعر ولا بالنثر بل ولا هو بسجع الكهّان. ولقد كان من بين الآثار التي تولدت من موقف العرب اتجاه بيان القرآن وإعجازه أنّهم اتّهموا محمّدا (ع) بالسحر.
في العهود الأولى من الإسلام كان الحفظ والعرض هو الأسلوب الغالب لتوصيل النصّ القرآنيّ.
فعند وفاة الرسول (ع) كانت النسخة الوحيدة المجموعة في قالب واحد هي تلك الموجودة في صدور الحفّاظ. أمّا المكتوب فقـد كان محفـوظا فـي العسب والرقاع والعظام...الخ
والظاهر أنّ النسخة المكتوبة كانت آنذاك عبارة عن مساعدة للذاكرة وضمان لها. ففور نزول الوحي كان يكتب وتحفظ نسخه في أماكن آمنة ليكون سندا للذين يحفظونه عن ظهر قلب. وهكذا ورغم أن الأسانيـد المكتوبة كانت متفرقة لدى كثير من آل البيت والصحابة إلا أنها كانت ضمانا علميا موضوعيّا وأكيدا يمكن للذاكرة أن تعود إليه عند الحاجة.
فرسول الله محمد (ع) كان أول من حفظ القرآن ، وكان يعرض القرآن على جبريل (ع) مرة في كل عام ، وذلك خلال شهر رمضان[31]. وفي آخر رمضان صامه رسـول الله (ع) قبل وفاته عرض القرآن بكامله مرتين[32] على جبريل (ع). وقد كانت قراءته مرّتين بمثابة المؤشّر على قرب وفاته (ع). وزيادة على هذا فقد كان آل البيت والصحابة يعرضون القرآن هم كذلك على رسول الله (ع).
وعادة رسول الله (ع) في عرض القرآن كلّه خلال شهر رمضان قد ولدت سنة لدى المسلمين. فهم يستغلّون فرصة قدوم شهر رمضان لقراءة القرآن كلّه مرّة أو عدّة مرّات فرادى أو جماعات.
فمن هذا المثال نلاحظ أنّ التواصل الشفهيّ كان وما يزال عاملا أساساً في الدين الإسلامي. ولذلك ليس من سبيل الصدف أنّ القرآن الكريم هو أكثر الكتب الدينيّة حفظا منذ نزوله إلى يومنا هذا لدرجة أنّ المسلمين هم الأمّة التي تعدّ أكثر الحفّاظ لكتابها الدينيّ. ناهيك عن كون القرآن معروفا في كلّ الثقافات ببيانه البليغ وتلاوته العذبة.
إنّ "المدارس القرآنيّة" مشهورة في العالم الإسلامي كلّه. فكثيرا ما نرى في بعض البلدان الإسلاميّة التي لا يتكلم أهلها العربيّة بعض التلاميذ يحفظون القرآن بكامله أو بعضا منه رغم أنّهم لا يتكلّمون بل ولا يفهمون العربية.
إن المعارك التي خاضها المسلمون للدفاع عن عقيدتهم ودولتهم الفتيّة أدت إلى استشهاد كثير من الحفّاظ. لذلك وخوفا من ضياع تـناقل النص القرآني وتوصيله الكامل بتلاوته الكاملة للأجيال الصاعدة أمر الخليفة الأول أبو بكر الصديق بعض الحفاظ بجمع ما هو مكتوب من القرآن ثمّ معارضته مع ما حفظ في الصدور ثم كتابته في مصحف يكون السند الأساس الذي يمكن الرجوع إليه كلّما دعت الحاجة إلى ذلك.
عندئذ وضع المصحف بدقةّ كبيرة وحرص شديد على كون كلّ حرف مكتوب فيه قد اتّفق عليه عدّة حفّاظ ووُجِدَ في المخطوطات المتفرّقة ، ثمّ احتفظ أبو بكر الصدّيق بالمصحف حتى موته ، وتولّى حفظه عمر بن الخطّاب من بعده وعند موته تركه لابنته حفصة أرملة رسول الله (ع).
ثمّ تولّى عثمان بن عفّان الخلافة فأمر بجمع المخطوطات الموجودة لدى المسلمين ومقارنتها بالمصحف الموجود عند حفصة. وجعل مجموعة من الحفّاظ على هذا العمل وخرّجوا مصحفا[33]. ثمّ نسخت منه عدّة نسخ وُزِّعَتْ على الأمصـار. وقد حفظت إلى يومنا هذا نسختان من مصحف عثمان إحداهما موجودة بمتحف إسطنبول والأخرى بطشقند.
أمّا باقي المخطوطات المتفرّقة فقد أمر الخليفة عثمان بحرقها. إن هذا القرار اتخذ لسببين أساسين الأول هو أنه لم تبق حاجة لوجود تلك المخطوطات بما أن المصحف الإمام قد تم وضعه ، والثاني هو عدم ترك النص القرآني موزعا ومفرقا بدون مراعاة ترتيب المصحف. وهو الترتيب الذي تركه رسول الله (ع) بتوقيف من الله عز وجل.
إن الاهتمـام الكـبـيـر بالوفاء لنـص الوحـي الإلهي وجـد منذ فجر الإسلام. وهذا الاهتمام لا يزال باق حتى اليوم عند كل المسلمين. فلو سقط من مصحف حرف واحد أو غير فيه حرف واحد فإن المتعارف عليه هو حرقه لتفادي تسرب أي خطأ في النصالقرآني.