مع أول قضمة تلتهمها الحشرة المعادية ، يتعرف النبات عليها مباشرة من لعابها و من ثم فإنه يطلق مواد كيميائية سامة لتقتلها أو على الأقل تسبب لها عسر هضم! ربما لا تنجح تلك التقنية ، و منها ينتقل النبات إلى خطه الدفاعى الثانى بإطلاقه لمواد طاردة تنتشر عبر الهواء لإجبار الحشرات الدخيلة على الإبتعاد عنه.
عكف عالم الأحياء "إيان بولدوين" من معهد ماكس بلانك الألمانى ، على إستكشاف اذا ما كان النبات يمتلك أسلحة دفاعية أخرى فى ترسانته الحربية. لذلك فقد صمم وشريكه "أندريه كيسلر" تجربة لدراسة رد فعل الحشرات تجاه المواد الكيميائية المختلفة التى تطلقها النباتات فى حالة الخطر. و بمحاكاة لحالة تعرض نبتة الطباق للهجوم من قبل العُث و وضع بيضه على ورقتها ، تبين أن أحد أعداء العث و هى حشرة "جيوسوريس بالينز Geocoris Pallens" و التى تتغذى على بيوضه قد إنجذبت بالفعل تجاه النبتة مُلبية نداء الإستغاثة. و فى هذا الصدد يؤكد "كيسلر" : تستطيع النباتات وقاية أنفسها من نحو90% من أعدائها المتغذيين على العشب بإطلاق كيماويات معينة تنتشر عبر الجو، و يضيف أن التواصل الكيميائى فى النباتات هو أمر طبيعى و يحدث من حولنا بشكل متكرر دون أن نلحظ.
حشرة جيوسوريس تنجذب لنبتة الطباق
كان "بولدوين" من أوائل من أجروا تجاربهم فى قلب الطبيعة ، لكن سبقه إلى دراسة اللغة الكيميائية للنباتات العديد من العلماء الذين قد أجروا تجاربهم داخل المعمل، منهم بروفيسورة "كونسويلو دى موريس" المتخصصة بعلم الحشرات بجامعة ولاية بنسلفينيا. كشفت " دى موريس" من خلال تجربها أن النباتات التى تطلب المساعدة من الحشرات لا تطلق إستغاثتها لأى حشرة عابرة أملا فى أن تلبى أحدها النداء. و تشرح "دى موريس" أن النبات المصاب يوضح فى رسالته لطلب المساعدة أنه قد تعرض للهجوم بل و من قام بالإعتداء عليه و من ثم فإن الحشرة المعنية هى فقط التى تستجيب للنداء . و يعزى هذا الأمر إلى أن النباتات تتعرف على الحشرة المعتدية من لعابها لذلك فإنها تطلق إنبعاثاتها الكيميائية لكى تجذب حشرة حليفة بعينها ، ففى حالة هجوم يرقة العُث على نبتة الطباق كمثال ، يقوم الطباق بإستدعاء "الدبور الطفيلى" الذى يضع بيضه فى تلك اليرقة.
هجوم الدبور
رسالة:"إحذر!"
إذا كان النبات يستخدم لغته الكيميائية للتواصل مع حلفائه من الحشرات، فإن أبناء عشيرته من نباتات هم أيضا أولى بالتواصل ، و هم أكثر حاجة لتلقى رسائل "تحذير". على مدى سنوات من البحث وجد العلماء أن أشجار الصفصاف و الحور و جار الماء و البتولا تتجاذب أطراف الحديث مع ما حولها من نباتات و تكون فى حالة إنصات لأى إشارة تحذير تأتى من رفاقها فى البرية. فى عام 1988 تناول "ميرسيل ديك" و فريقه البحثى من جامعة "فاغينينغين" الهولندية سلوك النباتات تجاه رسائل التحذير بالبحث و قد وجدوا أن النباتات التى تعرضت للإنبعاثات الكيميائية المنتشرة فى الجو جراء تعرض نباتات القطن و الفاصوليا البيضاء لهجوم من السوس ، تشحذ أسلحتها الدفاعية و تتأهب لأى هجوم قريب بإطلاقها للمواد الكيميائية التى تستدعى أعداء السوس. و لا يشترط أن يكون النبات السليم من نفس فصيلة النبات المتضرر حتى يفهم لغته ، حيث وجدت الدراسات أن نبتة الخيار تبدى ردة فعل تجاه اشارات نبتة الفاصوليا البيضاء المصابة.
بالرغم من كل ما يمتلكه العلماء من نتائج دالة على أن هناك خطاب مباشر بين النباتات و بعضها ، لم يكون هناك دليل دامغ على أن الكيماويات المنبعثة من النبتة "أ" تصل إلى النبتة "ب" و عليه فإن النبتة "ب" تبدى تصرفها. يتطلع بروفيسور الكيمياء الحيوية بجامعة إكيستر "نيك سميرنوف" إلى البت القاطع فى هذا الأمر، و من أجل هذا الهدف كان على "سميرنوف" أن يسجل تلك الإنبعاثات و يراها رأى العين حتى يثبت حدوثها. مؤخرا وجد "سميرنوف" ضالته المنشودة فى "اليرعة"، الحشرة التى تتوهج فى قلب ظلام الدامس ، و بإستخدام الهندسة الجينية إستخرج "سميرنوف" البروتين المسمى "لوسيفيريس" من الحمض النووى "دى إن إيه" الخاص باليرعة و هو المسئول الأول عن مقدرتها على التوهج فى الظلام.
اليرعة المتوهجة
أدخل "سميروف" تعديلات على الحمض النووى لنبات "الكرنب" بإضافة بروتين "لوسيفيرس" المستخرج من اليرعة و الذى بدوره يجعل من الإنبعاثات الكيميائية "ميثيل جاسمونيت" من الكرنب متوهجة و مضيئة يسهل تسجيلها بإستخدام الكاميرا.
باشر بروفيسور "سميرنوف" بإجراء تجاربه فقطع أحد أوراق الكرنب بإستخدام مقص و تمكن من إلتقاط مسار الإنبعاثات من الكرنب المصاب إلى نبتتى كرنب قريبتين و اللتين بدورهما إستلمتا رسالة التحذير و أفرزتا مواد سامة على الأوراق لحمايتهما من الأعداء مثل الديدان.
نبات الكرنب يشحذ دفاعاته بالإنصات إلى النباتات المجاورة
شبكة نباتية
لا يقتصر التواصل عبر الجو كوسط لنقل الدردشة الكيميائية بين النباتات ، حيث تمكن بعضها من تطوير وسائل أخرى للتواصل بإستخدام شبكات داخلية نرى الشبه فيها واضحا مع شبكات الإنترنت العالمية! بعض النباتات مثل الفراولة و البرسيم و قصب السكر تمتلك شبكة من الوصلات التى تتبادل عبرها المعلومات و تتألف تلك الشبكات من جذوع افقية تمثل قنوات اتصال على سطح التربة أو تحت الأرض. أجرى الباحث "جوزيف ستوفر" و فريقه من جامعة "رادبود" الهولندية، تجاربهم على مدى فاعلية هذه الشبكات فى حماية الأفراد المشاركين فى الشبكة من الخطر.
قام "ستوفر" بإطلاق سراح دودة لتأكل من ورقة نبات البرسيم الأبيض متفرعة من شبكة من الوصلات ، و بعدها سمح لمجموعة أخرى من الديدان للإختيار بين شبكة البرسيم التى تحتوى على ورقة مصابة و شبكة أخرى مجاورة لم يمسها الأذى، فكانت النتيجة أن الديدان لم تقرب الشبكة التى أصيبت أحد أفرادها . و يفسر "ستوفر" السبب بإستلام باقى أفراد الشبكة رسالة إنذار من الورقة الضحية عبر القنوات الداخلية و تولت كل ورقة إستلمت التحذير مهمة إعادة إرساله لباقى أفراد الشبكة ، و على إثرها تتخذ الأوراق وضعها الدفاعى كيميائيا، أو ميكانيكيا بأن يجعل النبات أوراقه أكثر قساوة فى المضغ و غير مرغوب فى الأكل.
الشبكة الداخلية للبرسيم الأبيض تنقل التحذيرات
بينما تعتبر تقنية الشبكات النباتية ميزة لحماية أفرادها فهى كذلك عيب خطير لقدرتها على نشر الفيروسات ، حيث أن الفيروس يجد له مدخلا عبر ورقة واحدة ليصيب الشبكة بالكامل بالعدوى ، و يشبه "ستوفر" هذه الحالة بفيروسات الحاسوب التى تتفشى على أجهزة الشبكة الواحدة.
القضاء على الآفات
إجراء الأبحاث العلمية من أجل فهم أكبر للغة النباتات الكيميائية تنعكس بشكل إيجابى على إحداث تغيرات ثورية على نظم الزراعة. يعتمد المزارعون بشكل أساسى على المبيدات و الكيماويات لمكافحة الآفات و الحشرات الضارة بالمحاصيل الزراعية، و ذلك لأن تلك المحاصيل فقدت مقدرتها الطبيعية على طلب المساعدة من حلفائها من الحشرات. القطن البرى كمثال تبلغ إنبعاثاته الكيميائية لإستدعاء الدبور الطفيلى نحو 10 امثال نظيره المزروع محليا.
يستفيد الباحثون فى الدول نامية من القدرات الطبيعية لدى النباتات على إستدعاء الحلفاء أو تنفير الأعداء للحفاظ على جودة المحاصيل. فى شرق أفريقيا تصاب محاصيل الذرة بـ"الديدان حفارة السيقان" ، لذلك فإن زراعة حشائش "مولاس قصب السكر" فى الحقل تدفع الآفات بعيدا عن المحصول ، فهو يطلق مواد كيميائية طاردة للديدان و جاذبة لأكثر أعدائها شراسة "الدبور الطفيلى". و فى الوقت ذاته يمكن زراعة النباتات التى تقتات عليها الديدان حول الحقل و بذلك يجذب الآفة بعيدا عن المحصول الأصلى.
زراعة مولاس قصب السكر فى حقول الذرة للتخلص من الآفات
تركز أبحاث علماء النباتات و بخاصة دراسات بروفيسور "بولدوين" على إيجاد تقنيات طبيعية للقضاء على الآفات بتحسين دفاعات المحاصيل الزراعية لتقوم بحماية نفسها بنفسها و طلب المساعدة من حلفائها من الحشرات حال تعرضها للهجوم ، دون اللجوء إلى المبيدات الصناعية من قبل المزارعين.
يتبادر عبير الزهور و عبق النبات الأخضر على أنوفنا نحن البشر، كخلفية عطرة لطبيعة تبدو مسالمة و هادئة. لكن بالنسبة لسكان البرية من نباتات و حشرات فإن تلك الروائح التى تحمل جزيئاتها الكيميائية كلمات و عبارات غير منطوقة ، تنذر بقرب معركة شرسة...من أجل البقاء