ننتظر تسجيلك هنا


الإهداءات


العودة   منتدى همسات الغلا > ۞ (المنتديات الاسلاميه) ۞ > (همسات القرآن الكريم وتفسيره )


إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-06-2019, 04:37 PM   #15


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (01:19 PM)
 المشاركات : 877,793 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي





{{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَعُرِضُوا} } أي: عرض الناس { {عَلَى رَبِّكَ} } أي: على الله سبحانه وتعالى.
{ {صَفًّا} } أي: حال كونهم صفاً بمعنى صفوفاً، فيحاسبهم الله عزّ وجل، أما المؤمن فإنه يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول له عملت كذا وعملت كذا، فيقر فيقول له أكرم الأكرمين: «إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»[(24)] يغفر الله عزّ وجل له يوم القيامة، ولا يعاقبه عليها وفي الدنيا يسترها، فكم من ذنوب لنا اقترفناها في الخفاء؟ كثيرة، سواء كانت عملية في الجوارح الظاهرة أو عملية من عمل القلوب، فسوء الظن موجود، الحسد موجود، إرادة السوء للمسلم موجودة، وهو مستور عليه. وأعمال أخرى من أعمال الجوارح ولكن الله يسترها على العبد. إننا نؤمِّل إن شاء الله أن الذي سترها علينا في الدنيا، أن يغفرها لنا في الآخرة.
ثم قال تعالى: { {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} } أي يقال لهم ذلك. وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: اللام وقد والقسم المقدر، يعني والله لقد جئتمونا { {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} } ليس معكم مال ولا ثياب ولا غير ذلك، بل ما فقد منهم يرد إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح أنهم يحشرون يوم القيامة «حفاة، عراة، غرْلا»[(25)] و «غُرْلا» جمع أغرل وهو الذي لم يختن، إذاً سوف يعرضون على الله صفا ويقال: { {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} }، ويقال أيضاً:
{ {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} }، هذا إضراب انتقال، فهم يوبخون { {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} } فلا مفر لكم { {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} } فلا مال لكم ولا أهل، ويوبخون أيضاً على إنكارهم البعث فيقال: { {بَلْ زَعَمْتُمْ} } في الدنيا { {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} }، وهذا الزعم تبين بطلانه، فهو باطل.
* * *
{{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُون ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} } أي وزِّع بين الناس، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله.
{ {فَتَرَى} } أيها الإنسان { {الْمُجْرِمِينَ} } أي: الكافرين { {مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} } أي: خائفين مما كتب فيه لأنهم يعلمون ما قدموه لأنفسهم، وهذا يشبه قول الله تعالى عن اليهود الذين قالوا: {{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً}} [البقرة: 80] ، فتُحُدوا وقيل لهم: {{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الْدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}} [البقرة: 94] ، قال الله: {{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}} يعني يعرفون أنهم إذا ماتوا عُذِّبوا، ومن كان يعلم أنه إذا مات عُذب فلن يتمنى الموت أبداً، فهؤلاء مشفقون مما في كتاب الله، يعني يعلمون أنه مُحتوٍ على الفضائح والسيئات العظيمة.
ويقولون إذا علموا: { {ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} }.
{ يا } حرف نداء { ويلتنا } وهي الهلاك ولكن كيف تنادى؟
الجواب: إما أن «يا» للتنبيه فقط لأن النداء يتضمن الدعاء والتنبيه، وإما أن نقول إنهم جعلوا ويلتهم بمنْزلة العاقل الذي يوجه إليه النداء، ويكون التقدير «يا ويلتنا احضري»! لكن المعنى الأول أقرب لأنه لا يحتاج إلى تقدير، ولأنه أبلغ.
{ {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} } أي شيء لهذا الكتاب؟
{ {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} } يعني أثبتها عدداً، كأنهم يتضجرون من هذا، ولكن هذا لا ينفعهم.
{ {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا} } أي وجدوا ثواب ما عملوا.
{ {حَاضِرًا} } لم يغب منه شيء وعبَّر الله تعالى بالعمل عن الثواب لأنه مثلُه بلا زيادة.
ثم قال الله تعالى: { {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} } وذلك لكمال عدله سبحانه وتعالى فلا يزيد على مسيء سيئة واحدة، ولا يَنقص من محسن حسنة واحدة، قال تعالى: {{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا *}} [طه: 112] . وهذه الآية { {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} } من الصفات المنفية عن الله، وأكثر الوارد في الصفات الصفات المثبتة كالحياة والعلم والقدرة. وأما ذكر الصفات المنفية فقليل بالنسبة للصفات المثبتة، ولا يتم الإيمان بالصفات المنفية إلاَّ بأمرين:
الأول نفي الصفة المنفية.
والثاني إثبات كمال ضدها.
فالنفي الذي لم يتضمن كمالاً لا يمكن أن يكون في صفات الله . بل لا بد في كل نفي نفاه الله عن نفسه أن يكون متضمناً لإثبات كمال الضد، والنفي إن لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعدم قابليته، أي قابلية الموصوف له، وإذا لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعجز الموصوف، وإذا كان نفياً محضاً فهو عدمٌ لا كمال فيه، والله تعالى له الصفات الكاملة كما قال تعالى: {{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}} [النحل: 60] أي الوصف الأكمل.
قلنا إذا لم يتضمن النفي كمالاً فقد يكون لعدم قابليته، كيف ذلك؟ ألسنا نقول إن الجدار لا يظلِم؟ بلى، هل هذا كمال للجدار؟ لا، لماذا؟ لأن الجدار لا يقبل أن يوصف بالظلم، ولا يوصف بالعدل، فليس نفي الظلم عن الجدار كمالاً، وقد يكون النفي إذا لم يتضمن كمالاً نقصاً لعجز الموصوف به عنه، لو أنك وصفت شخصاً بأنه لا يظلم بكونه لا يجازي السيئة بمثلها لأنه رجل ضعيف لا يقدر على الانتصار لنفسه لم يكن هذا مدحاً له.
فالخلاصة أن كل وصفٍ وصف الله به نفسه وهو نفي، فإنه يجب أن نعتقد مع انتفائه ثبوتَ كمال ضده، قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33] ، فعلى هذه القاعدة نفى الله «العي» وهو العجز؛ لثبوت كمال ضد العجز وهو القدرة، إذاً نؤمن أن الله عزّ وجل له قدرة لا يلحقها عجز، وقال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } [ق: 38] ، أي من تعب وإعياء وذلك لكمال قدرته جلَّ وعلا.
قلنا: إن الله لا يظلم أحداً وذلك لكمال عدله، لكن الجهمية قالوا: «لا يظلم» لعدم إمكان الظلم في حقه، وليس لأنه قادر على أن يظلم ولكنه لا يظلم، قالوا لأن الخلق كلَّهم خلق الله، ملك لله، فإذا كانوا ملكاً لله فإنه إذا عذَّب محسناً فقد عذب ملكه، وليس ذلك ظلماً لأنه يفعل في ملكه ما يشاء، ولكن قولهم هذا باطل، لأنه إذا كان الله عزّ وجل قد وعد المحسنين بالثواب والمسيئين بالعذاب، ثم أحسن المحسن فعذبه وأساء المسيء فأثابه فأقل ما يقال فيه: إنه وحاشاه سبحانه وتعالى أخلف وعده. هذا أقل ما يقال، وهذا ولا شك مناف للعدل وللصدق، فنقول لهم: إنَّ الله عزّ وجل قال في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي»[(26)]، وهذا يدل على أنه قادر عليه، لكن حرَّمه على نفسه لكمال عدله جلَّ وعلا، إذاً نحن نقول لا يظلم الله أحداً لكمال عدله لا لأن الظلم غير ممكن في حقه، كما قالت الجهمية.
* * *


يتبع


 

رد مع اقتباس
قديم 20-06-2019, 04:40 PM   #16


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (01:19 PM)
 المشاركات : 877,793 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي





{{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً *}}.
قوله تعالى: { {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ} } «إذ» هذه تأتي كثيراً في القرآن، والمُعرِبون يقولون: إنها مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكرْ إذْ يعني اذكر هذا للأمة حتى تعتبر به ويتبين به فضيلة بني آدم عند الله.
وقوله: { {لِلْمَلاَئِكَةِ} } هم عالم غيبي خلقهم الله من نور. كما أعلمنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله خلقهم من نور[(27)]. وأعلمنا الله تعالى في القرآن أنه خلق الجنَّ من نار، وأنه خلق البشر من طين، إذاً المخلوقات التي نعلمها هي، الملائكة من نور، والجن من نار، والإنسان من طين، فالملائكة إذاً عالم غيبي والإيمان بهم أحد أركان الإيمان، والملائكة على خلاف الشياطين كما يتبين من الآية، وهم أقدر من الشياطين وأطهر من الشياطين، ولهم من النفوذ ما ليس للشياطين، فالشياطين لا يمكن أن يَلِجُوا إلى السماء، بل من حاول أُتبع بالشهاب المحرق، والملائكة يصعدون فيها، فهم يصعدون بأرواح بني آدم إلى أن تصل إلى الله، وهم أيضاً قد ملؤوا السموات، فيجب علينا أن نؤمن بالملائكة إيماناً لا شك فيه، وأنهم عالم غيبي، لكن قد يكونون من العالم المحسوس بقدرة الله، كما كان جبريل عليه السلام، فقد رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين له ستمائة جناح قد سدَّ الأفق وهو واحد وهذا يدل على عظمة خِلقته، وعظمة خِلقة جبريل تدل على عظمة الخالق جلَّ وعلا، أحياناً يأتي جبريل الذي هذا وصفه وهذا خلقه على صورة إنسان، ولكن ليس تقلبه هكذا بقدرته هو، ولكن بقدرة خالقه جلَّ وعلا، والله أعطاه القدرة على التقلب والتكيف بقدرة الله جلَّ وعلا.
وقوله تعالى: { {اسْجُدُوا لآِدَمَ} } قال بعضهم: سجود تحية، وليس سجوداً على الجبهة، قالوا ذلك فراراً من كونه سجوداً على الجبهة، لأن السجود على الجبهة لا يصح إلا لله، ولكن الذي يجب علينا أن نأخذ الكلام على ظاهره ونقول: الأصل أنه سجود على الجبهة. وإذا كان امتثالاً لأمر الله لم يكن شركاً كما أن قتل النفس بغير حق من كبائر الذنوب، وإذا وقع امتثالاً لأمر الله كان طاعة من الطاعات، فإن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أُمر بذبح ابنه فامتثل أمر الله وشرع في تنفيذ الذبح، ولا يخفى ما في ذبح الابن من قطيعة الرحم، لكن لما كان هذا امتثالاً لأمر الله عزّ وجل صار طاعة، ولما تحقق مراد الله تعالى من الابتلاء نسخ الأمر ورفع الحرج، إذاً فالسجود لآدم لولا أمر الله لكان شركاً، لكن لما كان بأمر الله كان طاعة لله.
وآدم: هو أبو البشر خلقه الله عزّ وجل من طين وخلقه بيده[(28)]، قال أهل العلم لم يخلق الله شيئاً بيده إلا آدم وجنة عدن، فإنه خلقها بيده وكتب التوراة بيده[(29)] جل وعلا، فهذه ثلاثة أشياء كلها كانت بيد الله، أما غيرُ آدم فيخلق بالكلمة (كن) فيكون، وهو نبي، وليس برسول؛ لأن أول رسول أرسل إلى البشرية هو نوح عليه الصلاة والسلام، أرسله الله لما اختلف الناس: {{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}} [البقرة: 213] ، أي كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. فكان أول رسول نوحٌ عليه الصلاة والسلام[(30)] وآدم نبي مُكلَّم[(31)]. فإذا قال قائل كيف يكون نبياً ولا يكون رسولاً؟
الجواب: يكون نبياً ولا يكون رسولاً؛ لأنه لم يكن هناك داع إلى الرسالة، فالناس كانوا على ملة واحدة والبشر لم ينتشروا بعد كثيراً ولم يفتتنوا في الدنيا كثيراً، نفر قليل، فكانوا يستنون بأبيهم ويعملون عمله، ولما انتشرت الأمة وكثرت واختلفوا أرسل الله الرسل.
{ {فَسَجَدُوا} } امتثالاً لأمر الله { {إِلاَّ إِبْلِيسَ} } لم يسجد. وإبليس هو الشيطان ولم يسجد، بَيَّنَ الله سبب ذلك في قوله: { {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} } فالجملة استئنافية لبيان حال إبليس أنه كان من الجن أي: من هذا الصنف وإلا فهو أبوهم.
{ {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} } أي: خرج عن طاعة الله تعالى في أمره، وأصل الفسوق الخروج، ومنه قولهم فسقت التمرة إذا انفرجت وانفتحت.
فإذا قال قائل: إن ظاهر القرآن أن إبليس كان من الملائكة؟
فالجواب: لا، ليس ظاهر القرآن؛ لأنه قال: { {إِلاَّ إِبْلِيسَ} } ثم ذكر أنه { {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} }، نعم القرآن يدل على أن الأمر توجه إلى إبليس كما قد توجه إلى الملائكة، ولكن لماذا؟ قال العلماء إنه كان ـ أي: إبليس ـ يأتي إلى الملائكة ويجتمع إليهم فوجه الخطاب إلى هذا المجتمع من الملائكة الذين خُلقوا من النور ومن الشيطان الذي خُلق من النار، فرجع الملائكة إلى أصلهم والشيطان إلى أصله، وهو الاستكبار والإباء والمجادلة بالباطل لأنه أبى واستكبر وجادل، ماذا قال لله؟ {{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}} [الأعراف: 12] ، فكيف تأمرني أن أسجد لواحد أنا خير منه؟ ثم علل بعلة هي عليه قال: {{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}} [الأعراف: 12] . وهذا عليه فإن المخلوق من الطين أحسن من المخلوق من النار، المخلوق من النار، خلق من نار محرقة ملتهبة فيها علامة الطيش تجد اللهب فيها يروح يميناً وشمالاً، ما لها قاعدة مستقرة، ولقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه «إغاثة اللهفان» فروقاً كثيرة بين الطين وبين النار، ثم على فرض أنه خلق من النار وكان خيراً من آدم أليس الأجدر به أن يمتثل أمر الخالق؟ بلى، لكنه أبى واستكبر.
قال الله عزّ وجل لما بين حال الشيطان:
{ }.
{ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} } الخطاب يعود لمن اتخذ إبليس وذريته أولياء من دون الله فعبدوا الشيطان وتركوا عبادة الرحمن، قال الله تعالى: {{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }} [يس: 60، 61] .
قوله: { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ } } أي: من ولدوا منه، سُئل بعض السلف ـ سأله ناس من المتعمقين ـ فقالوا هل للشيطان زوجة؟ قال إني لم أحضر العقد، وهذا السؤال لا داعي له، نحن نؤمن بأن له ذرية أما من زوجة أو من غير زوجة ما ندري، أليس الله قد خلق حواء من آدم؟ بلى، فيجوز أن الله خلق ذرية إبليس منه كما خلق حواء من آدم.
وهذه المسائل ـ مسائل الغيب ـ لا ينبغي للإنسان أن يورد عليها شيئاً يزيد على ما جاء في النص؛ لأن هذه الأمور فوق مستوانا، نحن نؤمن بأن لإبليس ذرية ولكن هل يلزمنا أن نؤمن بأن له زوجة؟
الجواب: لا يلزمنا.
{ {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} } أي تتولونهم وتأخذون بأمرهم من دون الله { {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} } هذا محط الإنكار، يعني كيف تتخذون هؤلاء أولياء وهم لكم أعداء؟ هذا من السفه ونقص العقل ونقص التصرف أن يتخذ الإنسان عدوه وليا.
{ {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} } أي بئس هذا البدل بدلاً لهم، وما هو البدل الخير؟
الجواب: أن يتخذوا الله ولياً لا الشيطان.
وقوله: { {لِلظَّالِمِينَ} } يمكن أن نقول إنها بمعنى الكافرين لأنهم هم الذين اتخذوا الشيطان وذريته أولياء على وجه الإطلاق، ويمكن أن نقول إنها تعم الكافرين ومن كان ظُلمهم دون ظلم الكفر، فإن لهم من ولاية الشيطان بقدر ما أعرضوا به عن ولاية الرحمن.
* * *
{{مَا أَشْهَدْتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا *}}.
قوله تعالى: { مَا أَشْهَدْتُهُمْ } يعني أن هؤلاء الذين اتخذهم الناس أولياء من دون الله ليس لهم حق الكون وبالتدبير، فالله ـ عزّ وجل ـ ما أشهدهم خلق السموات والأرض؛ لأن السموات والأرض مخلوقتان قبل الشياطين.
{ {وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} } يعني ما أشهدت بعضَهم خلق بعض. فكيف تتخذونهم أولياء وهم لا شاركوا في الخلق ولا خلقوا شيئاً بل ولا شاهدوه، وفي هذه الجملة دليل على أن كل من تكلم في شيء من أمر السموات والأرض، بدون دليل شرعي أو حسي فإنه لا يُقبل قوله، فلو قال: إن السموات تكونت من كذا والأرضُ تكونت من كذا وبعضهم يقول: الأرض قطعة من الشمس وما أشبه ذلك من الكلام الذي لا دليل على صحته.
فإننا نقول له: إن الله ما أشهدك خلق السموات والأرض، ولن نقبل منك أيَّ شيء من هذا، إلاَّ إذا وجدنا دليلاً حسياً لا مناص لنا منه، حينئذٍ نأخذ به؛ لأن القرآن لا يعارض الأشياء المحسوسة.
{ {وَمَا كُنْتُ} } الضمير في { {كُنْتُ} } يعود إلى الله.
{ {مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} } أي: أنصاراً ينصرون ديني، لماذا؟ لأن المضل يصرف الناس عن الدين، فكيف يتخذ الله المضلين عضدا، وهو إشارة إلى أنه لا ينبغي لك أيها الإنسان أن تتخذ المضلين عضدا تنتصر بهم، لأنهم لن ينفعوك بل سيضرونك، إذاً لا تعتمد على السفهاء ولا تعتمد على أهل الأهواء المنحرفة؛ لأنه لا يمكن أن ينفعوك بل هم يضرونك، فإذا كان الله عزّ وجل لم يتخذ المضلين عضدا فنحن كذلك لا يليق بنا أن نتخذ المضلين عضدا؛ لأنهم لا خير فيهم، وفي هذا النهي عن بطانة السوء وعن مرافقة أهل السوء، وأن يحذر الإنسان من جلساء السوء.
* * *
{{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا *}}.
قوله تعالى: { {وَيَوْمَ يَقُولُ} } أي اذكر يوم يقول: { {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} } فينادونهم ولا يستجيبون لهم، وهذا يكون يوم القيامة، يقال لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم أولياء شفعاء.
{ {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} } فهذه الأصنام لا تنفع أهلها بل تُلقى هي وعابدوها في النار، قال الله عزّ وجل: {{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *}} [الأنبياء: 98] .
{ {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} } الموبق هو مكان الهلاك، يعني أننا جعلنا بينهم حائلاً مهلكاً حيث لا يمكن أن يذهبوا إلى شركائهم، ولا أن يأتي شركاؤهم إليهم، أرأيت لو كان بينك وبين صاحبك خندق من نار هل يمكن أن تذهب إليه لتنصره، أو أن يأتي إليك لينصرك؟
الجواب: لا يمكن، هؤلاء يجعل الله بينهم يوم القيامة { {مَوْبِقًا} }.
* * *
{{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا *}}.
قوله تعالى: { } المجرمون يعني الكافرين، كما قال عزّ وجل: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}} [السجدة: 22] .
{ {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} } { {فَظَنُّوا} } أي أيقنوا: { {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} } والظن يأتي بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ}} [البقرة: 46] ، أي: يوقنون أنهم ملاقو الله، وإلاَّ فالظن الذي هو ترجيح أحد الأمرين المشكوك فيهما لا يكفي في الإيمان.
{ {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} } يعني لم يجدوا مكانا ينصرفون عنها إليه، وهذه الجملة معطوفة على (رأى) وليست داخلة تحت قوله ظنوا، لأنه لو كان داخلاً في الظن لقال «ولن»، يعني أنهم لما رأوْها وظنوا أنهم مواقعوها لم يجدوا عنها مصرفاً أي مكاناً ينصرفون إليه لينجوا به منها.
* * *
{{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *}}.
قوله تعالى: { {صَرَّفْنَا} } يعني نوعنا، تصريف الشيء يعني تنويعه كما قال تعالى: {{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}} [البقرة: 164] ، أي تنويعها من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، إذاً { {صَرَّفْنَا} } أي نوعنا في هذا القرآن من كل مثل، وهكذا الواقع. فكلام الله صدق، أمثال القرآن تجدها متنوعة فتارة لإثبات البعث، وتارة لإثبات وحدانية الله، وتارة لبيان حال الدنيا، وتارة لبيان حال الآخرة، وتارة تكون مطولة، وتارة مختصرة، فهي أنواع. كل نوع في مكانه من البلاغة والفصاحة.
{ {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} } أي من كل جنس وصنف، فهذا مثل لكذا وهذا مثل لكذا، لماذا؟
الجواب: من أجل أن يتذكر الناس ويتعظوا ويعقلوها. ولكن يوجد من الناس من لا يتعظ بهذه المثل، بل على العكس، ولهذا قال: { {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} }، قوله: { {وَكَانَ الإِنْسَانُ} }، بعض المفسرين يقول: { {الإِنْسَانُ} } يعني الكافر، ولكن في هذا نظر؛ لأنه لا دليل على تخصيصه بالكافر، بل نقول { {الإِنْسَانُ} } من حيث الإنسانية.
{ {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} } يعني أكثر ما عنده، ولكن من حيث الإيمان فالمؤمن لا يكون مجادلاً، بل يكون مستسلماً للحق ولا يجادل فيه، ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أوتي قوم الجدل إلاَّ ضلوا» وتدبر حال الصحابة رضي الله عنهم تجد أنهم مستسلمون غاية الاستسلام لما جاءت به الشريعة، ولا يجادلون ولا يقولون لم؟ ولما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم»[(32)] هل قال الصحابة «لِمَ»؟ بل قالوا سمعنا وأطعنا، ما جادلوا، وكذلك في بقية الأوامر، لكن الإنسان من حيث هو إنسان أكثر شيء عنده الجدل. إذاً إذا مر بك مثل هذا في القرآن الكريم { {الإِنْسَانُ} } فلا تحمله على الكافر إلا إذا كان السياق يُعَيِّنُ ذلك، فإذا كان السياق يراد به ذلك، صار هذا عاماً يراد به الخاص، لكن إذا لم يكن في السياق ما يعين ذلك فاجعله للعموم، اجعله إنساناً بوصف الإنسانية، والإنسانية إذا غلب عليها الإيمان اضمحل مقتضاها المخالف للفطرة.
قوله: { {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} } هذا وقع في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب وزوجته فاطمة رضي الله عنهما حين جاء إليهما ذات ليلة ووجدهما نائمين فقال: «ألا تصليان»، قال علي رضي الله عنه: «إنَّ أنفُسَنا بيد الله ولو شاء لأيقظنا»، فانصرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يضرب على فخذه ويقول: { {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} }[(33)] ولا شك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن أنفسهما بيد الله، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الفريضة: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها»[(34)] فعذر الناسي والنائم وهو يعلم عليه الصلاة والسلام ذلك ولكنه يريد أن يَحُثَّهُما، وأراد علي رضي الله عنه أن يدفع اللوم عنه وعن زوجه فاطمة رضي الله عنها.
* * *
{{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً *}}.
قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا } يعني ما منع الناس عن الإيمان والاستغفار نقص البيان، فقد ذكر الله أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، وكان الواجب على الإنسان إذا ضربت له الأمثال أن يؤمن. لكنه ما منعهم من الإيمان نقصٌ في البيان، فالأمر والحمد لله بين واضح أتى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم بيضاء نقية[(35)] لكنه العناد.
ولهذا قال جلَّ وعلا: { {إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} } أي ما ينتظرون إلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً.
وقوله: { {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} } يعني يطلبون مغفرته، فالمؤمن كثير الاستغفار لربه، والكافر إذا آمن لا بد أن يستغفر الله بما وقع فيه من الذنوب، فإذا آمن واستغفر زال عنه ما كان من الذنوب. قال تعالى: {{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}} [الأنفال: 38] .
وقوله: { {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} } يعني مقابلة ومعاينة ومباشرة، وما هي سنة الأولين؟
الجواب: هي أخذهم بالعذاب العام، لكن لم يأخذ الله هذه الأمة بعذاب شامل لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا ربه ألا يهلك أمَّته بسنة بعامة[(36)] فأجاب الله دعاءه.
* * *
{{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا *}}.
قوله تعالى: { {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} } هذه وظيفة الرسل ما نرسل المرسلين من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم، إلاَّ لهذين الأمرين: مبشرين ومنذرين، يعني ولم نرسلهم من أجل أن يجبروا الناس على الإيمان بل هم مبشرون ومنذرون، يبشرون المؤمنين وينذرون الكافرين.
{ {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} } منصوبة على الحال من المرسلين، يعني إلاَّ حال كونهم مبشرين ومنذرين.
{ {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} } المجادلة هي المخاصمة وسميت المخاصمة مجادلة؛ لأن كل واحد يَجْدُلُ حجته للآخر والجَدْل هو فتل الحبل حتى يشتد ويقوى، هذا أصل المجادلة، إذاً يجادل أي يخاصم، والمخاصمة بالباطل باطلة، مثال ذلك في الرسل يقولون: {{أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}} [التغابن: 6] ، {{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً}} [المؤمنون: 24] ، ويجادلون في البعث فيقولون: {{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}} [يس: 78] ، ويجادلون في الآلهة يقولون: إذا كان المشركون وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، فعيسى عليه السلام من حصب جهنم، وغير ذلك من المجادلة، وقد أبطل الله مجادلتهم بعيسى عليه السلام قال الله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}} [الأنبياء: 101] ، ومنهم عيسى عليه السلام {{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}} [الأنبياء: 101] ويستفاد من الآية أن كل إنسان يجادل من أجل أن يدحض الحق فإن له نصيباً من هذه الآية، يعني أن فيه نصيباً من الكفر والعياذ بالله لأن الكافرين هم الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، فإذا قال قائل: «الشبهات التي يوردها من يوردها من الناس، كيف يقال إنها باطل وهي شبهة؟».
فالجواب: إذا كان غرضهم منها أن يُدحضوا الحق، مثل الذين ينكرون حقيقة استواء الله على العرش ويقولون: إنه لو استوى على العرش لكان «جسماً»، فهؤلاء جادلوا بالباطل من أجل أن يدحضوا الحق الذي أثبته الله لنفسه، وأما مسألة أن الله «جسم» أو غير «جسم» فهذه شيء آخر، المهم أنهم أتوا بهذه الكلمة من أجل إدحاض الحق، ونحن لا ننكر عليهم مسألة أنه «جسم أو غير جسم»، ننكر أنهم أنكروا حقيقة الاستواء، وأما مسألة أنه «جسم أو غير جسم» فهذا مبحث آخر، وهو أننا لا نثبت اللفظ «جسم» ولا ننكره، أما المعنى فنقول: إن الله تعالى حق قائم بذاته موصوف بصفاته يفعل ما يشاء، يستوي على عرشه، وينزل إلى السماء الدنيا، وينْزِل ليفصل بين العباد، ويعجب ويفرح ويضحك، المهم أنه كلما رأيت شخصاً يجادل يريد أن يدحض الحق، فله نصيب من هذه الآية.
{ {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} } { {وَاتَّخَذُوا} } أي صيروا. { {وَاتَّخَذُوا} } يعني القرآن.
{ {وَمَا أُنْذِرُوا} } أي ما أنذروا به من العذاب اتخذوها { {هُزُوًا} } مثال ذلك أن الكفار استهزؤوا لما أخبر الله عزّ وجل عن شجرة الزقوم {{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ *}} [الصافات: 64] ، يعني في قعره، فصاروا يضحكون كيف تخرج في أصل الجحيم، وهي شجرة أبعد ما يكون عن النار، النار حارة جافة والشجرة رطبة، فجعلوا يستهزئون ويقولون: هذا من هذيان محمد صلّى الله عليه وسلّم، فاتخذوا ما أنذروا به هزواً والله عزّ وجل قال: {{فَإِنَّهُمْ لآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *}} [الصافات: 66] {{ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ }} [الواقعة: 54، 55] ، يملؤون بطونهم من هذه الزَّقوم ملئاً تاماً ثم تحترق من العطش، فماذا يسقون؟ يسقون ماءً حاراً {{فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ}} أي على ما في بطونهم {{مِنَ الْحَمِيمِ}}، ومع ذلك يشربون شرباً ليس عادياً بالنسبة إلى البشر، ولكنه شرب الإبل الهيم، العطاش، هذه الشجرة التي يهزؤون بها هي التي يملؤون بها بطونهم في جهنم.
* * *
{{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا *}}.
قوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } أي ذكره الواعظ بآيات ربه الكونية، كأخذه الأمم المكذبين، أو الشرعية كالقرآن.
{ {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} }، ولم يقبلها، أي لا أ حد أظلم منه، فإن قيل: ما الجمع بين هذه الآية، وبين الآية التي في أول السورة وهي قوله تعالى: {{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}} ونحوها؟
فالجواب: بأحد وجهين:
الأول: أن الأفضلية باعتبار ما شاركه في أصل المعنى، فقوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } يعني من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها من الذين يُذَكَّرون فيُعرِضون، قد يذكر الإنسان فيعرض، لكن أشد ما يكون أن يذكر بآيات الله ثم يعرض عنها، وفي افتراء الكذب قد يفتري الإنسان الكذب على فلان وفلان، وأعظم ما يكون الافتراء عليه هو الله عزّ وجل، وأنت إذا أخذت بهذه القاعدة سلمت من إشكال كبير.
الثاني: وقيل: إن «أظلم» و«أظلم» يشتركان في الأظلمية ويتساويان فيها بالنسبة لغيرهما، وفيه نظر لأنه لا يمكن أن نقول: إنّ من ذكر بآيات ربه فأعرض عنها أنه يساوي من افترى على الله كذباً، أو من منع مساجد الله أن يُذْكر فيها اسمه يساوي من كذب على الله، ونحو ذلك.
قوله: { بِآيَاتِ رَبِّهِ } الكونية والشرعية؛ الكونية أن يقال له: إن كسوف الشمس والقمر يخوف الله بهما عباده فيعرض عنها ويقول: أبداً خسوف القمر طبيعي، وكسوف الشمس طبيعي، ولا إنذار ولا نذير، وهذا إعراض، أما الآيات الشرعية فكثير من يذكر بآيات الله ويعرض عنها.
{ {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} } يعني نسي ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي والاستكبار وغير ذلك مما يمنعه عن قبول الحق، لأن الإنسان والعياذ بالله كلما أوغل في المعاصي، ازداد بعداً عن الإقبال على الحق كما قال الله عزّ وجل: {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}} [الصف: 5] ، ولذلك يجب أن يُعلم أن من أشد عقوبات الذنوب أن يعاقب الإنسان بمرض القلب والعياذ بالله، فالإنسان إذا عوقب بهلاك حبيب أو فقد محبوب من المال، فهذه عقوبة لا شك، لكن إذا عوقب بانسلاخ القلب فهذه العقوبة أشد ما يكون. يقول ابن القيم رحمه الله:

والله ما خوفي الذنوب فإنها***لعلى طريق العفو والغفران

وإنما أخشى انسلاخ القلب من***تحكيم هذا الوحي والقرآن
هذا هو الذي يخشاه الإنسان العاقل، أما المصائب الأخرى فهي كفارات وربما تزيد العبد إيماناً.
{ {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} } أي صيرنا.
{ {عَلَى قُلُوبِهِمْ} } أي قلوب من { ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا }، وأعيد ضمير الجمع على مفرد باعتبار المعنى؛ لأن «مَن» سواء كان اسماً موصولاً أو شرطية يجوز في عود الضمير إليها أن يعود على لفظها فيكون مفرداً أو يعود على معناها فيكون مجموعاً أو مثنى حسب السياق، فإذا قلت: «يعجبني من قام» فهنا عاد على اللفظ، وإذا قلت: «يعجبني من قاما» فهنا يعود على المعنى، وكذلك لو قلت: «يعجبني من قاموا» وقد يراعى اللفظ مرة والمعنى مرة أخرى وتعود الضمائر لمراعاة الأمرين في سياق واحد، قال تعالى: {{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا}} فهنا روعي اللفظ، وفي قوله: {{يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}} روعي اللفظ أيضاً، وقوله: {{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}} روعي فيها المعنى، وفي قوله: {{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}} روعي اللفظ، كل هذا جاء في سياق واحد: {{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}} [الطلاق: 11] ، فروعي اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً ثم اللفظ ثالثاً.
{ {أَكِنَّةً} } أي: أغطية تمنعهم من { {أَنْ يَفْقَهُوهُ} } أن يفقهوا القرآن فلا يفهمونه، وفي هذا الحث على فقه القرآن، وأنه ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن ويتعلم معناه، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.
{ {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} } أي صمماً. تأمل، والعياذ بالله، القلوب عليها غِطاء فلا تفقه، والآذان عليها صمم فلا تسمع، فلا يسمعون الحق ولا يفهمونه.
{ {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} } يعني لو أرشدتهم يا محمد إلى الهدى.
{ {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا} } أي ما دامت قلوبهم في أكنة، وفي آذانهم وقرٌ لن يهتدوا، فمن أين يأتي الهدى، والآذان لا تسمع الحق والقلوب لا تنقاد للحق والعياذ بالله؟! فإن قال قائل: هل في هذا تيئيس للرسول صلّى الله عليه وسلّم من أنه وإن دعا لا يقبل منه أو فيه تسلية له؟
فالجواب: في هذا تسلية له، وأنهم إذا لم يقبلوا الحق فلا عليك منهم { {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} }.
* * *
{{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً *}}.
قوله تعالى: { {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} } هذا فيه تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم من وجه آخر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يمكن أن يقول: لماذا لم يعاجلوا بالعقوبة، كيف يكذبونني وأنا رسول الله ولم يعاقبهم؟! ولكن بَيَّن الله له أنه هو { {الْغَفُورُ} } أي الذي يستر الذنوب ويتجاوز عنها.
{ {ذُو الرَّحْمَةِ} } أي صاحب الرحمة الذي يلطف بالمذنب. ولهذا قال: { {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} } يعني لو أراد الله أن يؤاخذ الناس بما كسبوا لعجل لهم العذاب، وقد بين الله عزّ وجل هذا العذاب في آيات أخرى فقال: {{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَآبَّةٍ}} [فاطر: 45] ، أي لأهلكهم في الحال، ولكن {{يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}} [فاطر: 45] .
{ {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} } «بل» هذه للإضراب الإبطالي، يعني بل لن يسلموا من العذاب إذا أُخر عنهم، لهم موعد { {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} }، أي مكاناً يؤولون إليه، وهذا يوم القيامة، ويحتمل أن يكون ما يحصل للكفار من القتل على أيدي المؤمنين كما قال عزّ وجل: {{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}} [التوبة: 14، 15] ، إذاً يحتمل أن يكون المراد ما سيكون عليهم من القتل، والأخذ في الدنيا، أو ما سيكون عليهم يوم القيامة الذي لا مفر منه.
* * *
{{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} } أي: قرى الأمم السابقين، قد يقول قائل هنا إشكال: فإن القرى جماد، والجماد لا يعود عليه الضمير بصيغة الجمع، يعني أنك لا تقول مثلاً: «هذه البيوت عمرناهم» ولكن تقول: «هذه البيوت عمرناها»، فلماذا قال: «أهلكناهم»؟
فالجواب: قال هذا؛ لأن الذي يهلك هم أهل القرى، وفي هذا دليل واضح على أن القرى قد يراد بها أهلها، وقد يراد بها البناء المجتمع، فالقرية أو القرى تارة يراد بها أهلها وتارة يراد بها المساكن المجتمعة، قال تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] ، فالمراد بالقرى هنا أهلها، وقال تعالى: {{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}} [العنكبوت: 31] والمراد بالقرية هنا المساكن المجتمعة.
{ {لَمَّا ظَلَمُوا} } المراد بالظلم هنا الكفر، أي: حين كفروا. { {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} } يعني جعلنا لإهلاكهم موعداً، والله يفعل ما يشاء، إن شاء عجَّل العقوبة وإن شاء أخر، لكن إذا جاء الموعد لا يتأخر: ولهذا قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: {{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}} [نوح: 4] ، فهو أجل معين عند الله في الوقت الذي تقتضيه حكمته.
* * *
{{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا *}}.
قوله تعالى: { {وَإِذْ} } مفعول لفعل محذوف والتقدير «اذكر إذ قال»، يعني واذكر إذ قال موسى لفتاه؛ أي: غلامه يوشع بن نون، وكان موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ابن عمران قام يخطب يوماً في بني إسرائيل فقام أحدهم وقال: هل على وجه الأرض أعلم منك؟ قال موسى: «لا»، وذلك بناء على ظنه أنه لا أحد أعلم منه، فعتب الله عليه في ذلك، لماذا لم يكل العلم إلى الله، فقال الله ـ عزّ وجل ـ إنَّ لي عبداً أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين، وذكر له علامة وهي أن تفقد الحوت، فاصطحب حوتاً معه في مِكْتَل[(37)] وسار هو وفتاه يوشع بن نون، جاء ذلك في البخاري[(38)]، لينظر من هذا الذي هو أعلم منه ثم ليتعلم منه أيضاً، كان الحوت في المكتل، فلما استيقظا مع السرعة لم يفتشا في المكتل، وخرج الحوت بأمر الله من المكتل ودخل في البحر.
{ {لاَ أَبْرَحُ} } أي لا أزال، والخبر محذوف والتقدير «لا أزال أسير».
{ {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} } قيل: إنه مكان الله أعلم به، لكن موسى يعلم، وقيل: إنه ملتقى البحر الأحمر مع البحر الأبيض، وكان فيما سبق بينهما أرض، حتى فتحت القناة وهذا ليس ببعيد، وسبب ذلك أن الله أوحى إليه أن عبداً في مجمع البحرين أعلم منك.
{ {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} }، أو هنا للتنويع، يعني إما أن أبلغ مجمع البحرين أو أمضي في السير حقباً أي: دهوراً طويلة، وقيل: { {أَوْ} } بمعنى «إلاَّ» أي حتى أبلغ مجمع البحرين إلاَّ أن { {أَمْضِيَ حُقُبًا} } أي: دهوراً طويلة قبل أن أبلغه، لكن الوجه الأول أسد، فتهيئَا لذلك وسارا، وسبب قوله هذا أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن عبداً لنا هو أعلم منك عند مجمع البحرين، فسار موسى إليه طلباً للعلم.
* * *
{{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا *}}.
قوله تعالى: { {فَلَمَّا بَلَغَا} } أي: موسى وفتاه.
{ {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} } أي: بين البحرين.
{ {نَسِيَا حُوتَهُمَا} } أضاف الفعل إليهما مع أن الناسي هو الفتى وليس موسى، ولكن القوم إذا كانوا في شأن واحد وفي عمل واحد، نسب فعل الواحد منهم أو القائل منهم إلى الجميع، ولهذا يخاطب الله ـ عزّ وجل ـ بني إسرائيل في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيقول: } [البقرة: 50] ، } [البقرة: 55] ، مع أنهم ما قالوا هذا؛ لكن قاله أجدادهم.
{ {نَسِيَا حُوتَهُمَا} } نسيان ذهول وليس نسيان ترك، وهذا من حكمة الله ـ عزّ وجل ـ، أن الله أنساهما ذلك لحكمة، وهذا الحوت قد جعله الله ـ سبحانه وتعالى ـ علامة لموسى، أنك متى فقدت الحوت فثَم الخضر، وهذا الحوت كان في مِكْتَل وكانا يقتاتان منه، ولما وصلا إلى مكان ما ناما فيه عند صخرة، فلما استيقظا وإذا الحوت ليس موجوداً، لكنه أي: الفتى لم يتفقد المكتل ونسي شأنه وأمره، هذا الحوت ـ سبحان الله ـ خرج من المكتل، ودخل في البحر وجعل يسير في البحر، والبحر ينحاز عنه.
{ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} } أي اتخذ الحوت طريقه في البحر.
{ }{سَرَبًا} أي مثل السرب، والسرب هو السرداب يعني أنه يشق الماء ولا يتلاءم الماء، وهذا من آيات الله، وإلا فقد جرت العادة أن الحوت إذا انغمر في البحر يتلاءم البحر عليه، لكن هذا الحوت من آيات الله، أولاً: أنه قد مات، وأنهما يقتاتان منه، ثم صار حياً ودخل البحر ثانياً: أنه صار طريقه على هذا الوجه، وهذا من آيات الله تبارك وتعالى.
* * *
{{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا *}}.
قوله تعالى: { {فَلَمَّا جَاوَزَا} } الفاعل موسى وفتاه { {جَاوَزَا} } يعني تعديا ذلك المكان، قال موسى لفتاه: { {آتِنَا غَدَاءَنَا} } وكان ذلك؛ لأن الغداء هو الطعام الذي يؤكل في الغداة.
{ {لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} } أي تعباً.
وقوله: { {مِنْ سَفَرِنَا هَذَا} } ليس المراد من حين ابتداء السفر ولكن من حين ما فارقا الصخرة، ولذلك طلب الغداء، قال أهل العلم وهذا من آيات الله عزّ وجل فقد سارا قبل ذلك مسافة طويلة ولم يتعبا، ولما جاوزا المكان الذي فيه الخضر، تعبا سريعاً من أجل ألا يتماديا في البعد عن المكان.
* * *
{{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا *} } أي: قال الفتى لموسى: { {أَرَأَيْتَ} } أي ما حصل حين لجأنا إلى الصخرة، والمراد بالاستفهام التعجب أو تعجيب موسى.
{ {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} } يعني نسيت أن أتفقده أو أسعى في شأنه أو أذكره لك، وإلا فالحوت معروف كان في المكتل.
{ {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} } قوله: { {أَنْ أَذْكُرَهُ} } هذه بدل من الهاء في «أنسانيه»، يعني ما أنساني ذكره إلا الشيطان.
{ {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} }، أي اتخذ الفتى أو موسى سبيل الحوت في البحر.
{ {عَجَبًا} } يعني محل عجب، وهو محل عجب، ماء سيال يمر به هذا الحوت، ويكون طريقه سرباً، فكان هذا الطريق للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، ولنا أيضاً عجب؛ لأن الماء عادة يتلاءم على ما يمر به لكن هذا الحوت ـ بإذن الله ـ لم يتلاءم الماء عليه.
* * *
{{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} } أي قال موسى عليه الصلاة والسلام: { {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} } أي: ما كنا نطلب؛ لأن الله أخبره بأنه إذا فقد الحوت، فذاك محل اتفاقه مع الخضر.
{ {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} } يعني رجعا بعد أن أخذا مسافة تعبا فيها، ارتدا على آثارهما، يعني يقصان أثرهما؛ لئلا يضيع عنهما المحل الذي كانا قد أويا إليه.
* * *
{{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا *}}.
قوله تعالى: { {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} } وهو الخضر كما صحَّ ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم[(39)].
وقوله: { {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} } هل هو عبدٌ من عباد الله الصالحين أو من الأولياء الذين لهم كرامات أم من الأنبياء الموحى إليهم؟ كل ذلك ممكن، لكن النصوص تدل على أنه ليس برسول ولا نبي، إنما هو عبد صالح أعطاه الله تعالى كرامات؛ ليبين الله بذلك أن موسى لا يحيط بكل شيء علماً وأنه يفوته من العلم شيء كثير.
{ {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} } أي: أن الله جلَّ وعلا جعله من أوليائه برحمته إياه.
{ {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} } يعني علماً لا يطَّلِع عليه الناس، وهو علم الغيب في هذه القصة المعينة وليس علم نبوة ولكنه علم خاص؛ لأن هذا العلم الذي اطَّلع عليه الخضر لا يمكن إدراكه وليس شيئاً مبنياً على المحسوس، فيبنى المستقبل على الحاضر، بل شيء من الغائب، فأطلعه الله تعالى على معلومات لا يطَّلع عليها البشر.
* * *
{{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} } أي قال موسى للخضر: هل أتبعك، وهذا عرض لطيف وتواضع، وتأمّل هذا الأدب من موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع أن موسى أفضل منه وكان عند الله وجيهاً، ومع ذلك يتلطف معه لأنه سوف يأخذ منه علماً لا يعلمه موسى، وفي هذا دليل أنَّ على طالب العلم أن يتلطف مع شيخه ومع أُستاذه وأن يُعامله بالإكرام، ثم بين موسى أنه لا يريد أن يَتَّبِعَه ليأكل من أكله أو يشرب من شربه، ولكن { {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} } ولا شك أن الخضر سيفرح بمن يأخذ عنه العلم، وكل إنسان أعطاه الله علماً ينبغي أن يفرح أن يؤخذ منه هذا العلم، لأن العلم الذي يُؤخذ من الإنسان في حياته ينتفع به بعد وفاته كما جاء في الحديث الصحيح: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ صَدَقَةٍ جَارِية أوَ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» [(40)].
فقال له الخضر:
{{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *}}.
{ {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} } وبيّن له عذره في قوله هذا، فقال: { {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *} }، وأين الدليل للخضر أن موسى لم يحط بذلك خُبرا؟
الجواب: لأنه قال: { {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} } وهذا يدل على أنه لا علم له فيما عند الخضر.
فماذا قال موسى عليه السلام؟
{{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا *} }.
{ {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}} هذا الذي قاله موسى عليه السلام قاله فيما يعتقده في نفسه في تلك الساعة من أنه سيصبر، لكنه علَّقه بمشيئة الله لئلاَّ يكون ذلك اعتزازاً بنفسه وإعجاباً بها.
وقوله: { {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} } هو كقول إسماعيل بن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال له أبوه: {{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}} [الصافات: 102] ، وموسى قال للخضر: { {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} }، وأيضاً أصبر على ما تفعل وأمتثل ما به تأمر { {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} }، وعده بشيئين:
1 ـ الصبر على ما يفعل.
2 ـ الائتمار بما يأمر، والانتهاء عما ينهى.
قال الخضر:
{{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا *}}.
قوله تعالى: { {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} } ومعلوم أنه سيتبعه.
{ {فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} } أي عن شيء مما أفعله.
{ {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} } { {حَتَّى} } هنا للغاية، يعني إلى أن { {أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} } أي: إلى أن أذكر لك السبب، وهذا توجيه من معلم لمن يتعلم منه، ألاَّ يتعجل في الرد على معلمه، بل ينتظر حتى يحدث له بذلك ذكراً، وهذا من آداب المتعلم ألاَّ يتعجل في الرد حتى يتبين الأمر.
* * *
{{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا *}}.
قوله تعالى: { {فَانْطَلَقَا} } الفاعل موسى والخضر، وسكت عن الفتى، فهل الفتى تأخر عن الركوب في السفينة، أم أنه ركب ولكن لما كان تابعاً لم يكن له ذكر؟
الجواب: الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه كان تابعاً، لكن لم يكن له تعلق بالمسألة، والأصل هو موسى طوي ذكره، وهو أيضاً تابع.
{ {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} } مرَّت سفينة، وهما يمشيان على شاطئ البحر، فركبا فيها.
{ {خَرَقَهَا} } أي: الخضر بقلع إحدى خشبها الذي يدخل منه الماء، فقال له موسى: { {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} } وهذا إنكار من موسى على الخضر مع أنه قال له: { {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} } لكنه لم يصبر؛ لأن هذه مشكلتها عظيمة، سفينة في البحر يخرقها فتغرق! واللام في قوله: { {لِتُغْرِقَ} } ليست للتعليل ولكنها للعاقبة، يعني أنك إذا خرقتها غرق أهلها، وإلاَّ لا شك أن موسى عليه السلام لا يدري ما غرض الخضر، ولا شك أيضاً أنه يدري أنه لا يريد أن يغرق أهلها، لأنه لو أراد أن يغرق أهلها لكان أول من يغرق هو وموسى، لكن اللام هنا للعاقبة ولام العاقبة ترد في غير موضع في القرآن، مثل قول الله تعالى: {{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}} [القصص: 8] .
لو سألنا أي إنسان: هل آل فرعون التقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً؟
الجواب: أبداً، ولكن هذه للعاقبة.
{ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} } يعني شيئاً عظيماً، يعني كان موسى شديداً قوياً في ذات الله، فهو أنكر عليه، وبين أن فعله ستكون عاقبته الإغراق، وزاده توبيخاً في قوله: { {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} }، والجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات:
1 ـ اللام.
2 ـ قد.
3 ـ القسم المقدر الذي تدل عليه اللام، والإمر بكسر الهمزة الشيء العظيم، ومنه قول أبي سفيان لهرقل لما سأله عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبين له حاله وصفاته وما كان من أخلاقه، فلما انصرف مع قومه، قال أبو سفيان: «لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كَبْشَة إنه ليخافه مَلِكُ بني الأصفر» [(41)]، يعني بابن أبي كبشة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. و: «أمِرَ أمرُه» يعني عَظُم أمره.
* * *
{{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *}}.
فاعتذر موسى:
{{قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا *}}.
وسبب نسيان موسى؛ أن الأمر عظيم اندهش له: أن تغرق السفينة وهم على ظهرها، وهذه توجب أن الإنسان ينسى ما سبق من شدة وقع ذلك في النفس.
وقوله: { {بِمَا نَسِيتُ} } أي بنسياني، ولهذا نقول في إعراب «ما» إنها مصدرية، أي: بنسياني ذلك وهو قولي: { {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} }.
{ {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} } يعني لا تثقل علي وتعسر علي الأمور؛ وكأن هذا والله أعلم توطئة لما يأتي بعده.
* * *
{{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا *}}.
قوله تعالى: { {فَانْطَلَقَا} } بعد أن أرست السفينة على الميناء. { {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} } ولم يقل «قتله»، وفي السفينة قال: { {خَرَقَهَا} } ولم يقل: «فخرقها»، يعني كأن شيئاً حصل قبل القتل فقتله .
{ {غُلاَمًا} } الغلام هو الصغير، ولم يصبر موسى عليه السلام. { {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} } وفي قراءة «زاكية» لأنه غلام صغير، والغلام الصغير تكتب له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، إذاً فهو زكي لأنه صغير ولا تكتب عليه السيئات.
{ {بِغَيْرِ نَفْسٍ} } يعني أنه لم يقتل أحداً حتى تقتله، ولكن لو أنه قتل هل يُقتل أو لا؟
الجواب: في شريعتنا لا يقتل لأنه غير مُكلَّف ولا عَمْد له، على أنه يحتمل أن يكون هذا الغلام بالغاً وسمي بالغلام لقرب بلوغه وحينئذٍ يزول الإشكال.
{ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} } هذه العبارة أشد من العبارة الأولى. في الأولى قال: { {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} }، ولكن هنا قال: { {نُكْرًا} } أي منكراً عظيماً، والفرق بين هذا وهذا، أن خرق السفينة قد يكون به الغرق وقد لا يكون وهذا هو الذي حصل، لم تغرق السفينة، أما قتل النفس فهو منكر حادث ما فيه احتمال.
فقال الخضر:
{{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *}}.
قوله تعالى: { {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} } هنا فيها لوم أشد على موسى، في الأولى قال: {{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} } وفي الثانية قال: { {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} } يعني كأنك لم تفهم ولن تفهم، ولذلك كان الناس يفرقون بين الجملتين، فلو أنك كلمت شخصاً بشيء وخالفك فتقول في الأول: «ألم أقل إنك»، وفي الثاني تقول: «ألم أقل لك» يعني أن الخطاب ورد عليك وروداً لا خفاء فيه، ومع ذلك خالفت، فكان قول الخضر لموسى في الثانية أشد: { {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} }، فقال له موسى لما رأى أنه لا عذر له:
{{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}}.
قوله تعالى: { {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} } أي امنعني من صحبتك، وفي قول موسى: { {فَلاَ تُصَاحِبْنِي} } إشارة إلى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يرى أنه أعلى منه منْزِلة وإلاَّ لقال: «إن سألتك عن شيء بعدها فلا أصاحبك».
{ {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}} يعني أنك وصلت إلى حال تعذر فيها، لأنه أنكر عليه مرتين مع أن موسى عليه السلام التزم ألاَّ يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً.
* * *
{{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا *}}.
قوله تعالى: { {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} } ولم يعين الله عزّ وجل القرية فلا حاجة إلى أن نبحث عن هذه القرية، بل نقول: قرية أبهمها الله فنبهمها.
{ {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} } أي: طلبا من أهلها طعاماً.
{ {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} } ولا شك أن هذا خلاف الكرم، وهو نقص في الإيمان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» [(42)].
{ {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} } أي: أنه مائل يريد أن يسقط، فإن قيل: هل للجدار إرادة؟
فالجواب: نعم له إرادة، فإن ميله يدل على إرادة السقوط، ولا تتعجب إن كان للجماد إرادة فها هو «أُحُد» قال عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه: «يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» [(43)] والمحبة وصف زائد على الإرادة، أما قول بعض الناس الذين يجيزون المجاز في القرآن: إنَّ هذا كناية وأنه ليس للجماد إرادة فلا وجه له.
{ {فَأَقَامَهُ} } أي أقامه الخضر، لكن كيف أقامه؟ الله أعلم، قد يكون أقامه بيده، وأن الله أعطاه قوة فاستقام الجدار، وقد يكون بناه البناء المعتاد، المهم أنه أقامه، ولم يبين الله تعالى طول الجدار ولا مسافته ولا نوعه فلا حاجة أن نتكلف معرفة ذلك.
{ {قَالَ} } أي: موسى: { {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} } ولم ينكر عليه أن يبنيه ولا قال: كيف تبنيه وقد أبوا أن يضيفونا؟! بل قال: { {لَوْ شِئْتَ} } وهذا لا شك أنه أسلوب رقيق فيه عرض لطيف { {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} } أي عِوَضاً عن بنائه.
* * *
{{قَالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ} } أي قال الخضر لموسى: { {هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} } أي انتهى ما بيني وبينك فلا صحبة. { {سَأُنَبِّئُكَ} } أي سأخبرك عن قُربٍ قبل المفارقة { {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} }، وإنما قلنا: «سأخبرك عن قرب» لأن السين تدل على القرب بخلاف سوف، وهي أيضاً تفيد مع القرب التحقيق.
{ {بِتَأْوِيلِ} } أي بتفسيره وبيان وجهه.
* * *
{{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا *}}.
قوله تعالى: { {أَمَّا السَّفِينَةُ} } «ال» في السفينة هي للعهد الذكري أي: السفينة التي خرقتها.
{ {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} } أي: أنهم يطلبون الرزق فيها إما بتأجيرها، أو صيد السمك عليها، ونحوه وهم مساكين جمع، والجمع أقله ثلاثة، وليس ضرورياً أن نعرف عددهم.
{ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} } يعني أن أجعل فيها عيباً، لماذا؟ قال:
{ {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} } فأردت أن أعيبها حتى إذا مرت بهذا الملك، قال: هذه سفينة معيبة لا حاجة لي فيها؛ لأنه لا يأخذ إلا السفن الصالحة الجيدة، أما هذه فلا حاجة له فيها، فصار فعل الخضر من باب دفع أشد الضررين بأخفهما، ومنه يؤخذ فائدة عظيمة وهي إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، والأطباء يعملون به، تجده يأخذ من الفخذ قطعة فيصلح بها عيباً في الوجه، أو في الرأس، أو ما شابه ذلك، وأخذ منه العلماء ـ رحمهم الله ـ أن الوقف إذا دَمَر وخرب فلا بأس أن يباع بعضه ويصرف ثمنه في إصلاح باقيه، ثم بين الخضر حال الغلام فقال:
{{وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤُمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا *}}.
قوله تعالى: { {أَبَوَاهُ} } أي: أبوه وأمه { {مُؤُمِنَيْنِ} } أي: وهو كافر.
{ {فَخَشِينَا} } أي خفنا، والخشية في الأصل خوف مع علم، وأتي بضمير الجمع للتعظيم.
{ {أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا} } يعني يحملهما على الطغيان والكفر، إما من محبتهما إياه، أو لغير ذلك من الأسباب، وإلا فإن الغالب أن الوالد يؤثِّر على ولده ولكن قد يؤثر الولد على الوالد كما أن الغالب أن الزوج يؤثر على زوجته، ولكن قد تؤثر الزوجة على زوجها.
* * *
{{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا *}}.
قوله تعالى: يعني أنَّا إذا قتلناه؛ فإن الله خير وأبقى؛ نؤمل منه تعالى { {أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} } أي في الدين، { {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} } أي في الصلة، يعني أنه أراد أن الله يتفضل عليهما بمن هو أزكى منه في الدين، وأوصل في صلة الرحم، ويؤخذ من ذلك أنه يقتل الكافر خوفاً من أن ينشر كفره في الناس.
* * *
{{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *}}.
قوله تعالى: { {لِغُلاَمَيْنِ} } يعني صغيرين.
{ {يَتِيمَيْنِ} } قد مات أبوهما.
{ {فِي الْمَدِينَةِ} } أي: القرية التي أتياها.
{ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} } أي: كان تحت الجدار مال مدفون لهما.
{ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} } فكان من شكر الله ـ عزّ وجل ـ لهذا الأب الصالح أن يكون رؤوفاً بأبنائه، وهذا من بركة الصلاح في الآباء أن يحفظ الله الأبناء.
{ {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} } أي: أراد الله عزّ وجل { {أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} } أي: أن يبلغا ويكبرا حتى يصلا إلى سن الرشد، وهو أربعون سنة عند كثير من العلماء، وهنا ما قال «فأردنا» ولا قال «فأردت»، بل قال: { {فَأَرَادَ رَبُّكَ} }؛ لأن بقاء الغلامين حتى يبلغا أشدهما ليس للخضر فيه أي قدرة، لكن الخشية ـ خشية أن يرهق الغلام أبويه بالكفر ـ تقع من الخضر وكذلك إرادة عيب السفينة.
{ {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} } حتى لا يبقى تحت الجدار، ولو أن الجدار انهدم لظهر الكنْز وأخذه الناس.
{ {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} } هذه مفعول لأجله، والعامل فيه أراد، يعني أراد الله ذلك رحمة منه جلَّ وعلا.
{ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} } يعني ما فعلت هذا الشيء عن عقل مني أو ذكاء مني ولكنه بإلهام من الله ـ عزّ وجل ـ وتوفيق؛ لأن هذا الشيء فوق ما يدركه العقل البشري.
{ {ذَلِكَ تَأْوِيلُ} } أي ذلك تفسيره الذي وعدتك به {{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ}} [الكهف: 78] . أي: تفسيره، ويحتمل أن يكون التأويل هنا في الثاني العاقبة، يعني ذلك عاقبة ما لم تستطع عليه صبراً؛ لأن التأويل يراد به العاقبة ويراد به التفسير.
{ {مَا لَمْ تَسْطِعْ} } وفي الأول قال: { {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} } لأن «استطاع واسطاع ويستطيع ويسطيع» كل منها لغة عربية صحيحة.
وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن) فوائد جمة عظيمة في هذه القصة لا تجدها في كتاب آخر فينبغي لطالب العلم أن يراجعها لأنها مفيدة جداً.
وبهذا انتهت قصة موسى مع الخضر.
ثم ذكر الله تعالى قصة أخرى سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال:
{{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا *}}.
قوله تعالى: { {وَيَسْأَلُونَكَ} } سواء من يهود أو من قريش أو من غيرهم.
{ {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} } أي: صاحب القرنين، وكان له ذكر في التاريخ، وقد قال اليهود لقريش: اسألوا محمداً عن هذا الرجل؛ فإن أخبركم عنه فهو نبي، ولماذا سمي بذي القرنين؟ قيل: معناه ذي الملك الواسع من المشرق والمغرب، فإن المشرق قرن والمغرب قرن، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المشرق: «حيث يطلع قرن الشيطان» [(44)]، فيكون هذا كناية عن سعة ملكه، وقيل: ذي القرنين لقوته، ولذلك يعرف أن الفحل من الضأن الذي له قرون يكون أشد وأقوى، وقيل: لأنه كان على رأسه قرنان كتاج الملوك، والحقيقة أن القرآن العظيم لم يبين سبب تسميته بذي القرنين، لكن أقرب ما يكون للقرآن العظيم «المالك للمشرق والمغرب»، وهو مناسب تماماً؛ حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الشمس إنها: «تطلع بين قرني شيطان» [(45)].
{ {قُلْ} } لمن سألك: { {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} } وليس كل ذكره بل ذكراً منه، ثم قصَّ الله القصة:
* * *
{{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا *}}.
قوله تعالى: { {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} } وذلك بثبوت ملكه وسهولة سيره وقوته.
{ {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} } أي شيئاً يتوصل به إلى مقصوده، وقوله: { {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} } لا يعم كل شيء؛ لكن المراد من كل شيء يحتاج إليه في قوة السلطان، والتمكين في الأرض، والدليل على هذا أن «كل شيء» بحسب ما تضاف إليه، فإن الهدهد قال لسليمان عليه السلام عن ملكة اليمن سبأ: {{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}} [النمل: 23] ، ومعلوم أنها لم تؤت ملك السموات والأرض، لكن من كل شيء يكون به تمام الملك، كذلك قال الله تعالى عن ريح عاد: {{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}} [الأحقاف: 25] ، ومعلوم أنها ما دَمَّرت كل شيء، فالمساكن ما دُمِّرت كما قال تعالى: {{فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}} [الأحقاف: 25] .
* * *
{{فَأَتْبَعَ سَبَبًا *}}.
قوله تعالى: { {فَأَتْبَعَ سَبَبًا *} } أي: تبع السبب الموصل لمقصوده فإنه كان حازماً، انتفع بما أعطاه الله تعالى من الأسباب؛ لأن من الناس من ينتفع، ومن الناس من لا ينتفع، ولكن هذا الملك انتفع { {فَأَتْبَعَ سَبَبًا *} } وجال في الأرض.
* * *
{{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً *}}.
قوله تعالى: { {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} } من المعلوم أن المراد هو المكان الذي تغرب الشمس فيه، وهو البحر؛ لأن السائر إلى المغرب سوف يصطدم بالبحر والشمس إذا رآها الرائي وجدها تغرب فيه.
{ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} } هي أرض البحر { {حَمِئَةٍ} } مسودة من الماء، لأن الماء إذا مكث طويلاً في الأرض صارت سوداء، ومعلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان، وإلاَّ فهي أكبر من الأرض، وأكبر من هذه العين الحمئة، وهي تدور على الأرض، لكن لا حرج أن الإنسان يخبر عن الشيء الذي تراه عيناه بحسب ما رآه.
{ {وَوَجَدَ عِنْدَهَا} } أي عند العين الحمئة وهو البحر { {قَوْمًا} }.
{ {قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} } يعني أن الله خيره بين أن يعذبهم بالقتل أو بغير القتل أو يحسن إليهم؛ وذلك لأن ذي القرنين ملك عاقل، ملك عادل، ويدل لعقله ودينه أنه:
{{قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا *وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا *}}.
حكمٌ عدل: { {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} } وذلك بالشرك لأن الظلم يطلق على الشرك وعلى غيره، لكن الظاهر، والله أعلم، هنا أن المراد به الشرك لأنه قال: { {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} }.
يقول: { {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} } العذاب الذي يكون تعزيراً، وعذاب التعزير يرجع إلى رأي الحاكم، إما بالقتل أو بغيره.
{ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} } لأن العقوبات لا تطهر الكافرين، فالمسلم تطهره العقوبات، أما الكافر فلا، فإنه يعذب في الدنيا وفي الآخرة، نعوذ بالله من ذلك.
قوله: { {نُكْرًا} } ينكره المُعَذَّب بفتح الذال، ولكنه بالنسبة لله تعالى ليس بنُكر، بل هو حق وعدل، لكنه ينكره المُعَذَّب ويرى أنه شديد.
{ {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا *} } المؤمن العامل للصالحات له جزاء عند الله { {الْحُسْنَى} } وهي الجنة كما قال تعالى: {{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}} [يونس: 26] ، فسرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن: { {الْحُسْنَى} } هي الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجه الله [(46)].
{ {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} } أي سنقول له قولاً يسراً لا صعوبة فيه، فوعد الظالم بأمرين: أنه يعذبه، وأنه يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، والمؤمن وعده بأمرين: بأن له { {الْحُسْنَى} } وأنه يعامله بما فيه اليسر والسهولة، لكن تأمل في حال المشرك بدأ بتعذيبه ثم ثنى بتعذيب الله، والمؤمن بدأ بثواب الله أولاً ثم بالمعاملة باليسر ثانياً، والفرق ظاهر لأن مقصود المؤمن الوصول إلى الجنة، والوصول إلى الجنة لا شك أنه أفضل وأحب إليه من أن يقال له قول يُسر، وأما الكافر فعذاب الدنيا سابق على عذاب الآخرة وأيسر منه فبدأ به، وأيضاً فالكافر يخاف من عذاب الدنيا أكثر من عذاب الآخرة؛ لأنه لا يؤمن بالثاني.
* * *
{{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا *}}.
قوله تعالى: { {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} } أي: موضع طلوعها، أتبع أولاً السبب إلى المغرب ووصل إلى نهاية الأرض اليابسة مما يمكنه أن يصل إليه ثم عاد إلى المشرق، لأن عمارة الأرض تكون نحو المشرق والمغرب، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله زَوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها» [(47)] دون الشمال والجنوب لأن الشمال والجنوب أقصاه من الشمال، وأقصاه من الجنوب كله ثلج ليس فيه سكان، فالسكان يتبعون الشمس من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق.
{ {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} } وجدها تطلع على قوم ليس عندهم بناء، ولا أشجار ظليلة ولا دور ولا قصور، وبعض العلماء بالغ حتى قال: وليس عليهم ثياب، لأن الثياب فيها نوع من الستر. المهم أن الشمس تحرقهم.
* * *
{{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا *}}.
قوله تعالى: { {كَذَلِكَ} } يعني الأمر كذلك على حقيقته.
{ {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} } أي قد علمنا علم اليقين بما عنده من وسائل الملك وامتداده، أي: بكل ما لديه من ذلك.
* * *
{{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً *}}.
قوله تعالى: { {أَتْبَعَ سَبَبًا} } يعني سار واتخذ سبباً يصل به إلى مراده.
{ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} } السدين هما جبلان عظيمان يحولان بين الجهة الشرقية من شرق آسية، والجهة الغربية، وهما جبلان عظيمان بينهما منفذ ينفذ منه الناس.
{ {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} } أي: لا بينهما ولا وراءهما.
{ {قَوْمًا} } قيل: إنهم الأتراك.
{ {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} } فيها قراءتان: «لاَّ يَكَادُونَ يُفْقِهُونَ قَوْلاً» و«لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً» والفرق بينهما ظاهر: لا { {يَفْقَهُونَ} } يعني هم، لا «يُفْقِهُونَ» أي: غيرهم، يعني هم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم، هذه فائدة القراءتين، وكلتاهما صحيحة، وكل واحدة تحمل معنىً غير معنى القراءة الأخرى، لكن بازدواجهما نعرف أن هؤلاء القوم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم.
* * *
{{قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا *}}.
قوله تعالى: { {قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ} } وحينئذٍ يقع إشكال كيف يكونوا { {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} } ثم ينقل عنهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح فصيح: { {قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ} }؟
والجواب عن هذا سهل جداً، وهو أن ذا القرنين أعطاه الله تعالى ملكاً عظيماً، وعنده من المترجمين ما يُعرف به ما يريد، وما يَعرف به ما يريد غيره، على أنه قد يكون الله ـ عزّ وجل ـ قد ألهمه لغة الناس الذين استولى عليهم كلِّهم، المهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح { {قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ} }، نادَوه بلقبه تعظيماً له.
{ {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} } يأجوج ومأجوج هاتان قبيلتان من بني آدم كما صح ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حدَّث الصحابة بأن الله ـ عزّ وجل ـ يأمر آدم يوم القيامة فيقول:
«يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِير، وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيد» [فاشتد ذلك عليهم] قالوا: يا رسول الله، وأيُّنا ذلك الواحد؟ قال: «أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُم رَجُلٌ وَمِنْ يَأْجُوج ومَأْجُوج أَلْفٌ». ثم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ...» إلخ الحديث[(48)].
وبهذا نعرف خطأ من قال: إنهم ليسوا على شكل الآدميين وأن بعضهم في غاية ما يكون من القِصَر، وبعضهم في غاية ما يكون من الطول، وأن بعضهم له أذن يفترشها، وأذن يلتحف بها وما أشبه ذلك، كل هذا من خرافات بني إسرائيل، ولا يجوز أن نصدقه، بل يقال: إنهم من بني آدم، لكن قد يختلفون كما يختلف الناس في البيئات، فتجد أهل خط الاستواء بيئتهم غير بيئة الشماليين، فكل له بيئة، الشرقيون الآن يختلفون عن أهل وسط الكرة الأرضية، فهذا ربما يختلفون فيه، أما أن يختلفوا اختلافاً فادحاً كما يذكر، فهذا ليس بصحيح.
{ {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} } الإفساد في الأرض يعم كل ما كان غير صالح، وغير أصلح، يفسدونها في القتل، وفي النهب، وفي الانحراف، وفي الشرك، وفي كل شيء، المهم أنهم يحتاجون إلى أحد يحميهم من هؤلاء.
{ {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} } يعني حاجزاً يمنع من حضورهم إلينا، فعرضوا عليه أن يعطوه شيئاً، وهذا اجتهاد في غير محله، لكنهم خافوا أن يقول لا، ولا يمكنهم بعد ذلك، وإلاَّ هذا الاجتهاد: كيف يقولون لهذا الملك الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها: { {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} } هذا لا يقال إلاَّ لشخصٍ لا يستطيع. لكنهم قالوا ذلك خوفاً من أن يرد طلبهم، يريدون أن يقيموا عليه الحجة بأنهم أرادوا أن يعطوه شيئاً يحميهم به من هؤلاء، قال في الجواب:
{{مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}}.
قوله تعالى: { {قَالَ مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} } { {مَا} } مبتدأ و{ {مَا} } خبر المبتدأ، يعني الذي مكَّني فيه ربي من الملك والمال والخدم، وكل شيء، خير من هذا الخرج الذي تعرضونه عليَّ، وهذا كقول سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هدية ملكة سبأ، قال: { فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [النمل: 36] وهذا من اعتراف الإنسان بنعم ربه ـ عزّ وجل ـ التي لا يحتاج معها إلى أحد.
{ {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} } أي: بقوة بدنية لا بقوة مالية؛ لأنه عنده من الأموال الشيء العظيم.
{ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} } يعني أكبر مما سألوا، هم سألوا سداً، ولكنه قال ردماً، يعني أشد من السد، فطلب منهم:
{{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا *}}.
قوله تعالى: { {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} } الزُّبَر يعني القطع من الحديد، فجمعوا الحديد وجعلوه يساوي الجبال، وهذا يدل على القوة العظيمة في ذلك الوقت، يعني أرتال من الحديد، تجمع حتى تساوي الجبال الشاهقة العظيمة.
{ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} } يعني جانبي الجبلين { {قَالَ انْفُخُوا} } يعني انفخوا على هذا الحديد، وليس المراد بأفواهكم؛ لأن هذا لا يمكن، ولكن انفخوا بالآلات والمعدات التي عنده؛ لأن الله أعطاه ملكاً عظيماً، فنفخوا { {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} } والحديد معروف أنه إذا أوقد عليه في النار يكون ناراً، تكون القطعة كأنها جمرة، بل هي أشد من الجمرة، ثم طلب أن يؤتوه قطراً يفرغه عليه، والقطر هو النحاس المذاب كما قال الله تعالى: {{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}} [سبأ: 12] ، يعني النحاس أرسله الله تعالى لسليمان، بدل ما كان معدناً قاسياً يحتاج إلى إخراج بالمعاول ثم صَهْر بالنار، أسال الله له عين القطر كأنها ماء ـ سبحان الله ـ.
قال ذو القرنين: { {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} } فأفرغ عليه القطر ـ النحاس ـ فاشتبك النحاس مع قطع الحديد فكان قوياً.
* * *
{{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا *}}.
قوله تعالى: { {فَمَا اسْطَاعُوا} } و«ما استطاعوا» معناهما واحد، وسبق في قصة موسى مع الخضر {{مَا لَمْ تَسْطِعْ} } و{{مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} }.
{ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} } يعني أن يصعدوا عليه؛ لأنه عالٍ؛ ولأن الظاهر أنه أملس، فهم لا يستطيعون أن يصعدوا عليه.
{ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} } لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟
الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: { {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} } لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.
* * *
{{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} } قالها ذو القرنين وانظر إلى عباد الله الصالحين، كيف لا يسندون ما يعملونه إلى أنفسهم، ولكنهم يسندونه إلى الله ـ عزّ وجل ـ وإلى فضله، ولهذا لما قالت النملة حين أقبل سليمان بجنوده على وادي النمل، قامت خطيبة فصيحة: {{ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }} [النمل: 18، 19] ، أيضاً ذو القرنين ـ رحمه الله ـ قال: { {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} } وليس بحولي ولا قوتي، ولكنه رحمة به ورحمة بالذين طلبوا منه السد، أن حصل هذا الردم المنيع.
{ {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} } يعني بخروج هؤلاء المفسدين.
{ {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} } يعني جعل هذا السد دكّاً، أي: منهدماً تماماً وسواه بالأرض، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا» [(49)]. يعني شيء يسير لكن ما ظهر فيه الشق لا بد أن يتوسع.
{ {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} } فما هو هذا الوعد؟
الجواب: الوعد هو أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يخرجهم في آخر الزمان، وذلك بعد خروج الدجال وقتله يخرج الله هؤلاء، يخرجهم في عالم كثير مثل الجراد أو أكثر «فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُون: لَقَدْ كَانَ بِهَذِ مَرَّةً مَاءٌ» ثم «يُحصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ» في جبل الطور، ويلحقهم مشقة ويرغبون إلى الله تعالى في هلاك هؤلاء، «فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» يصبحون في ليلة واحدة على كثرتهم، ميتين مِيتة رجل واحد، حتى تنتن الأرض من رائحتهم، فيرسل الله تعالى أمطاراً تحملهم إلى البحر أو يرسل اللهُ طيوراً فَتَحْمِلُهُمْ إلى البحر[(50)]، والله على كل شيء قدير، وهذه الأشياء نؤمن بها كما أخبر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما كيف تصل الحال إلى ذلك، فهذا أمره إلى الله عزّ وجل.
{ {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} } يعني وعد الله تعالى في خروجهم كان { {حَقًّا} } أي: لا بد أن يقع كل ما وعد الله بشيء فلا بد أن يقع؛ لأن عدم الوفاء بالوعد، إما أن يكون عن عجز، أو إما أن يكون عن كذب، والله ـ عزّ وجل ـ منَزَّهٌ عنهما جميعاً عن العجز، وعن الكذب، فهو ـ عزّ وجل ـ لا يخلف الميعاد لكمال قدرته، وكمال صدقه.
* * *
{{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا *}}.
قوله تعالى: { {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} } المفسرون الذين رأيت كلامهم يقولون: { {يَوْمَئِذٍ} } يعني إذا خرجوا صار «يموج بعضهم في بعض»، ثم اختلفوا في معنى «يموج بعضهم في بعض» هل معناه أنهم يموجون مع الناس، أو يموج بعضهم في بعض يتدافعون عند الخروج من السد؟ وإذا كان أحد من العلماء يقول: { {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} } يعني بعد السد، صاروا هم بأنفسهم يموج بعضهم في بعض، فإن كان أحدٌ يقول بهذا، فهو أقرب إلى سياق الآية، لكن الذي رأيته أنهم يموج بعضهم في بعض يعني إذا خرجوا، { {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} } أي: يومئذْ يريد الله ـ عزّ وجل ـ خروجهم.
{ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} } النافخ إسرافيل أحد الملائكة الكرام، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفتتح صلاة الليل بهذا الاستفتاح: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم» [(51)]، هؤلاء الثلاثة الملائكة الكرام، كل واحد منهم موكل بما فيه الحياة، جبريل موكل بما فيه حياة القلوب، ميكائيل بما فيه حياة النبات وهو القَطْر، والثالث إسرافيل بما فيه حياة الناس عند البعث، ينفخ في الصور نفختين. الأولى: فَزعٌ وصعق، ولا يمكن الآن أن ندرك عظمة هذا النفخ، نفخ تفزع الخلائق منه وتصعق بعد ذلك، كلهم يموتون إلاَّ من شاء الله، لشدة هذا النفخ وشدة وقعه، ما يمكن أن نتصور لأن الناس يفزعون، بل فزع من في السموات ومن في الأرض ثم يصعقون ـ الله أكبر ـ. شيء عظيم كلما يتصوره الإنسان، يقشعر جلده من عظمته وهوله.
النفخة الثانية: يقول الله عزّ وجل: {{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}} [الزمر: 68] .
النفخة الثانية يقوم الناس من قبورهم أحياء ينظرون، ماذا حدث؟! لأن الأجسام في القبور، يُنْزِل الله تعالى عليها مطراً عظيماً ثم تنمو في داخل الأرض[(52)]، حتى إذا تكاملت الأجسام تكاملها التام نفخ في الصور نفخة البعث: {{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}} [الزمر: 68] .
{ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} } أي: جمعنا الخلائق { {جَمْعًا} } أي: جمعاً عظيماً، فهذا الجمع يشمَل: الإنس، والجن، والملائكة، والوحوش، وجميع الدواب، قال الله تبارك وتعالى: {{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *}} [الأنعام: 38] كل الخلائق، حتى الملائكة ـ ملائكة السماء ـ كما قال الله سبحانه وتعالى: {{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *}} [الفجر: 22] . يا له من مشهد عظيم، الله أكبر.
* * *
{{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا *}}.
{ {وَعَرَضْنَا} } أي عرضناها لهم فتكون أمامهم ـ اللّهم أجرنا منها ـ.
{ {جَهَنَّمَ} } اسم من أسماء النار.
{ {عَرْضًا} } يعني عرضاً عظيماً، ولذلك نُكِّر يعني عرضاً عظيماً تتساقط منه القلوب، ومن الحكم في إخبار الله ـ عزّ وجل ـ بذلك أن يصلح الإنسان ما بينه وبين الله، وأن يخاف من هذا اليوم، وأن يستعد له، وأن يصور نفسه وكأنه تحت قدميه، كما قال الصِّديق رضي الله عنه:

كلنا مصبَّح في أهله***والموت أدنى من شراك نعله
فتصور هذا وتصور أنه ليس بينك وبينه، إلاَّ أن تخرج هذه الروح من الجسد، وحينئذ ينتهي كل شيء.
* * *
{{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا *}}.
قوله تعالى: { {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} } هؤلاء الكافرون كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، لا ينظرون إلى ذكر الله، وقد ذكر الله تعالى فيما سبق ـ في نفس السورة ـ أنَّ {{عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}} [الكهف: 57] .
فالقلوب، والأبصار، والأسماع كلها مغلقة.
{ {وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} } هل المراد لا يريدون؟ كقوله تعالى: {{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}} [المائدة: 112] ، أي: هل يريد؟ أو المعنى أنهم لا يستطيعون { {سَمْعًا} } أي سمع الإجابة، وليس سمع الإدراك؟
الجواب: يحتمل المَعْنَـيَيْن جميعاً، وكلاهما حق.
* * *
{{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً *}}.
قوله تعالى: { {أَفَحَسِبَ} } أي: أفظن { {الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} } من هم عباده؟
الجواب: كل شيء فهو عبد الله: {} [مريم: 93] ومن الذي اتُّخِذَ ولياً من دون الله، أي: عُبد من دون الله؟
الجواب: عبدت الملائكة، عبدت الرسل، وعبدت الشمس، وعبد القمر، وعبدت الأشجار، وعبدت الأحجار، وعبدت البقر! نسأل الله العافية، الشيطان يأتي ابن آدم من كل طريق.
{ {مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} } يعني أربابا يدعونهم ويستغيثون بهم وينسون ولاية الله ـ عزّ وجل ـ يعني أيظن هؤلاء الذين فعلوا ذلك أنهم يُنصرون؟
الجواب: لا، لا يُنصرون، ومن ظن ذلك فهو مُخَبَّل في عقله.
{ {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} } يعني أن الله عزّ وجل هيأ النار { {نُزُلاً} } للكافرين، ومعنى النُّزُل ما يقدمه صاحب البيت للضيف، ويحتمل أن يكون بمعنى المنْزِل، وكلاهما صحيح، فهم نازلون فيها، وهم يعطونها كأنها ضيافة، وبئست الضيافة.
* * *
{{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *}}.
قوله تعالى: { {قُلْ} } أي يا محمد للأمة كلها: { {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً} }.
الجواب: نعم.
نريد أن نُخبَر عن الأخسرين أعمالاً، حتى نتجنب عمل هؤلاء، ونكون من الرابحين، وقد بين الله تعالى في سورة العصر أن كل إنسان خاسر، إِلاَّ من اتصف بأربع صفات:
1 ـ الذين آمنوا.
2 ـ وعملوا الصالحات.
3 ـ وتواصوا بالحق.
4 ـ وتواصوا بالصبر.
وهنا يقول:
{{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *}}.
قوله تعالى: { {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} } يعني ضاع سعيهم وبَطل في الحياة الدنيا لكنهم: { {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} } فَغُطي عليهم الحق ـ والعياذ بالله ـ وظنوا وهم على باطل أن الباطل هو الحق، وهذا كثير، فاليهود مثلاً يظنون أنهم على حق، والنصارى يظنون أنهم على حق، والشيوعيون يظنون أنهم على حق، كل واحد منهم يظن أنه على حق، ولذلك مكثوا على ما هم عليه، ومنهم من يعلم أنه ليس على حق، لكنه ـ والعياذ بالله ـ لاستكباره واستعلائه أصر على ما هو عليه.
* * *
{{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً *}}.
قوله تعالى: { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } الكونية أو الشرعية؟
الظاهر كلتاهما، لكن الذين كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم،كذبوا بالآيات الشرعية، ولم يكذبوا بالآيات الكونية، والدليل أن الله تعالى أخبر أنهم إذا سُئلوا: من خلق السموات والأرض؟ يقولون: الله ـ عزّ وجل ـ، ولا أحد منهم يدعي أن هنالك خالقاً آخر مع الله، لكنهم كذبوا بالآيات الشرعية، كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ كذبوا بما جاء به، فهم داخلون في الآية.
{ {وَلِقَائِهِ} } أي: كذبوا بلقاء الله، ومتى يكون لقاء الله؟

الجواب: يكون يوم القيامة، فهؤلاء كذبوا بيوم القيامة وجادلوا، وأُروا الآيات ولكنهم أصروا، قال الله تعالى: {{ أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}} [يس: 77 ـ 78] يكذبنا فيه فقال: {{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}} [يس: 78] تَحَدٍّ! من يحييها؟ رميم لا فيها حياة ولا شيء؟
{{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}} [يس: 79] ومن الذي أنشأها أوّل مرة؟
الجواب: هو الله، والإعادة أهون من الابتداء كما قال الله عزّ وجل: {{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}} [الروم: 27] هذا دليل، إذاً الدليل على إمكان البعث، وإحياء العظام وهي رميم:
1 ـ أن الله تعالى ابتدأها ، ولما قال زكريا حين بُشِّر بالولد وكان قد بلغ في الكِبَر عتيا، إن امرأته عاقر، قال الله تعالى: {{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا *}} [مريم: 9] ، فالذي خلقك من قبل، وأنت لم تكن شيئاً قادر على أن يجعل لك ولداً.
2 ـ {{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}} [يس: 79] وإذا كان الله بكل خلق عليماً، فإنه لن يتعذر عليه أن يخلق ما يشاء، من الذي يمنعه إذا كان عليماً بكل خلق؟
الجواب: لا أحد يمنعه.
3 ـ {{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *}} [يس: 80] شجر أخضر يخرج منه نار، فالشجر الأخضر يضرب بالزند ثم ينقدح ناراً، وكان العرب يعرفون هذا، فالذي يخرج هذه النار، وهي حارة يابسة من غصن رطب بارد، يعني متضادان غاية التضاد، قادر على أن يخلق الإنسان، أو أن يعيد خلق العظام وهي رميم، ثم حقق هذه النار بقوله: {{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}} .
4 ـ { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ }؟ [يس: 81] .
الجواب: بلى، قال الله تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] فالذي خلق السموات والأرض بِكِبَرِهَا، وعظمها قادر على أن يعيد جزءاً من لا شيء بالنسبة للأرض، من أنت يا ابن آدم بالنسبة للأرض؟ لا شيء، أنت خلقت منها، أنت بعض يسير منها، فالذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على أن يخلق مثلهم، قال الله تعالى مجيباً نفسه: {{بَلَى}} [يس: 81] .
5 ـ {{وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ}} [يس: 81] الخلاَّق صيغة مبالغة، وإن شئت فاجعلها نسبة، يعني أنه موصوف بالخلق أزلا وأبدا، وهو تأكيد لقوله قبل: {{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}} [يس: 79] .
6 ـ {{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}} [يس: 82] لا يحتاج إلى عمال ولا بنَّائين ولا أحد {{كُنْ فَيَكُونُ}}؛ ولهذا قال عزّ وجل: {{إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ *}} [يس: 53] ، كلمة واحدة.
7 ـ {{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}} [يس: 83] كل شيء فبيده ملكوته ـ عزّ وجل ـ يتصرف كما يشاء، فنسأله ـ عزّ وجل ـ أن يهدينا صراطه المستقيم.
8 ـ {{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}} [يس: 83] فهذا هو الدليل الثامن. وإنما كان دليلاً؛ لأنه لولا رجوعنا إلى الله ـ عزّ وجل ـ لكان وجودنا عبثاً، وهذا ينافي الحكمة، فتأمل سياق هذه الأدلة الثمانية في هذا القول الموجز، ومع ذلك ينكرون لقاء الله.
في قوله: { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } إلزام لهم بالإيمان؛ لأنه كونه ربهم ـ عزّ وجل ـ يجب أن يطيعوه وأن يؤمنوا به، لكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن.
{ {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} } يعني بَطَلَت ولم ينتفعوا بها، حتى لو أن الكافر أحسن وأصلح الطرق وبنى الرُّبط، وتصدق على الفقراء فإن ذلك لا ينفعه، إن أراد الله أن يثيبه عجل الله له الثواب في الدنيا، أما في الآخرة فلا نصيب له، نعوذ بالله نسأل الله الحماية والعافية، لأن أعماله حبطت، ولكن هل يحبط العمل بمجرد الردة أم لا بد من شرط؟
الجواب: لا بد من شرط، وهو أن يموت على ردته، قال الله تعالى: {{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}} [البقرة: 217] . أما لو ارتد، ثم مَنَّ الله عليه بالرجوع إلى الإسلام، فإنه يعود عليه عمله الصالح السابق للردة.
{ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} } يعني أنه لا قدر لهم عندنا ولا ميزان، وهو كناية عن سقوط مرتبتهم عند الله عزّ وجل.
وقيل: إن المعنى أننا لا نزنهم، لأن الوزن إنما يحتاج إليه لمعرفة ما يترجح من حسنات أو سيئات، والكافر ليس له عمل حتى يوزن، ولكن الصحيح أن الأعمال توزن كُلَّها، قال الله تعالى: {{الْقَارِعَةُ *مَا الْقَارِعَةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ *يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ *وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ *فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ *وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ *فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه *نَارٌ حَامِيَةٌ *}} [القارعة: 6 ـ 11] . فيقام الوزن؛ لإظهار الحجة عليه، والمسألة هذه فيها خلاف.
* * *
{{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا *}}.
قوله تعالى: { {ذَلِكَ} } يعني ذلك المذكور من أنه لا يقام لهم الوزن وأن أعمالهم تكون حابطة.
{ {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} } الباء للسببية و(ما) مصدرية وتقدير الكلام: بكفرهم.
{ {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} } قوله: { {وَاتَّخَذُوا} } معطوفة على { {كَفَرُوا} } أي: بما كفروا واتخذوا، فهم ـ والعياذ بالله ـ كفروا وتعدى كفرهم إلى غيرهم، صاروا يستهزئون بالآيات، ويستهزئون بالرسل، ولم يقتصروا على كفرهم بالله.
{ {هُزُوًا} } أي: محلَّ هُزؤ، يسخرون منهم، ولهذا قال الله ـ عزّ وجل ـ للرسول صلّى الله عليه وسلّم: {{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا}} [الأنبياء: 36] ويقولون: {{أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}} ! [الفرقان: 41] ، والاستفهام هنا لا يخفى أنه للتحقير، أهذا الرسول! {{إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}} [الفرقان: 42] . أعوذ بالله؛ يفتخرون أنهم صبروا على آلهتهم وانتصروا لها.
ثم ذكر ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فقال:
{{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً *}}.
بدل ما كانت جهنم نزلا للكافرين، صارت جنات الفردوس نزلا للمؤمنين، لكن بشرطين:
1 ـ الإيمان 2 ـ العمل الصالح. والإيمان محله القلب، والعمل الصالح محله الجوارح، وقد يراد به أيضاً عمل القلب، كالتوكل والخوف والإنابة والمحبة، وما أشبه ذلك.
و{ {الصَّالِحَاتِ} } هي التي كانت خالصة لله، وموافقة لشريعة الله.
ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلاَّ بهذا، الإخلاص لله، والموافقة لشريعة الله، فمن أشرك؛ فعمله غير صالح، ومن ابتدع فعمله غير صالح، ويكون مردوداً عليهما، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» [(53)].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» [(54)]. أي: مردود عليه، فصار العمل الصالح ما جمع وصفين: الإخلاص لله، والمتابعة لشريعة الله، أو لرسول الله؟
الجواب: لشريعة الله أحسن، إلاَّ إذا أريد بالمتابعة لرسول الله، الجنس، دون محمد صلّى الله عليه وسلّم فنعم، لأن المؤمنين من قوم موسى وقوم عيسى يدخلون في هذا.
{ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً *} } قوله: { {كَانَتْ لَهُمْ} } هل المراد بالكينونة هنا الكينونة الماضية، أو المراد تحقيق كونها نزلاً لهم؟ كقوله تعالى: {{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}}؟ نقول: الأمران واقعان، فكانت في علم الله نزلا لهم، وكانت نزلا لهم على وجه التحقيق؛ لأن «كان» قد يسلب منها معنى الزمان، ويكون المراد بها التحقيق.
{ {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} } هل هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أو لأن الفردوس هو أعلى الجنَّات، والجنَّات الأُخرى تحته؟
الجواب: الظاهر الثاني لأنه ليس جميع المؤمنين الذين عملوا الصالحات ليسوا كلهم في الفردوس، بل هم في جنات الفردوس، والفردوس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» [(55)] أعلى الجنة ووسط الجنة معناه أن الجنة مثل القبَّة، وفيه أيضاً وصف رابع: ومنه تفجر أنهار الجنة.
* * *

تابع


 

رد مع اقتباس
قديم 20-06-2019, 04:46 PM   #17


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (01:19 PM)
 المشاركات : 877,793 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي





{{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً *}}.
قوله تعالى: { {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ} } «إذ» هذه تأتي كثيراً في القرآن، والمُعرِبون يقولون: إنها مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكرْ إذْ يعني اذكر هذا للأمة حتى تعتبر به ويتبين به فضيلة بني آدم عند الله.
وقوله: { {لِلْمَلاَئِكَةِ} } هم عالم غيبي خلقهم الله من نور. كما أعلمنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله خلقهم من نور[(27)]. وأعلمنا الله تعالى في القرآن أنه خلق الجنَّ من نار، وأنه خلق البشر من طين، إذاً المخلوقات التي نعلمها هي، الملائكة من نور، والجن من نار، والإنسان من طين، فالملائكة إذاً عالم غيبي والإيمان بهم أحد أركان الإيمان، والملائكة على خلاف الشياطين كما يتبين من الآية، وهم أقدر من الشياطين وأطهر من الشياطين، ولهم من النفوذ ما ليس للشياطين، فالشياطين لا يمكن أن يَلِجُوا إلى السماء، بل من حاول أُتبع بالشهاب المحرق، والملائكة يصعدون فيها، فهم يصعدون بأرواح بني آدم إلى أن تصل إلى الله، وهم أيضاً قد ملؤوا السموات، فيجب علينا أن نؤمن بالملائكة إيماناً لا شك فيه، وأنهم عالم غيبي، لكن قد يكونون من العالم المحسوس بقدرة الله، كما كان جبريل عليه السلام، فقد رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين له ستمائة جناح قد سدَّ الأفق وهو واحد وهذا يدل على عظمة خِلقته، وعظمة خِلقة جبريل تدل على عظمة الخالق جلَّ وعلا، أحياناً يأتي جبريل الذي هذا وصفه وهذا خلقه على صورة إنسان، ولكن ليس تقلبه هكذا بقدرته هو، ولكن بقدرة خالقه جلَّ وعلا، والله أعطاه القدرة على التقلب والتكيف بقدرة الله جلَّ وعلا.
وقوله تعالى: { {اسْجُدُوا لآِدَمَ} } قال بعضهم: سجود تحية، وليس سجوداً على الجبهة، قالوا ذلك فراراً من كونه سجوداً على الجبهة، لأن السجود على الجبهة لا يصح إلا لله، ولكن الذي يجب علينا أن نأخذ الكلام على ظاهره ونقول: الأصل أنه سجود على الجبهة. وإذا كان امتثالاً لأمر الله لم يكن شركاً كما أن قتل النفس بغير حق من كبائر الذنوب، وإذا وقع امتثالاً لأمر الله كان طاعة من الطاعات، فإن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أُمر بذبح ابنه فامتثل أمر الله وشرع في تنفيذ الذبح، ولا يخفى ما في ذبح الابن من قطيعة الرحم، لكن لما كان هذا امتثالاً لأمر الله عزّ وجل صار طاعة، ولما تحقق مراد الله تعالى من الابتلاء نسخ الأمر ورفع الحرج، إذاً فالسجود لآدم لولا أمر الله لكان شركاً، لكن لما كان بأمر الله كان طاعة لله.
وآدم: هو أبو البشر خلقه الله عزّ وجل من طين وخلقه بيده[(28)]، قال أهل العلم لم يخلق الله شيئاً بيده إلا آدم وجنة عدن، فإنه خلقها بيده وكتب التوراة بيده[(29)] جل وعلا، فهذه ثلاثة أشياء كلها كانت بيد الله، أما غيرُ آدم فيخلق بالكلمة (كن) فيكون، وهو نبي، وليس برسول؛ لأن أول رسول أرسل إلى البشرية هو نوح عليه الصلاة والسلام، أرسله الله لما اختلف الناس: {{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}} [البقرة: 213] ، أي كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. فكان أول رسول نوحٌ عليه الصلاة والسلام[(30)] وآدم نبي مُكلَّم[(31)]. فإذا قال قائل كيف يكون نبياً ولا يكون رسولاً؟
الجواب: يكون نبياً ولا يكون رسولاً؛ لأنه لم يكن هناك داع إلى الرسالة، فالناس كانوا على ملة واحدة والبشر لم ينتشروا بعد كثيراً ولم يفتتنوا في الدنيا كثيراً، نفر قليل، فكانوا يستنون بأبيهم ويعملون عمله، ولما انتشرت الأمة وكثرت واختلفوا أرسل الله الرسل.
{ {فَسَجَدُوا} } امتثالاً لأمر الله { {إِلاَّ إِبْلِيسَ} } لم يسجد. وإبليس هو الشيطان ولم يسجد، بَيَّنَ الله سبب ذلك في قوله: { {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} } فالجملة استئنافية لبيان حال إبليس أنه كان من الجن أي: من هذا الصنف وإلا فهو أبوهم.
{ {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} } أي: خرج عن طاعة الله تعالى في أمره، وأصل الفسوق الخروج، ومنه قولهم فسقت التمرة إذا انفرجت وانفتحت.
فإذا قال قائل: إن ظاهر القرآن أن إبليس كان من الملائكة؟
فالجواب: لا، ليس ظاهر القرآن؛ لأنه قال: { {إِلاَّ إِبْلِيسَ} } ثم ذكر أنه { {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} }، نعم القرآن يدل على أن الأمر توجه إلى إبليس كما قد توجه إلى الملائكة، ولكن لماذا؟ قال العلماء إنه كان ـ أي: إبليس ـ يأتي إلى الملائكة ويجتمع إليهم فوجه الخطاب إلى هذا المجتمع من الملائكة الذين خُلقوا من النور ومن الشيطان الذي خُلق من النار، فرجع الملائكة إلى أصلهم والشيطان إلى أصله، وهو الاستكبار والإباء والمجادلة بالباطل لأنه أبى واستكبر وجادل، ماذا قال لله؟ {{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}} [الأعراف: 12] ، فكيف تأمرني أن أسجد لواحد أنا خير منه؟ ثم علل بعلة هي عليه قال: {{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}} [الأعراف: 12] . وهذا عليه فإن المخلوق من الطين أحسن من المخلوق من النار، المخلوق من النار، خلق من نار محرقة ملتهبة فيها علامة الطيش تجد اللهب فيها يروح يميناً وشمالاً، ما لها قاعدة مستقرة، ولقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه «إغاثة اللهفان» فروقاً كثيرة بين الطين وبين النار، ثم على فرض أنه خلق من النار وكان خيراً من آدم أليس الأجدر به أن يمتثل أمر الخالق؟ بلى، لكنه أبى واستكبر.
قال الله عزّ وجل لما بين حال الشيطان:
{ }.
{ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} } الخطاب يعود لمن اتخذ إبليس وذريته أولياء من دون الله فعبدوا الشيطان وتركوا عبادة الرحمن، قال الله تعالى: {{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }} [يس: 60، 61] .
قوله: { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ } } أي: من ولدوا منه، سُئل بعض السلف ـ سأله ناس من المتعمقين ـ فقالوا هل للشيطان زوجة؟ قال إني لم أحضر العقد، وهذا السؤال لا داعي له، نحن نؤمن بأن له ذرية أما من زوجة أو من غير زوجة ما ندري، أليس الله قد خلق حواء من آدم؟ بلى، فيجوز أن الله خلق ذرية إبليس منه كما خلق حواء من آدم.
وهذه المسائل ـ مسائل الغيب ـ لا ينبغي للإنسان أن يورد عليها شيئاً يزيد على ما جاء في النص؛ لأن هذه الأمور فوق مستوانا، نحن نؤمن بأن لإبليس ذرية ولكن هل يلزمنا أن نؤمن بأن له زوجة؟
الجواب: لا يلزمنا.
{ {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} } أي تتولونهم وتأخذون بأمرهم من دون الله { {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} } هذا محط الإنكار، يعني كيف تتخذون هؤلاء أولياء وهم لكم أعداء؟ هذا من السفه ونقص العقل ونقص التصرف أن يتخذ الإنسان عدوه وليا.
{ {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} } أي بئس هذا البدل بدلاً لهم، وما هو البدل الخير؟
الجواب: أن يتخذوا الله ولياً لا الشيطان.
وقوله: { {لِلظَّالِمِينَ} } يمكن أن نقول إنها بمعنى الكافرين لأنهم هم الذين اتخذوا الشيطان وذريته أولياء على وجه الإطلاق، ويمكن أن نقول إنها تعم الكافرين ومن كان ظُلمهم دون ظلم الكفر، فإن لهم من ولاية الشيطان بقدر ما أعرضوا به عن ولاية الرحمن.
* * *
{{مَا أَشْهَدْتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا *}}.
قوله تعالى: { مَا أَشْهَدْتُهُمْ } يعني أن هؤلاء الذين اتخذهم الناس أولياء من دون الله ليس لهم حق الكون وبالتدبير، فالله ـ عزّ وجل ـ ما أشهدهم خلق السموات والأرض؛ لأن السموات والأرض مخلوقتان قبل الشياطين.
{ {وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} } يعني ما أشهدت بعضَهم خلق بعض. فكيف تتخذونهم أولياء وهم لا شاركوا في الخلق ولا خلقوا شيئاً بل ولا شاهدوه، وفي هذه الجملة دليل على أن كل من تكلم في شيء من أمر السموات والأرض، بدون دليل شرعي أو حسي فإنه لا يُقبل قوله، فلو قال: إن السموات تكونت من كذا والأرضُ تكونت من كذا وبعضهم يقول: الأرض قطعة من الشمس وما أشبه ذلك من الكلام الذي لا دليل على صحته.
فإننا نقول له: إن الله ما أشهدك خلق السموات والأرض، ولن نقبل منك أيَّ شيء من هذا، إلاَّ إذا وجدنا دليلاً حسياً لا مناص لنا منه، حينئذٍ نأخذ به؛ لأن القرآن لا يعارض الأشياء المحسوسة.
{ {وَمَا كُنْتُ} } الضمير في { {كُنْتُ} } يعود إلى الله.
{ {مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} } أي: أنصاراً ينصرون ديني، لماذا؟ لأن المضل يصرف الناس عن الدين، فكيف يتخذ الله المضلين عضدا، وهو إشارة إلى أنه لا ينبغي لك أيها الإنسان أن تتخذ المضلين عضدا تنتصر بهم، لأنهم لن ينفعوك بل سيضرونك، إذاً لا تعتمد على السفهاء ولا تعتمد على أهل الأهواء المنحرفة؛ لأنه لا يمكن أن ينفعوك بل هم يضرونك، فإذا كان الله عزّ وجل لم يتخذ المضلين عضدا فنحن كذلك لا يليق بنا أن نتخذ المضلين عضدا؛ لأنهم لا خير فيهم، وفي هذا النهي عن بطانة السوء وعن مرافقة أهل السوء، وأن يحذر الإنسان من جلساء السوء.
* * *
{{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا *}}.
قوله تعالى: { {وَيَوْمَ يَقُولُ} } أي اذكر يوم يقول: { {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} } فينادونهم ولا يستجيبون لهم، وهذا يكون يوم القيامة، يقال لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم أولياء شفعاء.
{ {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} } فهذه الأصنام لا تنفع أهلها بل تُلقى هي وعابدوها في النار، قال الله عزّ وجل: {{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *}} [الأنبياء: 98] .
{ {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} } الموبق هو مكان الهلاك، يعني أننا جعلنا بينهم حائلاً مهلكاً حيث لا يمكن أن يذهبوا إلى شركائهم، ولا أن يأتي شركاؤهم إليهم، أرأيت لو كان بينك وبين صاحبك خندق من نار هل يمكن أن تذهب إليه لتنصره، أو أن يأتي إليك لينصرك؟
الجواب: لا يمكن، هؤلاء يجعل الله بينهم يوم القيامة { {مَوْبِقًا} }.
* * *
{{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا *}}.
قوله تعالى: { } المجرمون يعني الكافرين، كما قال عزّ وجل: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}} [السجدة: 22] .
{ {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} } { {فَظَنُّوا} } أي أيقنوا: { {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} } والظن يأتي بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ}} [البقرة: 46] ، أي: يوقنون أنهم ملاقو الله، وإلاَّ فالظن الذي هو ترجيح أحد الأمرين المشكوك فيهما لا يكفي في الإيمان.
{ {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} } يعني لم يجدوا مكانا ينصرفون عنها إليه، وهذه الجملة معطوفة على (رأى) وليست داخلة تحت قوله ظنوا، لأنه لو كان داخلاً في الظن لقال «ولن»، يعني أنهم لما رأوْها وظنوا أنهم مواقعوها لم يجدوا عنها مصرفاً أي مكاناً ينصرفون إليه لينجوا به منها.
* * *
{{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً *}}.
قوله تعالى: { {صَرَّفْنَا} } يعني نوعنا، تصريف الشيء يعني تنويعه كما قال تعالى: {{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}} [البقرة: 164] ، أي تنويعها من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، إذاً { {صَرَّفْنَا} } أي نوعنا في هذا القرآن من كل مثل، وهكذا الواقع. فكلام الله صدق، أمثال القرآن تجدها متنوعة فتارة لإثبات البعث، وتارة لإثبات وحدانية الله، وتارة لبيان حال الدنيا، وتارة لبيان حال الآخرة، وتارة تكون مطولة، وتارة مختصرة، فهي أنواع. كل نوع في مكانه من البلاغة والفصاحة.
{ {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} } أي من كل جنس وصنف، فهذا مثل لكذا وهذا مثل لكذا، لماذا؟
الجواب: من أجل أن يتذكر الناس ويتعظوا ويعقلوها. ولكن يوجد من الناس من لا يتعظ بهذه المثل، بل على العكس، ولهذا قال: { {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} }، قوله: { {وَكَانَ الإِنْسَانُ} }، بعض المفسرين يقول: { {الإِنْسَانُ} } يعني الكافر، ولكن في هذا نظر؛ لأنه لا دليل على تخصيصه بالكافر، بل نقول { {الإِنْسَانُ} } من حيث الإنسانية.
{ {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} } يعني أكثر ما عنده، ولكن من حيث الإيمان فالمؤمن لا يكون مجادلاً، بل يكون مستسلماً للحق ولا يجادل فيه، ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أوتي قوم الجدل إلاَّ ضلوا» وتدبر حال الصحابة رضي الله عنهم تجد أنهم مستسلمون غاية الاستسلام لما جاءت به الشريعة، ولا يجادلون ولا يقولون لم؟ ولما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم»[(32)] هل قال الصحابة «لِمَ»؟ بل قالوا سمعنا وأطعنا، ما جادلوا، وكذلك في بقية الأوامر، لكن الإنسان من حيث هو إنسان أكثر شيء عنده الجدل. إذاً إذا مر بك مثل هذا في القرآن الكريم { {الإِنْسَانُ} } فلا تحمله على الكافر إلا إذا كان السياق يُعَيِّنُ ذلك، فإذا كان السياق يراد به ذلك، صار هذا عاماً يراد به الخاص، لكن إذا لم يكن في السياق ما يعين ذلك فاجعله للعموم، اجعله إنساناً بوصف الإنسانية، والإنسانية إذا غلب عليها الإيمان اضمحل مقتضاها المخالف للفطرة.
قوله: { {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} } هذا وقع في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب وزوجته فاطمة رضي الله عنهما حين جاء إليهما ذات ليلة ووجدهما نائمين فقال: «ألا تصليان»، قال علي رضي الله عنه: «إنَّ أنفُسَنا بيد الله ولو شاء لأيقظنا»، فانصرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يضرب على فخذه ويقول: { {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} }[(33)] ولا شك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعلم أن أنفسهما بيد الله، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الفريضة: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها»[(34)] فعذر الناسي والنائم وهو يعلم عليه الصلاة والسلام ذلك ولكنه يريد أن يَحُثَّهُما، وأراد علي رضي الله عنه أن يدفع اللوم عنه وعن زوجه فاطمة رضي الله عنها.
* * *
{{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً *}}.
قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا } يعني ما منع الناس عن الإيمان والاستغفار نقص البيان، فقد ذكر الله أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، وكان الواجب على الإنسان إذا ضربت له الأمثال أن يؤمن. لكنه ما منعهم من الإيمان نقصٌ في البيان، فالأمر والحمد لله بين واضح أتى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم بيضاء نقية[(35)] لكنه العناد.
ولهذا قال جلَّ وعلا: { {إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} } أي ما ينتظرون إلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً.
وقوله: { {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} } يعني يطلبون مغفرته، فالمؤمن كثير الاستغفار لربه، والكافر إذا آمن لا بد أن يستغفر الله بما وقع فيه من الذنوب، فإذا آمن واستغفر زال عنه ما كان من الذنوب. قال تعالى: {{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}} [الأنفال: 38] .
وقوله: { {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} } يعني مقابلة ومعاينة ومباشرة، وما هي سنة الأولين؟
الجواب: هي أخذهم بالعذاب العام، لكن لم يأخذ الله هذه الأمة بعذاب شامل لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا ربه ألا يهلك أمَّته بسنة بعامة[(36)] فأجاب الله دعاءه.
* * *
{{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا *}}.
قوله تعالى: { {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} } هذه وظيفة الرسل ما نرسل المرسلين من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم، إلاَّ لهذين الأمرين: مبشرين ومنذرين، يعني ولم نرسلهم من أجل أن يجبروا الناس على الإيمان بل هم مبشرون ومنذرون، يبشرون المؤمنين وينذرون الكافرين.
{ {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} } منصوبة على الحال من المرسلين، يعني إلاَّ حال كونهم مبشرين ومنذرين.
{ {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} } المجادلة هي المخاصمة وسميت المخاصمة مجادلة؛ لأن كل واحد يَجْدُلُ حجته للآخر والجَدْل هو فتل الحبل حتى يشتد ويقوى، هذا أصل المجادلة، إذاً يجادل أي يخاصم، والمخاصمة بالباطل باطلة، مثال ذلك في الرسل يقولون: {{أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}} [التغابن: 6] ، {{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً}} [المؤمنون: 24] ، ويجادلون في البعث فيقولون: {{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}} [يس: 78] ، ويجادلون في الآلهة يقولون: إذا كان المشركون وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، فعيسى عليه السلام من حصب جهنم، وغير ذلك من المجادلة، وقد أبطل الله مجادلتهم بعيسى عليه السلام قال الله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}} [الأنبياء: 101] ، ومنهم عيسى عليه السلام {{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}} [الأنبياء: 101] ويستفاد من الآية أن كل إنسان يجادل من أجل أن يدحض الحق فإن له نصيباً من هذه الآية، يعني أن فيه نصيباً من الكفر والعياذ بالله لأن الكافرين هم الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، فإذا قال قائل: «الشبهات التي يوردها من يوردها من الناس، كيف يقال إنها باطل وهي شبهة؟».
فالجواب: إذا كان غرضهم منها أن يُدحضوا الحق، مثل الذين ينكرون حقيقة استواء الله على العرش ويقولون: إنه لو استوى على العرش لكان «جسماً»، فهؤلاء جادلوا بالباطل من أجل أن يدحضوا الحق الذي أثبته الله لنفسه، وأما مسألة أن الله «جسم» أو غير «جسم» فهذه شيء آخر، المهم أنهم أتوا بهذه الكلمة من أجل إدحاض الحق، ونحن لا ننكر عليهم مسألة أنه «جسم أو غير جسم»، ننكر أنهم أنكروا حقيقة الاستواء، وأما مسألة أنه «جسم أو غير جسم» فهذا مبحث آخر، وهو أننا لا نثبت اللفظ «جسم» ولا ننكره، أما المعنى فنقول: إن الله تعالى حق قائم بذاته موصوف بصفاته يفعل ما يشاء، يستوي على عرشه، وينزل إلى السماء الدنيا، وينْزِل ليفصل بين العباد، ويعجب ويفرح ويضحك، المهم أنه كلما رأيت شخصاً يجادل يريد أن يدحض الحق، فله نصيب من هذه الآية.
{ {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} } { {وَاتَّخَذُوا} } أي صيروا. { {وَاتَّخَذُوا} } يعني القرآن.
{ {وَمَا أُنْذِرُوا} } أي ما أنذروا به من العذاب اتخذوها { {هُزُوًا} } مثال ذلك أن الكفار استهزؤوا لما أخبر الله عزّ وجل عن شجرة الزقوم {{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ *}} [الصافات: 64] ، يعني في قعره، فصاروا يضحكون كيف تخرج في أصل الجحيم، وهي شجرة أبعد ما يكون عن النار، النار حارة جافة والشجرة رطبة، فجعلوا يستهزئون ويقولون: هذا من هذيان محمد صلّى الله عليه وسلّم، فاتخذوا ما أنذروا به هزواً والله عزّ وجل قال: {{فَإِنَّهُمْ لآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *}} [الصافات: 66] {{ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ }} [الواقعة: 54، 55] ، يملؤون بطونهم من هذه الزَّقوم ملئاً تاماً ثم تحترق من العطش، فماذا يسقون؟ يسقون ماءً حاراً {{فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ}} أي على ما في بطونهم {{مِنَ الْحَمِيمِ}}، ومع ذلك يشربون شرباً ليس عادياً بالنسبة إلى البشر، ولكنه شرب الإبل الهيم، العطاش، هذه الشجرة التي يهزؤون بها هي التي يملؤون بها بطونهم في جهنم.
* * *
{{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا *}}.
قوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } أي ذكره الواعظ بآيات ربه الكونية، كأخذه الأمم المكذبين، أو الشرعية كالقرآن.
{ {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} }، ولم يقبلها، أي لا أ حد أظلم منه، فإن قيل: ما الجمع بين هذه الآية، وبين الآية التي في أول السورة وهي قوله تعالى: {{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}} ونحوها؟
فالجواب: بأحد وجهين:
الأول: أن الأفضلية باعتبار ما شاركه في أصل المعنى، فقوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } يعني من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها من الذين يُذَكَّرون فيُعرِضون، قد يذكر الإنسان فيعرض، لكن أشد ما يكون أن يذكر بآيات الله ثم يعرض عنها، وفي افتراء الكذب قد يفتري الإنسان الكذب على فلان وفلان، وأعظم ما يكون الافتراء عليه هو الله عزّ وجل، وأنت إذا أخذت بهذه القاعدة سلمت من إشكال كبير.
الثاني: وقيل: إن «أظلم» و«أظلم» يشتركان في الأظلمية ويتساويان فيها بالنسبة لغيرهما، وفيه نظر لأنه لا يمكن أن نقول: إنّ من ذكر بآيات ربه فأعرض عنها أنه يساوي من افترى على الله كذباً، أو من منع مساجد الله أن يُذْكر فيها اسمه يساوي من كذب على الله، ونحو ذلك.
قوله: { بِآيَاتِ رَبِّهِ } الكونية والشرعية؛ الكونية أن يقال له: إن كسوف الشمس والقمر يخوف الله بهما عباده فيعرض عنها ويقول: أبداً خسوف القمر طبيعي، وكسوف الشمس طبيعي، ولا إنذار ولا نذير، وهذا إعراض، أما الآيات الشرعية فكثير من يذكر بآيات الله ويعرض عنها.
{ {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} } يعني نسي ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي والاستكبار وغير ذلك مما يمنعه عن قبول الحق، لأن الإنسان والعياذ بالله كلما أوغل في المعاصي، ازداد بعداً عن الإقبال على الحق كما قال الله عزّ وجل: {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}} [الصف: 5] ، ولذلك يجب أن يُعلم أن من أشد عقوبات الذنوب أن يعاقب الإنسان بمرض القلب والعياذ بالله، فالإنسان إذا عوقب بهلاك حبيب أو فقد محبوب من المال، فهذه عقوبة لا شك، لكن إذا عوقب بانسلاخ القلب فهذه العقوبة أشد ما يكون. يقول ابن القيم رحمه الله:

والله ما خوفي الذنوب فإنها***لعلى طريق العفو والغفران

وإنما أخشى انسلاخ القلب من***تحكيم هذا الوحي والقرآن
هذا هو الذي يخشاه الإنسان العاقل، أما المصائب الأخرى فهي كفارات وربما تزيد العبد إيماناً.
{ {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} } أي صيرنا.
{ {عَلَى قُلُوبِهِمْ} } أي قلوب من { ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا }، وأعيد ضمير الجمع على مفرد باعتبار المعنى؛ لأن «مَن» سواء كان اسماً موصولاً أو شرطية يجوز في عود الضمير إليها أن يعود على لفظها فيكون مفرداً أو يعود على معناها فيكون مجموعاً أو مثنى حسب السياق، فإذا قلت: «يعجبني من قام» فهنا عاد على اللفظ، وإذا قلت: «يعجبني من قاما» فهنا يعود على المعنى، وكذلك لو قلت: «يعجبني من قاموا» وقد يراعى اللفظ مرة والمعنى مرة أخرى وتعود الضمائر لمراعاة الأمرين في سياق واحد، قال تعالى: {{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا}} فهنا روعي اللفظ، وفي قوله: {{يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}} روعي اللفظ أيضاً، وقوله: {{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}} روعي فيها المعنى، وفي قوله: {{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}} روعي اللفظ، كل هذا جاء في سياق واحد: {{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}} [الطلاق: 11] ، فروعي اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً ثم اللفظ ثالثاً.
{ {أَكِنَّةً} } أي: أغطية تمنعهم من { {أَنْ يَفْقَهُوهُ} } أن يفقهوا القرآن فلا يفهمونه، وفي هذا الحث على فقه القرآن، وأنه ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن ويتعلم معناه، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.
{ {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} } أي صمماً. تأمل، والعياذ بالله، القلوب عليها غِطاء فلا تفقه، والآذان عليها صمم فلا تسمع، فلا يسمعون الحق ولا يفهمونه.
{ {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} } يعني لو أرشدتهم يا محمد إلى الهدى.
{ {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا} } أي ما دامت قلوبهم في أكنة، وفي آذانهم وقرٌ لن يهتدوا، فمن أين يأتي الهدى، والآذان لا تسمع الحق والقلوب لا تنقاد للحق والعياذ بالله؟! فإن قال قائل: هل في هذا تيئيس للرسول صلّى الله عليه وسلّم من أنه وإن دعا لا يقبل منه أو فيه تسلية له؟
فالجواب: في هذا تسلية له، وأنهم إذا لم يقبلوا الحق فلا عليك منهم { {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} }.
* * *
{{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً *}}.
قوله تعالى: { {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} } هذا فيه تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم من وجه آخر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يمكن أن يقول: لماذا لم يعاجلوا بالعقوبة، كيف يكذبونني وأنا رسول الله ولم يعاقبهم؟! ولكن بَيَّن الله له أنه هو { {الْغَفُورُ} } أي الذي يستر الذنوب ويتجاوز عنها.
{ {ذُو الرَّحْمَةِ} } أي صاحب الرحمة الذي يلطف بالمذنب. ولهذا قال: { {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} } يعني لو أراد الله أن يؤاخذ الناس بما كسبوا لعجل لهم العذاب، وقد بين الله عزّ وجل هذا العذاب في آيات أخرى فقال: {{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَآبَّةٍ}} [فاطر: 45] ، أي لأهلكهم في الحال، ولكن {{يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}} [فاطر: 45] .
{ {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} } «بل» هذه للإضراب الإبطالي، يعني بل لن يسلموا من العذاب إذا أُخر عنهم، لهم موعد { {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} }، أي مكاناً يؤولون إليه، وهذا يوم القيامة، ويحتمل أن يكون ما يحصل للكفار من القتل على أيدي المؤمنين كما قال عزّ وجل: {{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}} [التوبة: 14، 15] ، إذاً يحتمل أن يكون المراد ما سيكون عليهم من القتل، والأخذ في الدنيا، أو ما سيكون عليهم يوم القيامة الذي لا مفر منه.
* * *
{{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا *}}.
قوله تعالى: { {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} } أي: قرى الأمم السابقين، قد يقول قائل هنا إشكال: فإن القرى جماد، والجماد لا يعود عليه الضمير بصيغة الجمع، يعني أنك لا تقول مثلاً: «هذه البيوت عمرناهم» ولكن تقول: «هذه البيوت عمرناها»، فلماذا قال: «أهلكناهم»؟
فالجواب: قال هذا؛ لأن الذي يهلك هم أهل القرى، وفي هذا دليل واضح على أن القرى قد يراد بها أهلها، وقد يراد بها البناء المجتمع، فالقرية أو القرى تارة يراد بها أهلها وتارة يراد بها المساكن المجتمعة، قال تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] ، فالمراد بالقرى هنا أهلها، وقال تعالى: {{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}} [العنكبوت: 31] والمراد بالقرية هنا المساكن المجتمعة.
{ {لَمَّا ظَلَمُوا} } المراد بالظلم هنا الكفر، أي: حين كفروا. { {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} } يعني جعلنا لإهلاكهم موعداً، والله يفعل ما يشاء، إن شاء عجَّل العقوبة وإن شاء أخر، لكن إذا جاء الموعد لا يتأخر: ولهذا قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: {{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}} [نوح: 4] ، فهو أجل معين عند الله في الوقت الذي تقتضيه حكمته.
* * *
{{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا *}}.
قوله تعالى: { {وَإِذْ} } مفعول لفعل محذوف والتقدير «اذكر إذ قال»، يعني واذكر إذ قال موسى لفتاه؛ أي: غلامه يوشع بن نون، وكان موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ابن عمران قام يخطب يوماً في بني إسرائيل فقام أحدهم وقال: هل على وجه الأرض أعلم منك؟ قال موسى: «لا»، وذلك بناء على ظنه أنه لا أحد أعلم منه، فعتب الله عليه في ذلك، لماذا لم يكل العلم إلى الله، فقال الله ـ عزّ وجل ـ إنَّ لي عبداً أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين، وذكر له علامة وهي أن تفقد الحوت، فاصطحب حوتاً معه في مِكْتَل[(37)] وسار هو وفتاه يوشع بن نون، جاء ذلك في البخاري[(38)]، لينظر من هذا الذي هو أعلم منه ثم ليتعلم منه أيضاً، كان الحوت في المكتل، فلما استيقظا مع السرعة لم يفتشا في المكتل، وخرج الحوت بأمر الله من المكتل ودخل في البحر.
{ {لاَ أَبْرَحُ} } أي لا أزال، والخبر محذوف والتقدير «لا أزال أسير».
{ {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} } قيل: إنه مكان الله أعلم به، لكن موسى يعلم، وقيل: إنه ملتقى البحر الأحمر مع البحر الأبيض، وكان فيما سبق بينهما أرض، حتى فتحت القناة وهذا ليس ببعيد، وسبب ذلك أن الله أوحى إليه أن عبداً في مجمع البحرين أعلم منك.
{ {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} }، أو هنا للتنويع، يعني إما أن أبلغ مجمع البحرين أو أمضي في السير حقباً أي: دهوراً طويلة، وقيل: { {أَوْ} } بمعنى «إلاَّ» أي حتى أبلغ مجمع البحرين إلاَّ أن { {أَمْضِيَ حُقُبًا} } أي: دهوراً طويلة قبل أن أبلغه، لكن الوجه الأول أسد، فتهيئَا لذلك وسارا، وسبب قوله هذا أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن عبداً لنا هو أعلم منك عند مجمع البحرين، فسار موسى إليه طلباً للعلم.
* * *
{{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا *}}.
قوله تعالى: { {فَلَمَّا بَلَغَا} } أي: موسى وفتاه.
{ {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} } أي: بين البحرين.
{ {نَسِيَا حُوتَهُمَا} } أضاف الفعل إليهما مع أن الناسي هو الفتى وليس موسى، ولكن القوم إذا كانوا في شأن واحد وفي عمل واحد، نسب فعل الواحد منهم أو القائل منهم إلى الجميع، ولهذا يخاطب الله ـ عزّ وجل ـ بني إسرائيل في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيقول: } [البقرة: 50] ، } [البقرة: 55] ، مع أنهم ما قالوا هذا؛ لكن قاله أجدادهم.
{ {نَسِيَا حُوتَهُمَا} } نسيان ذهول وليس نسيان ترك، وهذا من حكمة الله ـ عزّ وجل ـ، أن الله أنساهما ذلك لحكمة، وهذا الحوت قد جعله الله ـ سبحانه وتعالى ـ علامة لموسى، أنك متى فقدت الحوت فثَم الخضر، وهذا الحوت كان في مِكْتَل وكانا يقتاتان منه، ولما وصلا إلى مكان ما ناما فيه عند صخرة، فلما استيقظا وإذا الحوت ليس موجوداً، لكنه أي: الفتى لم يتفقد المكتل ونسي شأنه وأمره، هذا الحوت ـ سبحان الله ـ خرج من المكتل، ودخل في البحر وجعل يسير في البحر، والبحر ينحاز عنه.
{ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} } أي اتخذ الحوت طريقه في البحر.
{ }{سَرَبًا} أي مثل السرب، والسرب هو السرداب يعني أنه يشق الماء ولا يتلاءم الماء، وهذا من آيات الله، وإلا فقد جرت العادة أن الحوت إذا انغمر في البحر يتلاءم البحر عليه، لكن هذا الحوت من آيات الله، أولاً: أنه قد مات، وأنهما يقتاتان منه، ثم صار حياً ودخل البحر ثانياً: أنه صار طريقه على هذا الوجه، وهذا من آيات الله تبارك وتعالى.
* * *
{{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا *}}.
قوله تعالى: { {فَلَمَّا جَاوَزَا} } الفاعل موسى وفتاه { {جَاوَزَا} } يعني تعديا ذلك المكان، قال موسى لفتاه: { {آتِنَا غَدَاءَنَا} } وكان ذلك؛ لأن الغداء هو الطعام الذي يؤكل في الغداة.
{ {لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} } أي تعباً.
وقوله: { {مِنْ سَفَرِنَا هَذَا} } ليس المراد من حين ابتداء السفر ولكن من حين ما فارقا الصخرة، ولذلك طلب الغداء، قال أهل العلم وهذا من آيات الله عزّ وجل فقد سارا قبل ذلك مسافة طويلة ولم يتعبا، ولما جاوزا المكان الذي فيه الخضر، تعبا سريعاً من أجل ألا يتماديا في البعد عن المكان.
* * *
{{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا *} } أي: قال الفتى لموسى: { {أَرَأَيْتَ} } أي ما حصل حين لجأنا إلى الصخرة، والمراد بالاستفهام التعجب أو تعجيب موسى.
{ {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} } يعني نسيت أن أتفقده أو أسعى في شأنه أو أذكره لك، وإلا فالحوت معروف كان في المكتل.
{ {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} } قوله: { {أَنْ أَذْكُرَهُ} } هذه بدل من الهاء في «أنسانيه»، يعني ما أنساني ذكره إلا الشيطان.
{ {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} }، أي اتخذ الفتى أو موسى سبيل الحوت في البحر.
{ {عَجَبًا} } يعني محل عجب، وهو محل عجب، ماء سيال يمر به هذا الحوت، ويكون طريقه سرباً، فكان هذا الطريق للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، ولنا أيضاً عجب؛ لأن الماء عادة يتلاءم على ما يمر به لكن هذا الحوت ـ بإذن الله ـ لم يتلاءم الماء عليه.
* * *
{{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} } أي قال موسى عليه الصلاة والسلام: { {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} } أي: ما كنا نطلب؛ لأن الله أخبره بأنه إذا فقد الحوت، فذاك محل اتفاقه مع الخضر.
{ {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} } يعني رجعا بعد أن أخذا مسافة تعبا فيها، ارتدا على آثارهما، يعني يقصان أثرهما؛ لئلا يضيع عنهما المحل الذي كانا قد أويا إليه.
* * *
{{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا *}}.
قوله تعالى: { {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} } وهو الخضر كما صحَّ ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم[(39)].
وقوله: { {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} } هل هو عبدٌ من عباد الله الصالحين أو من الأولياء الذين لهم كرامات أم من الأنبياء الموحى إليهم؟ كل ذلك ممكن، لكن النصوص تدل على أنه ليس برسول ولا نبي، إنما هو عبد صالح أعطاه الله تعالى كرامات؛ ليبين الله بذلك أن موسى لا يحيط بكل شيء علماً وأنه يفوته من العلم شيء كثير.
{ {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} } أي: أن الله جلَّ وعلا جعله من أوليائه برحمته إياه.
{ {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} } يعني علماً لا يطَّلِع عليه الناس، وهو علم الغيب في هذه القصة المعينة وليس علم نبوة ولكنه علم خاص؛ لأن هذا العلم الذي اطَّلع عليه الخضر لا يمكن إدراكه وليس شيئاً مبنياً على المحسوس، فيبنى المستقبل على الحاضر، بل شيء من الغائب، فأطلعه الله تعالى على معلومات لا يطَّلع عليها البشر.
* * *
{{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} } أي قال موسى للخضر: هل أتبعك، وهذا عرض لطيف وتواضع، وتأمّل هذا الأدب من موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع أن موسى أفضل منه وكان عند الله وجيهاً، ومع ذلك يتلطف معه لأنه سوف يأخذ منه علماً لا يعلمه موسى، وفي هذا دليل أنَّ على طالب العلم أن يتلطف مع شيخه ومع أُستاذه وأن يُعامله بالإكرام، ثم بين موسى أنه لا يريد أن يَتَّبِعَه ليأكل من أكله أو يشرب من شربه، ولكن { {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} } ولا شك أن الخضر سيفرح بمن يأخذ عنه العلم، وكل إنسان أعطاه الله علماً ينبغي أن يفرح أن يؤخذ منه هذا العلم، لأن العلم الذي يُؤخذ من الإنسان في حياته ينتفع به بعد وفاته كما جاء في الحديث الصحيح: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ صَدَقَةٍ جَارِية أوَ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» [(40)].
فقال له الخضر:
{{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *}}.
{ {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} } وبيّن له عذره في قوله هذا، فقال: { {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *} }، وأين الدليل للخضر أن موسى لم يحط بذلك خُبرا؟
الجواب: لأنه قال: { {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} } وهذا يدل على أنه لا علم له فيما عند الخضر.
فماذا قال موسى عليه السلام؟
{{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا *} }.
{ {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}} هذا الذي قاله موسى عليه السلام قاله فيما يعتقده في نفسه في تلك الساعة من أنه سيصبر، لكنه علَّقه بمشيئة الله لئلاَّ يكون ذلك اعتزازاً بنفسه وإعجاباً بها.
وقوله: { {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} } هو كقول إسماعيل بن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال له أبوه: {{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}} [الصافات: 102] ، وموسى قال للخضر: { {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} }، وأيضاً أصبر على ما تفعل وأمتثل ما به تأمر { {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} }، وعده بشيئين:
1 ـ الصبر على ما يفعل.
2 ـ الائتمار بما يأمر، والانتهاء عما ينهى.
قال الخضر:
{{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا *}}.
قوله تعالى: { {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} } ومعلوم أنه سيتبعه.
{ {فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} } أي عن شيء مما أفعله.
{ {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} } { {حَتَّى} } هنا للغاية، يعني إلى أن { {أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} } أي: إلى أن أذكر لك السبب، وهذا توجيه من معلم لمن يتعلم منه، ألاَّ يتعجل في الرد على معلمه، بل ينتظر حتى يحدث له بذلك ذكراً، وهذا من آداب المتعلم ألاَّ يتعجل في الرد حتى يتبين الأمر.
* * *
{{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا *}}.
قوله تعالى: { {فَانْطَلَقَا} } الفاعل موسى والخضر، وسكت عن الفتى، فهل الفتى تأخر عن الركوب في السفينة، أم أنه ركب ولكن لما كان تابعاً لم يكن له ذكر؟
الجواب: الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه كان تابعاً، لكن لم يكن له تعلق بالمسألة، والأصل هو موسى طوي ذكره، وهو أيضاً تابع.
{ {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} } مرَّت سفينة، وهما يمشيان على شاطئ البحر، فركبا فيها.
{ {خَرَقَهَا} } أي: الخضر بقلع إحدى خشبها الذي يدخل منه الماء، فقال له موسى: { {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} } وهذا إنكار من موسى على الخضر مع أنه قال له: { {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} } لكنه لم يصبر؛ لأن هذه مشكلتها عظيمة، سفينة في البحر يخرقها فتغرق! واللام في قوله: { {لِتُغْرِقَ} } ليست للتعليل ولكنها للعاقبة، يعني أنك إذا خرقتها غرق أهلها، وإلاَّ لا شك أن موسى عليه السلام لا يدري ما غرض الخضر، ولا شك أيضاً أنه يدري أنه لا يريد أن يغرق أهلها، لأنه لو أراد أن يغرق أهلها لكان أول من يغرق هو وموسى، لكن اللام هنا للعاقبة ولام العاقبة ترد في غير موضع في القرآن، مثل قول الله تعالى: {{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}} [القصص: 8] .
لو سألنا أي إنسان: هل آل فرعون التقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً؟
الجواب: أبداً، ولكن هذه للعاقبة.
{ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} } يعني شيئاً عظيماً، يعني كان موسى شديداً قوياً في ذات الله، فهو أنكر عليه، وبين أن فعله ستكون عاقبته الإغراق، وزاده توبيخاً في قوله: { {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} }، والجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات:
1 ـ اللام.
2 ـ قد.
3 ـ القسم المقدر الذي تدل عليه اللام، والإمر بكسر الهمزة الشيء العظيم، ومنه قول أبي سفيان لهرقل لما سأله عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبين له حاله وصفاته وما كان من أخلاقه، فلما انصرف مع قومه، قال أبو سفيان: «لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كَبْشَة إنه ليخافه مَلِكُ بني الأصفر» [(41)]، يعني بابن أبي كبشة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. و: «أمِرَ أمرُه» يعني عَظُم أمره.
* * *
{{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *}}.
فاعتذر موسى:
{{قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا *}}.
وسبب نسيان موسى؛ أن الأمر عظيم اندهش له: أن تغرق السفينة وهم على ظهرها، وهذه توجب أن الإنسان ينسى ما سبق من شدة وقع ذلك في النفس.
وقوله: { {بِمَا نَسِيتُ} } أي بنسياني، ولهذا نقول في إعراب «ما» إنها مصدرية، أي: بنسياني ذلك وهو قولي: { {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} }.
{ {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} } يعني لا تثقل علي وتعسر علي الأمور؛ وكأن هذا والله أعلم توطئة لما يأتي بعده.
* * *
{{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا *}}.
قوله تعالى: { {فَانْطَلَقَا} } بعد أن أرست السفينة على الميناء. { {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} } ولم يقل «قتله»، وفي السفينة قال: { {خَرَقَهَا} } ولم يقل: «فخرقها»، يعني كأن شيئاً حصل قبل القتل فقتله .
{ {غُلاَمًا} } الغلام هو الصغير، ولم يصبر موسى عليه السلام. { {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} } وفي قراءة «زاكية» لأنه غلام صغير، والغلام الصغير تكتب له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، إذاً فهو زكي لأنه صغير ولا تكتب عليه السيئات.
{ {بِغَيْرِ نَفْسٍ} } يعني أنه لم يقتل أحداً حتى تقتله، ولكن لو أنه قتل هل يُقتل أو لا؟
الجواب: في شريعتنا لا يقتل لأنه غير مُكلَّف ولا عَمْد له، على أنه يحتمل أن يكون هذا الغلام بالغاً وسمي بالغلام لقرب بلوغه وحينئذٍ يزول الإشكال.
{ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} } هذه العبارة أشد من العبارة الأولى. في الأولى قال: { {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} }، ولكن هنا قال: { {نُكْرًا} } أي منكراً عظيماً، والفرق بين هذا وهذا، أن خرق السفينة قد يكون به الغرق وقد لا يكون وهذا هو الذي حصل، لم تغرق السفينة، أما قتل النفس فهو منكر حادث ما فيه احتمال.
فقال الخضر:
{{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *}}.
قوله تعالى: { {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} } هنا فيها لوم أشد على موسى، في الأولى قال: {{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} } وفي الثانية قال: { {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} } يعني كأنك لم تفهم ولن تفهم، ولذلك كان الناس يفرقون بين الجملتين، فلو أنك كلمت شخصاً بشيء وخالفك فتقول في الأول: «ألم أقل إنك»، وفي الثاني تقول: «ألم أقل لك» يعني أن الخطاب ورد عليك وروداً لا خفاء فيه، ومع ذلك خالفت، فكان قول الخضر لموسى في الثانية أشد: { {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} }، فقال له موسى لما رأى أنه لا عذر له:
{{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}}.
قوله تعالى: { {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} } أي امنعني من صحبتك، وفي قول موسى: { {فَلاَ تُصَاحِبْنِي} } إشارة إلى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يرى أنه أعلى منه منْزِلة وإلاَّ لقال: «إن سألتك عن شيء بعدها فلا أصاحبك».
{ {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}} يعني أنك وصلت إلى حال تعذر فيها، لأنه أنكر عليه مرتين مع أن موسى عليه السلام التزم ألاَّ يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً.
* * *
{{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا *}}.
قوله تعالى: { {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} } ولم يعين الله عزّ وجل القرية فلا حاجة إلى أن نبحث عن هذه القرية، بل نقول: قرية أبهمها الله فنبهمها.
{ {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} } أي: طلبا من أهلها طعاماً.
{ {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} } ولا شك أن هذا خلاف الكرم، وهو نقص في الإيمان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» [(42)].
{ {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} } أي: أنه مائل يريد أن يسقط، فإن قيل: هل للجدار إرادة؟
فالجواب: نعم له إرادة، فإن ميله يدل على إرادة السقوط، ولا تتعجب إن كان للجماد إرادة فها هو «أُحُد» قال عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه: «يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» [(43)] والمحبة وصف زائد على الإرادة، أما قول بعض الناس الذين يجيزون المجاز في القرآن: إنَّ هذا كناية وأنه ليس للجماد إرادة فلا وجه له.
{ {فَأَقَامَهُ} } أي أقامه الخضر، لكن كيف أقامه؟ الله أعلم، قد يكون أقامه بيده، وأن الله أعطاه قوة فاستقام الجدار، وقد يكون بناه البناء المعتاد، المهم أنه أقامه، ولم يبين الله تعالى طول الجدار ولا مسافته ولا نوعه فلا حاجة أن نتكلف معرفة ذلك.
{ {قَالَ} } أي: موسى: { {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} } ولم ينكر عليه أن يبنيه ولا قال: كيف تبنيه وقد أبوا أن يضيفونا؟! بل قال: { {لَوْ شِئْتَ} } وهذا لا شك أنه أسلوب رقيق فيه عرض لطيف { {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} } أي عِوَضاً عن بنائه.
* * *
{{قَالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ} } أي قال الخضر لموسى: { {هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} } أي انتهى ما بيني وبينك فلا صحبة. { {سَأُنَبِّئُكَ} } أي سأخبرك عن قُربٍ قبل المفارقة { {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} }، وإنما قلنا: «سأخبرك عن قرب» لأن السين تدل على القرب بخلاف سوف، وهي أيضاً تفيد مع القرب التحقيق.
{ {بِتَأْوِيلِ} } أي بتفسيره وبيان وجهه.
* * *
{{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا *}}.
قوله تعالى: { {أَمَّا السَّفِينَةُ} } «ال» في السفينة هي للعهد الذكري أي: السفينة التي خرقتها.
{ {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} } أي: أنهم يطلبون الرزق فيها إما بتأجيرها، أو صيد السمك عليها، ونحوه وهم مساكين جمع، والجمع أقله ثلاثة، وليس ضرورياً أن نعرف عددهم.
{ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} } يعني أن أجعل فيها عيباً، لماذا؟ قال:
{ {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} } فأردت أن أعيبها حتى إذا مرت بهذا الملك، قال: هذه سفينة معيبة لا حاجة لي فيها؛ لأنه لا يأخذ إلا السفن الصالحة الجيدة، أما هذه فلا حاجة له فيها، فصار فعل الخضر من باب دفع أشد الضررين بأخفهما، ومنه يؤخذ فائدة عظيمة وهي إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، والأطباء يعملون به، تجده يأخذ من الفخذ قطعة فيصلح بها عيباً في الوجه، أو في الرأس، أو ما شابه ذلك، وأخذ منه العلماء ـ رحمهم الله ـ أن الوقف إذا دَمَر وخرب فلا بأس أن يباع بعضه ويصرف ثمنه في إصلاح باقيه، ثم بين الخضر حال الغلام فقال:
{{وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤُمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا *}}.
قوله تعالى: { {أَبَوَاهُ} } أي: أبوه وأمه { {مُؤُمِنَيْنِ} } أي: وهو كافر.
{ {فَخَشِينَا} } أي خفنا، والخشية في الأصل خوف مع علم، وأتي بضمير الجمع للتعظيم.
{ {أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا} } يعني يحملهما على الطغيان والكفر، إما من محبتهما إياه، أو لغير ذلك من الأسباب، وإلا فإن الغالب أن الوالد يؤثِّر على ولده ولكن قد يؤثر الولد على الوالد كما أن الغالب أن الزوج يؤثر على زوجته، ولكن قد تؤثر الزوجة على زوجها.
* * *
{{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا *}}.
قوله تعالى: يعني أنَّا إذا قتلناه؛ فإن الله خير وأبقى؛ نؤمل منه تعالى { {أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} } أي في الدين، { {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} } أي في الصلة، يعني أنه أراد أن الله يتفضل عليهما بمن هو أزكى منه في الدين، وأوصل في صلة الرحم، ويؤخذ من ذلك أنه يقتل الكافر خوفاً من أن ينشر كفره في الناس.
* * *
{{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *}}.
قوله تعالى: { {لِغُلاَمَيْنِ} } يعني صغيرين.
{ {يَتِيمَيْنِ} } قد مات أبوهما.
{ {فِي الْمَدِينَةِ} } أي: القرية التي أتياها.
{ {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} } أي: كان تحت الجدار مال مدفون لهما.
{ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} } فكان من شكر الله ـ عزّ وجل ـ لهذا الأب الصالح أن يكون رؤوفاً بأبنائه، وهذا من بركة الصلاح في الآباء أن يحفظ الله الأبناء.
{ {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} } أي: أراد الله عزّ وجل { {أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} } أي: أن يبلغا ويكبرا حتى يصلا إلى سن الرشد، وهو أربعون سنة عند كثير من العلماء، وهنا ما قال «فأردنا» ولا قال «فأردت»، بل قال: { {فَأَرَادَ رَبُّكَ} }؛ لأن بقاء الغلامين حتى يبلغا أشدهما ليس للخضر فيه أي قدرة، لكن الخشية ـ خشية أن يرهق الغلام أبويه بالكفر ـ تقع من الخضر وكذلك إرادة عيب السفينة.
{ {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} } حتى لا يبقى تحت الجدار، ولو أن الجدار انهدم لظهر الكنْز وأخذه الناس.
{ {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} } هذه مفعول لأجله، والعامل فيه أراد، يعني أراد الله ذلك رحمة منه جلَّ وعلا.
{ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} } يعني ما فعلت هذا الشيء عن عقل مني أو ذكاء مني ولكنه بإلهام من الله ـ عزّ وجل ـ وتوفيق؛ لأن هذا الشيء فوق ما يدركه العقل البشري.
{ {ذَلِكَ تَأْوِيلُ} } أي ذلك تفسيره الذي وعدتك به {{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ}} [الكهف: 78] . أي: تفسيره، ويحتمل أن يكون التأويل هنا في الثاني العاقبة، يعني ذلك عاقبة ما لم تستطع عليه صبراً؛ لأن التأويل يراد به العاقبة ويراد به التفسير.
{ {مَا لَمْ تَسْطِعْ} } وفي الأول قال: { {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} } لأن «استطاع واسطاع ويستطيع ويسطيع» كل منها لغة عربية صحيحة.
وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن) فوائد جمة عظيمة في هذه القصة لا تجدها في كتاب آخر فينبغي لطالب العلم أن يراجعها لأنها مفيدة جداً.
وبهذا انتهت قصة موسى مع الخضر.
ثم ذكر الله تعالى قصة أخرى سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال:
{{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا *}}.
قوله تعالى: { {وَيَسْأَلُونَكَ} } سواء من يهود أو من قريش أو من غيرهم.
{ {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} } أي: صاحب القرنين، وكان له ذكر في التاريخ، وقد قال اليهود لقريش: اسألوا محمداً عن هذا الرجل؛ فإن أخبركم عنه فهو نبي، ولماذا سمي بذي القرنين؟ قيل: معناه ذي الملك الواسع من المشرق والمغرب، فإن المشرق قرن والمغرب قرن، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المشرق: «حيث يطلع قرن الشيطان» [(44)]، فيكون هذا كناية عن سعة ملكه، وقيل: ذي القرنين لقوته، ولذلك يعرف أن الفحل من الضأن الذي له قرون يكون أشد وأقوى، وقيل: لأنه كان على رأسه قرنان كتاج الملوك، والحقيقة أن القرآن العظيم لم يبين سبب تسميته بذي القرنين، لكن أقرب ما يكون للقرآن العظيم «المالك للمشرق والمغرب»، وهو مناسب تماماً؛ حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الشمس إنها: «تطلع بين قرني شيطان» [(45)].
{ {قُلْ} } لمن سألك: { {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} } وليس كل ذكره بل ذكراً منه، ثم قصَّ الله القصة:
* * *
{{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا *}}.
قوله تعالى: { {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} } وذلك بثبوت ملكه وسهولة سيره وقوته.
{ {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} } أي شيئاً يتوصل به إلى مقصوده، وقوله: { {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} } لا يعم كل شيء؛ لكن المراد من كل شيء يحتاج إليه في قوة السلطان، والتمكين في الأرض، والدليل على هذا أن «كل شيء» بحسب ما تضاف إليه، فإن الهدهد قال لسليمان عليه السلام عن ملكة اليمن سبأ: {{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}} [النمل: 23] ، ومعلوم أنها لم تؤت ملك السموات والأرض، لكن من كل شيء يكون به تمام الملك، كذلك قال الله تعالى عن ريح عاد: {{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}} [الأحقاف: 25] ، ومعلوم أنها ما دَمَّرت كل شيء، فالمساكن ما دُمِّرت كما قال تعالى: {{فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}} [الأحقاف: 25] .
* * *
{{فَأَتْبَعَ سَبَبًا *}}.
قوله تعالى: { {فَأَتْبَعَ سَبَبًا *} } أي: تبع السبب الموصل لمقصوده فإنه كان حازماً، انتفع بما أعطاه الله تعالى من الأسباب؛ لأن من الناس من ينتفع، ومن الناس من لا ينتفع، ولكن هذا الملك انتفع { {فَأَتْبَعَ سَبَبًا *} } وجال في الأرض.
* * *
{{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً *}}.
قوله تعالى: { {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} } من المعلوم أن المراد هو المكان الذي تغرب الشمس فيه، وهو البحر؛ لأن السائر إلى المغرب سوف يصطدم بالبحر والشمس إذا رآها الرائي وجدها تغرب فيه.
{ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} } هي أرض البحر { {حَمِئَةٍ} } مسودة من الماء، لأن الماء إذا مكث طويلاً في الأرض صارت سوداء، ومعلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان، وإلاَّ فهي أكبر من الأرض، وأكبر من هذه العين الحمئة، وهي تدور على الأرض، لكن لا حرج أن الإنسان يخبر عن الشيء الذي تراه عيناه بحسب ما رآه.
{ {وَوَجَدَ عِنْدَهَا} } أي عند العين الحمئة وهو البحر { {قَوْمًا} }.
{ {قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} } يعني أن الله خيره بين أن يعذبهم بالقتل أو بغير القتل أو يحسن إليهم؛ وذلك لأن ذي القرنين ملك عاقل، ملك عادل، ويدل لعقله ودينه أنه:
{{قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا *وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا *}}.
حكمٌ عدل: { {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} } وذلك بالشرك لأن الظلم يطلق على الشرك وعلى غيره، لكن الظاهر، والله أعلم، هنا أن المراد به الشرك لأنه قال: { {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} }.
يقول: { {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} } العذاب الذي يكون تعزيراً، وعذاب التعزير يرجع إلى رأي الحاكم، إما بالقتل أو بغيره.
{ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} } لأن العقوبات لا تطهر الكافرين، فالمسلم تطهره العقوبات، أما الكافر فلا، فإنه يعذب في الدنيا وفي الآخرة، نعوذ بالله من ذلك.
قوله: { {نُكْرًا} } ينكره المُعَذَّب بفتح الذال، ولكنه بالنسبة لله تعالى ليس بنُكر، بل هو حق وعدل، لكنه ينكره المُعَذَّب ويرى أنه شديد.
{ {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا *} } المؤمن العامل للصالحات له جزاء عند الله { {الْحُسْنَى} } وهي الجنة كما قال تعالى: {{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}} [يونس: 26] ، فسرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن: { {الْحُسْنَى} } هي الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجه الله [(46)].
{ {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} } أي سنقول له قولاً يسراً لا صعوبة فيه، فوعد الظالم بأمرين: أنه يعذبه، وأنه يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، والمؤمن وعده بأمرين: بأن له { {الْحُسْنَى} } وأنه يعامله بما فيه اليسر والسهولة، لكن تأمل في حال المشرك بدأ بتعذيبه ثم ثنى بتعذيب الله، والمؤمن بدأ بثواب الله أولاً ثم بالمعاملة باليسر ثانياً، والفرق ظاهر لأن مقصود المؤمن الوصول إلى الجنة، والوصول إلى الجنة لا شك أنه أفضل وأحب إليه من أن يقال له قول يُسر، وأما الكافر فعذاب الدنيا سابق على عذاب الآخرة وأيسر منه فبدأ به، وأيضاً فالكافر يخاف من عذاب الدنيا أكثر من عذاب الآخرة؛ لأنه لا يؤمن بالثاني.
* * *
{{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا *}}.
قوله تعالى: { {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} } أي: موضع طلوعها، أتبع أولاً السبب إلى المغرب ووصل إلى نهاية الأرض اليابسة مما يمكنه أن يصل إليه ثم عاد إلى المشرق، لأن عمارة الأرض تكون نحو المشرق والمغرب، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله زَوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها» [(47)] دون الشمال والجنوب لأن الشمال والجنوب أقصاه من الشمال، وأقصاه من الجنوب كله ثلج ليس فيه سكان، فالسكان يتبعون الشمس من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق.
{ {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} } وجدها تطلع على قوم ليس عندهم بناء، ولا أشجار ظليلة ولا دور ولا قصور، وبعض العلماء بالغ حتى قال: وليس عليهم ثياب، لأن الثياب فيها نوع من الستر. المهم أن الشمس تحرقهم.
* * *
{{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا *}}.
قوله تعالى: { {كَذَلِكَ} } يعني الأمر كذلك على حقيقته.
{ {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} } أي قد علمنا علم اليقين بما عنده من وسائل الملك وامتداده، أي: بكل ما لديه من ذلك.
* * *
{{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً *}}.
قوله تعالى: { {أَتْبَعَ سَبَبًا} } يعني سار واتخذ سبباً يصل به إلى مراده.
{ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} } السدين هما جبلان عظيمان يحولان بين الجهة الشرقية من شرق آسية، والجهة الغربية، وهما جبلان عظيمان بينهما منفذ ينفذ منه الناس.
{ {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} } أي: لا بينهما ولا وراءهما.
{ {قَوْمًا} } قيل: إنهم الأتراك.
{ {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} } فيها قراءتان: «لاَّ يَكَادُونَ يُفْقِهُونَ قَوْلاً» و«لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً» والفرق بينهما ظاهر: لا { {يَفْقَهُونَ} } يعني هم، لا «يُفْقِهُونَ» أي: غيرهم، يعني هم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم، هذه فائدة القراءتين، وكلتاهما صحيحة، وكل واحدة تحمل معنىً غير معنى القراءة الأخرى، لكن بازدواجهما نعرف أن هؤلاء القوم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم.
* * *
{{قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا *}}.
قوله تعالى: { {قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ} } وحينئذٍ يقع إشكال كيف يكونوا { {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} } ثم ينقل عنهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح فصيح: { {قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ} }؟
والجواب عن هذا سهل جداً، وهو أن ذا القرنين أعطاه الله تعالى ملكاً عظيماً، وعنده من المترجمين ما يُعرف به ما يريد، وما يَعرف به ما يريد غيره، على أنه قد يكون الله ـ عزّ وجل ـ قد ألهمه لغة الناس الذين استولى عليهم كلِّهم، المهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح { {قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ} }، نادَوه بلقبه تعظيماً له.
{ {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} } يأجوج ومأجوج هاتان قبيلتان من بني آدم كما صح ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حدَّث الصحابة بأن الله ـ عزّ وجل ـ يأمر آدم يوم القيامة فيقول:
«يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِير، وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيد» [فاشتد ذلك عليهم] قالوا: يا رسول الله، وأيُّنا ذلك الواحد؟ قال: «أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُم رَجُلٌ وَمِنْ يَأْجُوج ومَأْجُوج أَلْفٌ». ثم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ...» إلخ الحديث[(48)].
وبهذا نعرف خطأ من قال: إنهم ليسوا على شكل الآدميين وأن بعضهم في غاية ما يكون من القِصَر، وبعضهم في غاية ما يكون من الطول، وأن بعضهم له أذن يفترشها، وأذن يلتحف بها وما أشبه ذلك، كل هذا من خرافات بني إسرائيل، ولا يجوز أن نصدقه، بل يقال: إنهم من بني آدم، لكن قد يختلفون كما يختلف الناس في البيئات، فتجد أهل خط الاستواء بيئتهم غير بيئة الشماليين، فكل له بيئة، الشرقيون الآن يختلفون عن أهل وسط الكرة الأرضية، فهذا ربما يختلفون فيه، أما أن يختلفوا اختلافاً فادحاً كما يذكر، فهذا ليس بصحيح.
{ {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} } الإفساد في الأرض يعم كل ما كان غير صالح، وغير أصلح، يفسدونها في القتل، وفي النهب، وفي الانحراف، وفي الشرك، وفي كل شيء، المهم أنهم يحتاجون إلى أحد يحميهم من هؤلاء.
{ {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} } يعني حاجزاً يمنع من حضورهم إلينا، فعرضوا عليه أن يعطوه شيئاً، وهذا اجتهاد في غير محله، لكنهم خافوا أن يقول لا، ولا يمكنهم بعد ذلك، وإلاَّ هذا الاجتهاد: كيف يقولون لهذا الملك الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها: { {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} } هذا لا يقال إلاَّ لشخصٍ لا يستطيع. لكنهم قالوا ذلك خوفاً من أن يرد طلبهم، يريدون أن يقيموا عليه الحجة بأنهم أرادوا أن يعطوه شيئاً يحميهم به من هؤلاء، قال في الجواب:
{{مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}}.
قوله تعالى: { {قَالَ مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} } { {مَا} } مبتدأ و{ {مَا} } خبر المبتدأ، يعني الذي مكَّني فيه ربي من الملك والمال والخدم، وكل شيء، خير من هذا الخرج الذي تعرضونه عليَّ، وهذا كقول سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هدية ملكة سبأ، قال: { فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [النمل: 36] وهذا من اعتراف الإنسان بنعم ربه ـ عزّ وجل ـ التي لا يحتاج معها إلى أحد.
{ {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} } أي: بقوة بدنية لا بقوة مالية؛ لأنه عنده من الأموال الشيء العظيم.
{ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} } يعني أكبر مما سألوا، هم سألوا سداً، ولكنه قال ردماً، يعني أشد من السد، فطلب منهم:
{{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا *}}.
قوله تعالى: { {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} } الزُّبَر يعني القطع من الحديد، فجمعوا الحديد وجعلوه يساوي الجبال، وهذا يدل على القوة العظيمة في ذلك الوقت، يعني أرتال من الحديد، تجمع حتى تساوي الجبال الشاهقة العظيمة.
{ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} } يعني جانبي الجبلين { {قَالَ انْفُخُوا} } يعني انفخوا على هذا الحديد، وليس المراد بأفواهكم؛ لأن هذا لا يمكن، ولكن انفخوا بالآلات والمعدات التي عنده؛ لأن الله أعطاه ملكاً عظيماً، فنفخوا { {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} } والحديد معروف أنه إذا أوقد عليه في النار يكون ناراً، تكون القطعة كأنها جمرة، بل هي أشد من الجمرة، ثم طلب أن يؤتوه قطراً يفرغه عليه، والقطر هو النحاس المذاب كما قال الله تعالى: {{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}} [سبأ: 12] ، يعني النحاس أرسله الله تعالى لسليمان، بدل ما كان معدناً قاسياً يحتاج إلى إخراج بالمعاول ثم صَهْر بالنار، أسال الله له عين القطر كأنها ماء ـ سبحان الله ـ.
قال ذو القرنين: { {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} } فأفرغ عليه القطر ـ النحاس ـ فاشتبك النحاس مع قطع الحديد فكان قوياً.
* * *
{{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا *}}.
قوله تعالى: { {فَمَا اسْطَاعُوا} } و«ما استطاعوا» معناهما واحد، وسبق في قصة موسى مع الخضر {{مَا لَمْ تَسْطِعْ} } و{{مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} }.
{ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} } يعني أن يصعدوا عليه؛ لأنه عالٍ؛ ولأن الظاهر أنه أملس، فهم لا يستطيعون أن يصعدوا عليه.
{ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} } لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟
الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: { {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} } لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.
* * *
{{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *}}.
قوله تعالى: { {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} } قالها ذو القرنين وانظر إلى عباد الله الصالحين، كيف لا يسندون ما يعملونه إلى أنفسهم، ولكنهم يسندونه إلى الله ـ عزّ وجل ـ وإلى فضله، ولهذا لما قالت النملة حين أقبل سليمان بجنوده على وادي النمل، قامت خطيبة فصيحة: {{ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }} [النمل: 18، 19] ، أيضاً ذو القرنين ـ رحمه الله ـ قال: { {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} } وليس بحولي ولا قوتي، ولكنه رحمة به ورحمة بالذين طلبوا منه السد، أن حصل هذا الردم المنيع.
{ {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} } يعني بخروج هؤلاء المفسدين.
{ {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} } يعني جعل هذا السد دكّاً، أي: منهدماً تماماً وسواه بالأرض، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا» [(49)]. يعني شيء يسير لكن ما ظهر فيه الشق لا بد أن يتوسع.
{ {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} } فما هو هذا الوعد؟
الجواب: الوعد هو أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يخرجهم في آخر الزمان، وذلك بعد خروج الدجال وقتله يخرج الله هؤلاء، يخرجهم في عالم كثير مثل الجراد أو أكثر «فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُون: لَقَدْ كَانَ بِهَذِ مَرَّةً مَاءٌ» ثم «يُحصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ» في جبل الطور، ويلحقهم مشقة ويرغبون إلى الله تعالى في هلاك هؤلاء، «فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ» يصبحون في ليلة واحدة على كثرتهم، ميتين مِيتة رجل واحد، حتى تنتن الأرض من رائحتهم، فيرسل الله تعالى أمطاراً تحملهم إلى البحر أو يرسل اللهُ طيوراً فَتَحْمِلُهُمْ إلى البحر[(50)]، والله على كل شيء قدير، وهذه الأشياء نؤمن بها كما أخبر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما كيف تصل الحال إلى ذلك، فهذا أمره إلى الله عزّ وجل.
{ {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} } يعني وعد الله تعالى في خروجهم كان { {حَقًّا} } أي: لا بد أن يقع كل ما وعد الله بشيء فلا بد أن يقع؛ لأن عدم الوفاء بالوعد، إما أن يكون عن عجز، أو إما أن يكون عن كذب، والله ـ عزّ وجل ـ منَزَّهٌ عنهما جميعاً عن العجز، وعن الكذب، فهو ـ عزّ وجل ـ لا يخلف الميعاد لكمال قدرته، وكمال صدقه.
* * *
{{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا *}}.
قوله تعالى: { {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} } المفسرون الذين رأيت كلامهم يقولون: { {يَوْمَئِذٍ} } يعني إذا خرجوا صار «يموج بعضهم في بعض»، ثم اختلفوا في معنى «يموج بعضهم في بعض» هل معناه أنهم يموجون مع الناس، أو يموج بعضهم في بعض يتدافعون عند الخروج من السد؟ وإذا كان أحد من العلماء يقول: { {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} } يعني بعد السد، صاروا هم بأنفسهم يموج بعضهم في بعض، فإن كان أحدٌ يقول بهذا، فهو أقرب إلى سياق الآية، لكن الذي رأيته أنهم يموج بعضهم في بعض يعني إذا خرجوا، { {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} } أي: يومئذْ يريد الله ـ عزّ وجل ـ خروجهم.
{ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} } النافخ إسرافيل أحد الملائكة الكرام، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفتتح صلاة الليل بهذا الاستفتاح: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم» [(51)]، هؤلاء الثلاثة الملائكة الكرام، كل واحد منهم موكل بما فيه الحياة، جبريل موكل بما فيه حياة القلوب، ميكائيل بما فيه حياة النبات وهو القَطْر، والثالث إسرافيل بما فيه حياة الناس عند البعث، ينفخ في الصور نفختين. الأولى: فَزعٌ وصعق، ولا يمكن الآن أن ندرك عظمة هذا النفخ، نفخ تفزع الخلائق منه وتصعق بعد ذلك، كلهم يموتون إلاَّ من شاء الله، لشدة هذا النفخ وشدة وقعه، ما يمكن أن نتصور لأن الناس يفزعون، بل فزع من في السموات ومن في الأرض ثم يصعقون ـ الله أكبر ـ. شيء عظيم كلما يتصوره الإنسان، يقشعر جلده من عظمته وهوله.
النفخة الثانية: يقول الله عزّ وجل: {{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}} [الزمر: 68] .
النفخة الثانية يقوم الناس من قبورهم أحياء ينظرون، ماذا حدث؟! لأن الأجسام في القبور، يُنْزِل الله تعالى عليها مطراً عظيماً ثم تنمو في داخل الأرض[(52)]، حتى إذا تكاملت الأجسام تكاملها التام نفخ في الصور نفخة البعث: {{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}} [الزمر: 68] .
{ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} } أي: جمعنا الخلائق { {جَمْعًا} } أي: جمعاً عظيماً، فهذا الجمع يشمَل: الإنس، والجن، والملائكة، والوحوش، وجميع الدواب، قال الله تبارك وتعالى: {{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *}} [الأنعام: 38] كل الخلائق، حتى الملائكة ـ ملائكة السماء ـ كما قال الله سبحانه وتعالى: {{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *}} [الفجر: 22] . يا له من مشهد عظيم، الله أكبر.
* * *
{{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا *}}.
{ {وَعَرَضْنَا} } أي عرضناها لهم فتكون أمامهم ـ اللّهم أجرنا منها ـ.
{ {جَهَنَّمَ} } اسم من أسماء النار.
{ {عَرْضًا} } يعني عرضاً عظيماً، ولذلك نُكِّر يعني عرضاً عظيماً تتساقط منه القلوب، ومن الحكم في إخبار الله ـ عزّ وجل ـ بذلك أن يصلح الإنسان ما بينه وبين الله، وأن يخاف من هذا اليوم، وأن يستعد له، وأن يصور نفسه وكأنه تحت قدميه، كما قال الصِّديق رضي الله عنه:

كلنا مصبَّح في أهله***والموت أدنى من شراك نعله
فتصور هذا وتصور أنه ليس بينك وبينه، إلاَّ أن تخرج هذه الروح من الجسد، وحينئذ ينتهي كل شيء.
* * *
{{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا *}}.
قوله تعالى: { {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} } هؤلاء الكافرون كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، لا ينظرون إلى ذكر الله، وقد ذكر الله تعالى فيما سبق ـ في نفس السورة ـ أنَّ {{عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}} [الكهف: 57] .
فالقلوب، والأبصار، والأسماع كلها مغلقة.
{ {وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} } هل المراد لا يريدون؟ كقوله تعالى: {{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}} [المائدة: 112] ، أي: هل يريد؟ أو المعنى أنهم لا يستطيعون { {سَمْعًا} } أي سمع الإجابة، وليس سمع الإدراك؟
الجواب: يحتمل المَعْنَـيَيْن جميعاً، وكلاهما حق.
* * *
{{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً *}}.
قوله تعالى: { {أَفَحَسِبَ} } أي: أفظن { {الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} } من هم عباده؟
الجواب: كل شيء فهو عبد الله: {} [مريم: 93] ومن الذي اتُّخِذَ ولياً من دون الله، أي: عُبد من دون الله؟
الجواب: عبدت الملائكة، عبدت الرسل، وعبدت الشمس، وعبد القمر، وعبدت الأشجار، وعبدت الأحجار، وعبدت البقر! نسأل الله العافية، الشيطان يأتي ابن آدم من كل طريق.
{ {مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} } يعني أربابا يدعونهم ويستغيثون بهم وينسون ولاية الله ـ عزّ وجل ـ يعني أيظن هؤلاء الذين فعلوا ذلك أنهم يُنصرون؟
الجواب: لا، لا يُنصرون، ومن ظن ذلك فهو مُخَبَّل في عقله.
{ {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} } يعني أن الله عزّ وجل هيأ النار { {نُزُلاً} } للكافرين، ومعنى النُّزُل ما يقدمه صاحب البيت للضيف، ويحتمل أن يكون بمعنى المنْزِل، وكلاهما صحيح، فهم نازلون فيها، وهم يعطونها كأنها ضيافة، وبئست الضيافة.
* * *
{{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *}}.
قوله تعالى: { {قُلْ} } أي يا محمد للأمة كلها: { {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً} }.
الجواب: نعم.
نريد أن نُخبَر عن الأخسرين أعمالاً، حتى نتجنب عمل هؤلاء، ونكون من الرابحين، وقد بين الله تعالى في سورة العصر أن كل إنسان خاسر، إِلاَّ من اتصف بأربع صفات:
1 ـ الذين آمنوا.
2 ـ وعملوا الصالحات.
3 ـ وتواصوا بالحق.
4 ـ وتواصوا بالصبر.
وهنا يقول:
{{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *}}.
قوله تعالى: { {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} } يعني ضاع سعيهم وبَطل في الحياة الدنيا لكنهم: { {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} } فَغُطي عليهم الحق ـ والعياذ بالله ـ وظنوا وهم على باطل أن الباطل هو الحق، وهذا كثير، فاليهود مثلاً يظنون أنهم على حق، والنصارى يظنون أنهم على حق، والشيوعيون يظنون أنهم على حق، كل واحد منهم يظن أنه على حق، ولذلك مكثوا على ما هم عليه، ومنهم من يعلم أنه ليس على حق، لكنه ـ والعياذ بالله ـ لاستكباره واستعلائه أصر على ما هو عليه.
* * *
{{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً *}}.
قوله تعالى: { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } الكونية أو الشرعية؟
الظاهر كلتاهما، لكن الذين كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم،كذبوا بالآيات الشرعية، ولم يكذبوا بالآيات الكونية، والدليل أن الله تعالى أخبر أنهم إذا سُئلوا: من خلق السموات والأرض؟ يقولون: الله ـ عزّ وجل ـ، ولا أحد منهم يدعي أن هنالك خالقاً آخر مع الله، لكنهم كذبوا بالآيات الشرعية، كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ كذبوا بما جاء به، فهم داخلون في الآية.
{ {وَلِقَائِهِ} } أي: كذبوا بلقاء الله، ومتى يكون لقاء الله؟

الجواب: يكون يوم القيامة، فهؤلاء كذبوا بيوم القيامة وجادلوا، وأُروا الآيات ولكنهم أصروا، قال الله تعالى: {{ أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}} [يس: 77 ـ 78] يكذبنا فيه فقال: {{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}} [يس: 78] تَحَدٍّ! من يحييها؟ رميم لا فيها حياة ولا شيء؟
{{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}} [يس: 79] ومن الذي أنشأها أوّل مرة؟
الجواب: هو الله، والإعادة أهون من الابتداء كما قال الله عزّ وجل: {{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}} [الروم: 27] هذا دليل، إذاً الدليل على إمكان البعث، وإحياء العظام وهي رميم:
1 ـ أن الله تعالى ابتدأها ، ولما قال زكريا حين بُشِّر بالولد وكان قد بلغ في الكِبَر عتيا، إن امرأته عاقر، قال الله تعالى: {{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا *}} [مريم: 9] ، فالذي خلقك من قبل، وأنت لم تكن شيئاً قادر على أن يجعل لك ولداً.
2 ـ {{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}} [يس: 79] وإذا كان الله بكل خلق عليماً، فإنه لن يتعذر عليه أن يخلق ما يشاء، من الذي يمنعه إذا كان عليماً بكل خلق؟
الجواب: لا أحد يمنعه.
3 ـ {{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *}} [يس: 80] شجر أخضر يخرج منه نار، فالشجر الأخضر يضرب بالزند ثم ينقدح ناراً، وكان العرب يعرفون هذا، فالذي يخرج هذه النار، وهي حارة يابسة من غصن رطب بارد، يعني متضادان غاية التضاد، قادر على أن يخلق الإنسان، أو أن يعيد خلق العظام وهي رميم، ثم حقق هذه النار بقوله: {{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}} .
4 ـ { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ }؟ [يس: 81] .
الجواب: بلى، قال الله تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] فالذي خلق السموات والأرض بِكِبَرِهَا، وعظمها قادر على أن يعيد جزءاً من لا شيء بالنسبة للأرض، من أنت يا ابن آدم بالنسبة للأرض؟ لا شيء، أنت خلقت منها، أنت بعض يسير منها، فالذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على أن يخلق مثلهم، قال الله تعالى مجيباً نفسه: {{بَلَى}} [يس: 81] .
5 ـ {{وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ}} [يس: 81] الخلاَّق صيغة مبالغة، وإن شئت فاجعلها نسبة، يعني أنه موصوف بالخلق أزلا وأبدا، وهو تأكيد لقوله قبل: {{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}} [يس: 79] .
6 ـ {{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}} [يس: 82] لا يحتاج إلى عمال ولا بنَّائين ولا أحد {{كُنْ فَيَكُونُ}}؛ ولهذا قال عزّ وجل: {{إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ *}} [يس: 53] ، كلمة واحدة.
7 ـ {{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}} [يس: 83] كل شيء فبيده ملكوته ـ عزّ وجل ـ يتصرف كما يشاء، فنسأله ـ عزّ وجل ـ أن يهدينا صراطه المستقيم.
8 ـ {{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}} [يس: 83] فهذا هو الدليل الثامن. وإنما كان دليلاً؛ لأنه لولا رجوعنا إلى الله ـ عزّ وجل ـ لكان وجودنا عبثاً، وهذا ينافي الحكمة، فتأمل سياق هذه الأدلة الثمانية في هذا القول الموجز، ومع ذلك ينكرون لقاء الله.
في قوله: { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } إلزام لهم بالإيمان؛ لأنه كونه ربهم ـ عزّ وجل ـ يجب أن يطيعوه وأن يؤمنوا به، لكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن.
{ {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} } يعني بَطَلَت ولم ينتفعوا بها، حتى لو أن الكافر أحسن وأصلح الطرق وبنى الرُّبط، وتصدق على الفقراء فإن ذلك لا ينفعه، إن أراد الله أن يثيبه عجل الله له الثواب في الدنيا، أما في الآخرة فلا نصيب له، نعوذ بالله نسأل الله الحماية والعافية، لأن أعماله حبطت، ولكن هل يحبط العمل بمجرد الردة أم لا بد من شرط؟
الجواب: لا بد من شرط، وهو أن يموت على ردته، قال الله تعالى: {{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}} [البقرة: 217] . أما لو ارتد، ثم مَنَّ الله عليه بالرجوع إلى الإسلام، فإنه يعود عليه عمله الصالح السابق للردة.
{ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} } يعني أنه لا قدر لهم عندنا ولا ميزان، وهو كناية عن سقوط مرتبتهم عند الله عزّ وجل.
وقيل: إن المعنى أننا لا نزنهم، لأن الوزن إنما يحتاج إليه لمعرفة ما يترجح من حسنات أو سيئات، والكافر ليس له عمل حتى يوزن، ولكن الصحيح أن الأعمال توزن كُلَّها، قال الله تعالى: {{الْقَارِعَةُ *مَا الْقَارِعَةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ *يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ *وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ *فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ *وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ *فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه *نَارٌ حَامِيَةٌ *}} [القارعة: 6 ـ 11] . فيقام الوزن؛ لإظهار الحجة عليه، والمسألة هذه فيها خلاف.
* * *
{{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا *}}.
قوله تعالى: { {ذَلِكَ} } يعني ذلك المذكور من أنه لا يقام لهم الوزن وأن أعمالهم تكون حابطة.
{ {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} } الباء للسببية و(ما) مصدرية وتقدير الكلام: بكفرهم.
{ {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} } قوله: { {وَاتَّخَذُوا} } معطوفة على { {كَفَرُوا} } أي: بما كفروا واتخذوا، فهم ـ والعياذ بالله ـ كفروا وتعدى كفرهم إلى غيرهم، صاروا يستهزئون بالآيات، ويستهزئون بالرسل، ولم يقتصروا على كفرهم بالله.
{ {هُزُوًا} } أي: محلَّ هُزؤ، يسخرون منهم، ولهذا قال الله ـ عزّ وجل ـ للرسول صلّى الله عليه وسلّم: {{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا}} [الأنبياء: 36] ويقولون: {{أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}} ! [الفرقان: 41] ، والاستفهام هنا لا يخفى أنه للتحقير، أهذا الرسول! {{إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}} [الفرقان: 42] . أعوذ بالله؛ يفتخرون أنهم صبروا على آلهتهم وانتصروا لها.
ثم ذكر ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فقال:
{{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً *}}.
بدل ما كانت جهنم نزلا للكافرين، صارت جنات الفردوس نزلا للمؤمنين، لكن بشرطين:
1 ـ الإيمان 2 ـ العمل الصالح. والإيمان محله القلب، والعمل الصالح محله الجوارح، وقد يراد به أيضاً عمل القلب، كالتوكل والخوف والإنابة والمحبة، وما أشبه ذلك.
و{ {الصَّالِحَاتِ} } هي التي كانت خالصة لله، وموافقة لشريعة الله.
ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلاَّ بهذا، الإخلاص لله، والموافقة لشريعة الله، فمن أشرك؛ فعمله غير صالح، ومن ابتدع فعمله غير صالح، ويكون مردوداً عليهما، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» [(53)].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» [(54)]. أي: مردود عليه، فصار العمل الصالح ما جمع وصفين: الإخلاص لله، والمتابعة لشريعة الله، أو لرسول الله؟
الجواب: لشريعة الله أحسن، إلاَّ إذا أريد بالمتابعة لرسول الله، الجنس، دون محمد صلّى الله عليه وسلّم فنعم، لأن المؤمنين من قوم موسى وقوم عيسى يدخلون في هذا.
{ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً *} } قوله: { {كَانَتْ لَهُمْ} } هل المراد بالكينونة هنا الكينونة الماضية، أو المراد تحقيق كونها نزلاً لهم؟ كقوله تعالى: {{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}}؟ نقول: الأمران واقعان، فكانت في علم الله نزلا لهم، وكانت نزلا لهم على وجه التحقيق؛ لأن «كان» قد يسلب منها معنى الزمان، ويكون المراد بها التحقيق.
{ {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} } هل هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أو لأن الفردوس هو أعلى الجنَّات، والجنَّات الأُخرى تحته؟
الجواب: الظاهر الثاني لأنه ليس جميع المؤمنين الذين عملوا الصالحات ليسوا كلهم في الفردوس، بل هم في جنات الفردوس، والفردوس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» [(55)] أعلى الجنة ووسط الجنة معناه أن الجنة مثل القبَّة، وفيه أيضاً وصف رابع: ومنه تفجر أنهار الجنة.
* * *
{{خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً *}}.
قوله تعالى: { {خَالِدِينَ فِيهَا} } أبداً، ولا نزاع في هذا بين أهل السنة.
{ {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} } أي لا يطلبون عنها بدلاً، { {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} } أي: تحولا؛ لأن كل واحد راضٍ بما هو فيه من النعم، وكل واحد لا يرى أن أحداً أكمل منه، وهذا من تمام النعيم، أنت مثلاً لو نزلت قصراً منيفاً فيه من كل ما يبهج النفس، ولكنك ترى قصر فلان أعظم منه، هل يكمل سرورك؟
الجواب: من يريد الدنيا لا يكمل سروره، لأنه يرى أن غيره خير منه، لكن في الجنة، وإن كان الناس درجات، لكن النازل منهم ـ وليس فيهم نازل ـ يرى أنه لا أحد أنعم منه، عكس أهل النار، أهل النار يرى الواحد منهم أنه لا أحد أشد منه، وأنه أشدهم عذاباً.
{ {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} } يعني لو قيل للواحد: هل ترغب أن نجعلك في مكان آخر غير مكانك لقال: «لا»، وهذا من نعمة الله على الإنسان أن يقنع الإنسان بما أعطاه الله ـ عزّ وجل ـ وأن يطمئن ولا يقلق.
* * *
{{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا *}}.
قوله تعالى: { قل } أي: يا محمد: { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا } يعني حبراً يكتب به { لِكَلِمَاتِ رَبِّي }.
{ {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} } قبل أن تنفد كلمات الله ـ عزّ وجل ـ، لأنه المدبر لكل الأمور، وبكلمة {{كُنْ}} لا نَفاد لكلامه ـ عزّ وجل ـ، بل أن في الآية الأخرى {{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ}} ، أي: لو كان أقلاماً {{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}} [لقمان: 27] . لَنَفِد البحر وتكسرت الأقلام وكلمات الله ـ جلَّ وعلا ـ باقية.
{ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} } يعني زيادة، فإن كلمات الله لا تنفد، وفي هذا نص صريح على إثبات كلام الله ـ عزّ وجل ـ، وكلمات الله ـ عزّ وجل ـ كونية، وشرعية، أما الشرعية فهو ما أوحاه إلى رسله، وأما الكونية فهي ما قضى به قَدَرهُ {{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}} [يس: 82] ، وكل شيء بإرادته، إذاً فهو يقول لكل شيء {{كُنْ فَيَكُونُ}}، ومن الكلمات الشرعية ما أوحاه ـ عزّ وجل ـ إلى من دون الرسل، كالكلمات التي أوحاها إلى آدم، فإن آدم عليه الصلاة والسلام، نبي وليس برسول، وقد أمره الله ونهاه، والأمر والنهي كلمات شرعية.
* * *
{{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *}}.
قوله تعالى: { {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} } يعني أعلن للملأ أنك لست ملكاً، وأنك من جنس البشر { {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} } وذِكر المثلية لتحقيق البشرية، أي: أنه بشر لا يتعدى البشرية، ولذلك كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يغضب كما يغضب الناس، وكان صلّى الله عليه وسلّم يمرض كما يمرض الناس، وكان يجوع كما يجوع الناس، وكان يعطش كما يعطش الناس، وكان يتوقى الحر كما يتوقاها الناس، وكان يتوقى سهام القتال كما يتوقاها الناس، وكان ينسى كما ينسى الناس، كل الطبيعة البشرية ثابتة للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وكان له ظِلٌ كما يكون للناس.
أمّا من زعم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نُورَاني، ليس له ظل فهذا كذب بلا شك، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كغيره من البشر له ظل ويستظل أيضاً، ولو كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس له ظل، لنقل هذا نقلاً متواتراً؛ لأنه من آيات الله ـ عزّ وجل ـ إذاً الرسول صلّى الله عليه وسلّم بشر مثل الناس، وهل يقدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يجلب للناس نفعاً أو ضراً؟
الجواب: لا، كما أمره الله ـ عزّ وجل ـ أن يقول: {{قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا *}} [الجن: 21] ، ومن العجب أن أقواماً لا يزالون موجودين، يتعلقون بالرسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر مما يتعلقون بالله ـ عزّ وجل ـ إذا ذكر الرسول (ص) اقشعرت جلودهم، وإذا ذكر الله كأن لم يُذكر! حتى إن بعضهم يؤثر أن يحلف بالرسول (ص) دون أن يحلف بالله ـ عزّ وجل ـ وحتى إن بعضهم يرى أن زيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أفضل من زيارة الكعبة، ولقد شاهدت أناساً حُجزوا عن المدينة في أيام الحج لقرب وقت الحج، لأنه إذا قرب وقت الحج منعوهم من الذهاب إلى المدينة، لئلاَّ يفوتهم الحج، يبكي! يقول: أنا منعت من الأنوار، ومنعت من كذا وكذا ويعدد ما نسيته الآن، فيقال له: أنت لماذا جئت؟ قال: جئت لمشاهدة الأنوار كأنه ما جاء إلا لزيارة المدينة، ونسي أنه جاء ليؤدي فريضة الحج، وسبب ذلك الجهل؛ وأن العلماء لا يبينون للعامة، وإلاّ فالعامي عنده عاطفة جياشة لو أنه أخبر بالحق لرجع إليه.
{ {يُوحَى إِلَيَّ} } هذا هو الميزة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، أنه يوحى إليه، وغيره لا يوحى إليه، إلاَّ إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
{ {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} } هذه الجملة حصر، كأنه قال: لا إله إلا واحد، واستفدنا أنها للحصر من «إنَّما»؛ لأن كلمة «إنما» من أدوات الحصر، تقول: «إنما زيد قائم» يعني ليس له وصف غير القيام، وتقول: «إنما العلم بالتعلم» وليس هناك طريق للعلم إلاَّ بالتعلم.
{ } أي: يُأمِّل أن يلقى الله ـ عزّ وجل ـ ويؤمن بذلك.
{ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا} } دعوة يسيرة سهلة، أتريد أن تلقى ربك وقلبك مملوء بالرجاء؟ إذا كان كذلك { {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} }. كل إنسان عاقل يرجو لقاء الله ـ عزّ وجل ـ ولقاء الله ـ عزّ وجل ـ ليس ببعيد، قال الله تعالى: { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [العنكبوت: 5] . قال بعض العلماء: إن قوله {{فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ}} بمعنى قولِهم «كل آتٍ قريب».
{ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} } إذا قال قائل: ألستم قررتم أن العمل الصالح، لا بد فيه من إخلاص ومتابعة؟ قلنا: بلى، لكنه لما كان الإخلاص ذا أهمية عظيمة ذكره تخصيصاً بعد دخوله ضمن قوله: { {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا} }.
وتأمل قوله: { {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ} } ليتبين لك أنه جلَّ وعلا حقيق بأن لا يشرَك به؛ لأنه الرب الخالق المالك المدبر لجميع المخلوقات، إننا نقول بقلوبنا وألسنتنا: «ربنا الله» ونسأل الله تعالى الاستقامة حتى ندخل في قوله تعالى:
{{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *}} [فصلت: 30] .
والحمد لله الذي وفقنا لإكمال هذه السورة، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

--------------------------
ـ[1] رواه مسلم: كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قَدَرِ الله سبحانه وتعالى...، (8)، (1).
ـ[2] أخرجه الإمام أحمد (4273) وغيره وأصله في الصحيحين.
ـ[3] متفق عليه. البخاري: كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، (834). مسلم: كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، (2705)، (48).
ـ[4] أخرجه الإمام أحمد (2447) وغيره وصححه الألباني (الطحاوية، 401).
ـ[5] قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذَرٍّ حينَ غَرَبَت الشمس: أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مُغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *}}. البخاري: كتاب: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر، (3199).
ـ[6] عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أَمْسَكَ كَلْباً يَنْقُصُ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ إِلاَّ كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ». متفق عليه. البخاري: كتاب: الحرث والمزارعة، باب: اقتناء الكلب للحرث، (2322). مسلم: كتاب المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسفه، وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ما شبه ونحو ذلك، (1575)، (59). وورد في الصحيحين أيضاً: «أو كَلْبَ صَيْد». انظر المصدرين السابقين. م(58).
ـ[7] البخاري: كتاب: الزكاة، باب: زكاة الغنم، (1454) وغيره.
ـ[8] عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَعْطَاهُ دِينَاراً يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيعِهِ وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ. رواه البخاري: كتاب المناقب: باب... (3642) وغيره.
ـ[9] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مِنْ أَيْن هذَا؟» قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عِنْدَ ذَلِكَ: «أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا لاَ تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ». متفق عليه. البخاري: كتاب: الوكالة، باب: إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود، (2312). مسلم: كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل، (1594)، (96). واللفظ للبخاري.
ـ[10] متفق عليه. البخاري: كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في البيعة. (435، 436). مسلم: كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، (531)، (22).
ـ[11] ورد هذا في السير في رواية لمحمد بن إسحاق، انظر: «السيرة النبوية» (1/25 ـ 266) لابن هشام، وانظر تفسير ابن كثير (3/99)، والقرطبي (10/346 وما بعدها) في سبب نزول السورة.
ـ[12] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «قَالَ سُلَيْمَانُ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلٍ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ إِنْ شَاء الله فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ الله فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعاً، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاء الله لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله فَرْسَاناً أَجْمَعُونَ». متفق عليه. البخاري: كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم، (6639). مسلم: كتاب الأيمان، باب: الاستثناء. (1654)، (25). واللفظ للبخاري.
ـ[13] متفق عليه. البخاري: كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، ولا يعيد إلا تلك الصلاة، (597) لكنه اقتصر على النسيان دون النوم، مسلم: كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، (684)، (315)، إلا أنه قدم النسيان على النوم.
ـ[14] متفق عليه. البخاري: كتاب البيوع، باب: كم يجوز الخيار، (2108). مسلم: كتاب: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان، (1532)، (47).
ـ[15] لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنْ الأرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ». رواه مسلم: كتاب: المساواة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. (1610)، (137). وأصله عند البخاري: كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين (3198). وغيره.
ـ[16] رواه الإمام أحمد (24195) والنسائي: كتاب: الطلاق، باب: الظهار، (3490). وابن ماجه: كتاب: المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، (188). وكلهم بأتم مما ذكر في البخاري. ولفظهم أن عائشة رضي الله عنها قالت: الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ فَأَنْزَلَ اللهُ: {{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}} إلى آخر الآية.
ـ[17] هذا الأثر مشهور عن الإمام مالك رحمه الله تعالى: [انظر الشفا للقاضي عياض ج2 ص: 87 ـ 88].
ـ[18] عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}} قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ». قَالَ: {{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}} قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ». قال: {{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}}. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ». رواه البخاري: كتاب: التفسير، باب: {{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}} الآية. (4628).
ـ[19] رواه مسلم: كتاب: البر والصلة والأداب، باب: النهي عن ضرب الوجه، (2610)، (115). والبخاري: كتاب: العتق، باب: إذا ضرب العبدَ فليجتنب الوجه، (2559) مقتصراً على الجملة الأولى. وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوجْهَ فَإِنَّ الله خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» . وفي الصحيحين: البخاري: كتاب: الاستئذان، باب: بدء السلام، (6227). مسلم: كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير، (2841)، (28). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «خَلَقَ الله آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً» .
ـ[20] رواه البخاري: كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، (4246). ومسلم: كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، وصفاتهم وأزواجهم، (2834)، (14) وغيرهما.
ـ[21] رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (رقم 517). وابن خزيمة في «التوحيد» (رقم 41). والبيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 640). والدارقطني في «الصفات» (رقم 48). وغيرهم. وصححه ابن راهويه وأحمد كما في «فتح الباري» (5/183) وأعله ابن خزيمة (1/87) بهذا اللفظ. وانتصر شيخ الإسلام ابن تيمية لتصحيح ابن راهويه وأحمد.
ـ[22] متفق عليه. البخاري: كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، (3072). مسلم: كتاب: الجنة، وصفة نعيمها وأهلها، باب:... (2824)، (2، 3).
ـ[23] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنعم الله عزّ وجل على عبدٍ نعمةً في أهل ومال وولدِ، فيقول: ما شاء الله، لا قوة إلاَّ بالله، فيرى فيها آفة دون الموت، وقرأ: {{وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}}». أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (5376 إتحاف الخيرة) والبيهقي في «شعب الإيمان» (4060) والطبراني في «الأوسط» (4273) و«الصغير» (588) وغيرهم.
ـ[24] متفق عليه. البخاري: كتاب: المظالم، باب: قول الله تعالى: {{أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}}، (2441). مسلم: كتاب: التوبة، باب: قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله، (2768)، (52).
ـ[25] متفق عليه. البخاري: كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {}، (3349). مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة، (2860)، (58).
ـ[26] رواه مسلم: كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، (2577)، (55).
ـ[27] قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ، مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم». رواه مسلم:كتاب الزهد والرقائق، باب: في أحاديث متفرقة، (2996)، (60). وغيره.
ـ[28] قالَ الله تعالى مخاطباً إبليس حين استكبَر عن طاعةِ أمرِ الله بالسجودِ لآدمَ بعد أن خلقَهُ تعالى بيده: {{قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}}. وَقَدْ جاء في الصحيحين وغيرهما كما في حديث محاجة آدم لموسى عليهما السلام قول موسى: «أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ...» رواه مسلم: كتاب القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليهم السلام، (2652)، (15) وغيره. وفي حديث الشفاعة: «يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده...» رواه البخاري: كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله عزّ وجل: {{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}}، (3340). ومسلم: كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (194)، (327) وغيرهما.
ـ[29] جاء في حديث محاجة آدم لموسى عليه السلام أن آدم قال لموسى: «أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاكَ الله بِكَلاَمِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ...». وفي رواية «كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ...» أخرجه مسلم: كتاب: القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام، (2652)، (13).
ـ[30] كما في حديث الشفاعة الطويل، وفيه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أولُ الرُّسل إلى أهل الأرض». متفق عليه واللفظ للبخاري: كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله عزّ وجل: {{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}}، (3340). مسلم: كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة منها. (194)، (327).
ـ[31] أخرجهُ الإمام أحمد في «المسند» (5/178)، وأبو داود الطيالسي (1/65)،وابن حبان في «صحيحه» (رقم 361) من حديث أبي ذَر قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّل؟ قَالَ: آدَمُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وَنَبِيٌّ كَان؟ قَال: نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلّمٌ. وصححه الألباني في «المشكاة».
ـ[32] رواه ابن ماجه: كتاب: الطهارة وسننها، باب: ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، (497)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
ـ[33] متفق عليه. البخاري: كتاب: التهجد، باب: تحريض النبي صلّى الله عليه وسلّم على قيام الليل...، (127). مسلم: كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، (775)، (206).
ـ[34] رواه مسلم وغيره. سبق تخريجه ص(39).
ـ[35] قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك...» رواه أحمد (رقم 17141) وابن ماجه في «المقدمة»، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، (42). وابن أبي عاصم في «السنة» (1/27) وصححه الألباني.
ـ[36] رواه مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، (2889)، (19) وغيره.
ـ[37] المكتل: شبه الزِّنبيل الذي يحمل فيه التمر أو العنب، يسع خمسة عشر صاعاً (انظر مختار الصحاح، 328، ولسان العرب، ج11 كتل).
ـ[38] متفق عليه. البخاري: كتاب: العلم، باب: ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم أن يكل العلم إلى الله، (122). مسلم: كتاب الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام، (2380)، (170)..
ـ[39] متفق عليه. انظر تخريج الحديث السابق ص(91).
ـ[40] رواه مسلم: كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، (1631)، (14) وغيره.
ـ[41] متفق عليه. البخاري: كتاب: بدء الوحي، باب:... (7). مسلم: كتاب: الجهاد والسير، باب: كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، (1773)، (74).
ـ[42] متفق عليه. البخاري: كتاب: الأدب، باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، (6018). مسلم: كتاب الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان، (47)، (75).
ـ[43] متفق عليه. البخاري: كتاب: الزكاة، باب: خرص التمر، (1481). مسلم: الحج، باب: أُحد جبل يحبنا ونحبه، (1392)، (503).
ـ[44] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَلاَ إِنَّ الفِتْنَةَ هَاهُنَا يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ». البخاري: كتاب: المناقب، باب:.... (3511). مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: الفتنة من الشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان، (2905)، (49).
ـ[45] متفق عليه. البخاري: كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، (3273). مسلم: كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، (828)، (290).
ـ[46] رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، (181)، (297، 298) وغيره ولفظه: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئاً أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّض وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ. قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عزّ وجل. وزاد في رواية: ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَة: {{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}}.
ـ[47] رواه مسلم وغيره. سبق تخريجه ص(84) حاشية رقم (2).
ـ[48] رواه البخاري: كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، (3348). وما بين معكوفتين إحدى رواياته.
ومسلم: كتاب الإيمان، باب: قوله: «يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين»، (222)، (379). وما قوله في الحديث: «أبشروا إنكم...» إلخ.
فرواه الترمذي (3169) وغيره في حديث طويل من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه نحو حديث أبي سعيد السابق. الترمذي: كتاب: تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، (3169).
ـ[49] متفق عليه. البخاري: كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، (3346). مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: اقتراب الفتنة، وفتح ردم يأجوج ومأجوج، (2880)، (2).
ـ[50] جزء من حديث طويل رواه مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (2937)، (110) وغيره.
ـ[51] رواه مسلم: كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (770)، (200) وغيره.
ـ[52] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْماً. قَالَ: أَبَيْتُ قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْراً قَالَ: أَبَيْتُ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ: أَبَيْتُ قَالَ: ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنْ الإنْسَانِ شَيْءٌ إِلاَّ يَبْلَى إِلاَّ عَظْماً وَاحِداً، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». متفق عليه. البخاري: كتاب: التفسير، باب: {{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا *}}، (4935). مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، (2955).
ـ[53] رواه مسلم: كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله، (2985)، (46) وغيره.
ـ[54] أخرجه مسلم، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، (1718)، (17).
ـ[55] رواه البخاري: كتاب: الجهاد والسير، باب: درجات


 

رد مع اقتباس
قديم 20-06-2019, 05:24 PM   #18


البرنسيسه فاتنة غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4429
 تاريخ التسجيل :  3 - 2 - 2014
 أخر زيارة : 15-07-2023 (04:13 PM)
 المشاركات : 1,072,269 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Jordan
لوني المفضل : red
افتراضي



جزاك المولى الجنه
وكتب الله لك اجر هذه الحروف
كجبل احد حسنات
وجعله المولى شاهداً لك لا عليك
دمتِم بسعاده لاتغادر روحكم


 

رد مع اقتباس
قديم 20-06-2019, 06:45 PM   #19


باربي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7407
 تاريخ التسجيل :  25 - 9 - 2016
 أخر زيارة : 27-05-2022 (07:28 PM)
 المشاركات : 183,002 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Jordan
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~
بالانـاا أنا فخــورهـ
وانانيتــي تأبى الوقوف عند تأثير الريااحـ

لوني المفضل : Hotpink
افتراضي





 

رد مع اقتباس
قديم 20-06-2019, 07:39 PM   #20


الاداره غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1
 تاريخ التسجيل :  3 - 2 - 2010
 أخر زيارة : 10-01-2025 (11:26 AM)
 المشاركات : 895,824 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Crimson
افتراضي



جزآك الله جنةٍ عَرضها آلسَموآت وَ الأرض
بآرك الله فيك على الطَرح القيم
في ميزآن حسناتك ان شاء الله ,,
آسأل الله أن يَرزقـك فسيح آلجنات !!
وجَعل مااقدمت في مَيزانْ حسَناتك
وعَمر آلله قلبك بآآآلايمَآآنْ
علىَ طرحَك آالمحمَل بنفحآتٍ إيمآنيهِ
دمت بـِ طآعَة الله .


 

رد مع اقتباس
قديم 20-06-2019, 08:35 PM   #21


البرنس مديح ال قطب متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5942
 تاريخ التسجيل :  16 - 3 - 2015
 أخر زيارة : يوم أمس (01:19 PM)
 المشاركات : 877,793 [ + ]
 التقييم :  2147483647
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


سبحان الله وبحمدة
سبحان الله العظيم
لوني المفضل : Darkorange
افتراضي



هلا وغلا
اخوتى الغوالي
ال همسات الغلا
وتر في قيثارة العذوبه هو اسمكم
نغم من الاحساس الغامر هو مروركم
لاحروف تصف سروري
بوجودكم الدائم هنا
فتقبلوا حرف يتعثر خجلا
ويردد شكرا
لكم تحياتي وفائق شكرى
يسلمواااااااااااااااا


القيصر العاشق
البــ مديح ال قطب ــــــرنس


 

رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الكهف , تفسيرها , سورة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
علمتني سورة الكهف امجد (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 11 15-02-2018 10:11 PM
علمتني سورة الكهف Kassab ( همســـــات الإسلامي ) 14 13-02-2015 09:42 PM
كهف أصحاب الكهف والرقيم نجوى العراق ( همســـــات الإسلامي ) 15 08-09-2014 03:21 AM
تفسير سورة الكهف وسبب نزولها... قطرات احزان (همسات القرآن الكريم وتفسيره ) 24 12-06-2014 01:51 PM
أحاَديث ذكر فيهاَ فضل يوم الجمعهـ مواجع (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الانبياء والصحابه ) 40 21-03-2014 04:33 PM

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML

الساعة الآن 10:11 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010