24-03-2019, 11:02 PM | #8 |
| الشرط السادس العمل بها ومن شروط صحة شهادة التوحيد العمل بها وبمتطلباتها ظاهراً وباطناً، وهو الغاية منها ومن نزولها على الأنبياء والرسل، كما قال تعالى وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( البينة:5. وقال تعالى ومـا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ( الذاريات:56. أي ليوحدون .. فمن أبطل العمل بالتوحيد كشرط لصحته أبطل الدين وأمات روحه، وأبطل حق الله على العبيد، والغاية التي لأجلها خلق الله الخلق وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( الأنبياء:25. وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ( النحل:36. هذه الآيات وغيرها تفيد حصر مهام وغاية الرسل جميعاً في تحقيق التوحيد حق الله تعالى على العبيد، وكأنهم ليس لهم مهمة سوى تحقيق ذلك، كما قال الصحابي ربعي بن عامر t لطاغوت فارس عندما استجوبه عن الغاية من انبعاثهم وغزوهم لدياره: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن سجن الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ! وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره عن معاذ بن جبل t قال: كنت رديف النبي r على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يُعذب من لا يُشرك به شيئاً " قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال:" لا تبشرهم فيتكلوا " متفق عليه. فحق الله على العبيد أن يعبدوه ظاهراً وباطناً ولا يُشركوا به شيئاً ظاهراً وباطناً، وهو المراد من شهادة أن لا إله إلا الله؛ يوضح ذلك الرواية الأخرى عن أنس بن مالك t ومعاذ رديفه على الرحل، قال يا معاذ: ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا ؟ قال:" إذاً يتكلوا " متفق عليه. هذا الحديث قد فسره الحديث الذي قبله وبين المراد من التشهد بالشهادة؛ فقوله r:" ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار "، فسره r في قوله الآخر:" حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً ". لأن في كلا الحديثين ينهى النبي r فيهما معاذاً أن يخبر الناس بما قاله له حتى لا يتكلوا ويتركوا العمل الزائد عن التوحيد .. مما دل أن المراد من الحديث الآخر :" ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله .." ليس المراد مجرد التلفظ بالشهادة من دون تحقيق التوحيد حق الله على العبيد عملاً، وظاهراً وباطناً .. فالأحاديث تفسر بعضها البعض، والإنصاف يقتضي إعمالها جميعاً جنباً إلى جنبٍ من دون إهمال أو ترك شيءٍ منها . ولو كان الأمر ينتهي عند حد القول دون العمل لما امتنع كفار قريش عن إجابة النبي r إلى دعوته، ولأعطوه " لا إله إلا الله " لفظاً مع بقائهم على شركهم وعاداتهم الوثنية، ولاستراحوا وأراحوا، ولما بذلوا أرواحهم وكل ما يملكون مقابل دفع كلمة التوحيد وعدم الاستجابة لها ..! ولكن لما علموا أن من لوازم الإقرار بشهادة التوحيد العمل بها وبمضمونها .. من لوازمه تكسير الأصنام والأوثان واعتزال عبادتها .. والانخلاع كلياً من الشرك وعبادة الأنداد .. من لوازمه تغيير العادات الوثنية الجاهلية المنافية لروح وتعاليم لا إله إلا الله .. من لوازمه أن تتحول الآلهة المزيفة إلى عبيد يتساوون في العبودية لله تعالى مع عبيدهم ومماليكهم .. من لوازمه ذوبان جميع الفوارق بين الناس ..لا فرق بين الشريف والوضيع، ولا بين السيد والمسود .. إلا على أساس التقوى والالتزام بأخلاق وتعاليم هذا الدين الحنيف .. من لوازمه أن ينخلعوا كلياً من أهوائهم وشهواتهم، ومكاسبهم التي كانوا يجنونها من وراء تعبيد العبيد للعبيد .. ويبرؤوا من ذلك كله لله رب العالمين . لما كان الإقرار بالتوحيد من لوازمه حصول جميع ما تقدم ـ ولن يرضى الشارع I بأقل من ذلك ـ قابلوها بهذا الحرب وبهذا العناد والإعراض الذي لم يعرف التاريخ مثيلاً له ..!! ولأجل ذلك كله كذلك بذلوا للنبي r كل غالٍ ونفيس من مالٍ وملكٍ ورياسة، وعرضوا عليه كل ما تستشرفه النفوس وتتمناه مقابل أن يعفيهم من الإقرار والانصياع لشهادة التوحيد لا إله إلا الله .. فأبى النبي r إلا أن يُجيبوه أولاً إلى لا إله إلى الله، إلى التوحيد الخالص وخلع الأنداد والأوثان، راداً عليهم جميع عروضهم وما بذلوه من ترغيب(1) ..!! أبى النبي r أن يقبل منهم شيئاً إلا بعد أن يجيبوه أولاً إلى التوحيد بشموليته: اعتقاداً وقولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً ..! مسألة مما يدخل في الأعمال التي تُعتبر من شروط صحة التوحيد والإيمان الصلاة، حيث لا يصح إيمان المرء إلا بها، فمن تركها فقد نقض التوحيد وخرج من الملة، ووقع في الكفر والشرك، كما في الحديث الصحيح:" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة .. فإذا تركها فقد كفر "، وفي روايةٍ:" فإذا تركها فقد أشرك "، وغيرها كثير من النصوص التي تفيد كفر تارك الصلاة وخروجه من الملة، مع انتفاء النصوص أو القرائن الشرعية الأخرى التي تصرف هذا الحكم عن ظاهره إلى الكفر الأصغر، أو الكفر دون كفر(1) . (1) في هذا تنبيه وتذكير لأولئك الذين يترامون على عتبات الطواغيت يستجدون منهم الفتات والعظام المجردة عن لحومها وشحومها باسم الدين، وباسم تحصيل المصالح للدعوة على حساب أعلى وأجل المصالح ألا وهي مصلحة تحقيق التوحيد فيه تنبيه لأولئك الذين أخروا لا إله إلا الله من أولوياتهم وبرامجهم الحزبية أو الدعوية، وقدموا عليها ـ رهبة أو رغبة ـ الاشتغال بالمندوبات والمباحات، والقيل والقال .. ثم بعد ذلك يحسبون أنفسهم أنهم يُحسنون صنعاً، أو أنهم يسيرون على طريقة ونهج النبي r في الدعوة إلى الله تعالى !! فيه تنبيه لأولئك الذين يقولون للطاغوت كل شيءٍ، إلا أنهم لا يجرؤون أن يأمروه بالتوحيد، ولا أن يذكروه له، فضلاً عن أن يُطالبوه بتحكيمه والانصياع له ..!! مسألة ثانية اعلم أن الإنسان يصير كافراً ـ من جهة ترك الأعمال ـ في حالتين: الحالة الأولى: أن يترك جنس العمل والطاعة، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي ماله، ولا يفعل شيئاً من الطاعات .. فهذا كافر خارج من الإسلام مهما زعم بلسانه أنه مسلم أو من المؤمنين . قال ابن تيمية في الفتاوى 7/209: قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت(2)، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً . إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( . وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله(3) ا-هـ. وقال الإمام الآجري رحمه الله في كتابه أخلاق العلماء: فالأعمال (1) على تفصيل ذكرناه في كتابنا " حكم تارك الصلاة "، وقد رددنا فيه على شبهات وأدلة المخالفين دليلاً دليلاً، وشبهة شبهة .. فلينظره من لم يقنع بما تقدم . (2) وهو أفضل ممن لا يصلي قط ..! (3) من قال هذا فقد كفر بالله ورد على رسوله أمره، فكيف بالذي لا يفعل هذا، وينتفي عنه جنس العمل والطاعة .. لا شك أنه أولى بالكفر والمروق من الدين . بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل ـ لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه، فاعلم ذلك . هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله U وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( (1) . وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/287: لو قُدر أن قوماً قالوا للنبي r: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شكٍّ ونقر بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيءٍ مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدُق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضاً، ونقاتلك مع أعدائك، هل كان النبي r يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويُرجى لكم أن لا يدخل أحد منك النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك ا-هـ . ــــــــــــــــــ (1) عن كتاب ظاهرة الإرجاء للشيخ سفر الحوالي:2/647. فليحذر مرجئة العصر بأي نار هم يلعبون؛ وبأي باطل هم يميدون، وأي قول هم يقولون عندما يخرجون جنس العمل كشرط لصحة الإيمان ..!! ورحم الله الشافعي إذ يقول: لأن أتكلم في علم يُقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أتكلم في علم يُقال لي فيه كفرت ا-هـ . وليحذروا أن يُحمل عليهم قول النبي r:" صنفان من أمتي لا يردان علي الحوض: القدرية، والمرجئة "(1). أعاذنا الله من الكفر والخسران ..! الحالة الثانية: أن يأتي بجنس العمل ولا يُحرم مطلق الطاعات العملية، لكنه يترك العمل بالتوحيد .. فأيضاً هذا كافر خارج من الإسلام، لا ينتفع بشيءٍ من الأعمال والطاعات الأخرى التي قام بها كما تقدم . قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلف شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما ا-هـ . |
|
24-03-2019, 11:04 PM | #9 |
| أَثابَك الْلَّه خَيْر الْثَّوَاب ,, وَلَا حَرَمَك,,اجْر مَاقَدَّمَت وَاجْر مِن اسْتَفَاد مِنْهَا دُمْت بِحِفْظ الْلَّه وَتَوْفِيْقِه,,‘؛ |
|
24-03-2019, 11:05 PM | #10 |
| الشرط السابع المحبة المنافية للكره والبغض من شروط صحة شهادة التوحيد محبتها ومحبة أهلها، وبغض أعدائها وما يضادها من الشرك والتنديد؛ وصفة هذه المحبة أن يكون الله تعالى ورسوله r أحب إليه مما سواهما، وأن يكون الله تعالى وحده هو المحبوب لذاته، وما سواه فهو محبوب له وفيه I ، لا يُحب مع الله أحد وإنما يُحب فيه ولأجله .. وإن أحب المرء شيئاً لا يُحب ما يكرهه الله I، وإن كره شيئاً لا يكره ما يُحبه I وبخاصة التوحيد حق الله تعالى على العبيد . ـــــــــــــــــ (2) أخرجه الطبراني في التهذيب، وابن أبي عاصم في السنة وغيرهما، السلسلة الصحيحة: 2748. فإن وقع المرء في محبة الأنداد والشركاء، وكره ما أنزل الله تعالى على أنبيائه ورسله من التوحيد والدين .. وقع في الشرك والكفر، وخرج من دائرة الإسلام والإيمان، ولا ينفعه ما قدم من طاعات وأعمال . والدليل على ما تقدم، قوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ( البقرة:165. فمن أحب مخلوقاً لذاته بحيث يوالي فيه ويعادي فيه، ويوالي من يواليه ويعادي من يُعاديه ـ بغض النظر عن موافقتهم للحق أو مخالفته ـ فقد اتخذوا هذا المخلوق نداً لله تعالى، ودخلوا في عبادته من دون الله تعالى؛ لأن المحبوب لذاته هو الله تعالى وحده وما سواه يُحب له وفيه .. قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 10/267: لا يجوز أن يُحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالَم إنما يجوز أن يُحب لغيره لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يُحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته ) ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (، فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يُحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده، وكل محبوب سواه لم يُحب لأجله فمحبته فاسدة ا-هـ . وقال ابن القيم رحمه الله في المدارج 1/99: فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته، مع الخضوع له والانقياد لأمره . فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يُحب معه سواه، وإنما يُحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه ا-هـ . وقال تعالى قالوا وهم فيها يختصمون . تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين . إذ نسويكم برب العالمين ( الشعراء:96-98 . فهم إذ كانوا يسوون الأنداد والطواغيت برب العالمين لم يكونوا يسوونهم به I في خاصية القدرة على الخلق أو التصرف في الكون أو الخلق إيجاداً وضراً ونفعاً، فهم أعجز من ذلك بكثير .. وإنما كانوا يسوونهم بالله من جهة الطاعة والمحبة فيحبونهم كحب الله تعالى وأشد، ويقدمون أمرهم وطاعتهم على أمره وطاعته I، فحصلت بذلك تلك المساواة الشركية. قال ابن القيم رحمه الله: ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى التراب برب الأرباب ؟! وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ؟! وقال: هذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية والتعظيم .. ولم تكن تسويتهم لهم بالله في كونهم خلقوا السماوات والأرض أو خلقوهم أوخلقوا آباءهم، وإنما سووهم برب العالمين في الحب لهم كما يُحب الله فإن حقيقة العبادة هي الحب والذل .. ا-هـ . وفي الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان "(1). أي من كان هذا ديدنه وشأنه في جميع شؤونه وتعامله مع الآخرين فقد استكمل التوحيد والإيمان .. فالناس يتفاوتون في الإيمان والتوحيد تبعاً لتفاوتهم في الحب في الله، والبغض في الله وغير ذلك من الطاعات . أما من انتفى عنه مطلق الحب في الله، والبغض في الله .. فقد انتفى عنه مطلق التوحيد، ومطلق العبودية لله تعالى. وقال r:" أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله U "(2). قلت: إذا كان أوثق عرى الإيمان والتوحيد: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله .. فإن مفهوم المخالفة يقتضي أن يكون أوثق عرى الكفر والشرك: الموالاة في المخلوق، والمعاداة في المخلوق، والحب في المخلوق، والبغض في المخلوق .. أيَّاً كان هذا المخلوق، وكانت صفته . وقال r :" لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين "، وفي رواية:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " مسلم . والإيمان لا ينتفي إلا لنوع شرك وعبادة تصرف لغير الله تعالى، ونوع الشرك هنا يكمن في تقديم محبة وطاعة الآخرين على محبة الرسول r وطاعته الذي أمر الله تعالى بمحبته وطاعته لطاعته لله U في كل ما يصدر عنه؛ كما قال تعالى عنه r وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( وهذه ليست لأحدٍ بعده r . (1) أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة:380 . (2) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع الصغير:2539 . وقد صح عنه r أنه قال:" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " مسلم. وذلك أن النبي r لا يأمر إلا بما فيه طاعة لله U، ولا ينهى إلا عما فيه معصية لله U . قال أبو سليمان الخطابي في شرحه لحديث " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولد ه ووالده والناس أجمعين ": معناه لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك ا-هـ . ومن الأدلة كذلك على صحة شرط المحبة للتوحيد، أن انتفاء المحبة من لوازمه حصول ضدها من البغض والكراهية للتوحيد .. وكره أو بغض التوحيد كفر أكبر مخرج لصاحبه من الملة، كما قال تعالى والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ( محمد:8-9. فعلل كفرهم وحبوط أعمالهم ـ ولا يُحبط العمل إلا الكفر والشرك ـ بأنهم كرهوا ما أنزل الله على أنبيائه ورسله من الدين؛ وأعظم ما أنزل الله تعالى على أنبيائه شهادة التوحيد: لا إله إلا الله .. وقال تعالى عن الكافرين وهم يستغيثون في جهنم ولا مغيث ونادَوا يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون . لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ( الزخرف:77-78 . فعلل سبب مكثهم في جهنم أنهم كانوا للحق الذي جاءهم من عند ربهم كارهون؛ وأعظم ما جاءهم من الحق شهادة التوحيد لا إله إلا الله .. فكانوا لها كارهين، فاستحقوا بذلك العذاب والخلود في نار جهنم . وقال تعالى إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ( محمد:25-26. فهؤلاء ارتدوا وكفروا بعد أن ظهر لهم الإيمان ودخلوا فيه بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر مما فيه مُضاهاةٍ وتكذيبٍ لشرع الله تعالى وتوحيده .. فكفروا وارتدوا بسبب مقولتهم هذه ..!! فكيف بمن يقول لهم ـ كحال طواغيت العصر الذين قالوا لليهود والنصارى ـ سنطيعكم في كل الأمر .. ؟! فكيف بالذين يدخلون في طاعة طواغيت الحكم وموالاتهم ـ كحال المتزلفين الذين هان عليهم دينهم ـ ويقولون لهم سنطيعكم في كل الأمر، وفي كل ما يصدر عنكم من تعليمات وأوامر وقوانين تضاهي شرع الله تعالى ..؟! فكيف بالذين كرهوا ما نزل الله تعالى ذاتهم .. ؟! لا شك أنهم أولى بالكفر والارتداد ممن قال للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر وليس كله ..! وعليه فمن يأتي بشهادة التوحيد وهو لها ولأهلها كاره مبغض فهو كافر مرتد، مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار .. لا ينفعه شيء مما قدم من أعمال وطاعات . ـ علامات المحبة الصادقة . سهل على كل أحد وهو متكئ على أريكته أن يدعي حب الله تعالى وحب رسوله r ، وحب التوحيد وأهله .. ولكن هل لهذا الإدعاء من برهان يصدقه أو يكذبه ؟ أقول نعم لكل ادعاء علامات وبراهين تصدقه أو تكذبه، وللمحبة الصادقة لله تعالى ولرسوله r علامات أهمها: 1- حصول المتابعة للنبي r . فمن أصدق علامات المحبة المتابعة لهدي النبي r وسنته؛ حيث كلما كملت المتابعة كلما قويت المحبة لله تعالى، وكلما نقصت المتابعة للنبي r وللشريعة التي جاء بها من عند ربه كلما ضعفت المحبة، فعلى قدر الاتباع والمتابعة تكون المحبة ارتفاعاً وانخفاضاً، ومن زعم المحبة من غير اتباع للنبي r فهو كذاب أشر مهما زعم بلسانه أنه يحب الله ورسولَه . قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( آل عمران:31. قال ابن كثير في التفسير: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ا-هـ . وقال ابن تيمية في الفتاوى 8/360: فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه، كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين ا-هـ . وقال تلميذه ابن القيم في المدارج 1/99: وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل اتباع رسوله علَماً عليها، وشاهداً لمن ادعاها، فقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله (، فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله، وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله r .. ا-هـ . ومن دلالات الآية الكريمة أن من ينتفي عنه مطلق المتابعة الظاهرة لا يكون مؤمناً ولا محباً لله U .. فهي دليل آخر على كفر من ينتفي عنه جنس العمل بالشريعة وإن أتى بالإقرار والتصديق ! 2- إيثار الله ورسوله في حال حصول الاختيار . من العلامات الدالة على المحبة الصادقة إيثار جانب الله تعالى ورسوله في حال حصل له الاختيار بين طاعة الله ورسوله وبين طاعة ما سواهما من الخلق وكل ما يتجاذبه من فتنة الحياة الدنيا .. فإن آثر جانب طاعة الله ورسوله وحبهما على كل ما يتجاذبه من زينة الحياة الدنيا وفتنتها فقد صدق في دعواه للمحبة، وإن آثر الطرف الآخر بكل زينته وفتنته على الله ورسوله وقدم طاعته على طاعتهما، فقد كذب في دعواه المحبة وكان من المشركين . قال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( التوبة:24. فهذه الأشياء من زينة الحياة الدنيا لو جمعت كلها في جانب ـ وهذا ما يقتضيه حرف العطف الوارد في الآية الكريمة ـ فقدمت على طاعة الله ورسوله وعلى حبهما لكان من المشركين الفاسقين الذين خسروا الدنيا والآخرة . قال ابن القيم في المدارج 1/100: دل على أن متابعة الرسول r هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما؛ فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة، ولا يهديه الله، قال الله تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( . فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحدٍ على حكم الله ورسوله، فذلك المقدَّم عنده أحب إليه من الله ورسوله r ا-هـ . 3- البلاء والصبر عليه . فمن علامات الإيمان وصدق المحبة البلاء والصبر عليه كما قال تعالى أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ( العنكبوت:2. أي أحسب الناس أن يدعوا المحبة وأنهم من أهل التوحيد والعبودية الخالصة لله تعالى ثم هم لا يُفتنون ولا يُبتلون في دينهم وفي سبيل نصرة هذه الدعوة .. ليميز منهم الصابر المجاهد الصادق في دعواه أنه من المؤمنين من غيره ممن ينقلب على عقبيه من أول فتنة تنزل في ساحته ! كما قال تعالى ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَا أخبارَكم ( محمد:31. فصبرهم على البلاء هو علامة صادقة على صدق المحبة والعبودية،وصدق الجهاد في سبيل الله .. أما أولئك الذين يزعمون الإيمان والتوحيد ثم هم ينقلبون على أعقابهم لأدنى فتنة تصيبهم، أو تنزل في ساحتهم قال تعالى عنهم فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ( العنكبوت:10. وقال تعالى وإن أصابته مصيبة انقلب على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ( الحج:11. فالمرء يُبتلى على قدر دينه وإيمانه وتوحيده، وصدق محبته فإن قوي إيمانه وصدق في توحيده لله U وحبه له I، اشتد عليه البلاء وصبَّره عليه، كما في الحديث:" يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ". وقال r:" إن الصالحين يُشدد عليهم ..". وقال r:" كما يُضاعف لنا الأجر كذلك يُضاعف علينا البلاء ". لذلك فإن الأنبياء ـ لكمال إيمانهم وصدق عبوديتهم لله U ـ فإنهم أشد الناس بلاءً في الله وصبراً على البلاء، كما في الحديث:" أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل "، وقال r:" ما أوذي أحد ما أوذيت في الله U " . وعن أبي سعيد الخدري أنه دخل على رسول الله r وهو موعوك، وعليه قطيفة فوضع يده عليه، فوجد حرارتها فوق القطيفة، فقال أبو سعيد: ما أشدُّ حُمَّاك يا رسول الله ! قال:" إنا كذلك يشتد علينا البلاء ويُضاعف لنا الأجر ". فقال يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً ؟ قال:" الأنبياء ثم الصالحون ..". وجاء رجل إلى النبي r فقال: والله يا رسول الله إني أحبك، فقال رسول الله r:" إن البلايا أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه "(1). أي توقع البلاء إن كنت صادقاً فيما تقول .. فعلامة حبك لي، أن تُبتلى في الله وتصبر على البلاء ..! وبعد، هذه علامات ودلالات المحبة الصادقة لله تعالى ولرسوله r: الاتباع .. والإيثار .. والبلاء .. فمن عدمها عدم صدق المحبة وصدق التوحيد والعبودية لله U وحده . وإن زعم بلسانه خلاف ذلك، وتشبع بما لم يُعط، وأظهر أنه من المؤمنين ومن الموحدين الذين يحبون الله تعالى ورسوله فواقع حاله ولسان عمله يحكم عليه بكل وضوح وصراحة: أنه من الكاذبين .. وأنه من المنافقين الكافرين ! قلت: وجميع ما تقدم من أحاديث عن البلاء هي صحيحة ولله الحمد . ومن هذه الأحاديث وغيرها نستفيد أن المبتلى في الله تعالى ـ وبخاصة منهم الذين يشتد عليهم البلاء في الله ـ يجب أن توسع في حقهم ساحات التأويل والأعذار في حال وقوعهم في الزلات والأمور المتشابهات .. وأن يُقدم في حقهم تحسين الظن على إساءة الظن بهم .. وهذا خلق سني نبوي شريف حيث كان النبي r إذا وقع أحد من أصحابه في زلة وشبهة مريبة .. أقال عثرته وتأول له، وتذكر له الساحات التي ابتلي فيها في الله U .. لا يا عمر، إنه من أهل بدر .. بينما من لم يُعرف عنه بلاء في الله كانت تضيق في حقه ساحة التأويل والأعذار .. وهذه قاعدة جليلة ينبغي التنبه لها عند الخوض في المسائل الكبار كمسائل الكفر والإيمان . ــــــــــــــــــ (1) أخرجه ابن حبان، السلسلة الصحيحة:1586. |
|
24-03-2019, 11:07 PM | #11 |
| الشرط الثامن الرضى بها والانقياد والتسليم لها لا يكفي العمل بالتوحيد حتى ينضاف إليه الرضى، والانقياد والتسليم ـ الباطن منه والظاهر ـ الذي ينافي مطلق التعقيب أو الاعتراض .. قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً ( النساء:65. لا يكفي لتحقيق الإيمان أن تحتكم إلى التوحيد الذي جاء به النبي r من عند ربه إلا إذا أضفت إليه انتفاء الحرج وحصول الرضى ) ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت (، ثم لا يكفي ذلك كذلك إلا إذا أضفت إليه التسليم المطلق ـ ظاهراً وباطناً ـ الذي يتنافى معه أدنى اعتراض أو تعقيب ) ويُسلموا تسليماً (. قال ابن كثير في التفسير: يُقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكم الرسول r في جميع الأمور، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا مناعة ا-هـ . وقال ابن تيمية في تفسير الآية في كتابه الفتاوى 28/471: فكل من خرج عن سنة رسول الله r وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله r في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة ا-هـ . وقال ابن القيم في التبيان 270: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع، وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض ا-هـ . ويقول سيد في الظلال فلا وربك لا يؤمنون ..( ، ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام، يقرره الله سبحانه بنفسه ويُقسم عليه بذاته، فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ولا تأويل لمؤول، اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام، وإذا كان يكفي لإثبات الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله .. فإنه لا يكفي في الإيمان هذا ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان .. ا-هـ . وقال تعالى ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ( النور:47-48. فهؤلاء أتوا بالقول، ولئن سألتهم ليقولن أمنا بالله وبالرسول وأطعنا .. ولكن في واقع العمل يكذبون هذا الادعاء وهذا القول؛ وذلك إذا دعوا إلى الطاعة عملاً وإلى الاحتكام إلى الله والرسول أعرضوا وأدبروا وولوا .. وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء، وهؤلاء بنص التنزيل وما أولئك بمؤمنين (. قال الطبري في التفسير18/156 وما أولئك بالمؤمنين (؛ وليس قائلوا هذه المقالة، يعني قوله) آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ( بالمؤمنين لتركهم الاحتكام إلى رسول الله r وإعراضهم عنه إذا دعوا إليه ا-هـ . وإذا كان الحكم بغير ما أنزل الله تعالى منه ما يكون كفراً أكبر، ومنه ما يكون كفراً أصغر دون ذلك بحسب صفة الحكم والقرائن المحيطة بكلٍّ منهما .. على تفصيل معروف عند أهل العلم، إلا أن الحكم بغير ما أنزل الله في التوحيد ليس له إلا وجه واحد: وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة والعياذ بالله . قال الشيخ سليمان آل الشيخ رحمهما الله تعالى: تحقيق معنى الآية أن الحكم بغير ما أنزل الله إن كان في الأصل من التوحيد وترك الشرك، أو كان في الفروع ولم يقر اللسان وينقد القلب فهو كفر حقيقي لا إيمان معه ..ا-هـ . وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم . يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ( الحجرات:1-2. إنه الاستسلام المنافي لأدنى تقديم بفهم أو رأي أو قول بين يدي حكم الله تعالى وحكم رسوله .. فمن الله تعالى الرسالة، وعلى رسوله r البلاغ، ومنا القبول والرضى والاستسلام من غير اعتراض ولا تقديم أو تعقيب . وإذا كان رفع الصوت ـ مجرد الصوت ـ فوق صوت النبي r يُخشى على صاحبه أن يحبط عمله، ولا يُحبط العمل إلا الشرك والكفر .. فكيف بمن يرفع حكمه وقوله وقانونه ـ كما هو شأن المشرعين في مجالسهم النيابية التشريعية ـ على حكم وقول وقانون النبي r، ويقدمه عليه .. لا شك أنه أولى بالكفر والشرك، وأن يحبط عمله ! قال ابن القيم رحمه الله في الأعلام 1/51: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون مُحبطاً لأعمالهم ا-هـ . وقال تعالى وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ( الأحزاب:36. فمن لوازم الإيمان وشروطه انتفاء الاختيار على حكم الله تعالى ورسوله .. فإذا نزل حكم الله تعالى ليس لهم أن يختاروا غيره ـ ثم يزعموا أنهم مسلمون ـ إلا في حال آثروا الكفر على الإيمان، وارتضوا لأنفسهم حكم واسم الكافرين المشركين. قال تعالى فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم ( النور:63. والفتنة هنا يُراد منها الشرك والكفر .. قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول r في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ( وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة ؟ الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه . وقيل له: إن قوماً يدَعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ! فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصِحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ! قال الله تعالى فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ( وتدري ما الفتنة ؟ الكفر.قال الله تعالى والفتنة أكبر من القتل (، فيدعون الحديث عن رسول الله r وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي..!(1). قلت: هذا حكم الإمام أحمد فيمن يدع قول النبي r إلى قول سفيان أو غيره من أهل العلم .. فكيف بمن يدع قول النبي r وحكمه إلى قول وحكم الأحبار والرهبان من المشرعين في المجالس النيابية التشريعية وغيرها .. لا شك أنه أولى بالفتنة وفي الوقوع في الزيغ والكفر..! ـــــــــــــــــ (1) عن الصارم المسلول لابن تيمية: 56. |
|
24-03-2019, 11:09 PM | #12 |
| الشرط التاسع الموافاة عليها ثم بعد كل ذلك لا بد له من أن يموت عليها لكي ينتفع بها، فإن مات على ضدها من الشرك والكفر لم تنفعه مجموع الشروط السابقة، أو الطاعات الأخرى .. وذلك أن العبرة بالموافاة وبما يُختم به على المرء؛ فإن ختم له بالتوحيد فهو من أهل الجنة والنجاة مهما كان منه من عمل طالح قبل ذلك، وإن ختم له بالشرك والكفر ومات عليه هلك وهو من أهل النار مهما كان منه من عمل صالح قبل ذلك . قال تعالى ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( البقرة:217. وقال تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، خالدين فيها لا يُخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون ( البقرة:161-162. فعلق I عذابهم في النار وخلودهم فيها بالموت على الكفر المناقض للتوحيد وفي الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " مسلم. فعلق دخول الجنة بالموت على التوحيد .. وقال r:" فوالذي نفسي بيده إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " متفق عليه . وقال r:" لا تعجبوا بعمل أحدٍ حتى تنظروا بما يُختم له، فإن العامل يعمل زماناً من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً، وإن العبد ليعمل زماناً من دهره بعمل سيء لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح، ثم يُقبض عليه "(1). قال النووي رحمه الله: فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة ا-هـ . نسأل الله تعالى الثبات، وأن يثبت قلوبنا على دينه وتوحيده، وأن يُحسن خاتمتنا بأحب الأعمال إليه .. إنه تعالى سميع قريب مجيب . وبعد، فهذه هي شروط صحة التوحيد، فمن وفاها كاملة غير منقوصة نفعته شهادة التوحيد، ومن أنقص منها شيئاً لم تنفعه شهادة التوحيد في شيء . ومبدأ التوفيق والأخذ بمجموع النصوص ذات العلاقة بالموضوع يلزمنا هذا ما يقتضيه مبدأ النظر والأخذ بمجموع النصوص ذات العلاقة بشهادة التوحيد لا إله إلا الله . ـــــــــــــــــ (1) أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة:1334. بأن نقول: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله، وكان عالماً بشهادة التوحيد ومتطلباتها، وصادقاً مخلصاً بها، مستيقناً غير شاك فيها، ومحباً لها ولأهلها، وعاملاً بها وبمقتضياتها، منقاداً لها ولحكمها، ثم بعد كل ذلك مات عليها .. إلا أدخله الله الجنة . ـ تنبيهات هامة وضرورية . تتمة للفائدة، وتوضيحاً لما قد يُشكل على القارئ فهمه، نشير إلى التنبيهات الضرورية التالية: ـ التنبيه الأول: أن ما تقدم من شروط لشهادة التوحيد لا إله إلا الله، هي شروط لا بد من استيفائها وتحققها لانتفاع صاحبها منها في الآخرة، وحتى يكون من أهل الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة، أما في الحياة الدنيا لكي تُجرى على المرء أحكام الإسلام ويُعامل معاملة المسلمين .. يكفي له أن يقر بشهادة التوحيد لفظاً، وأن لا يأتي بما يضادها من الأقوال والأعمال الظاهرة الكفرية والشركية . فإن وفَّى بهذين الشرطين فقط عومل معاملة المسلمين، وجرت عليه أحكامهم وحقوقهم وواجباتهم . وهذا لا يستلزم أن يكون مؤمناً على الحقيقة لاحتمال وجود النفاق .. فليس كل مسلم هو مؤمن على الحقيقة، ولكن كل مؤمنٍ على الحقيقة هو مسلم، وهذه قاعدة سنية معروفة دلت عليها نصوص الشريعة، وتناولها أهـل العلم بالشرح والتفصيل. ـ التنبيه الثاني: ما تقدم يحملنا على أن نشير إلى الفارق بين ما يدخل به المرء الإسلام، وبين الوصف الذي به يستمر له حكم الإسلام . أما ما يدخل به الإسلام هو إقراره بشهادة التوحيد على تفصيل قد تقدم، أما الوصف الذي يجب أن يستمر عليه لكي يبقى في دائرة الإسلام هو أن لا يأتي بالأعمال والأقوال الظاهرة التي تؤدي به إلى الخروج من دائرة الإسلام، فإن فعل وأتى بما يناقض الإسلام ينتقل وصفه وحكمه إلى وصف وحكم المرتد عن الدين حيث تُجرى عليه أحكامه وتبعاته . فإن قيل: رجل دخل الإسلام بشهادة التوحيد، ثم مات قبل أن يتمكن من فعل أي شيء مما يُعتبر شرطاً لصحة التوحيد .. فهل شهادة أن لا إله إلا الله تنفعه يوم القيامة بمفردها ؟ أقول: قد دلت السنة ـ ولله الحمد ـ أن من كان هذا وصفه، فإنه ينتفع بشهادة التوحيد، وإن لم تتح له الفرصة على أن يعمل شيئاً من شروط صحة التوحيد، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن رجلاً من الأنصار جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، ثم تقدم فقاتل حتى قُتل، فقال النبي r:" عمل يسيراً وأجر كثيراً " . وفي رواية عند البخاري: أتى النبي r رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله أقاتل أو أُسلم ؟ قال:" أسلم ثم قاتل "، فأسلم ثم قاتل، فقال رسول الله r:" عمل قليلاً وأجر كثيراً ". وفي صحيح البخاري عن أنس t أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي r وضوءه، ويُناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي r فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي r:" يا فلان قل لا إله إلا الله ". فنظر إلى أبيه، فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي r، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم . فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فخرج النبي r وهو يقول:" الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ". وفي حديث تلقين النبي r شهادة التوحيد لعمه أبي طالب وهو يحتضر، لكي يتشفع له بها يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح:" كلمة أُحاج لك بها عند الله U .. " ، هو كذلك مما يُستدل به في المسألة . قال ابن جرير الطبري في الجامع 3/345: لا خلاف بين جميع الحجة في أن كافراً لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة وسائـر الأحكام غيرهما، فكان معلوماً بذلك أن توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام ا-هـ . قلت: هذه الطرفة عين التي ذكرها الطبري رحمه الله يجب أن تُحمل على أنها قبل الغرغرة والمعاينة؛ لأن التوبة عند الغرغرة لا تنفع صاحبها في شيء، لقوله r:" إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر "(1) . وفي رواية:" من تاب إلى الله قبل أن يغرغرَ، قبل الله منه "(2). ـ التنبيه الثالث: ليس من شروط صحة التوحيد حفظ شروط صحة التوحيد الآنفة الذكر، أو حفظ الأدلة عليها .. فهذا من وجه لم يُشرع (1) أخرجه أحمد والترمذي، وابن ماجه وغيرهم، صحيح الجامع:1903. (2) أخرجه الحاكم وغيره، صحيح الجامع:6132. وإنما شُرع خلافه، ومن وجه آخر فيه تكليف لعموم العباد ما هو فوق الطاقة والمقدور . أخرج مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم t قال: كانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبل أحدٍ والجوانيه، فاطلعت ذات يومٍ، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً، فأتيت رسول الله r فعظَّم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها ؟ قال:" ائتني بها " فأتيته بها، فقال لها:" أين الله ؟ " قالت: في السماء، قال:" من أنا ؟ ". قالت أنت رسول الله . قال :" أعتقها فإنها مؤمنة ". فحكم لها r بالإيمان بهذا القدر من الأسئلة من دون أن يخوض معها في مسائل الأصول وتفريعاته، ويطالبها بالاستدلال على ذلك..! وفي سنن أبي داود عن عبد الله ابن أبي أوفى، قال: جاء رجل إلى النبي r فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يُجزئني منه، قال:" قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله " . قال: يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي ؟ قال:" قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني " فلما قام، قال هكذا بيده، فقال رسول الله r:" أما هذا فقد ملأ يدَه من الخير "(3). فهذا الصحابي لم يتمكن من حفظ شيءٍ من القرآن؛ حتى الفاتحة التي لا تصح الصلاة إلا بها فإنه لم يحفظها، لكن لعجزه وعدم استطاعته في أن يحفظ شيئاً عذره النبي r ودله على البديل الأسهل عليه، ولم يقل له لا بد من أن (3) صحيح سنن أبي داود: 742. تحفظ الفاتحة .. فضلاً عن أن يطالبه بحفظ الأصول والأدلة عليها !! بل نجد أن النبي r قد أنكر على خالد استعجاله في قتل أولئك النفر الذين لم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا ـ بدلاً من ذلك ـ صبأنا، كما في صحيح البخاري عن سالم عن أبيه قال: بعث النبي r خالد بن الوليد إلى بني حذيفة، فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا .. صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره! فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره ! فذكرنا ذلك إلى النبي r فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد .. اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد .. مرتين "! وفي ذلك تنبيه لخطأ الغلاة المكفرة الذين يحملون الآخرين على أن يذكروا أصولهم وتقريراتهم وشذوذاتهم بأدلتها .. ومن لم يجبهم إلى ذلك فهو عندهم ليس بمؤمنٍ، وحكم الكفر يلحق به مباشرة ..!! فالمرء عندهم ليس بمؤمنٍ حتى يجيبهم أولاً على أكثر من مائة سؤال: ماذا تقول في كذا .. وما حكم كذا .. وما معنى كذا .. وما هي شروط كذا .. إلى آخر القائمة التي قد يعجز عن الإجابة عليها بأدلتها أهل العلم والفقه !! قال ابن حجر في الفتح 13/439، نقلاً عن الغزالي رحمه الله: أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرِّف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين !! ا-هـ . وقال ابن حزم رحمه الله في المحلى 1/61: لم يزل رسول الله r مذ بعثه الله U إلى أن قبضه يقاتل الناس حتى يقروا بالإسلام ويلتزموه، ولم يكلفهم استدلالاً، ولا سألهم هل استدلوا أم لا، وعلى هذا جرى جميع الإسلام إلى اليوم ا-هـ . ـ التنبيه الرابع: إن قيل إذا كان لا يجب عليه حفظ شروط التوحيد، ولا تقريره بها .. كيف يُعرف أنه قد وفَّى حقَّ لا إله إلا الله وأتى بشروطها، وكيف تكون صفة إحيائه لتلك الشروط التي لا يصح الإيمان إلا بها ..؟! أقول: أولاً لا يلزم ولا يشترط أن يعرف عنه العباد التزامه بتلك الشروط، ومدى التزامه بها، وهل حققها في نفسه على الوجه المطلوب أم لا ..فهذا بينه وبين ربه I، لا دخل للعباد فيه، وليس من حقهم أن يستجوبوه أو يحققوا معه في ذلك . لكن إن أظهر لهم من الأقوال أو الأعمال ما يدل على مناقضته لشروط التوحيـد أو بعضها .. حينئذٍ يكون قد عرف عن نفسه بنفسه بأنه لم يأتِ بالتوحيد المطلوب، أو أنه جاهـل به .. وبذلك يكون قد جعل للآخرين عليه سلطاناً في أن يأمروه بالمعروف وينهوه عن المنكر .. ويزجروه ـ بالقوة إن أمكن ـ إن لم ينزجر بالنصح والتي هي أحسن . أما صفة التزامه بتلك الشروط كيف تكون .. ؟ أقول: يكفيه أن يلتزم بها في واقع حياته، وأن لا يأتي بضدها من الكفر والشرك .. فهو يبغض الطواغيت ويعاديهم في الله، ويقاتلهم .. ولكن قد لا يحسن أن يقول لك من شروط صحة التوحيد الكفر بالطاغوت، وصفة الكفر بالطاغوت تكون بالاعتقاد والقول والعمل وبحسب التفصيل المتقدم ..! وهو كذلك يحب في الله ويبغض في الله .. ويتوجه في العبادة لله وحده .. يفعل ذلك كله من دون أن يحسن التعبير عنها، ويذكرها كشروط وبالتسلسل كما ذكرناها من قبل .. ! وربما لو ذكرت بعض شروط التوحيد أمامه على وجه التفصيل .. لقال لك: هكذا أنا .. كأنك تتكلم عما في نفسي .. لكني لا أحسن دندنتك، ولا سردك وصفك للكلام(1) ! ـ التنبيه الخامس: قد يُقال إن من أهل العلم من عدَّ للتوحيد شروطاً ثمانية، ومنهم من حصرها في سبعة شروط .. فكيف عددتها تسعة شروط ؟! أقول: لا تنافي بين تلك الأقوال ولله الحمد، وبيان ذلك: أن من عدها سبعة شروط أو ثمانية .. فهو يضمن شرطين في شرطٍ واحدٍ؛ كقول أحدهم: العمل بالتوحيد شرط لصحته، ولم يذكر شرط الكفر بالطاغوت منفرداً لدخوله في العمل بالتوحيد .. فكل من عمل بالتوحيد لزمه الكفر بالطاغوت، وليس كل من كفر بالطاغوت لزمه العمل بمطلق التوحيد . وبعضهم ـ كالشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبناءه رحمهم الله ـ ذكروه كشرط مستقل، لدلالة النصوص عليه، ولبيان أهميته .. كما يُذكر خاص من عام لبيان أهميته، وللضرورة التي تقتضي مثل هذا التفصيل . ـــــــــــــــــ (1) ذُكر لي أن رجلاً من عوام المسلمين يمتهن صناعة الأحذية، وكان ماهراً جداً في مهنته، وكان يحب النبي r كثيراً، ويكثر من الصلاة عليه .. ومرة أخذ يتنهد ويتحسر لو أنه قد رأى النبي r .. فقيل له: ماذا كنت فاعلاً .. ؟ قال ببراءة العامي البسيط: كنت سأصنع للنبي r أجمل حذاءٍ في العالم ..!! هذا هو أسلوبه .. وهذه هي بيئته .. وكل له طريقته في التعبير عن حبه للرسول r ..!! كذلك شرط انتفاء الشك وحصول اليقين .. أحياناً يُذكر على أنه شرطان: انتفاء الشك شرط .. وحصول اليقين شرط ثانٍ، ولا تنافي بين الحالتين ولله الحمد لتضمنهما نفس المعنى والدلالة .. وإن اختلفا في العدد، فهذا الاختلاف لا يؤثر ولا قيمة له . إلا أن شرط الموافاة على التوحيد لم أقف على قول عالم ذكره ضمن شروط صحة التوحيد .. لكنهم جميعهم ـ ومن دون مخالف ـ ذكروه مستقلاً، وأنه شرط للنجاة وصحة التوحيد النافع يوم القيامة .. لدلالة النصوص العديدة على ذلك، وقد تقدم ذكر بعضها . لأجل ذلك ذكرناه من ضمن شروط صحة التوحيد الآنفة الذكر ..! هذا وجه من أوجه الجواب، ووجه آخر أن الشرط يُعرف بدلالة النصوص الشرعية عليه فإذا وردت النصوص الدالة عليه تعيَّن القول به ولا بد، وإن غفل عن ذكره بعض أهل العلم ولم يعدوه من ضمن الشروط التي ذكروها .. فالحجة تقوم بالدليل الشرعي لا فيما قد غفل عن ذكره أهل العلم، والله تعالى أعلم . ـ التنبيه السادس: يوجد فرق بين شروط صحة آحاد الأعمال الشرعية، وبين شروط صحة مجموع الأعمال والدين . فما تقدم ذكره عن شروط لا إله إلا الله .. هي شروط لصحة مجموع الدين والأعمال، أما شروط صحة آحاد الأعمال التعبدية فهي تنحصر في شرطين: أحدهما المتابعة والموافقة لهدي وسنة النبي r فيما يتعبد به .. فإذا جاءت العبادة بخلاف المشروع والمسنون لا تُقبل، وهي رد على صاحبها، كما في الحديث الصحيح:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" متفق عليه. وقال r:" كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " . وقال r:" صلوا كما رأيتموني أصلي " . وقال r:" خذوا مناسككم عني " وغيرها من الأدلة التي تفيد وجوب الاتباع وحرمة وبطلان الابتداع . ولأن العبادة الأصل فيها الحظر والمنع ما لم يرد فيها نص يُفيد الإباحة والجواز، أو الوجوب . الثاني: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى، لا يشوبه الشرك أو المراءاة، فإن جاء العمل موافقاً للسنة لكنه ابتغي به غير وجه الله تعالى، أو أحداً آخر مع الله .. رُدَّ العمل ولم يُقبل، كما في الحديث قال رسول الله r:" قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركه " مسلم . وفي رواية:" فأنا منه بريء وهو للذي أشرك " . ومن الأدلة الجامعة للشرطين قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً ( الكهف:110. قال أهل العلم والتفسير: العمل الصالح هو ما وافق السنة .. ) ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً ( هو إخلاص العبادة لله U . ـ التنبيه السابع: قد يتوهم البعض أن شهادة أن لا إله إلا الله ترفع السيف عن قائلها أياً كان قائلها، وكانت صفته وحالته، معتمدين في ذلك على قصة أسامة بن زيد t لما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله، وإنكار النبي r الشديد عليه . كما في صحيح مسلم عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله r في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرت للنبي r فقال رسول الله r:" أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟!! "، قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال:" أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟!" فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ . وفي الصحيح كذلك، عن المقداد بن الأسود أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله r: لا تقتله، قال: فقلت يا رسول الله إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله ؟ قال رسول الله r: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال فقوله r" فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال " أي إنه يصير بقوله للشهادة معصوم الدم مثلك قبل أن تقتله، وأنت تصبح مباح الدم مثله قبل أن يقول كلمة التوحيد لوجوب القصاص عليك . ولا يُفهم من قوله r:" وإنك بمنزلته .." أي تصير بمنزلته في الكفر كما فهم ذلك بعض الغلاة، فهذا بعيد ولا يصح. فإن قيل علام لم يقتل النبي r أسامة بذاك الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله..؟! أقول: لأن أسامة كان متأولاً وجاهلاً للحكم فأقال ذلك عثرته، بينما المقداد بعد أن سأل النبي r وأجابه النبي r على سؤاله ..لم يعد يُعذر بالجهل أو التأويل، لذلك قال له في المرة الثانية وبعد أن أجابه على سؤاله:" إنك ـ إن فعلت ـ بمنزلته قبل أن يقول كلمته " . هذه النصوص وغيرها تفيد أن الكافر المحارب لو قال لا إله إلا الله في أجواء القتال أو غيرها .. رُفع عنه السيف وعصم دمه وماله . قال ابن تيمية في الصارم: ولا خلاف بين المسلمين أن الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف وهو مطلق أو مقيد يصح إسلامه وتقبل توبته من الكفر، وإن كانت دلالة الحال تقتضي أن باطنه خلاف ظاهره ا-هـ . لكن ما تقدم هل يلزم منه أن كلمة التوحيد ترفع عن قائلها السيف، أياً كان قائلها وكانت صفته، وكان ذنبه ..؟! أقول: لا يلزم ذلك .. ولبيان ذلك يتعين علينا ذكر الحالات التي لا يُرفع فيها السيف عمن يقول لا إله إلا الله . ـ الحالة الأولى: المرتد ردة مغلظة . وهو الذي يتبع ردته حرباً لله ولرسوله وللمؤمنين، فيزداد بذلك كفراً على كفر .. فمثل هذا لا تقبل توبته بعد القدرة عليه، ولا يُستتاب، ولو تاب وجهر بلا إله إلا الله لا يُقبل منه ولا يرتفع عنه السيف وحد القتل . قال تعالى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ( آل عمران:90. قال ابن تيمية في الصارم: أخبر سبحانه أن من ازداد كفراً بعد إيمانه لن تقبل توبته، وفرق بين الكفر المزيد كفراً والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول، فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف القرآن ا-هـ . وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك t أن رهطاً من عُكل ثمانية قدموا على النبي r، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أبغنا رِسْلاً، قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود، فانطلقوا فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم . فأتى الصريخ النبيَّ r، فبعث الطلب، فما ترجل النهار حتى أُتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يُسقون حتى ماتوا ". فعل بهم ذلك لأنهم أتبعوا ردتهم القتل، والنهب للأموال العامة للمسلمين .. فازدادوا بذلك كفراً . وعند البخاري كذلك عن أنس بن مالك t أن رسول الله r دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:" اقتلوه ". وقوله " متعلق بأستار الكعبة " أي تائباً يطلب الأمان .. ومع ذلك لم يُستتب ولم ينفعه ذلك في شيء، ولم ينفعه الأمان العام الذي أعطاه النبي r لأهل مكة، وبخاصة منهم من دخل المسجد الحرام .. بسبب أنه ارتد عن الإسلام، وضم إلى ردته القتل والشتم للرسول r، والتحاقه بالمشركين ..! وكذلك فُعل بمقيس بن ضبابة، وابن سرح وغيرهم لما ضموا إلى ردتهم الحرب على لله وعلى رسوله والمؤمنين . قال ابن تيمية في الفتاوى 20/103: يُفرق في المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابة ا-هـ . أما إن تاب قبل القدرة عليه، وجاء تائباً مستسلماً من تلقاء نفسه فالراجح أن توبته تقبل لقوله تعالى إنما جزاء الذين يُحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ( المائدة:33-34. فاستثنى الله تعالى مما تقدم التائب قبل القدرة عليه .. قال ابن تيمية في الصارم: إن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القـدرة وبعدها، لأن الحدود إذا رُفعت إلى السلطان وجبت ولم يكن العفو عنها ولا الشفاعة، بخلاف ماقبل الرفع، ولأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار، والتوبة بعد القدرة توبة إكراه واضطرار، بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق، وتوبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس، وتوبة من حضر الموت، فقال: إني تبت الآن فلم يُعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب، ولأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقط الحد لتعطلت الحدود وانبثق سدّ الفساد ا-هـ . فإن قيل: التوبة قبل القدرة تُسقط حق الله وحق العباد معاً، أم أنه يوجد تفصيل وتفريق ؟ أقول: الراجح من مجموع الأقوال الموافق لأدلة الشريعة أن المحارب إذا كان محارباً على وجه الردة، فتوبته قبل القدرة عليه تسقط حقوق الله وحقوق الآدميين معاً؛ وهذا ما جرت عليه سنة أبي بكر t ومن معه من الصحابة مع أهل الردة الذين أعلنوا توبتهم وإيابهم إلى الحق والسمع والطاعة، وعندما أراد أبو بكر أن يأخذ منهم الفدية عن قتلى المسلمين، قال له عمر t: إنهم ـ أي قتلى المسلمين ـ قاتلوا في سبيل الله وأجرهم على الله .. فامتنع أن يأخذ منهم الفدية، وعلى هذا جرى العمل بين الصحابة . أما إذا كان المحارب مسلماً ـ لكنه يقوم بعمل الحرابة والسطو وقطع الطريق ـ ثم تاب قبل القدرة عليه، فتوبته تسقط عنه حق الله وهو حد الحرابة دون حقوق الآدميين، فإن عليه القصاص وأداء الحقوق إلى أصحابها؛ فإن قتل يُقتل، وإن سلب المال أعاده إلى أصحابه إلا أن يعفوا عنه .. هذه إجابة مختصرة وتفصيلها له موضع آخر إن شاء الله . ـ الحالة الثانية: الزنديق . الزنديق: هو المنافق الذي يُظهر كفره، فإن قامت عليه البينة القاطعة واستتيب أنكر وجحد . والراجح في الزنديق أنه يُقتل من غير استتابة ـ مهما تظاهر بالإسلام وقال لا إله إلا الله ـ لأن الاستتابة تكون من شيء، والزنديق لا يعترف بشيء فمما يُستتاب ..؟! قال تعالى قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ( التوبة:52. قال ابن تيمية في الصارم: قال أهل التفسير ) أو بأيدينا ( بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم، ولو كان المنافق يجب قبول ما يُظهر من التوبة بعدما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكن أن يُتربص بهم أن يُصيبهم الله تعالى بعذابٍ من عنده بأيدينا؛ لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة ..! ولأنه لو قبلت علانيتهم دائماً مع ثبوت ضدها لم يمكن إلى الجهاد على النفاق سبيل، فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذٍ ينفعه لم يمكن جهاده ا-هـ . وقال ابن القيم في زاد المعاد: وها هنا قاعدة يجب التنبه عليها لعموم الحاجة إليها وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهر لم يُعارضه ما هو أقوى منه فيجب العمل به لأنه مقتضى لحقن الدم والمعارض منتفٍ، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره ـ بعد القدرة عليه ـ للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية .. ويا لله العجب! كيف يُقاوم دليل إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة، وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع، مع استهانته بحرمات الله واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الأدلة ؟! ولا ينبغي لعالم قط أن يتوقف في قتل مثل هذا، ولا تُترك الأدلة القطعية لظاهرٍ قد تبين عدم دلالته وبطلانه . وقال: ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه، قوله تعالى قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا ( قال السلف في الآية: أو بأيدينا؛ أي بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنون من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل، فلو قبلت توبتهم بعدما ظهرت زندقتهم لم يكن المؤمنين أن يتربصوا بالزنادقة أن يُصيبهم الله بأيديهم، لأنهم كلما أرادوا أن يُعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يُصابوا بأيديهم قط ا-هـ . ـ الحالة الثالثة: شاتم الرسول r . من كانت ردته من جهة شتم النبي r فإنه يُقتل كفراً وحداً ومن دون أن يُستتاب؛ فإن تاب من الكفر ـ وصدق في توبته ـ بقي عليه حد الشتم، وحد الأنبياء القتل ولا بد؛ إذ لا يحق لأحدٍ أن يتشفع في حق هو ليس له، وإنما هو خاص بالنبي r . قال ابن تيمية في الصارم: المرتد يستتاب من الردة، ورسول الله r وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه، فعُلم أن كفره أغلظ، فيكون تعيين قتله أولى .. إن قتل ساب النبي r، وإن كان قتل كافراً، فهو حد من الحدود ليس قتلاً على مجرد الكفر والحراب، لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن أن النبي r وأصحابه أمروا فيه بالقتل عيناً .. وقد ثبت أن حده القتل بالسنة والإجماع ا-هـ. هذا مختصر مفيد فمن لم يقنع به وأراد التفصيل مع ذكر الأدلة مفصلة فليراجع كتابنا " تنبيه الغافلين إلى حكم شاتم الله والدين "، فإن لم يقنع به وأراد المزيد فعليه بالكتاب العظيم " الصارم المسلول على شاتم الرسول " لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد أفاد وأجاد رحمه الله . ـ الحالة الرابعة: فيمن يجب عليه حد القتل . فمن وجب عليه القتل لوقوعه في جريمة القتل بغير حق ونحو ذلك .. فإنه يُقتل حداً من حدود الله إلا أن يعفوا أولياء المقتول، وشاهدنا هنا: أن الجاني لو قال لا إله إلا الله قبل أن يُقتل فإنها لا ترفع عنه حكم القتل ولا السيف . وبعد، هذه بعض الحالات التي لا يرفع فيها السيف عن صاحبها وإن أتى بشهادة التوحيد: لا إله إلا الله قبل القتل .. أردنا الإشارة إليها على وجه الإيجاز لكي لا يلتبس الأمر على القارئ، فيحمل حديث أسامة بن زيد الآنف الذكر على جميع الحالات والأشخاص فيضل .. والله تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل. ـ مثل شهادة التوحيد في القرآن الكريم . قبل أن نودع القارئ الكريم .. نعود به ثانيةً إلى الحديث عن لا إله إلا الله .. وعن فضلها .. وعن مثَلها كما جاء في القرآن الكريم . قال تعالى ألم ترَ كيف ضرب اللهُ مثلاً كلمةً طيبةً كشجرة طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعُها في السماء تؤتي أُكلها كُلَّ حينٍ بإذن ربها ويضربُ الله الأمثالَ للناسِ لعلَّهم يتذكرون ( إبراهيم:24. وهو مثل ضربه الله تعالى للعباد ليستمعوه، ويفقهوه، ويتأملوه، ويعملوا بدلالاته ومراميه .. ومن الدلالات الذي أفاده هذا المثل العظيم الذي ضربه الله تعالى للعباد عن شهادة التوحيد: 1- طيب العطاء .. فكما أن هذه الشجرة الطيبة لا تعطي إلا طيباً .. فهي طيبة في ثمارها .. طيبة في ظلها وأوراقها .. طيبة في رونقها وما تضفيه من جمالٍ بديع على الطبيعة والكون .. كذلك الكلمة الطيبة .. كلمة التوحيد فهي لا تعطي ولا تجني على صاحبها وعلى الوجود كله إلا طيباً وخيراً .. خير الدنيا والآخرة . بل هي التي تعطي للحياة معنى وقيمة .. فالدنيا من دون لا إله إلا الله لا قيمة لها ولا غاية شريفة .. وهي قاحلة مظلمة جدباء وإن بدت للعيان المغشي عليها غير ذلك ! 2- وكما أن هذه الشجرة ثابتة ضاربة الجذور في الأرض وفي التاريخ لا يؤثر فيها الريح ولا العواصف .. ولا الزمن ولا الأيام .. بل الأيام لا تزيدها إلا ثباتاً ورسوخاً وعمقاً وشموخا .. كذلك كلمة التوحيد فهي ضاربة الجذور في قلب المؤمن الموحد .. أما من حيث الزمن والتاريخ فهي موجودة قبل الوجود .. يُغذي زرعها في الأرض الأنبياء والرسل والمجاهدون بالعرق والدم والجهاد، وبكل غالٍ ونفيس . 3- على قدر الثبات وعمق الجذور يكون العطاء ويكون الشموخ في السماء .. فكلما امتدت جذور الشجرة الطيبة في الأرض وتمكنت من شعابها وشروخها كلما كانت أقدر على امتصاص الغذاء والماء .. وكلما كان عطاؤها أوفر وأطيب وأجمل وأظهر شموخاً وارتفاعاً .. فطيب الثمر الذي يظهر للعيان، وكذلك هذا الشموخ للفروع والغصون هو من طيب الغذاء والتربة والماء ..! كذلك شهادة التوحيد .. فعلى قدر ثباتها وعمق جذورها في قلب المؤمن تظهر آثارها وفروعها على جوارحه ويكون العطاء .. تظهر في صورة انقياد البدن كله إلى الطاعة والعبادة وامتثال تعاليم الشريعة الغراء . فكلما تمكنت شهادة التوحيد من قلب المؤمن وتشعبت جذورها في قلبه إلى أن تستحوذ عليه من كل جوانبه وأطرافه .. كلما كان العطاء أكمل على فروع البدن والجوارح . وكذلك عندما يضعف التوحيد في القلب، ويصعب عليه التمدد في جميع أنحاء القلب وتشعباته ـ بسبب المعاصي والذنوب ـ يكون عطاؤه على الجوارح ضعيفاً .. إلى أن يبلغ بأحدهم ـ لضعف التوحيد في القلب ـ أن لا يعمل من الخير إلا ما يزن ذرة أو نحوها، كما جاء ذلك في الحديث . فالعطاء وانقياد الجوارح يزيد وينقص، يقوى ويضعف بحسب قـوة وضعف التوحيد في القلب ..! من هذا الدليل وغيره نص أهل العلم على أن الإيمان يزيد وينقص، يقوى ويضعف .. بحسب ما تمده من الأعمال، فإن غذيته ومددته بالطاعات قوي الإيمان وازداد، وإن غذيته بالمعاصي والذنوب ضعف الإيمان وذبل بحسب ما تمده به ..! 4- فكما أن ثمار وفروع الشجرة تتأثر سلباً وإيجاباً بعمق وثبات الجذور في الأرض، كذلك الجذور الضاربة في الأرض فهي تتأثر بما يطرأ على الفروع والغصون وبما تمدها به .. فلو حُبست الشمس عن الغصون والأوراق، وكذلك لو حُبس عنها الماء أو الهواء .. نرى أن الجذور في الأرض تتأثر مباشرة بما قد طرأ على قسمها الظاهر منها، فتضعف وتذبل . ثم تأمل لو أن هذه الشجرة غُذيت بمياه المجاري وبالمياه الملوثة كيف أن طعم ثمارها يتغير ويسيء .. والعكس كذلك لو غذيت بالمياه النظيفة والأغذية النافعة .. ولم يُمنع عنها الماء والهواء .. ترى كيف أن طعم ثمارها يتغير إلى الأطيب والأفضل .. وكيف أن جذورها تزداد قوة وعافية وثباتا . كذلك التوحيد والإيمان في القلب فإنه يؤثر ويتأثر، يؤثر بالجوارح الظاهرة بحسب قوته وضعفه كما تقدم، كذلك فإنه يتأثر من هذه الجوارح بحسب ما تمده به من أعمال .. فإن أمدته بالطاعات والأعمال الحسنة قوي الإيمان والتوحيد في القلب، وإن أمدته بالمعاصي والذنوب ضعف الإيمان وذبل بحسب ما تمده به الجوارح .. فهو يؤثر بالجوارح ويتأثر منها . وهو المراد من القاعدة السُّنية التي دلت عليها نصوص الشريعة التي تشير إلى علاقة الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر . كما في قوله r:" ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله، ألا وهي القلب " البخاري. وقال r:" إن العبد إذا أخطأ خطيئة ـ وفي رواية: إذا أذنب ذنباً ـ نُكتت في قلبه نُكتةٌ سوداء، فإذا نزَعَ واستغفر وتاب سُقِلَ قلبه، وإن عاد زيدَ فيها حتى تعلو قلبَه، وهو الران الذي ذكر الله ) كلاَّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ((1). وقال r:" تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلبٍ أشربها نُكتت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلبٍ أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء .." مسلم . فتأمل كيف أن القلب يؤثر بالجوارح كما في حديث البخاري المتقدم، وكيف أنه يتأثر بأي ذنبٍ ترتكبه الجوارح الظاهرة كما في الحديثين الآخرين . وهذا يدل على فساد عقيدة أهل التجهم والإرجاء حيث يتصورون إمكانية أن تسير الجوارح الظاهرة في اتجاه .. والقلب في اتجاه آخر .. الجوارح تمارس الكفر البواح .. والباطن مطمئن بالإيمان .. ظاهر كافر وباطن مؤمن ..! لذا فإن الكفر عندهم هو شيء واحد هو كفر القلب وتكذيبه أو ما يدل دلالة صريحة ـ كالتعبير بالقول ـ على كفره وتكذيبه ..! وهذا قول خبيث باطل مردود عليه بصريح المنقول والمعقول .. ولأهل العلم كلام غليظ على هذا المذهب الضال وعلى أهله وأنصاره، ذكرناه في مواضع أخرى من أبحاثنا . ــــــــــــــ (1) صحيح سنن الترمذي:2654 . 5- كذلك من خصائص هذه الشجرة الطيبة المباركة التي ضُربت مثلاً للتوحيد .. أنها دائمة العطاء على مدار الساعة والزمن .. فهي ليست كبقية الأشجار موسمية العطاء تُعطي في فصل ويتوقف عطاؤها في بقية الفصول .. بل عطاؤها مستمر على مدار الفصول، والأيام والساعات .. ) تؤتي أُكلها كل حينٍ بإذن ربها .. ( . وهكذا شهادة التوحيد لا إله إلا الله .. فهي دائمة العطاء والخير لصاحبها على مدار الوقت .. فهي ليست كبقية العبادات كالصلاة أو الصوم، أو الحج، أو الزكاة عطاؤها محصور في وقت معين، وزمن محدد .. لا ! بل هي معه في الحل والترحال .. معه في السلم والحرب .. في الولاء والبراء .. في العزلة والخلطة .. وهو في عمله أو بيته أو أي مكان آخر .. توجهه وترشده إلى صواب القول والمواقف .. فهو حركاته وسكناته كلها مضبوطة وموجهة بموجه شهادة التوحيد .. لا إله إلا الله ! يُحسن ما تُحسنه لا إله إلا الله .. ويُقبح ما تُقبحه لا إله إلا الله .. يوالي فيها ويُعادي عليها .. فهي بذلك تكون كما وصف ربنا Y تؤتي أكلها كلَّ حينٍ بإذن ربها ..( وليس في حين دون حين ! جميع هذه المعاني ينبغي أن نتذكرها ونتدبرها كلما مررنا على تلاوة هذه الآية الكريمة .. ووقفنا على هذا المثل العظيم الذي ضُرب لشهادة التوحيد، وهو المراد من قوله تعالى ويضرب الله الأمثال للناس لعلَّهم يتذكرون (. |
|
24-03-2019, 11:11 PM | #13 |
| معنى لا إله إلا الله لا إله إلا الله تعني: أن لا مألوه ولا معبود بحق في الوجود إلا الله تعالى .. فهي تقوم على ركنين أساسيين: ركن يتضمن جانب النفي المطلق لوجود الآلهة التي تستحق أن تُعبد في شيء، وهو المراد من الشطر الأول من الشهادة " لا إله .." . وركن آخر يتضمن جانب الإثبات؛ إثبات أن المعبود بحق هو الله تعالى وحده، وهو المراد من الشطر الثاني من الشهادة " إلا الله .." . نفي أعقبه استثناء " إلا .." يُفيد غاية الحصر والقصر على أن المعبود بحق هو الله تعالى وحده لا شريك له . وهذا التعريف نسجل عليه الملاحظات والتعليقات التالية: 1- من أتى بجانب النفي من الشهادة دون جانب الإثبات لا يكون مؤمناً، ومن أتى بجانب الإثبات دون جانب النفي لا يكون مؤمناً كذلك، ولا يكون المرء مؤمناً حتى يأتي بالركنين معاً: النفي والإثبات اعتقاداً، وقولاً، وعملاً ظاهراً وباطناً. كما قال تعالى عن أصحاب الكهف وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ..( الكهف:16. فهم أتوا بالركنين معاً: اعتزال المشركين وما يعبدون من طواغيت وآلهة مزيفة كاذبة .. إلا الله فهم لم يعتزلوا عبادته I لأنه الإله الأوحد المستحق للعبادة، الذي يجب أن تُصرف له الطاعة والعبادة . وكذلك قال تعالى عن نبيه إبراهيم u وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ( الزخرف:26-27. وقال تعالى أفرأيتم ما كنتم تعبدون . أنتم وآباؤكم الأقدمون . فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ( الشعراء:75-77. فهو u يُعلن عداوته واعتزاله لجميع الآلهة التي تعبد إلا الله تعالى المعبود بحق فإنه داخل في عبادته وموالاته وحده . وهذه الآيات وغيرها تفيد أن المشركين من قبل كانوا يعبدون الله تعالى ولكن كانوا يُشركونه في العبادة مع آلهة أخرى .. لذا لو جاء البراء مطلقاً مما يعبدون من دون استثناء الخالق I المستحق للعبادة لعم البراء من جميع ما يعبدون: الله تعالى .. والآلهة الأخرى ! 2- قولنا " بحق " لتخرج بهذا الضابط الهام الآلهة الكاذبة التي تُعبد من دون الله بغير وجه حق عن وصفها وكونها آلهة تستحق أن تُعبد .. فهي إذ تُعبد من دون الله تعالى؛ تُعبد كآلهة مزيفة لا تستحق أن يُصرف إليها شيء مما يدخل في معنى العبادة، لأنها لا تملك حقيقة الخصائص والصفات التي ترقى بها إلى مستوى الألوهية والتي لأجلها يجوز أن تُصرف إليها العبادة من دون أو مع الله تعالى . وبالتالي فإن قيل: يوجد في الوجود آلهة وطواغيت تُعبد من دون الله تعالى ..؟! نقول لهم: توجد آلهة لكنها لا تملك خصائص وصفات الإلهية .. وبالتالي هي إذ تُعبد تُعبد بالباطل وبغير حق، وشهادة التوحيد لا تنفي مطلق الآلهة من الوجود، وإنما تنفي مطلق الآلهة التي تستحق وصف الإلهية، التي تستحق أن تُعبد من دون ـ أو مع ـ الله تعالى . فالشطر الأول من شهادة التوحيد لا إله .. أي لا إله بحق إلا الله .. فهو الإله الحق الذي يملك خصائص وصفات الإلهية، والذي يستحق أن يُعبد وحده لا شريك له، والذي يجب على العباد أن تصرف إليه I جميع ما يدخل في معنى العبادة الشرعية . 3- بهذا التعريف والتفسير لشهادة التوحيد ندرك فساد من يُعرِّف ـ وما أكثرهم في زماننا ـ شهادة التوحيد ويُفسرها بتوحيد الربوبية فقط؛ كقولهم معناها: لا خالق ولا ضار ولا نافع، ولا رازق، ولا مميت، ولا محيي، ولا مالك إلا الله I ..! وهذا المعنى وإن كان حقاً من جهة أن الله تعالى هو المتصف بجميع ما تقدم، إلا أنه ليس هو المعنى المراد وحده من شهادة التوحيد لا إله إلا الله ..! بل هذا المعنى كان المشركون من قبل يقرون به، ولا يُخالفون عليه الأنبياء، وإنما خالفوهم في الإله المستحق للعبادة، حيث صرفوا العبادة لآلهتهم وطواغيتهم وأصنامهم من دون الله تعالى مع علمهم وإقرارهم أن الخالق والمالك والضار والنافع هو الله وحده ..! لأجل ذلك كانوا كفاراً ومشركين، استحقوا الجهاد والقتال من قِبل الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم . كما قال تعالى:] ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله [ لقمان:25. وقال تعالى:] قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون [ المؤمنون:84-85 . ومع ذلك كانوا مشركين من جهة صرف العبادة لغير الله تعالى. وعليه من أتى بشهادة التوحيد وأراد منها هذا الجانب فقط لا يكون قد شهد شهادة التوحيد بحق كما أمر الله ورسوله r ، والتي تنفعه يوم القيامة .. وهو لا شك من المشركين . 4- شهادة التوحيد لا إله إلا الله تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات (1) . ــــــــــــــ (1) زعم المشاغبون من أهل الإرجاء أن دعاة التوحيد في هذا الزمان قد أتوا بقسم رابع للتوحيد ما سبقهم إليه أحد، وأسموه توحيد الحاكمية ..!! أقول: هذا افتراء وظلم له ما بعده .. أرد عليه من أوجه: منها: أن هذا النوع من التوحيد المسمى بتوحيد الحاكمية حق لا يصح إيمان ودين المرء إلا به، ومعناه إفراد الله تعالى وحده في الحكم والتشريع؛ فله تعالى الحكم القدري والشرعي لا يُشركه في ذلك أحد من خلقه، فكما أن الخلق والتدبير كله لله، كذلك فإن الحكم والأمر كله لله تعالى .. وهذا المعنى قد دلت عليه كثير من نصوص الشريعة، كقوله تعالى إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( . وقال تعالى ولا يُشرك في حكمه أحداً ( . وقال تعالى والله يحكم لا معقب لحكمه ( . وقال تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماًً لقومٍ يوقنون ( . وقال تعالى إن الله يحكم ما يريد ( . وقال تعالى وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله ( . وقال تعالى وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ( . وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ( . وفي الحديث فقد صح عن النبي r أنه قال:" إن الله هو الحكَمُ، وإليه الحكم ". وغيرها كثير من النصوص الشرعية التي تدل على هذا النوع من التوحيد .. فمن رده رد الإيمان كله، ولزمه أن يرد جميع هذه النصوص المتقدمة الذكر وغيرها . ومنها: أن ما تقدم لا يعني ولا يستلزم اعتبار توحيد الحاكمية قسم رابع إضافة إلى أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة، ولا أحد يقول بهذا .. وإنما الجميع يُدرجونه في توحيد الإلهية، ومنه ما يدخل في توحيد الربوبية، ومنه ما يدخل في توحيد الأسماء والصفات .. ولكن لما كثر الشرك في الأمة من جهة حكمها بغير ما أنزل الله، واحتكامها إلى شرائع الطاغوت .. تعين تنبيه العباد إلى هذا النوع من التوحيد وتخصيصه بالذكر . وهو كقول القائل للناس عليكم بتوحيد الطلب والدعاء، أو توحيد المحبة والطاعة، أو توحيد التذلل والخضوع لله U وغير ذلك .. عندما يجد الناس قد وقعوا في الشرك والتفريط من جهة هذه الأشياء . فهذا قول حق، وكتب أهل العلم مليئة بمثل هذه الاطلاقات والتعابير .. ولكن لا أحد يقول: قد أتوا بتوحيد رابع أو خامس أو سادس .. فأقوالهم لا تخرج عن كونها مستمدة من أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة، والذي حملهم على هذا التفصيل والتخصيص في الذكر هو لبيان الأهمية، ولحاجة الناس إلى ذلك، ومثل هذا لا ضير فيه إن شاء الله . كثير من الناس في هذا الزمان لو قلت لهم: عليكم بتوحيد الألوهية لا يعرفون ما تعني وما تريد منهم .. مما يحملك أن تفصل لهم وتقول: عليكم بتوحيد الدعاء والطلب والقصد .. عليكم بتوحيد المحبة .. فالمحبوب لذاته هو الله تعالى وحده لا سواه .. عليكم بتوحيد الطاعة .. وهكذا كذلك توحيد الحاكمية، وجعل الحكم لله وحده عندما تجد الناس قد انصرفوا عن الحكم بشرع الله تعالى إلى الحكم بشرائع الكفر والطاغوت ..! ومنها: إذا عرفت ما تقدم عرفت أنه لا مبرر لذلك الشغب الكبير الذي يثيره أهل الإرجاء في هذا العصر .. سوى أنهم يريدون أن يُقللوا من أهمية هذا النوع من التوحيد والإيمان، ليصرفوا الناس عنه ! وهم يريدون أن يقولوا للناس كذلك: أن هذا الإجرام الذي يمارسه طواغيت الحكم من جهة حكمهم بغير ما أنزل الله، واستبدالهم لشرع الله تعالى بشرائع الكفر .. لا يُناقض التوحيد، ولا دخل له في العقيدة لأنه لا يندرج تحت أي قسم من أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة، كما أنه لا يوجد شيء اسمه توحيد الحاكمية .. وبالتالي لا يجوز أن نرميهم بالكفر أو الخروج عن الدين !! فهم لا يريدون من وراء هذه الإثارة الجدال العلمي أو معرفة الحق .. وإنما أرادوا بذلك أن يجادلوا عن الطواغيت، ويقللوا من إجرامهم، ويُزينوا حالهم وحكمهم الباطل في أعين الناس .. وبخاصة أن أكثر هؤلاء الذين يثيرون الشغب حول هذه المسائل تجدهم إن فقدتهم جالسين على عتبات الطواغيت ينتظرون الفتات والعظام أن تُرمى لهم ..! ومما يُذكر في هذا المجال أنني ابتليت مرة بمجالسة أحد هؤلاء .. وكان مما قلت وحذرت منه: شرك القصور .. فما كان من جليسنا إلا أن انبرى معترضاً وقائلاً: من أين أتيت بهذا الشرك .. شرك القصور .. وما الدليل عليه .. نحن نعرف فقط شرك القبور .. لم نسمع من مشايخنا من حدثنا عن شرك القصور ..؟! فقلت له: ومن أين لك الدليل على شرك القبور ..؟! فقال: لما عبد الناس القبور من جهة الدعاء والتبرك والاستغاثة .. وهذا شرك .. فتعين تنبيه الناس من شرك القبور . فقلت له: قولك حق .. ولكن قل في القصور ما قلته في القبور ..! قال: ومن أين تُعبد القصور حتى نقول فيها ما قلناه في القبور ..؟ فقلت له: القصور تُعبد من دون الله من جهة احتكام العباد إلى ما يصدر عنها وعن ساكنيها من الطواغيت من أحكام وتشريعات تضاهي وتضاد شرع الله تعالى ..! وهي تعبد كذلك من جهة طاعة ساكنيها من الطواغيت لذواتهم في كل ما يصدر عنهم من أوامر وتعليمات .. بغض النظر عن مدى موافقتها للحق أو مخالفتها له . وهي تُعبد كذلك من جهة موالاتها وموالاة ساكنيها من الطواغيت والذود عنهم وعن سياساتهم وأنظمتهم الباطلة حتى الممات ..! فتأمل هذه الكلمات والعبارات التي ألفنا سماعها من القوم ومن وسائل إعلامهم: حراس القصر .. جنود القصر .. خدام القصر .. تقديم الطاعة والولاء للقصر .. سياسة القصر .. هذا ما صدر عن القصر .. أمن وسلامة القصر .. ميزانية القصر .. وغيرها من العبارات التي لو دققت فيها لوجدت الشرك يفوح من كل كلمة من كلماتها بل وكل حرف من أحرفها ! وهي تُعبد كذلك من جهة الخوف والخشية منها ومن ساكنيها من الطواغيت .. فكثير من الناس يخشون القصور أكثر مما يخشون القبور !! وهي تعبد كذلك عندما تتعلق بها القلوب المريضة .. تستشرف وتنتظر ما يُرمى إليها من عطاء أو فُتات .. !! = 5- مما يُلفت النظر في هذا الزمان .. أن كثيراً من الناس ـ ومنهم بعض الطواغيت ـ قد حفظوا التعريف السابق لشهادة التوحيد، حتى ما إن تسأل أحدهم عن معنى شهادة التوحيد إلا ويجيبك بسرعة ومن دون أدنى تلكؤ أو تردد: لا معبود بحق إلا الله ..!! يأتون بهذا التعريف الصحيح من دون أن يعرفوا دلالاته ومعانيه، وما يترتب عليه من التزامات وتبعات ..!! يأتون بهذا التعريف .. وهم بنفس الوقت يعبدون ويوالون آلهة أخرى مع الله تعالى !! يأتون بهذا التعريف .. وهم أنفسهم يكونون آلهة مع الله أو من دونه !! يأتون بهذا التعريف باللفظ فقط .. ليسلموا من مؤاخذة الآخرين لهم، وحتى لا يصفوهم بالجهل وعدم علمهم بالتوحيد !! وهؤلاء مثلهم مثل من يأتي بشهادة التوحيد وهو لا يعلم معناها .. أو من يأتي بها وهو لا يلتزم بشيء من لوازمها ومتطلباتها !! وهؤلاء لا ينتفعون بشيءٍ من شهادة التوحيد ولا من حفظهم لتعريفها، وهم لا يسلمون من المؤاخذة والمساءلة في الدنيا ولا في الآخرة ..! - معنى الشرط . الشرط: عرف الأصوليون الشرط بأنه هو ما يتوقف وجود الشيء فهذه وجميع ما تقدم هو من العبادة، وهو من الشرك عندما يُصرف لغير الله تعالى .. فبهت المرجئ وما نطق !! على وجوده، ولا يلزم من وجوده وجود الشيء، لكن يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء . فشهادة التوحيد من شروطها مثلاً: النطق والإقرار؛ لا تتحقق ولا تصح لا إله إلا الله إلا به، ولا يلزم من وجوده منفرداً ـ من دون بقية الشروط والأركان ـ وجود وتحقق لا إله إلا الله، ولكن عدم وجود هذا الشرط وغيابه يستلزم غياب وانتفاء لا إله إلا الله كلياً . وهكذا بقية شروط لا إله إلا الله ـ التي سنأتي على ذكرها بالتفصيل إن شاء الله ـ فوجودها شرط لصحة التوحيد، وشرط لوجوده إذا انتفى واحد منها انتفت معه لا إله إلا الله مباشرة، وانتفى الانتفاع بها، ولكن وجود هذا الشرط منفرداً لا يستلزم ولا يُفيد تحقق ووجود لا إله إلا الله .. ولتحققها وتحقق الانتفاع بها لا بد من استيفاء جميع شروطها وأركانها من دون انتقاص شيءٍ منها . وإليك الآن الحديث مفصلاً عن شروط لا إله إلا الله .. وهو ما دعوناك لأجله في هذا المبحث الهام . |
|
24-03-2019, 11:14 PM | #14 |
| كلمات كتبت ـ عن لا إله إلا الله ـ بمداد من العرق والدم، علقت صاحبها على أعواد مشانق الطواغيت، للشيخ الشهيد ـ نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله ـ سيد قطب رحمه الله، اقتبسناها من كتابه القيم النافع " الظلال " وغيره .. عسى الله أن يهدي بها من ضل سواء السبيل ممن يحسبون أنهم على شيء أو يُحسنون صنعاً، إنه تعالى على ما يشاء قدير. قال رحمه الله: كل من ينطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا يُقال له إنه شهد إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلهاً، ومن ثمّ لا يتلقى الشريعة إلا من الله.. ولن يكون الإسلام إذن هو النطق بالشهادتين دون أن يتبع شهادة أن لا إله إلا الله معناها وحقيقتها؛ وهي توحيد الألوهية وتوحيد القوامة، ثم توحيد العبودية وتوحيد الاتجاه .. هذا هو الإسلام كما يريده الله، ولا عبرة بالإسلام كما تريده أهواء البشرية في جيل منكود من أجيال الناس، ولا كما تصوره رغائب أعدائه المتربصين به وعملائهم هنا وهناك ) ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ( . وأي تعديل في هذا المنهج ـ ودعك من العدول عنه ـ هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة، يُخرج صاحبه من هذا الدين، ولو قال باللسان ألف مرة: أنه من المسلمين ..! والإسلام منهج للحياة كلها من اتبعه فهو مؤمن وفي دين الله، ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله، وخرج من دين الله مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم، فاتباعه شريعة غير شريعة الله يكذب زعمه ويدفعه بالخروج من دين الله ..! ) وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ( .. إن من أطاع بشراً في شريعة من عند نفسه ولو في جزئية صغيرة فإنما هو مشرك، وإن كان في الأصل مسلماً ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضاً، مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه، بينما هو يتلقى من غير الله ويطيع غير الله ..! المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم، إنها تتمثل في وجود أقوامٍ من الناس من سلالات المسلمين في أوطانٍ كانت في يومٍ من الأيام داراً للإسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته ثم إذا هذه الأرض وهذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقةً وتعلنه اسماً، وإذ هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً، وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً، فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله .. وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا الكون المتصرف فيه، وأن الله وحده هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله، وأن الله وحده هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله .. وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله بهذا المدلول، فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد(1) كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه، وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله بهذا المدلول فهي أرض لم تدن بدبين الله ولم تدخل في الإسلام بعد . ــــــــــــــــــ (1) لعل مراده أن يقول: هو يدخل بها الإسلام، لكنه لم يدخل الإسلام على الحقيقة التي تنفعه والتي يريدها الشارع منه .. وهو يدخل بها الإسلام لكن لا يستمر له وصفه وحكمه إن لم يأت بمدلولها ومقتضاها الآنف الذكر، والله تعالى أعلم . وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين وهم من سلالات المسلمين، وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام .. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله بذلك المدلول، ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول إننا نجد في القرآن أن الله سبحانه لا يُعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب، ولا يُعلمهم الآداب والأخلاق فحسب ـ كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين ـ إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة، ويعرض كل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية، ولا يقبل من الفرد المسلم، ولا من المجتمع المسلم أقل من أن تكون حياته بجملته من صنع هذا المنهج وفق تصرفه وتوجيهه، وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر: منهجاً للحياة الشخصية وللشعائر والعبادات والأخلاق والآداب مستمداً من كتاب الله، ومنهجاً للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية مستمداً من كتاب أحدٍ آخر، أو من أي تفكير بشري على الإطلاق .. وإلا فلا إيمان أصلاً ولا إسلام، ولا إيمان ابتداءً ولا إسلام لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد الإيمان ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام وفي أولها شهادة أن لا إله إلا الله التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله ولا مشرع إلا الله .. نجد كثيرين في كل زمان يقولون: إنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يشركون معه في غيره في الألوهية حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه، وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره، فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله .. ولا يستقيم مع شهادة الله سبحانه بأنه لا إله إلا هو .. وأعجب العجب أن ناساً من الناس يزعمون أنهم مسلمون ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم سبحانه إنهم عمي، ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون ..! وليس لأحد من عباده أن يقول إنني أرفض شريعة الله، أو أنني أبصر بمصلحة الخلق من الله، فإن قالها ـ بلسانٍ أو فعل ـ فقد خرج من نطاق الإيمان .. فما يمكن أن يجتمع الإيمان وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة .. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم مؤمنون، ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم، إنما يدعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع ) وما أولئك بالمؤمنين ( . لن يكون الإنسان مؤمناً بهذا الدين حتى يجعل مقوماته وموازينه هي الحاكمة في كل أمر وفي كل حال . ولن يكون مؤمناً بهذا الدين وهو يرى أن هناك تصوراً آخر، أو ميزاناً آخر، من وضع البشر واصطلاحهم، يجوز أن يتحاكم هو إليه ـ مع جاء به هذا الدين ـ فضلاً عن أن يتحاكم إليه هذا الدين ! ومن باب أولى لن يجد المسلم نفسه لحظة واحدة في موقف المعتذر عن حكم من أحكام دينه أو مقوم من مقومات تصوره .. لن يجد نفسه ـ بدينه ـ في موقف الدفاع ! إن دينه هو الأصل، هو الدين الذي لا يقبل الله من الناس غيره، هو الميزان الذي ليس معه ميزان .. وهو حين يعتذر لحكم من أحكام دينه، أو حين يقف ـ بدينه ـ موقف الدفاع، إنما يفترض أن هناك ميزاناً آخر ـ غير الميزان الذي يقيمه دينه ـ يجوز الاعتراف به بل يقبل أن يحاكم دينه إليه ..! والأمر هنا يتعلق مباشرة بالعقيدة .. يتعلق بها وجوداً وعدماً .. وهو من ثم مزلق خطر يستحق الانتباه .. إن دينه هو الذي يقرر؛ لأن ما يقرره دينه هو ما يقرره الله دون سواه .. إن هناك في جميع أنحاء الأرض، في جميع الأزمنة والأعصار قاعدتين اثنتين لنظام الحياة لأن هناك في جميع أنحاء الأرض في جميع الأزمنة والأعصار، قاعدتين اثنتين لتصور الحياة: قاعدة تفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان .. ومن ثم يقوم عليها نظام للحياة يتجرد فيه البشر من خصائص الألوهية والربوبية والقوامة والسلطان ، ويعترفون بها لله وحده فيتلقون منه التصور الاعتقادي، والقيم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والمناهج الأساسية للحياة الواقعية ، والشرائع والقوانين التي تحكم هذه الحياة، ولا يتلقونها من أحد سواه .. وبذلك يشهدون أن لا إله إلا الله .. وقاعدة ترفض ألوهية الله سبحانه وربوبيته وقوامته وسلطانه .. إما في الوجود كـله – بإنكاره وجوده – وإما في شئون الأرض وفي حياة الناس، وفي نظام المجتمع وفي شرائعه وقوانينه، فتدعي أن لأحد من البشر : فرداً أو جماعة، هيئة أو طبقة، أن يزاول – من دون الله أو مع الله – خصائص الألوهية والربوبية والقوامة والسلطان في حياة الناس .. وبذلك لا يكون الناس الذين تقوم حياتهم على هذه القاعدة قد شهدوا أن لا إله إلا الله .. هذه قاعدة . وتلك قاعدة .. وهما لا تلتقيان ، لأن إحداهما هي " الجاهلية " والأخرى هي " الإسلام "، بغض النظر عن الأشكال المختلفة، والأوضاع المتعددة والأسماء المتنوعة التي يطلقها الناس على جاهليتهم .. يسمونها حكم الفرد أو حكم الشعب .. يسمونها شيوعية أو رأسمالية .. يسمونها ديمقراطية أو ديكتاتورية .. يسمونها أوثقراطية أو ثيوقراطية .. لا عبرة بهذه التسميات ولا بتلك الأشكال؛ لأنها جميعها تلتقي في القاعدة الأساسية قاعدة عبادة البشر للبشر، ورفض ألوهية الله سبحانه وربوبيته وقوامته وسلطانه متفرداً في حياة البشر . انتهى . وبعد، هذا ما أردت تسطيره في هذا البحث الهام، راجياً من الله تعالى القبول، وأن ينفع به العباد والبلاد، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم لا نبتغي منها سمعة ولا شهرة، ولا رياءً .. إنه تعالى سميع قريب مجيب . وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
<< , لا , الله>> , شروط , إلا , إلَهَ |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
best selfie << prem ratan dhan payo salman khan >> << تصميمي ,, | мᾄʀἷὄ | ( حصريات التصاميم و 3d ) | 8 | 08-12-2015 02:28 PM |
be happy << new des | мᾄʀἷὄ | ( حصريات التصاميم و 3d ) | 27 | 07-06-2015 04:37 PM |
dont forget to smile << | мᾄʀἷὄ | ( حصريات التصاميم و 3d ) | 13 | 05-06-2015 07:36 PM |
the evil within 2 << new horror << new design | мᾄʀἷὄ | ( حصريات التصاميم و 3d ) | 26 | 19-04-2015 08:55 PM |
JT << justin timberlake << my new design | мᾄʀἷὄ | ( حصريات التصاميم و 3d ) | 20 | 03-04-2015 01:18 AM |