حكى أن فتاة صغيرة كانت مع والدها يعبران جسرا.. خاف الأب الحنون على ابنته من السقوط، لذلك قال لها: حبيبتي أمسكي بيدي جيدا، حتى لا تقعي في النهر.
فأجابت الابنة دون تردد: لا يا أبى.. أمسك أنت بيدي.
رد الأب باستغراب: وهل هناك فرق؟!
فردت الفتاة مجيبة: لو أمسكتُ أنا بيدك فقد لا استطيع التماسك، ومن الممكن أن تنفلت يدي فأسقط.. لكن لو أمسكتَ أنت بيدي، فلن تدعها تنفلت منك أبدا.
من
يحبك يحب راحتك وسعادتك أين ومتى كانت.. يفرح لفرحك ويحزن لحزنك.. يسعى في مرضاتك، ويبادر في الاعتذار عند خطأه بحقك.. يقضي حاجاتك بشغف دون كلل ولا ملل.. تجده عند الشدائد نعم المعين، وعند المشورة نعم المشير.. من السهل عليه أن يضحي من أجلك.. لا يتردد في الدفاع عنك.. يرد غيبتك ويصون عرضك.. يتحملك هفواتك ويسدي لك النصح الصادق من غير تفضيح ولا تجريح.. آخر من يقسو عليك أو يتعمد جرح مشاعرك.. يثق فيك إلى أقصى غاية.
وخير المحبة وأدومها ما كانت في ذات الله سبحانه وتعالى، لأنها تتجرد عن حظوظ النفس ومكاسب الدنيا، وتتعفف عن الأهداف والغايات النفعية والمصالح الشخصية، فلا ينتظر منك محبوبك مقابل سوى رضوان الرحمن، ولذلك أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليعلمه، فإنه أبقى في الألفة، وأثبت في المودة» [صحيح الجامع:280]
والمعنى "إذا أحب أحدكم أخاه" لدينه وتقواه وحسن شمائله ولصفاته الجميلة"، لأن شأن ذوي الهمم العلية والأخلاق السنية إنما هو المحبة لأجل الصفات المرضية، لأنهم لأجل ما وجدوا في ذاتهم من الكمال أحبوا من يشاركهم في الخلال، فهم بالحقيقة ما أحبوا غير ذواتهم وصفاتهم، وقد يدعي شموله للمحبة الذاتية أيضاً إذا عرت عن المقاصد الفاسدة {وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}[البقرة:220]، (فليعلمه) لأنه إذا أخبره به فقد استمال قلبه، واجتلب وده، فالإعلام بالمحبة أبقى للألفة وأثبت للمودة، وبه يتزايد الحب ويتضاعف، وتجتمع الكلمة، وينتظم الشمل بين المسلمين، وتزول المفاسد والضغائن، وهذا من محاسن الشريعة.
كما أنه إذا علم أنه يحبه قبل نصحه، ولم يرد عليه قوله في عيب فيه أخبره به ليتركه فتحصل البركة. قال البغدادي: «إنما حث على الإعلام بالمحبة إذا كانت لله لا لطمع في الدنيا ولا هوى، بل يستجلب مودته، فإن إظهار المحبة لأجل الدنيا والعطاء تملق وهو نقص، والله أعلم». وجاء في حديث أن المقول له يقول له: «أحبك الذي أحببتني من أجله» [فيض القدير للمناوي:254، بتصرف]
ابحث عمن يحبك
ابحث عن من يحبك، لا من تحبه أنت.. اجتمع عند أبي الحسن الأنطاكي أكثر من ثلاثين رجلا، ومعهم أرغفة قليلة لا تكفيهم، فقطعوا الأرغفة قطعًا صغيرة وأطفئوا المصباح، وجلسوا للأكل، فلما رفعت السفرة، فإذا الأرغفة كما هي لم ينقص منها شيء؛ لأن كل واحد منهم آثر أخاه بالطعام وفضله على نفسه، فلم يأكلوا جميعًا.
وعن علقمة العطاردي أنه قال في وصيته لابن له لما حضرته الوفاة: «يا بني إن عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فأصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤونة مانك. اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها. اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك. اصحب من إذا قلت صدّق قولك، وإن حاولتما أمراً أمّرك، وإن تنازعتما في شيء آثرك. اصحب من يكتم سرك، ويستر عيبك، ويكون معك في النوائب، ويؤثرك في الرغائب، وينشر حسناتك، ويطوي سيئاتك. فإن لم تجده يا بني، فلا تصحب إلا نفسك».
قال القاضي ابن أكثم: لما سمع المأمون هذا الكلام قال لناقله: «يا رجل أعطني هذا الصاحب، وخذ مني الخلافة!! ولكن أين هو؟!».
وما أروعها لو كانت المحبة متبادلة .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى في الحديث القدسي: حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في; المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء» [صحيح الجامع:4321]
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي» [مسلم:6713]
(المتحابون بجلالي) أي لعظمتي فالباء بمعنى اللام أو في، وخص الجلال بالذكر لدلالته على الهيبة والسطوة، أي المنزهون عن شوائب الهوى والنفس والشيطان في المحبة، فلا يتحابون إلا لأجلي ولوجهي لا لشيء من أمور الدنيا (اليوم أظلهم في ظلي) أي ظل عرشي كما جاء مصرحاً به في خبر آخر. [فيض القدير 368].
الأنصار والإيثار
قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]
وصف شامل للأنصار {تَبَوَّأُوا الدَّارَ} أي المدينة {وَالْأِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي بيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين. وقيل المعنى تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان، سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ويستقبلونه بصدور رحبة {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} حزازة وغيطاً وحسداً {مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} يُقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} والخصاصة التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص وهو الانفراد في الأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، أي ولو كان بهم فاقة وحاجة، وقيل الخصاصة: الفاقة، مأخوذة من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح، فكأن حال الفقير هي كذلك، يتخللها النقص والاحتياج.[تفسير أضواء البيان:8/43،وغيره]
قال الشنقيطي رحمه الله: ظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم وهو الإيثار على النفس، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المال للغير عند حاجته مقدما غيره على نفسه، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}[الحشر:8]، فكانت لهم ديار وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم وقاسموهم ممتلكاتهم، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب بل تركوها كلها، أموالهم وديارهم وأولادهم وأهلهم، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم، ومن يخرج من كل ماله ودياره ويترك أهله وأولاده لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله وهو مستقر في أهله ودياره، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم.[أضواء البيان:8/43]
إن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى مثل هذه المؤاخاة والتي لن ترقى إلى مستوى المؤاخاة في المدينة، فليكن فيها التعاون والإيواء والنصرة ومواساة المسلم.
إن الفرد المسلم حين يشعر أن له إخوة يحبهم ويحبونه، وينصرهم وينصرونه، خاصة إذا تفاقمت الأزمات، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فإن هذا مما يرفع من روحه المعنوية، بل ويرفع قدراته الذاتية، ويجعله أقوى مضاء وعزيمة، وإن فقدان مثل هذه المؤاخاة مما يضعف الصف الإسلامي، ويجعل الفرد المسلم يشعر أحيانا أنه وحيد أمام أعداء يكنون له كل حقد، ويحيطون بع من كل جانب، فكيف يستطيع حمل كل هذه الضغوط النفسية والمادية؟ وإذا كان التوارث قد نسخ فإن التعاهد والمواساة الأخوية من حقوق المسلم على أخيه، وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعريين قوم أبي موسى الأشعري لأنهم كانوا «إذا أرملوا تقاسموا الزاد بينهم».
ولا أظن أن المسلمين يستطيعون «الإقلاع» لاستئناف حياة إسلامية – قوية عزيزة- إذا لم يتخلقوا بهذه الأخلاق العملية، ويرتقوا إلى هذا المستوى الإيماني، وإلى هذه التضحيات، وأما هذه المظاهر من الأخوة (باللسان) فلا تجدي فتيلا.
[فقه السيرة، محمد العبدة]