مقدمة إن أول ما يتبادر إليه ذهن الباحث في علوم القرآن الكريم شيئان: وهما جانب النطق له و جانب الرسم ، فيبحث في آداب التلاوة و أحكامها ، و يطالع أنواع القراءات... ، و يبحث أيضاً في رسم القرآن الكريم و طريقة كتابته ، على أن هنالك تلازماً بين الجانبين ، إذ إن من تَعلم التلاوة سَهل عليه الرسم ، والعكس بالعكس. وهنا أردنا البحث والتفصيل في علم رسم القرآن الكريم ، الذي تعددت فيه أقوال واختلفت آراء، نستقصي ما استطعنا من جوانبه ، مع ملاحظة الإيجاز ، والإشارة إلى هذا الفن و مصادره ، و الذي أطلق عليه العلماء: "علم مرسوم الخط" ، أو "رسم المصحف الشريف". تعريف رسم المصحف الرسم في اللغة: الأثر أي: أثر الكتابة في اللفظ،وهو تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقدير الإبتداء بها و الوقوف عليها.
وفي اصطلاح علماء الرسم : الوضع الذي ارتضاه سيدنا عثمان رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن الكريم وحروفه. العلماء الذين أفردوا لهذا العلم بالتأليفالأصل في المكتوب موافقته للمنطوق ، لكن ذلك أهمل في المصحف العثماني لأسباب يستنتجها القاريء في باب مزايا الرسم العثماني و فوائده ، لذلك عني بعض العلماء بحصر تلك الكلمات التي جاء خَطها على غير مقياس لفظها، فكان ممن أفردها منهم بالتأليف:
1 الإمام أبو عمرو الداني ، في كتابه "المقنع".
2 العلامة أبو عباس المراكشي،في كتابه "عنوان الدليل في رسوم خط التنزيل".
3 العلامة محمد بن أحمد الشهير بالمتولي،في أرجوزته "اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم".
4 العلامة محمد خلف الحسيني الذي شرح منظومته و ذيل الشرح بكتاب أسماه: "مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن".
قواعد رسم المصحف العثماني 1 قاعدة الحذف : وذلك كحذف الألف في "يأيها" ، و الياء في "باغٍ" ، والواو في "فأوا".
2 قاعدة الزيادة : وذلك كزيادة الألف في "تفتؤا" ، و الياء في "بأييد" ، والواو في "أولو".
3 قاعدة الهمز : وذلك كأن تكتب حال سكونها بحرف حركة ما قبلها "ائذن ، اؤتمن".
4 قاعدة البدل : وذلك ككتابة الألف واواً للتفخيم في "الصلوة" ، وكتابة النون ألفاً في نون. التوكيد المخففة "لنسفعاً" ، و هاء التأنيث تاء مفتوحة في نحو "رحمت".
5 قاعدة الوصل والفصل : وذلك كوصل"أن" بِ "لا" ، و "عن" ، و"كل" بِ "ما".
6 قاعدة ما فيه قراءتان : فإنه يكتب برسم إحداهما ، نحو "يخدعون، غيبت".
مزايا الرسم العثماني و فوائده الأولى : الدلالة على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة ما أمكن. وذلك نحو "ان هدن لساحرن" رسمت بدون نقط أو إعراب ، فدلت على ذلك.
الثانية : إفادة المعاني المختلفة بطريقة ظاهرة. وذلك كقطع "أم" في "أم من يكون عليهم وكيلاً"، ووصلها في "أمّن يمشي"، وذلك ليفيد معنى الانقطاع في الأولى دون الثانية. الثالثة : الدلالة على معنى خفي.كزيادة الياء في "بأييد"، إيماء لتعظيم قوة الله. الرابعة : الدلالة على أصل الحركة مثل "سأوريكم" ، أو أصل الحرف مثل "الصلوة". الخامسة : إفادة بعض اللغات الفصيحة.كقوله "يوم يأتِ" بحذف الياء على لغة هذيل. السادسة: حمل الناس على تلقي القرآن الكريم من صدور الثقات ، ولا يتكلوا على الرسم. وفي ذلك مزيتان ، إحداهما: التوثق من اللفظ والأداء حيث لا يتيقن من الرسم أياً كان شكله. والثانية: إتصال السند برسول الله صلّى الله عليه و سلم ، وهذه خاصية للأمة المحمدية.
هل رسم المصحف توقيفي ؟ هل هو توقيفي بأمر رسول الله صلّى الله عليه و سلم ، أم اصطلاحي باتفاق بين الكتبة وبين سيدنا عثمان رضي الله عنه ، و ذهبوا في ذلك مذاهب ثلاثة :
- المذهب الأول: أنه توقيفي لا تجوز مخالفته ، وذلك مذهب الجمهور.
ومجمل دليلهم : إقرار النبي صلّى الله عليه و سلم الكتبة على كتابتهم ، ثم إجماع أكثر من اثني عشر ألفاً من الصحابة ، ثم إجماع الأئمة من التابعين و المجتهدين عليه ، وأدلة أخرى من العقل و النقل.
ومن جملة أقوالهم في التزام الرسم العثماني :
عن مالك : سئل أرأيت من استُكتب مصحفاً أترى أن يكتبه على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم ؟ فقال : لا أرى ذلك ، ولكن يكتب على الكتبة الأولى.
عن أحمد : قال: تحرم مخالفة خط عثمان في واو أو ياء أو غير ذلك.
- المذهب الثاني : أنه اصطلاحي فتجوز مخالفته ، وعليه ابن خلدون في مقدمته ، والقاضي أبو بكر، ودليلهم: أن الله سبحانه وتعالى لم يفرض على الأمة شيئاً في كتابته ، ولم يرد في السنة والإجماع ما يوجبه. ولقد نوقش هذا المذهب بأدلة تضعفه وتقلل من منطقيته.
- المذهب الثالث : تجب كتابة المصحف للعامة على الاصطلاحات الشائعة عندهم ، و يجب في ذات الوقت المحافظة على الرسم العثماني بين الآثار الموروثة عن السلف. وهذا الرأي : يحتاط للقرآن الكريم من ناحية إبعاد الناس عن اللبس ، ومن ناحية إبقاء الرسم المأثور ليقرأ به العارفون به، والإحتياط مطلب ديني خاصة في جانب حماية التنزيل.
والراجح : ما عليه الجمهور ، وأن رسم القرآن توقيفي كله ، ومنه ما كان بإملاء الرسول صلّى الله عليه وسلم في كتابةَ بعض الكلمات ، والقسم الآخر كُتب كما تقرؤه قريش بلسانها.
الحروف السبعة في المصاحف العثمانية
يتفق جمهور العلماء ، أن المصاحف العثمانية جاءت مشتملة على الأحرف السبعة ولم تترك منها حرفاً واحداً. أي أنها اشتملت على حروف من لغات العرب في قسم منها ، وشملت أيضاً حرف قريش في كثير من أقسامها ، و خاصة فيما اختلف الصحابة في كتابته.
وتبقى هناك الإجابة عن كيفية اشتمال المصحف على الأحرف السبعة ؟ و هذا ما يستنتجه القاريء من ما ذُكر تفصيله عن الفرق بين الأحرف السبعة و القراءات السبع في باب الأحرف السبعة والقراءات.
.