في صبيحة ذات يوم أسرع سكان أحد أحياء المدينة
يفتحون شرفاتهم وهم في ذعر
بعد استيقاظهم على صوت سيارة الاسعاف يدوي في المكان يعلن عن حادثة ما
وفي اقل من ربع ساعة تجمع بعض من في الحي بفضول حول السيارة وقد نزل منها المسعفون مسرعين
لنقل ذك الشاب الذي يقطن في إحدى البنايات المجاورة والذي ألقى بنفسه من الدور الرابع محاولا الانتحار .......
انطلقت السيارة بعدها بأقصى سرعة .......
أما هي وفي الدور الأرضي من ذات البناية التي حدث امامها
الحادث .............
كانت خلف نافذتها تكتم صرختها بكل ما أوتيت من قوة بمشاعر مجنونه وقلب كلوم أنين صوتها ..يملأ عالم بأكمله
تجهش ببكاء مر و الحرقة تلهب كيانها من هول الصدمة
وصارت تجول في غرفتها وشبح الحيرة و العذاب يحيط حولها من كل جانب
وظلت تهتف بأنفاس مختنقة من البكاء
ماذا فعلت به!......ماذا فعلت به! .... أنا السبب في كل هذا .. أنا السبب .
هددني بالانتحار ولم أبه له ماذا فعلت به .....
قضت يومها في حيرة وبكاء وقلق
وأنتهى ليبدأ عذاب الليل وهي مستلقية على فراش كأنه جمر متقد لم يهدأ لها بال ولم يغفو لها جفن ...
وفي صبيحة اليوم الثاني وعلى مائدة الافطار حاولت التماسك أمامه حتى لا يشعر بما تعانيه
هتف قائلا وهو يطالع الجريدة بعدما لاحظ صمتها
ـ ما بك اليوم صامتة على غير عادتك
أين ابتسامتك المشرقة مثل كل يوم ومرحك المعتاد ؟
ناولها قبلة سريعة على جبهتها بعد أن ترك الجريدة ومد يده و تناول فنجان القهوة ليرتشف منه حاولت أن تفيق من شرودها ورسمت ابتسامة باهتة على شفتيها
قائلة بصوت هامس
ابدا لا شيء ولكنني لم انم جيدا ليلة أمس
تنهد السيد عماد وأقترب منها
ــ أعلم لما لم تنامين جيدا .لابد أنه بسبب حادثة أمس الذي تعرض له جارنا ماهر .....
حسنا رحل بشره وارتاح واراح والديه وأراحنا
فأنت مرهفة الحس رومانسية المشاعر وهذه المشاهد تأثر عليك فقد كنت بالأمس في حالة سيئة للغاية ........قلبك مرهف حبيبتي
وأقترب منها
حاول ان يطبع قبلة على شفتيها لكنها بلا شعور منها أشاحت بوجهها عنه فهي لم تعتاد منه هذه الرقة مطلقا غير انها استاءت من جملته في حق جارهم ماهر تضايق السيد عماد ولكنه تماسك وحاول ان يخفي ضيقه
واتجه نحو المرآة لكي يعدل من هندامه استعداد للذهب إلى عمله الذي يأخذ منه اغلب يومه
بعد خروجه .....
لم تتمالك مدلين نفسها ارتمت على المقعد وأجهشت بالبكاء
لقد بدأت القصة التي قلبت حياتها رأسا على عقب
حينما فوجئت يوما برنين جرس الباب بعد عشر دقائق من خروج زوجها إلى عملة وعندما فتحته وجدت باقة ورد أمام شقتها بداخلها كرت مكتوب عليه
غارت الشمس من صباحك يا ملكة الاشراق
في البداية ظنت بأن الواضع للباقة قد أخطأ في الشقة فلم تأبه بها تركتها مكانها وأغلقت الباب ثم ذهبت لتطعم الطيور التي اعتادت ان تتجمع كل يوم على نافذة غرفتها كل صباح وتأكل الحبوب من يديها الرقيقتين
وعندما حل المساء وجدت بأن الباقة قد اختفت ..
لكن توالت الأيام وفي كل يوم بنفس الموعد تجد باقة ورد امام الباب بداخلها الكرت وذات الجملة
قررت اخبار زوجها بالأمر ....ولكن السيد عماد الذي كان يدير شركته الخاصة
ومشاغله التي لا تنتهي لم يهتم واكتفى بقوله
مادامت تختفي بعد ذلك من امام بابك فلا تعطي للأمر اهمية
بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل اصبح الكرت يحوي جمل
أشعرتها بأنها المعنية بهذه الباقات فقررت ان تسعى جاهدة لاكتشاف صاحبها ....وأصرت على المكوث خلف الباب تتابع ما يحدث من عينه السحرية
حتى انها اهملت اطعام الطيور ذلك اليوم
ولكن خاب أملها ..
لم تجد مخلوق يقترب من الباب برغم انها ظلت واقفة خلفه قرابة الساعة
احتارت وسرعان ما أزالت الأمر برمته من فكرها
ولكن تكرر الموقف في اليوم الثاني ووجدت باقة اجمل ...
وكتب على الكرت
ملكة الاشراق .........نسيت بالأمس اطعام طيورك
تسلل القلق لقلبها وأيقنت بما لا يدعو مجالا للشك ....بأنها مراقبة من أحد ما .
فقررت اخبار زوجها مرة اخرى الذي بدوره قرر إبلاغ الشرطة
وتم تحرير البلاغ ونصب الكمين ........
وضبط.............الجاني .....
والذي تبين أنه أبن صاحب البناية التي يسكن بها السيد عماد وزوجته مدلين
......أسرع الزوج بإمساك الشاب الذي يبلغ من العمر
خمسة وثلاثون عاما من ياقته بشراسة قائلا
أيها الوغد لما تطارد زوجتي وتتربص لها سوف أقتلك
وهم بضربه إلا أن ضابط القسم منع الزوج ممسكا إياه من ذراعيه قائلا
اهدأ يا سيد عماد ..ليس هكذا تأخذ الأمور تفضل بالجلوس لو سمحت ونحن سنتخذ اللازم
وبدأ التحقيق .....
أقترب الشاب من مدلين بكل جرأة و نظر في عينيها
وسألها بلا اهتمام لمن حوله ......وبكل ثقة وهدوء وثبات
نعم أعترف أنني أنا من وضعت الورد على بابك كل يوم ....
فهل هناك قانون يمنع وضع الورد والزهور أمام الشقق؟
هل ضايقتك ؟هل تعرضت لك ؟ هل لمستك ؟
ولكن الضابط صاح في وجه المتهم بعنف
لا تكلمها نهائيا وابقى بعيدا عنها ايها المتهم أتفهم ؟
وأشار للعسكري
فسحب العسكري ذراع المتهم بعنف ليبقيه بعيدا عن مدلين التي ظهر على وجهها الجميل توترا ملحوظا ....
وأمام غيظ الزوج الذي صار يشتم المتهم وينعته بأبشع الصفات
دخل في ذات اللحظة والد المتهم .وقد أعياه الألم
و اثبت بأوراق رسمية من أحد المستشفيات النفسية بأن الشاب مريض بمرض نفسي منذ فترة طويلة من الزمن
صاح الزوج بكل ضيق موجها كلامه لوالد الشاب
حسنا إذن ياسيد فائز إن كان ولدك مريضا فعليك أن تراقب تصرفاته جيدا أو تضعه في مصحة نفسية لكي يعالج قبل ان يلحق الضرر بالآخرين ويترقب جيرانه ويؤذي نسائهم .فأحمد الله أنني لم أقتله .....
.وتنازل الزوج والزوجة عن البلاغ
وأخلي سبيل الشاب
وخرج مع أبيه وعينيه مليئة بالعتاب الشديد تجاه مدلين ونظرات الألم التي وغزت قلبها
والتي كانت سببا آخر لم يجعلها تهنئ بنوم تلك الليلة .....
مر شهرين متتابعين
و مدلين ....لم تنسى الحادثة......خاصة أنها كانت تربطها صداقة قوية بأخت هذا الشاب ووالدته العجوز وكثيرا ما كانت تقوم بزيارتهم في شقتهم التي تقتن في الرابع وهم كذلك
كانت تعلم جيدا بأن هؤلاء الناس يحملون من الطيبة والكرم والأخلاق الطيبة الشيء الكثير ..
أيقنت بأن العلاقة بينها وبينهم انتهت ...
خاصة بعد الأمر الذي تلقته من زوجها بعدم زيارتهم او استقبالهم في البيت حتى يجد شقة أخرى وترك هذه البناية والحي كليا
اما من جهتهم لم يحاول أية منهم الاتصال بها
بعد مرور الشهرين ....
فوجئت صباحا وهي مستلقية على أريكتها في غرفة الجلوس بجوار النافذة التي تطل على حديقة خلفية لشقتها
بصوته يناديها ......
مدلين ...مدلين
اصابها التوتر والخوف لكنها تمالكت نفسها بالرغم انها لم تكف عن فرك يديها بعصبية ....
سمعته بصمت وقلبها يخفق بعنف
وظل يرجوها أن تتركه يتكلم وتسمعه
هتف برقه ....
يقولون عني المجنون ونبذوني
فلا تصديقيهم صحيح أنني اعالج في عيادة نفسية ولكنني
اعقل انسان على وجه هذه الارض
بدليل أني أحبك منذ خمس سنوات ولكني لم افكر ان اتعرض إليك
حتى تلك الحادثة التي كشفتني امامك
والآن لم اعد احتمل أن تكونين لغيري بعد معرفتك الحقيقة
مدلين
انت .... اعتبرتني مجرما لأنني احببتك وكل جرمي انني وضعت جزء منك امام بابك دون أن أؤذيك
سألته بحزم وهي تكتم انفاسها
ماذا تريد مني ؟
أجاب ............................
لا شيء سوى أنني احبك وأريدك لي فاتركيني اعيش على هذا الأمل لا اريد غير ان اعيش معك ومن أجلك ...
ردت بخشونة
هكذا بكل بساطة؟
وانت لا تعلم عني أي شيء ؟
رد عليها بثقة ويقين
_بل أعلم عنك الكثير أكثر مما تتوقعين
قلبك وعذوبة مشاعرك وإنسانيتك حيائك وحتى عذابك
انت من ظللت ابحث عنها في كل من حولي من البشر ولم اجدها
.....لديك قلب يحوي العالم بأسره وأنا واثق أنك لن تتخلي عني ..يوما فأنا بحاجتك
قالت وقد زاد خفقان قلبها ..وزادت برودة اطرافها
وكأنك ترمي بأن نكون عاشقان أنسيت أنني متزوجة ؟
رد في سرعة مدافعا عن نفسه قائلا
-لا. ......اريد ان نكون زوجين بالحلال فأنا لست نذلا والله
-شهقت .......وصاحت .....
أجننت ؟
تابع قوله
بل أنت من ستجنين يوما إن بقيت مع هذا الرجل اكثر من سنين عمرك التي ذهبت سدى ........أسمعي جيدا
زوجك يعبد دنياه .......وعاش معك الكثير قولي لي ماذا اعطاك اخبريني ان كنت تملكين الشجاعة
صاحت بصوت مرتجف وهي تلوم نفسها على سماعه
ـــ اذهب من هنا وإلا ........
قاطعها........
لم تحبيه يوما ......وهو كذلك ......فلما تبقين معه ؟
كان زواجا تقليديا كما حياتكما هذه
تعيشين الوحدة بلا أبناء
إنه عقيم لا ينجب
متسلط مادي ..أناني لا يحب إلا نفسه
ولا يقدر قلبك ولا احساسك
انا اسمع صوته كل يوم وهو ينعق عليك كالبوم قتلك بغيرته لأنه عقيم
سجنك في البيت بسبب نقصه .......ولم يقدر حتى جمالك
انت تخشين مني لأني مريض ولا تستوعبين انك تعيشين مع مريض آخر وانت لا تشعرين
لم تتمالك مدلين نفسها وصرخت
انت شيطان ولست إنسان أنت شيطان كيف علمت بكل هذا
رد بغيظ .....
.أنسيت أنك صديقة أختي ؟لقد روت لي كل شيء
صاحت وهي تضع يديها على أذنيها
.........أذهب لا اريد ان اسمعك
ولا ن أراك لما عدت ؟
ألم تختفي ؟
اختفي مرة اخرى ....أختفي .....أرجوك
قال بصوت يملئه خيبة الأمل والحسرة
سأذهب ولكن تأكدي أنني احببتك بصدق في زمن تلاشى فيه الحب الحقيقي
لقد رأيت اهتمامك ينبثق من عينيك لحظة التحقيق ذلك اليوم رايته ورأيت الندم فيهما على بلاغك ضدي
فلا تكابري أرجوك
سأعطيك فرصه يومين إذا لم توافقي على طلب الطلاق من زوجك وتخبريني اياه .....لنتزوج
سأرحل عن هذا العالم للأبد فلم يعد لي من اعيش من اجله
وبعد يومين أتى ماهر ليسمع الرد ولكن
.لم تجب أنتظرها ثلاث ساعات ثم بعدها بكل وجع وألم
وضع الرد في ورقه وألصقها على النافذة مكتوب فيها
سأرحل
ولكن تذكري انك ابعدت سعادتك بيديك فمن النادر أن يجد الإنسان شخصا يحبه كل هذا الحب
مر ثلاثة أسابيع على الحادثة......
وتحسنت حالة ماهر ..
الذي سقط على جنبه وكسر ذراعيه وساقه
وأما عنها هي لم تنسى ذلك اللقاء
.تلك المواجهة التي كانت تحتاج اليها لكي تفيق
من سباتها واستسلامها لأيام راكدة لا احساس فيها ولا حياة ....
.نعم كان زواجها تقليديا..
.وزوجها يعتبرها من ضمن امور كثيرة يمتلكها في هذا السجن الذي عاشت فيه عشر سنوات من حياتها ... بلا أبناء وبلا حب
و ماهر ...الذي أُعتبر مريضا في أعين من يعيشون في مجتمع يرفض كل انسان يحس بقلبه
ويكرم مشاعره ويرقي وجدانه
ويرفض الكذب والنفاق وتغليف الاحاسيس بالزيف
لذلك عزمت بكل شجاعة ان تخرج من سجنها وتعيش حريتها وتختار بنفسها من ترتبط به بإرادتها وعقلها وقلبها
تحب تتزوج تنجب أبناء وتصبح أما مثل غيرها
قررت تذهب إليه في المشفى وتخبره بقرارها النهائي باختيارها أن تعيش معه تشاطره ألمه
مقابل الحب الذي سيمنحها اياه
القرار
الذي دفعت من أجله اياما كثيرة من التفكير و القلق والسهر والخوف
بعد طلاقها ......وحريتها التي نالتها قررت .
مواجهة مجتمع كاذب شوهته التقاليد والعادات المزيفة
تزوجته رحلت معه بعيدا ليعيشا معا بقية حياتهما
واتخذت عهدا على نفسها أن تكون روح هذا الانسان
و أن تعالجه من عوالق الماضي والمجتمع القاسي
الذي أمرضه وعذبه وكاد أن يفقده عقله
تمت