اشعل
شمعة بقدر الظلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
عندما يكون لديك عشر شمعات ومطلوب منك أن تقتصد
لتكفيك هذه الشموع لمدة شهر فإنك لن تُشعل
شمعة إلا عند الحاجة
كما أنك سوف تُطفئها فور انتهائك من عملك أو انقضاء حاجتك
فماذا لو لم يكن عندك إلا
شمعة واحدة ، ومطلوب منك أن تكتفي بها شهراً ؟!
كيف يكون اقتصادك فيها ؟
إن مُشكلة الداعي إلى الله – أحياناً – أنه كالشمعة يعمل لِـيُضيء الطريق للآخرين
فيحترق هو ويُحرِق نفسه لِـيُسعد الناس
ويشق عليه أن يرى جموع الناس تائهة
أو يراهم شُغلوا عما من أجله وُجِدوا
فتذوب نفسه كَمَداً كما يذوب الشمع
ألم يقُل الله لنبيِّـه صلى الله عليه وسلم :
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) ؟
قال ابن كثير : باخع : أي مُهلِك نفسك بِحُزْنِك عليهم .
وقال البغوي : (أَسَفًا) أي حُزنا ، وقيل : غضبا .
ألم يقُل الله لنبيِّـه صلى الله عليه وسلم : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)
ألم يقُل له : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) ؟
فهذه إشارة إلى من ضل سواء السبيل
أو رأى أن القبيح هو الْحَسَن
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
لا تتحسّر عليهم
فـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
ويضيق صدر الداعية حينما يصطدم بإعراض المعرِضين
أو يَسْمَع كلام المخالِفين
أو يُواجَـه بما يَكرَه
أو يُقابَل إحسانه بالإساءة
وقد قيل لإمام الْهُداة ، وقائد الدّعاة
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)
فهذه حلول عملـيّـة :
أولها : ذِكر الله ، لأنه يجلو القلب ، ويسبح في الذِّكْرِ والفِكر .
ثانيها : الفَزَع إلى الصلاة ، فقد كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يمثل ذلك ، فكان إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة .
بل كان يجِد راحة نفسه ، وقُرّة عينه فيها
وما ذلك إلا لأن الصلاة من أعظم ما يُعين على الثبات
وثالثها : أعظم وسائل الثبات : دوام الطاعة
ولذا كانت شِدّة الثبات على دِين الله في امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وفعل الطاعات
تأمّـل :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)
فيا من اخترت طريق الأنبياء لك طريقا
وجَعَلْتَ سبيل المؤمنين لك سبيلا
صبراً في مجال الدعوة
صبراً في طريق الجنة
فإن الله وعد - ووعده الحق -
وقال - وقولُه الصّدق -
(تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
وقال الله لنبيِّـه صلى الله عليه وسلم بعد أن قصّ عليه خبر نوح مع قومه وما لاقاه منهم :
(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )
والصبر هو زاد الداعية إلى الله
ولذا ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
أيها الداعي
أتريد الجنة دون مشقّـة ؟
أنسيت أن الجنة حُفّـت بالمكارِه ؟
أيها الداعي قل لنفسك :
تُريدين لقيان المعالي رخيصة *** ولا بدّ دون الشهد من إبر النحل
سُئل بعض الرُّهبان : متى يجد العبد طعم الراحة ؟
قال : عند أول قدم يضعها في الجنة .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله .
إن أعجب فعجبي من صبرِ أُناس لا يرجون الله والدار الآخرة
يتحمّلون المشاقّ
ويَركبون الصِّعاب
ويُخاطِرون بأنفسهم
بل يتركون أهلهم وأولادهم
وهم على الباطل مُقيمون
وفي الغيّ سادِرُون
وفي الضلال مُنغمسون
رأيت مُنصِّراً أقام في بلد إسلامي أكثر من عشرين سنة !
ولم يَـجْـنِ ثمـرة
وهو مع ذلك صابِر !
فلو كان يرجو لقاء الله لَقُلْتُ : صبر لأجل ذلك
ولو جنى ثمرة جهده لقلتُ : وَجَد حلاوة عملِه
غير أنه لا هذا ولا ذاك !
ورأيت عجوزاً نصرانية .. قَطَعت الفيافي والقفار
وواصَلَت الليل بالنهار
وتَرَكَت الأهل والديار
رأيتها في ظهر شاحنة لا يَصمد فيها الرِّجال !
وهي صابرة
فلو كان ذلك في بلادها لما عَجِبتُ
ولو كان في بلد آمن لما اندهشتُ
ولكنها في بلد فقير مَخُوف
تتحمّل المشاقّ
وتتعرّض للأخطار
ولم يكن ذلك في سبيل الواحد القهّار
فكيف بمن يرجو الله والدار الآخرة ؟
أليس بالصبر أولى ؟
وبالْمُصَابَرَة أحرى ؟