قد هل علينا شهر
رمضان بنسائم الرحمات ولطائف النفحات ومواسم الطاعات والقربات والخيرات والحمد لله الذي أسبغ علينا من نعمائه وآلائه { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }فاطر2 .
أخي الكريم .. أختي الكريمة : ربما يتكرر على مسامعكم الوعظ والتذكير بفضل ومزايا هذا الشهر العظيم – وإن كان في الذكرى نفع كبير للمؤمنين - فشهر
رمضان يفيض بما فيه من فضائل وخصال وعبادات بما لا يخفى عليكم .
ولكني هنا لأذكر نفسي وإياكم أن شهر
رمضان إنما هو أيام معدودات وكما استقبلناه بالأمس القريب بحفاوة وتكريم سنودعه حتما عما قريب بأحاسيس جياشة ومشاعر تفيض وجدانا {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }الفتح23 .
ولكن الناس في هذا الشهر على صنفين : مرحومون ومحرومون ؟!
تأملوا معي هاتين الكلمتين : مرحومون ..؟! ومحرومون ؟! هناك تشابه ربما في الحروف لكنه في الحقيقة هناك فارق كبير وعظيم بينهما { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ }غافر58 .
وفي الحديث : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فلما رقي عتبة قال آمين ثم رقي أخرى فقال آمين ثم رقي عتبة ثالثة فقال آمين ثم قال أتاني جبريل عليه السلام فقال يا محمد من أدرك
رمضان فلم يغفر له فأبعده الله فقلت آمين .. ) رواه ابن حبان في صحيحه . فشهر
رمضان تجارة رابحة بكل المقاييس والمضامين وخسارته كذلك خسارة فادحة وكارثة كبرى .
فهل وقفنا مع أنفسنا وقفة جادة وقفة مراجعة حقيقة ؟!
هل بدر بخلدك أو تساءلت مع نفسك هل ستكون في هذا الشهر الكريم من المرحومين أم من المحرومين ؟!!
هل سيكون حظك من صيامك الجوع والتعب ؟ أم لديك طموحات وآمال أكبر أن تجعل شهر
رمضان هذه السنة غير فيمن الله عليك بالتوفيق فتكون من المرحومين ، العتقاء من جحيم العذاب والنكال .. { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ } البلد 11-13 .
وهل يا ترى الأمر شاق وبالغ الصعوبة ولا يتأتى لأحد أم أن الأمر ميسور ومتاح ويمكن للإنسان أن يحوز هذا الفضل ويحصل على هذه المنحة الإلهية ؟
نعم فهذا عطاء الله ، وفضله عظيم ورحمته واسعة { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }الأعراف156 .
لكن ما هو المطلوب يا ترى للفوز بهذه المنحة الإلهية ؟!
المطلوب : هو تحقيق تقوى الله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183 .
المطلوب : هو مجاهدة النفس والهوى والشيطان .. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }العنكبوت69 .
ولكي أضعكم أما الحدث بكل حيثياته لتكتمل الصورة وترتفع الهمم والعزائم ونعيد صياغة مواقفنا وتصوراتنا ومراجعة أنفسنا بحق حتى لا تضيع علينا الفرص - فإنه إذا فاتت الفرصة فإنها لا تعوض – وتأملوا معي هذه الأمور الآتية وهي بمضمونها ترسم لك خارطة الطريق الصحيح في
رمضان ، خارطة الفلاح ، تضعك أما الاختيار بين أن تكون مرحوما أو تكون محروما .. وصدق الله : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } البلد10 . وهي أمور يسيرة ولكنها تحتاج إلى مجاهدة .
وإليك خارطة الطريق في
رمضان !!
أولاً : أخلص نيتك في صومك لله :
{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }البينة5 .
فالصيام هو لله وحده لا شريك له : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي .. ) صحيح البخاري-ن (2/ 673) .
فلزومك نية التعبد لله بصيامك وباستصحابك الاخلاص والإيمان بما شرع الله يتميز صومك ويخرج عن دائرة ممارسة العادات إلى محض العبادات ولذلك جاء في الحديث : ( من صام
رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) صحيح البخاري-ن (1/ 22) .
هذا الاخلاص لله هو سر الحيوية والروحانية والنشاط في شهر
رمضان ، بل يفضي هذا الاخلاص إلى حالة من المراقبة الذاتية على تصرفاتنا وسلوكنا أثناء الصيام فأي انحراف عن حقيقة الصيام وحقيقة التعبد لله يمكن ملاحظته ومن ثم معالجته ومراجعته والعودة إلى خط الاخلاص مرة أخرى .
ثانيا : كن من التوابين والمستغفرين :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }غافر7 .
{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ }هود90 . {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً }النصر3 .
ثالثا : عليك بكثرة السجود ( صلاة التراويح والقيام ) :
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }الزمر9 .
( من قام
رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه البخاري ومسلم .
وفي ليالي
رمضان المباركة هناك ليلة الفوز والعطاء والتتويج ( ليلة القدر ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم ) صحيح الترغيب والترهيب (1/ 241) .
وبالمناسبة كل مسلم بعد توفيق الله له بإمكانه إدراك هذه الليلة الشريفة – حتى لا يكن من المحرومين - فقط إذا حافظ على صلاة الليل ( التراويح والقيام ) طيلة أيام شهر
رمضان كاملة وهذا من تيسير الله ومنته .
وعلى المسلم ألا يضيّع ليالي
رمضان في التسكع في الأسواق واللهث وراء المتع والملذات وضياع الأوقات وليكن كما قال الله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }الكهف28 .
رابعا : اقصر عن الشر ( توقف ) :
{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }النازعات40 .
وفي الحديث : ( إذا كان أول ليلة من شهر
رمضان صفدت الشياطين و مردة الجن و غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب و ينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر و لله عتقاء من النار و ذلك كل ليلة ). حسن - انظر حديث رقم : 759 في صحيح الجامع .
والحقيقة أنه إذا لم يمكن للإنسان أن يقصر من فعله الشر في شهر
رمضان المبارك ويغتنم الفرصة ويغتنم روحانية الشهر وشرف الزمان فمتى يستطيع أن يفعل ذلك ؟!
خامسا : تضرع بالدعاء وألح في الطلب بين يدي مولاك :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }البقرة186 .
{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }الفرقان77 .
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( الدعاء هو العبادة ) ثم قرأ الآية { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } صحيح ابن حبان بتحقيق الأرناؤوط - مطابق للمطبوع (3/ 172) .
سادسا : أحسن الظن بالله ولا تقنط :
ففي الحديث : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) رواه البخاري ومسلم .
فانظر واختر لنفسك أي الأحوال تحتاجها لتصل إلى مرضاة ربك ( شبرا - ذراعا – باعا – مشيا ؟ ) بحسب همتك وعزيمتك ورغبتك إلى الله . وتأمل معي هذا العطاء وهذه الرحمة الربانية وهذا التحفيز الكبير [ تتقرب شبرا يتقرب إليك ذراعا ، تتقرب ذراعا يتقرب إليك باعا ، تأتيه مشيا يأتيك هروله ] سبحان ربي .. { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء96 . فماذا ننتظر ؟!
سابعا : أكثر من الطاعات وفعل الخيرات :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }الحج77 .
{ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ }آل عمران114 .
ثامنا : كن في العشر الأواخر أفضل وأحسن حالا مما سبقها من أيام الشهر :
فقد كان الحبيب المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وسلم أشد اجتهادا في هذه العشر فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ) . رواه مسلم . وعنها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من
رمضان حتى قبضه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده ). صحيح وضعيف سنن أبي داود (ص: 2) تحقيق الألباني - رحمه الله .
وأخير يقول الله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } النساء 66-68 .
اللهم وفقنا للصيام والقيام وصالح الأعمال .
كتبه / إدريس أبكر مجرشي
متعوب عليه Bint Zayed