بِلَآل بنِ رَبَاَحْ الحَبَشِي (أَبُو عَبدِ اَلله)، الشَدِيدِ السُمرَة النَحِيفْ النَاَحِلْ المُفرِطِ الطُولِ
الكَثِ الشَعْر، لَمْ يَكُن يَسّمَع كَلِمَاَتِ المَدح والثَنَاء تُوَجَّه اِلَيه، اِلَا وَيَحنِي رَأسَه وَيَغضّ طَرْفَه
وَيَقولّ وَعَبَرَاَتُه عَلَى وَجّنتَيه تَسِيل: "اِنَمَا أَنَا حَبَشِي كُنتُ بِالَأمسِ عَبدَاً"
كَاَنَ عَبّدَاً مِن عَبِيدِ قرَيش أَعلَنَ إِسْلَامَه فَعَذَّبَه سَيِدُه أُمِية بن خَلَفّ فَاَبتَاَعَه أَبو بَكرِ الصِدِيق وَأعتَقَه، اُشتِهِرَ بِصَبرِهِ عَلَى التَعذِيب وَقَولَتُه أَحَدٌ أَحَدٌ، كَاَن صَوتُه جَمِيلَا فَكَلَّفه الرَسول بِمَهَمَة الَأَذَان.
وُلِدَ بِلَآل فِي "السّرَاة" قَبلَ الهِجّرَة بِنَحوِ ثَلَآثٍ وَأربَعِينَ سَنَةٍ لِأَبٍ يُدعَى رَبَاَحَاً وَلِأمٍ تُدعَى حَمَامة
وَهِيَ أَمةٌ سَودَاء مِن إِمَاَءِ مَكَّة،
نَشَأَ رضِيَ الله عنّهُ حَبَشِيَاً فِي أُمِ القُرَى، عَبدَاً لِأنَاسٍّ مِن عَبدِ الدَاَر أوصَى بِهم أَبُوهُم إِلَى أُمَية اَبن خَلَفّ،
حَيثُ كَاَنَت أُمُه اِحدَى إِمَاَئِهِم وَجَوَارِيهِم.
بَدَأَت أَنّبَاَءُ مُحَمَد رَسُولُ الله تُنَاَدِي سَمعَهُ، حِينَ أَخَذَ النَاسُ فِي مَكَةَ يَتَنَاَقَلُوهَاَ،
وَيَومَ إِسلَاَمِهِ كَاَن رَسُولُ الله وَأَبُو بَكر مُعتَزِلَين فِي غَاَرّ،
إِذّ مَرَّ بِهِمَاَ بِلَالٌ وَهُوَ في غَنَمِ سَادَتِهِ يَرعَاَهُم، فَأَطَّلَعَ رَسُولُ الله رَأَّسَهُ مَنَ الغَارِ
وَقَاَل: يَاَ رَاَعِي هَل مِن لَبَن؟ فَقَاَلَ بِلَاَل: مَاَ لِي إِلَاَ شَاَةُ مِنّهَاَ قُوتِي، فَإِن شِئّتُمَاَ آثَرتُكُمَاَ بِلَبَنِهَاَ اليَومْ
فَقَاَلَ رَسُولُ الله: إيتِ بِهَاَ فَجَاَءَ بِلَال بِهَاَ، فَدَعَاَ رَسُولُ الله بِقُعبَه،
فَاَعتَقَلَهَاَ رَسُولُ الله فَحَلَبَ فِي القُعب حَتَى مَلَأه، فَشَرِبَ حَتَى رَوِي،
ابو بكر سيدنا.. واعتق بلالاً سيدنا
ثُمَ حَلَب حَتَى مَلَأَه فَسَقَى أَبَاَ بَكّر، ثُمَ احتَلَبَ حَتَى مَلَأَه فَسَقَى بِلَالاً حَتَى رَوِي،
ثُمَ أرسَلَهَاَ وِهِي أَحفَلُ مَاَ كَاَنتْ
ثُمَ قَاَل: يَاَ غُلَام هَلّ لَكَ فِي اَلإِسّلَاَم؟ فَإِنِي رَسُولُ الله، فَأَسَلَمَ بلال وَعُمرُهُ آنَذَاك 30عَاَمَاً،
فَقَاَلَ لَه النَبِي: اُكتُم إِسلَاَمَك فَفَعَل وَانصَرَف بِغَنَمِه، وَبَاَت بِهَا وَقَد أُضعِفَ لَبَنَهَا،
فَقَاَلَ لَهُ أَهلُه: لَقَد رَعَيتَ مَرَّعَىً طيباً فَعَلَيكَ بِه، فَعَاَد إِليهِ ثَلَاَثَة أَيَاَم يَسقِيهِمَاَ، وَيَتَعَلَّمُ الإِسلَام،
دَخَلَ بِلَآل يَومَاً الكَعّبَة وقُريشٌ فِي ظَهرِهَاَ لَاَ يَعّلَم،
فَاَلتَفتَ فَلَم يرَ أَحدَاً، أَتَى اَلأَصنَاَم وَجَعَلَ يبصُقُ عَليهَاَ وَيَقوُل: (خَاَبَ وخَسِرَ مَن عَبَدَكُنّ)
فَطَلبَتهُ قُرَيش فَهَرَبَ حَتَى دَخَلَ دَارَ سَيِدِهِ عبَدَ الله بِن جَدَعَاَن فَاَخَتَفَى فِيَهَاَ،
وَنَاَدَوْا عَبَد الله بِن جَدَعَاَن فَخَرَج فَقَاَلوَاَ: أَصَبوتَ؟! قَاَلَ: وَمِثلِي يُقَاَلُ لَهُ هَذَا؟!
قَالوَاَ: فَإِنَّ أَسْوَدَكَ صَنَع كَذَا وكَذَا.
فَدَعَا بِه فَاَلتَمَسُوهُ فَوَجَدُوهُ، فَأَتَوهُ فَقَالَ لِأَبِي جَهلٍ وَأُمَيَةَ بنُ خَلَف: شَأنُكُمَاَ بِه فَهُوَ لَكُمَاَ، اَصنَعَاَ بِه مَاَ أحبَبتُمَاَ.
وَبَدأَت رِحلَةُ العَذَابّ فَقَد كَانُوَا يَخرُجُونَ بِهِ فِي الظَهِيرَة التِي تَتَحَول الصَحْرَاَء فِيَهَا إِلَى جَهَنَمَ قَاتِلَة،
فَيَطرَحُونَهُ عَلَى حَصَاَهَاَ المُلتَهِب وَهُوَ عُريَاَن،
ثُمَ يَأتُونَ بِحَجرٍ مُتَسَّعِر كَالحَمِيم يَنقُلُه مِن مَكَانِهِ بِضعَةُ رِجَاَل وَيُلقُونَ بَهِ فَوقَه،
وَيَصِيحُ بِهِ جَلَادُوه: أُذكُرِ اللَاَتَ والعُزَّى فَيُجِيبُهُم: أَحَدٌ...أَحَدٌ.
وَاِذَا حَاَنَ الأَصِيل أَقَامُوهُ، وَجَعلَوَا فِي عُنِقِهِ حَبّلَاً،
ثُمَ أَمَرُوَاَ صِبيَاَنَهُم أَن يَطَوفوَاَ بِه جِبَالَ مَكَة وطُرُقُهَاَ، وَبِلَال لَا يَقُولُ سِوَى: أَحَدٌ...أَحَدْ.
أَخّرَجَ مُسّلِم أَن قَولَهُ تَعَاَلى "وَلَا تَطّرُدِ الذِينَ يَدّعُونَ ربَهمْ..." نَزَلَ فِي بِلَالِ وَآخَرِينَ مِن الضُعَفَاَءْ،
قَاَلَ المُشرِكُونَ لِلنَبِي: اُطرُدِ هَؤُلَاءِ عَنّكَ حِينَ نَجّلِس مَعَكَّ حَتَى لَآ يَتَجَرَأُونَ عَلينَاَ!!
وَلَكِنَ الله تَعَاَلَى أَنّزَل أَمْراً سَمَاوِياً لِلنَبِي بِألَا يَطرُد أُولئِكَ المُؤمِنين مِن أَجّلِ المُتَكبِرِين مِنَ المُشرِكِين
لِأنَه لَا فَضّلَ لِأحدٍ عَلَى أَحَد فِي الإِسّلَام إِلَا بِالتَقّوَى، وَلَا قِيمَة لِأموَالِ المُشرِكِينَ وَلَا أَحسَاَبِهم فِي مِيزَانِ الله رَبِ الجَمِيع.
ذَاتَ يَومٍ، كَاَنَ أُمَيَّةَ بنُ خَلَفّ يَضرِبُ بِلَاَلَاً بِالسُوطّ، فَمَرَّ عَلِيهِ أَبُو بَكّر، فَقَاَلَ لَه: أَتقتُلُونَ رَجُلَاً أَنْ يَقُولَ رَبِيَ الله؟
فَقَاَلَ أُمَيَة لِأَبِي بَكر: خُذّ أَكثَرَ مِن ثَمَنِهِ وَاترُكّهُ حُرَاً،
فَطَلَبَ أبُو بَكرٍ رَضِيَ الله عَنهُ شِرَاَءَهُ بِسَبعِ أَوَاق،
فَقَالَ أُمَيَة لِأَبِي بَكّرٍ الصِدِّيق: فَوَاللَآتِ وَالعُزَّى، لَو أَبيّتَ إِلَآ أَن تَشّتَرِيهِ بِأُوقِيَة وَاحِدَة لَبِعتُكَه بِهَاَ،
فَقَاَلَ أَبُو بَكّر: وَالله لَوّ أَبَيّتَ أَنتَ إِلَا مَاَئة أُوقِية لَدَفَعّتُهَاَ.
وَعَنّ ذَلِكَ كَاَنَ يَقُولُ عُمَر بنِ الخَطَاَب: "اَبُو بَكّر سَيِدُنَاَ وَاَعتَقَ سَيِدَنَاَ"
يَكفِي لِبَيَاَنِ مَاَ وَصَل إِلَيهِ بِلَال مِن مَكَاَنَة سَامِيَة بِالإسّلَام أَنَّ عُمَر بنِ الخَطَّابْ الرَجُل الثَاَلِث فِي الإِسلَام قَالَ عَن أَبِي بَكّر وَهُوَ يَصِفّ مَنَاَقِبَه: "أَبُو بَكّر سَيِدُنَا أَعّتَقَ بِلَالاً سَيِّدَنَا". أَرَأيَتَ كَيفَ وَصَفَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ الفَاَرُوق عُمَر بِلَالَاً بِأَنَّهُ "سَيِّدُنَا"، وَهُوَ الذِي كَاَنَ عَبّداً مَغْمُوراً ضَاَئِعَاً فِي شِعَاَبِ مَكَّة قَبَلَ الِإسّلَام.
هَاجَرَ رَضِيَ الله عَنهُ إِلَى المَدِيِنَة، وَآخَى الرَسُولُ صَلَى اَلله عَلِيهِ وَسَلَم بَينَهُ وَبَينَ أَبِي عُبَيدَة بنِ الجَّرَّاح رَضِيَ الله عَنهُمَاَ
وَفِي مَعرَكَةِ بَدر وَبينَمَاَ المَعَّرَكَة تَقّتَرِبُ مِن نِهَاَيَتِهَاَ،
لَمَحَ بِلَآل أُمَيَة بَنُ خَلَف فَصَاَحَ قَائِلَاً: رَأسُ الكُفرّ، أُمَيَةَ بنُ خَلَفّ لَاَ نَجّوتُ إِنّ نَجَاَ، وَرَفَعَ سيّفَهُ لِيَقطَعَ رَأسَهُ،
وَألقَى بِلَآل عَلَى جُثّمَانِ أُمَيَةَ الذِي هَوَى تَحّتَ السِيُوفِ نَظّرَةً طَوِيلَة ثُمَ هَرّوَلَ عنّهُ مُسّرِعَاَ وَصَوتُهُ يَصِيح: (أَحَدٌ أَحَدّ)
وَعَاَشَ بِلَآل مَع الرَسُولِ صَلَى الله عَليهِ وَسَلَم يَشهَدُ مَعَه المَشَاَهِدَ كُلَهَاَ،
وَكَاَنَ يَزدَاَدُ قُرَبَاً مِنَ قَلبِ الرَسُولِ صَلَى الله عَليِهِ وَسَلَم
وَدَخَلَ الرَسُولُ الكَعبَّة لِلصَلَآة فِيهَاَ وَلَم يَدعُو مَعَهُ أَحَداً لِلدُخُولِ سِوَى بِلَآل
فَأمَرَهُ أَن يُؤَذِن، فَيَعتَلِي بِلَآل سَطّحَ الكَعّبَة وَيُؤذُنَ بِلَآل فَيَالَرَوعَةِ الزَمَاَنِ والمَكَانِ والمُنَاَسِبَة.
شُرِفَ رَضِيَ الله عَنّهُ بِأَنَهُ كَاَنَ اَوَلَ مَن رَفَعَ اَلأَذَاَن فِي الثَلَاثّ مَسَاَجِد فَفِي المَسّجِدِ النَبَوِي وَبَعدَ الرُؤيَاَ المَعرُوفَة لِعبّدُ اَلله بنِ زَيِّد فِي اَلَأَذَانّ أَنَه لَمَّا قَصَّهَاَ عَلَى النَبِيِ صَلَّى اَلله عَلَيهِ وَسَلَم قَاَلَ لَه: قُمّ مَعَ بِلَآل فَأَلقِهَاَ عَليِّه فَإِنَهُ أَندَى مِنكَ صَوّتاً
اَمَّا فِي حَرَمِ مَكَه فَقد سَبَقَ ذِكّر القِصَّه
وَيُذّكَرُ فِي قِصَة رَفّعِهِ الأَذَان فِي المَسّجِدِ الأقّصَى أَنَّه
لَمَّاَ زَاَرَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عُمَرِ بنِ الخَطَّاَب رَضِيَ الله عَنّه الشَّاَم لِيَتَسلَّمَ مَفَاتِيحَ القُدسّ،
طَلَبَ مِن بِلَآل أَن يُؤذِّنَ لَهُم، وَلَم يَسّتَطِع بِلَآل أَن يَرفُضَ طَلَبَ الخَلِيفَة،
خَاَصَة عِندَمَاَ قَاَلَ لهُ أَمِيرُ المُؤمِنِين: "يَاَ بِلَآل إِنَ هَذَاَ يَومَاً يَسَرُ رَسُولُ اَلله"
فَعَلَآ ظَهّر المَسَّجِد وَأَذَّنَ بِصَوتٍ حَنُون جَعَلَ الخُشُوع وخَشّيَة الله يَسّكُنَاَنِ قُلُوبَ السَاَمِعِين
بَعّدَما اَنتَقَلَ النَبِّي صَلَىَ الله عَلَيهِ وَسَلَّم نَهَضَ بِأَمرِ المُسّلِمِين مِن بَعّدِهِ أَبُو بَكّرٍ الصِدِّيق، وَذَهَبَ بِلَاَل إِلَى الخَلِيفَة يَقُولُ لَه: يَاَ خَلِيفَة رَسُولِ الله، إِنِي سَمِعّتُ رَسُولِ الله يَقُول: أفّضَلُ عَمَلِ المُؤمِن الجِهَاَد فِي سَبِيلِ الله قَاَلَ لَهُ أَبُو بَكّر: فَمَاَ تَشَّاَء يَا بِلَالّ؟ قَاَلَ: أَرَدّتُ أَنّ أُرَاَبِط فِي سَبِيلِ الله حَتَى أَمُوت قَاَلَ أَبُو بَكّر: وَمَن يُؤذِنُ لَنَاَ؟ قَالَ بِلَاَل وعَيّنَاَهُ تَفِيضَاَنِ مِن الدَمّع: اِنِي لَا أُؤذِن لِأحَد بَعَد رَسُولِ الله قَاَلَ أَبُو بَكّر: بَلّ ابّقَ وَأَذِنّ لنا يا بلال، قال بِلَاَل: اِنّ كُنتَ قَدْ أَعّتَقّتَنِي لِأَكُونَ لَك فَلّيَكُن مَا تُرِيد، وَاِن كُنتَ أَعّتَقتَنِي لله فَدَعّنِي قَاَلَ أَبُو بَكّر: بَلّ أَعّتَقْتُكَ لله يَاَ بِلَآل، فَسَافَر بِلَآل إِلَى الشَاَم حَيّث بَقِيَ مُرَابِطاً ومُجَاهِداً.
ولَهُ قِصَة مُؤثِرة فِي حَنِينِه إِلَى رَسُولِ اَلله اَتّركُهَا لِآذَانِكُم لِتَسّمَعَهَاَ
وَفِي قِصَة زَوَاجِه انه لَمَّاَ أَقَاَمَ بِالشَاَمّ ذَهَبَ يَومَاً -رَضِيَ الله عَنه- يَخّطِب لِنَفْسِه ولِصَاحِبِهِ أَبُو رُوَيحَة زَوجِتَين فَقَاَل لِأبيهِمِا: "أِنَا بِلآلِ وَهَذَاَ أَخِي، عَبّدَاَنِ مِنَ الحَبَشَة، كُنَّاَ ضَاَلَينِ فَهَدَاَنَاَ الله، وَكُنَاَ عَبدِين فَأَعتَقَنَا الله، اِن تُزَوِجُونَاَ فَالحَمدِ لله، واِن تَمنُعونَاَ فَاَلله أَكّبَر" فَوَافَقَ القَوُمُ عَلَى الفَورّ مُرَحِبِينَ بِصَاَحِبَي الرَسُولِ وَزَوَّجُوهُمَاَ منَ اخّتَاَرَا. رُغّمَ أَنَ تِلكَ القَبِيلَة "خَوّلَان" هِيَ وَاحِدَة مِنّ أَعّرَقّ القَبَائِل بِالشَاَم. وَهَكَذَا يَتَسَاَوَى الجَمِيعُ فِي الإِسّلَآمّ، وَلَاَ تَفضِّيلَ لِحُرٍّ عَلَى عَبّدٍ إِلَّا بِمِعيَاَرِ الِإيِّمَاَنِ وَالعَمَلِ الصَاَلِح.