أخلاق الإسلام السيرة النبوية
إن الغاية من بعثة محمد صل الله عليه وسلم هي إتمام مكارم الأخلاق “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“، ومن جملة الأخلاق التي علمنا محمد صلى الله عليه وسلم إياها: التلطف، وحسن المعاملة، ومراعاة المشاعر والأحاسيس. فحثنا على الانتقاء والاختيار، كسباً للقلوب وجبراً للخواطر.
كان الرسول صل الله عليه وسلم يراعي مشاعر المخطئ وأحاسيسه فكان إذا رأى خطأ من أحدهم، لا يوجهه أمام أنظار أصحابه وإنما كان قوله لمن أخطأ شعار “ما بال أقوام“، فعن أمنا ام المؤمنين عائشة رضي اللهعنها قالت: “كان النبي صل الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: “ما بال أقوام يقولون كذا وكذا“. كما كان النبي صل الله عليه وسلم يعلم الجاهل برفق ولين، ويصوّب خطأه ويكسب ودّه ويصون مشاعره وأحاسيسه من أن تُجرح، وكيف لا وقد قال الله في حقّه (وإنك لعلى خلق عظيم)، ولتوضيح هذأ الموقف نسوق قصّة الأعرابيالذي بال بالمسجد فاعترض عليه الصحابة فقال: “لا تُزرْرِمُوهُ” أي: تقطعوا بوله، ثم علمه بعد ذلك بأن المساجد مخصصة لعبادة الله وذكره؛ لأن الأعرابي كان جاهلا ولم يكن متعمداً فتعامل معه المعلم النبي صل الله عليه وسلم بكل لطف واحترام.
فعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُزْرِمُوهُ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَلَمَّا فَرَغَ أَمَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ) الْأَعْرَابِيُّ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ. قال الامام النووي معلقا على هذا الحديث: “فيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزم من غير تعنيف ولا إيذاء، إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً أو عناداً، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما”.
الموقف الثاني: مراعاة مشاعر أصحاب المهن الاجتماعية الضعيفة علمنا النبي صل الله عليه وسلم عندما يأتي خادم يحمل طعام أن نجلسه معنا أو نطعمه من الطعام لقوله صل الله عليه وسلم :” (إِذَا صَنَعَ لِأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ) قَالَ دَاوُدُ يَعْنِي لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَمَّا الْأُكْلَةُ فَبِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهِيَ اللُّقْمَةُ كَمَا فَسَّرَهُ وَأَمَّا الْمَشْفُوهُ فَهُوَ الْقَلِيلُ لِأَنَّ الشِّفَاهَ كَثُرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ قَلِيلًا قَوْلُهُ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْفُوهًا قَلِيلًا أَيْ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ قال.
قال الإمام النووي رحمه الله معلقا على هذا الحديث: “وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ صَنَعَهُ أَوْ حَمَلَهُ لِأَنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَشَمَّ رَائِحَتَهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ”
ليس من أمة محمد صل الله عليه وسلم من لا يحترم صغيرها ويوقر كبيرها، فالصغير يجب مراعاة مشاعره، وذلك برحمته والشفقة عليه، والكبير ينبغي الاهتمام به وتوقيره لِكِبَر سِنِّه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء شيخ يريد النبي صل الله عليه وسلم فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال لنبي صل الله عليه وسلم: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا“. كان لنبي صل الله عليه وسلم يراعي مشاعر الأطفال، سجد مرة فأطال السجود، حتى قلق بعض فرفعوا رؤوسهم، لنبي صل الله عليه وسلم مازال ساجداً، فسألوه بعد الصلاة عما حدث، أأوحي إليك؟ قال: “كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني” حفيدي ابني ارتحلني ــ جعلني كالراحلة، جاء الصغير فامتطاني يلعب قال: «فكرهت أن أعجله“، هكذا راعى النبي صل الله عليه وسلم مشاعر الأطفال. أحيانا يخرج الريح من الإنسان في الصلاة أو في المجلس، وهذا الشيء يقع من كل أحد، لكن ينبغي للإنسان أن يتعاطى معها بكامل الدقة، لئلا يحرج ذلك الإنسان ويجرح مشاعره، فقد جاء في الحديث: «إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه، ثم لينصرف“
يأخذ بأنفه كأنه وقع له رعاف أثناء الصلاة، وذلك صيانة لمشاعره وحفظها.
المؤمن مرآة أخيه كما يقال، إذا رأى منه خيراً حفزه وشجعه، وإن رأى غير ذلك، خطأً، أو نقصاً، سعى في جبره وسده. فالمنصوح إنسان يحتاج إلى جبر نقص وتكميله، وهذا يحتاج منه أن يقدم النصح لأخيه في السر لا في العلن؛ لأن الناصح في ملاءٍ يعين الشيطان على صاحبه، ويغلق أبواب الخير وتضعف قابلية الانتفاع بالنصح عنده.
قال الإمام الشافعي: “من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”.
تعمدني بنصحك في انفـرادي * * *
وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نـوع * * * من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولـي * * *
فلا تجزع إذا لم تعط طاعـة
الموقف السابع: مراعاة مشاعر أصحاب العاهات والمبتلين نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن إحداد النظر إلى أصحاب العاهات في قوله: “لا تديموا النظر إلى المجذومين“، فمن الأدب ألا يُحد النظر إليهم؛ لئلا يُحرجوا، ولذلك عملن النبي صل الله عليه وسلم أن نقول إذا رأينا أصحاب العلة هذا الذكر الجميل: “الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا“لا يقال جهراً، حتى لا يُحرج صاحب العاهة، بل يُسر في نفسه صونا لمشاعره