#1
| ||||||||||
| ||||||||||
لماذا التحذير من الدنيا؟ لماذا التحذير من الدنيا؟ على الرغم من أن الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، ولا يتم الدِّين إلا بها، والحصاد يوم القيامة عليها، فإن الشارع الحكيم حذَّرنا منها، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24]، وقال: ﴿ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26]، وقال: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 45، 46]، وقال: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [القصص: 60]، وقال: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا. إذًا، لماذا كلُّ هذا التحذير من الدنيا؟! لأنها حينما تصبح غايةً عليا للإنسان، ويكون همُّه إشباعَ شهواتها، والانغماسَ في ملذَّاتها، فإن النفس تنصَرِفُ عن معالي الأمور، ومراتب الكمال، وغايات الجلال، إلى أراذل الأعمال وسفاسِفها، ومن ثَمَّ يستوحشُ صاحبُها من الآخرة، وينفرُ عن الموت نفورًا زائدًا؛ لأنه لا يرى بعدَه إلا الشقاء والبؤس، وشيئًا فشيئًا ينسى الغايةَ التي خُلق من أجلِها، ويُحجب قلبه عن ربِّه، ويُحبس عن السير إليه، بعدما يمتلك حبُّها قلبَه؛ فيعطل أمر الله ونهيه؛ لأن الجهلبحقيقة الدنيا والاغترار بها تجعل الإنسان يظن أنه ليس وراءها غاية أكرم وأبقى من مُعايشة لذات مقطوعةٍ عن منهج الله تعالى؛ الذي جعل الدنيا بما فيها مزرعةً للآخرة. المتأمِّل للقرآن العظيم من أوله إلى آخره، يرى ما فيه من تحذير شديد من فتنة الدنيا، والزجر عنها، والترغيب في الآخرة والدعاء إليها، وبيان أن أعظم العوائق عن الله والقواطع دونه هي الدنيا الفتانة، والشيطان الموسوس المسوِّل؛ كقوله تعالى: ﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33]، فنهى عِبادَه أن تغرَّهم الدنيا بزينتها وزخارفها وما فيها من الفتن والمِحن، أو يغرَّهم بالله الغرور؛ وهو الشيطان، ولما كان الله تعالى هو الخالقَ للقلوب والعليم بمداخلها، الخبير بما يَصلُح لها وما تَصلحُ به؛ أعلَمَ عبادَه بالدواء العاصم من كل غرور، وهو تقواه وخوفه، وتصور الآخرة، والحذر من الدنيا وزينتها. لأنها: أضرُّ شيء على العبد إن هو استرسَلَ معها، واغترَّ بها، ولم يجتنب فضولَ المطعم والمشرب والملبس والنوم والخِلطة، فيقوى عنده داعي المعصية؛ قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "إنما أخاف عليكم اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى؛ فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتِّباع الهوى يَصدُّ عن الحق، وإن الدنيا قد ترحَّلت مُدبرةً، وإن الآخرةَ مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل"[1]. لأنها: في عمومها ليست إلا لهوًا ولعبًا، فحينما تصبح أكبرَ الهمِّ، ومبلغَ العلم، والغاية العليا من الحياة، تكون الطامة الكبرى، وتحلُّ النقم. النفس تطمع في الدنيا وقد علمتْ ♦♦♦ أن السلامة منها ترك ما فيها فلا تَغُرَّنَّك الدنيا وزينتُها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطنِ وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راحَ منها بغير الحنط والكفنِ خذِ القناعةَ من دنياك وارضَ بها لو لم يكن لك إلا راحةُ البدنِ يا زارعَ الخير تحصدْ بعده ثمرًا يا زارع الشر موقوفٌ على الوهنِ يا نفسُ كفِّي عن العصيان واكتسبي فعلًا جميلًا لعل الله يرحمني يا نفس ويحك تُوبِي واعملي حسنًا عسى تُجازين بعد الموت بالحسنِ لأنها: ممرٌّ، والآخرة مقَر؛ فعلينا العملُ للآخرة، وتحقيق النفع لدنيانا، وأن نحسن عمارتَها وقيادتها، منطلقين من قوله تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13]، وقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [الملك: 15]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثُّ على النفع العام فيقول: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة))[2]، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قامت على أحدكم القيامةُ، وفي يده فسيلة فليَغْرِسْها))[3]. ونحن اليوم قد تأخَّرنا عن غيرنا في العلم والعمل والإنتاج، وفرَّطنا في اغتنام الأوقات، والجد في الأعمال، وقد كان حريًّا بنا ألا نضيع الأوقات، أو نقصر في العمل، أو نقلل من الإنتاج. والشارع الحكيم إنما أباح الاستمتاع بها بقدر الحاجة، والترفيه واللهو بغير أن يشغل عن واجبات شرعية بتضييعها أو تأخيرها، ولا يستغرق أوقاتًا طويلة تضيع سدًى دون فائدة، ولا تتخذ ديدنًا وعادة يفرغ لها وقت دائم ومنتظم. لأنها:حُكِمَ عليها بالفناء، وعدم البقاء، وأنها متاعُ الغرور؛ تَفتن بزُخْرفِها، وتَخدَع بغرورها، وتغرُّ بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار، التي تُوفَّى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير وشر؛ قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، فمن أُخرج عن النار وأُدخل الجنة، فقد فاز وربِّ الكعبة الفوزَ العظيم من العذاب الأليم، والوصول إلى جنات النعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. لا تأسفَنَّ على الدنيا وما فيها فالموتُ لا شكَّ يُفنينا ويفنيها ومَن يكن همُّه الدنيا ليجمَعَها فسوف يومًا على رغمٍ يُخلِّيها لا تَشبَعُ النَّفسُ من دنيا تجمِّعها وبُلْغةٌ من قِوامِ العيش تَكْفِيها اعملْ لدار البقا رضوانُ خازنُها والجار أحمد والرحمن بانيها أرضٌ لها ذهبٌ والمِسْكُ طِينتُها والزَّعْفرانُ حَشيشٌ نابتٌ فيها لأنها: الداء العضال الجالب لكل شرٍّ، والسالب للنعم، والزارع للعداوة، والغارس للحزازات؛ حتى تزول الجبال الرَّاسيات، ولا تزول إلى أن تحصل خسارة الدنيا والآخرة؛ ومن ثَمَّ وجب على العاقل الأخذُ من الدنيا بمقدار الحاجة. لأنها: لو تمكَّنت من القلب زاحمت حبَّ الله رب العالمين؛ وذلك لأن اتباعَ حظوظ النفس يُبعد عن الله تعالى؛ لما فيه من الانشغال عما أراده الله تعالى من الخلق، كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. وتأمل معي - أيها القارئ الكريم - قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرةُ نيتَه، جمع الله له أمرَه، وجعل غناه في قلبه، وأتَتْه الدنيا وهي راغمة))[4]. لأنها: لا يقوم لها كل أحد، "إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر، ولكن القلَّة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير، كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكنَّ قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، ويكبحون جماحَ القوة الهائجة في كيانهم، الجامحة في أوصالهم. كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان؛ فلا تتهاوَى نفوسهم ولا تذل، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان، وما يغريانِ به من متاع، وما يثيرانه من شهوات وأطماع! كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثَّراء! كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدَّعَة والمراح، ثم لا يصابون بالحرص الذي يذلُّ أعناق الرجال، وبالاسترخاء الذي يُقعِدُ الهِممَ ويذلل الأرواح! إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحثُّ المقاومة، ويُجنِّد الأعصاب، فتكون القُوَى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها. أما الرخاء، فيرخي الأعصاب ويُنيمها، ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة؛ لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء، سقطوا في الابتلاء! وذلك شأن البشر، إلا من عصم الله فكانوا ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمرَه كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له))، وهم قليل! فاليَقَظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر، والصلة بالله في الحالين هي وحدَها الضمان"[5]. لأنها: تشغل القلب عن التبصُّر والاعتبار، وتدفع الناس إلى الغرق في لُجَّة اللذائذ القريبة المحسوسة، وتَحجب القلب عما هو أرفع وأعلى، وتغلظ الحسَّ؛ فتحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة، ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان واستخلافه في الأرض. لأنها: قلية الوفاء، كثيرة الجفاء، خسيسة الشركاء، فمن استحضرت نفسه ذلك وتمَّ عقله وحضر رشده، تركها لأهلها، ومن أعجب ما قال شيخ الإسلام أبو عبدالله بن القيم في مَعْرِض كلامه عن خلق دارين: الجنة والنار، قوله: فهاتان الداران هما دارَا القرار، وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزوَّد المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا، ثم أخرج إليها من أثمار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابِهما، وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رَأْي عين؛ ليصير للإيمان بالدارين - وإن كان غَيْبًا- وجه شهادة تستأنس به النفوس، وتستدلُّ به، فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومُشتهاها - ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كلَّه فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكَّرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخي، كما قيل: فإذا رآك المسلمون تيقَّنوا ♦♦♦ حُورَ الجِنان لدى النعيمِ الخالدِ فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمةٌ من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزَادٌ لهم من هذه الدار إليها، فهي زادٌ وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار، فالمؤمنُ يهتزُّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويثيرُ ساكنَ عزماته إلى تلك، فنفسه ذوَّاقة توَّاقة، إذا ذاقت شيئًا منها، تاقت إلى ما هو أكمل منه؛ حتى تَتوقَ إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم. وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات - ما يستدل بجنسِه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفَسَيْنِ الشتاء والصيف اللذين أَذِن الله سبحانه بحكمته لجهنَّم أن تتنفَّس بهما، فاقتضى ذانِك النفَسان آثارًا ظهرت في هذه الدار، كانت دليلًا عليها وعبرة. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبَّه عليه بقوله في نار الدنيا: ﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ﴾ [الواقعة: 73]، تذكرة تذكر بها الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقواءِ؛ وهم المسافرون. والمقصود: أنه سبحانه أشهد في هذه الدار ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عِبرةٌ ودلالة على ما هناك من خير وشر، وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا يسوقُ بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذروا كلَّ الحذرِ، واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات، وكان وجودها في هذه الدار، وإشهادهم إياها، وامتحانهم باليسير منها - رحمة منه بهم، وإحسانًا إليهم، وتذكرة وتنبيهًا. ولما كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها بشرها، وأذاها براحتها، ونعيمها بعذابها؛ اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أنْ خلَّص خيرها من شرها وخصه بدار أخرى، هي دار الخيرات المحضة، ودار السرور المحضة، فكتب على هذه الدار حكمَ الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة؛ حكمة بالغة بهَرت العقول، وعزة قاهرة"[6]؛ اهـ. لأنها: "لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرَيْنِ صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها، وفنائها واضمحلالها، ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يَعقُب ذلك من الحسرة والأسف، فطالبُها لا ينفكُّ من همٍّ قبل حصولها، وهمٍّ حال الظفر بها، وغمٍّ وحزن بعد فواتها؛ فهذا أحد النظرين. النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هنا، فهي كما قال الله سبحانه: ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 17]؛ فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مُضْمحلة، فإذا تمَّ له هذان النظران، آثر ما يقتضي العقلُ إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحد مطبوع على ألا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبيَّن له فضلُ الآجل على العاجل، وقَوِيَتْ رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبيُّن الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل"[7]؛ قاله الإمام ابن القيم. لأنها: "تدفع كلَّ من آثرها من أهل العلم واستحبَّها ولا بد أن يقول على الله غيرَ الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة والذين يتَّبعون الشبهات؛ فإنهم لا تتمُّ لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا، فإذا كان العالم والحاكم محبَّيْنِ للرياسة متبعَيْنِ للشهوات، لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضادُّه من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى؛ فيخفى الصوابُ، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به ولا شبهة فيه، أقدم على مخالفته وقال: لي مَخْرج بالتوبة. وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ﴾ [مريم: 59]، وقال تعالى فيهم أيضًا: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأعراف: 169]، فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العَرَض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم، وقالوا: سيُغفَر لنا، وإن عَرَض لهم عَرَضٌ آخر أخَذوه، فهم مصرُّون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق، فيقولون: هذا حكمُه وشرعه ودينه، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أو لا يعلمون أن ذلك دينُه وشرعه وحكمه، فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانَه"[8]. لأنها: سبب الشقاء والهلاك لمن رضي بها واطمأن إليها، وغفل عن تدبر آيات الله، ومُحالٌ أن يجتمع هذا في قلبِ مَن يرجو لقاء الله، فتأمل هذا - سلَّمك الله - فهذا الضرب هو الغالب على أهل الأرض على الرغم من آيات القرآن الكريم المحذِّرة منه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7، 8]. لأنها: حينما يغمر القلبَ حبُّها، لا يوجد فيه مكان لله واليوم الآخر، حتى تصبح أكبر الهم، ومبلغ العلم. "إن القلب قد يغمره فيستولي عليه ما يريده العبد ويحبُّه، وما يخافه ويحذره كائنًا مَن كان؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 63]، فهي فيما يغمرها عما أنذرت به، فيغمرها ذلك عن ذكر الله والدار الآخرة، وما فيها من النعيم والعذاب الأليم؛ قال الله تعالى: ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ [المؤمنون: 54]؛ أي: فيما يغمر قلوبهم من حبِّ المال والبنين، المانع لهم من المسارعة في الخيرات والأعمال الصالحة، وقال تعالى: ﴿ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ﴾ [الذاريات: 10، 11]؛ أي: ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها؛ أي: فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة وما خُلقوا له، وهذا يشبه قوله: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]، فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال مَن قال: السهو: الغفلة عن الشيء، وذَهاب القلب عنه، وهذا جِماع الشر: الغفلة، والشهوة؛ فالغفلة عن الله والدارِ الآخرة تسدُّ بابَ الخير الذي هو الذكر واليقظة، والشهوةُ تفتح بابَ الشرِّ والسهو والخوف؛ فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه، غافلًا عن الله، رائدًا غيرَ الله، ساهيًا عن ذكره، قد اشتغل بغير الله، قد انفرط أمرُه، قد ران حبُّ الدنيا على قلبه، كما روي في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تَعِس عبد الدينار، تَعِس عبد الدرهم، تَعِس عبد القَطيفة، تَعِس عبد الخَميصة، تَعِس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أُعطِيَ رضي، وإن مُنع سخط))، جعله عبدَ ما يرضيه وُجودُه، ويُسخطه فقدُه؛ حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث، و"القطيفة" هي التي يجلس عليها، فهو خادمها، كما قال بعض السلف: الْبَسْ من الثياب ما يخدمُك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمُه، فما كان يرضي الإنسانَ حصوله، ويسخطه فقده، فهو عبده؛ إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما، والمعبود الحق الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبَّه، حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان، وتوحيد، ومحبة، وذكر، وعبادة؛ فيرضى بذلك، وإذا منع من ذلك، غضب"[9]. لأنها: لا يخلو صفوُها عن شوائب الكدورات، ولا ينفك سرورُها عن المنغِّصات؛ سلامتُها يَعْقُبُها السَّقَم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة. يا بائع الدين بالدنيا وباطِلها ترضى بِدينك شيئًا ليس يَسْواهُ حتى متى أنت في لهوٍ وفي لعبٍ والموتُ نحوك يهوي فاغرًا فاهُ ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدرِكُه رُبَّ امرِئٍ حَتفُهُ فيما تمنَّاهُ إن المُنى لَغُرورٌ ضِلة وَهَوًى لعلَّ حتفَ امرئٍ في الشيءِ يَهواهُ تَغْتَرُّ لِلجهل بالدنيا وَزُخْرفها إن الشقيَّ لَمَنْ غرَّته دنياهُ كأنَّ حَيًّا وقد طالتْ سلامتُهُ قد صار في سَكَراتِ الموت تغشاهُ والناسُ في رَقْدَةٍ عما يُرادُ بهم ولِلحوادثِ تَحْريكٌ وإنباهُ وقال آخر: أرى الدنيا لمن هي في يديه عذابًا كلما كثرت لديه تُهين المُكرمِين لها بصُغْرٍ وتكرمُ كلَّ مَن هانت عليه إذا استَغْنَيْتَ عن شيءٍ فدَعْهُ وخُذْ ما أنتَ مُحْتاجٌ إليه المصدر: منتدى همسات الغلا glh`h hgjp`dv lk hg]kdh? H, hgjp`dv |
18-02-2023, 11:26 AM | #2 |
| نسأل الله أن يأخذ بأيدينا جميعاً لما فيه خير الصلاح والاستقامة والرشاد جزاك الله خير اختي ميارا على ماقدمت جعلها الله لك في ميزان حسناتك دمت برعاية الله |
|
18-02-2023, 12:24 PM | #3 |
| خالص مودتى وتقديرى لك على هذا الطرح الاكثر من رائع فى انتظار كل جديد ومفيد كنت هنا اتابع بشغف |
|
18-02-2023, 01:24 PM | #4 |
| اسطوره . شُكْرًا لَك عَلَى الرَّدِّ الِجَمِيل و المفيذ جَزَاك اللَّهُ أَلْفَ خَيْرٌ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدُّمِيَّة . |
|
18-02-2023, 03:19 PM | #5 |
| جزاك المولى الجنه وكتب الله لك اجر هذه الحروف كجبل احد حسنات وجعله المولى شاهداً لك لا عليك دمتِم بسعاده لاتغادر روحكم |
|
18-02-2023, 04:34 PM | #6 |
| جزآك الله جنةٍ عَرضها آلسَموآت وَ الأرض بآرك الله فيك على الطَرح القيم في ميزآن حسناتك ان شاء الله ,, آسأل الله أن يَرزقـك فسيح آلجنات !! وجَعل مااقدمت في مَيزانْ حسَناتك وعَمر آلله قلبك بآآآلايمَآآنْ علىَ طرحَك آالمحمَل بنفحآتٍ إيمآنيهِ دمت بـِ طآعَة الله . |
|
18-02-2023, 06:24 PM | #7 |
| جزاك الله خيرا وبارك فيـك علام الغيوب ونفـــس عنــك كـل مكــروب وثبـت قلبـك علـى دينـه إنــه مقلـب القلـوب دمت بحفظ الله ورعايته |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
لماذا , أو , التحذير , الدنيا؟ |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
لماذا تحمل هم هذه الدنيا على رأسك | البرنس مديح ال قطب | ( همســـــات العام ) | 6 | 19-11-2022 12:05 AM |
غـــڷآتِـڪّ مِثڷ آإڷمطر ٺمُـووٺ آإڷأرض مِن دونَـہ | النـور | ( حصريات النـور ) | 12182 | 11-09-2022 10:00 PM |
لماذا انا ؟؟!! | بنت الاجاويد | { حصريات بأقلام الاعضاء } لم يسبق لها النشر | 21 | 04-03-2020 11:41 PM |
لماذا أشارات التحذير حمراء ؟ | ميارا | ( حدث في مثل هذا اليوم // هل تعلم ) | 13 | 16-09-2013 03:00 PM |
لماذا تتركيني ؟ | الشاعر رائد النجفي | { حصريات بأقلام الاعضاء } لم يسبق لها النشر | 21 | 26-04-2013 01:04 PM |