وأما الجهل بأساليب اللغة العربية:
فقد نشأ عنه أنْ فُهمت بعض النصوص على غير وجهها، وكان ذلك سبباً في إحداث ما لا يعرفه الأولون، ومن ذلك: قول بعض الناس: إن حديث "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي" يطلب الصلاة على النبي من المؤذن عقب الأذان، ولم يطلب منه أن تكون بغير كيفية الأذان؛ وهي الجهر، فدل على مشروعيتها بالكيفية المعروفة! ووجهوا دلالة الحديث على طلبها من المؤذن بأن الخطاب في قوله - صلى الله عليه وسلم - لجميع المسلمين، والمؤذن داخل فيهم، أو بأن قوله: "إذا سمعتم" يتناوله؛ لأنه يسمع نفسه، وكلا التأويلين جهل بأساليب اللغة في مثل هذا، فصدر الحديث لم يتناول المؤذن قطعاً، وآخره جاء على أوله فلا يتناوله أيضا.
ومن ذلك أيضا: ما يزعمه بعضٌ آخر من أن المحرم من الخنزير لحمه دون شحمه؛ لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم! وهو ابتداع نشأ من الجهل بأن كلمة
(اللحم) في اللغة العربية تُطلق على الشحم ولا عكس. ومنه أيضا قول بعض المتكلمين إن لله
(جنباً) بدليل قوله تعالى: ﴿
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾
[الزمر: 56]، وهو ابتداع نشأ من الجهل بأن العرب لا تعرف
(الجنب) في مثل هذا التركيب بمعنى العضو المعروف، فهي تقول: هذا يصغر في جنب ذاك، تريد بالإضافة إليه.
قال الإمام الرازي في تفسيره:
((القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية. وعلم أن دلائلنا على نفي الأعضاء قد كثرت فلا فائدة في الإعادة))، وبعد أن ساق المأثور عند المتقدمين عن المراد بالجَنْبِ قال: ((واعلم أن الإكثار من هذه العبارات لا يفيد شرح صدور وشفاء العليل، فنقول: الجَنْب سمي جنباً لأنه جانب من جوانبه، فلما حصلت هذه المشابهة من الجنب الذي هو العضو، وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له؛ صح الإطلاق، ولا جرم في إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر بالطاعة. قال الشاعر:
أما تتقين الله في جنب وامق ♦♦♦
له كبد حرّى عليك تَقَطَّعُ
هذه جملة من الأمثلة يتضح بها كيف يأتي
الابتداع من جهة الجهل باللغة العربية: مفرداتها وأساليبها، وقد أجمع الأولون على أن معرفة ما يتوقف عليه فهم الكتاب والسنة من خصائص اللغة العربية شرط أساسي في جواز الاجتهاد ومعالجة النصوص الشرعية والاقتراب منها.
وأما الجهل بمرتبة القياس في مصادر التشريع - وهي التأخر عن السنة -: فقد ترتب عليه أن قاس قوم مع وجود سنة ثابتة وأبوا أن يرجعوا إليها فوقعوا في البدعة. والمتتبع لآراء الفقهاء يجد أمثلة كثيرة لهذه النوع، وأقربها ما قاله البعض من قياس المؤذن على المستمع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان مع وجود السنة التَّركية التي قد علمت حكمها وأنها مقدمة على القياس، مع أن حديث: "إذا سمعتم المؤذن" يدل بأسلوبه على اختصاص المستمعين بالصلاة عقب الأذان.
متابعة الهوى في الأحكام:
قد يكون الناظر في الأدلة ممن تملكهم الأهواء، فتدفعه إلى تقرير الحكم الذي يحقق غرضه ثم يأخذ في تلمس الدليل الذي يعتمد عليه ويجادل به، وهذا في الواقع يجعل الهوى أصلاً تحمل الأدلة عليه ويحكم به على الأدلة، وهو قلب لقضية التشريع، وإفساد لغرض الشارع من نصب الأدلة، ومتابعة الهوى أصل الزيغ عن صراط الله المستقيم: ﴿
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: 50]، وقد جاء في الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"، والابتداع به يكثر عند أرباب المطامع في خدمة الملوك والحصول على عرض الدنيا وحطامها، ولعل أكثر الحيل التي نراها منسوبة إلى الدين - والدين منها بريء - يرجع إلى هذا. ولا يبعد أن يكون منه الأذان السلطاني ونحوه من البدع التي لم نرها إلا في صلاة الملوك والسلاطين، وكذلك بدعة المحمل، وبدعة الاجتماع لإحياء بعض الليالي وغير ذلك مما يغلب أن يكون رغبة لملك أو مشورة لمقرب إليه، ثم توارثتها الأجيال، وعمت الجماهير وصارت عندهم ديناً ينكرون على من أنكره.
والمبتدعون بمتابعة الهوى ينتسبون بهذه الخطة السيئة إلى أولئك الذين قال الله فيهم:
﴿
وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41]، ﴿
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾
[البقرة: 174- 176].
والواقع أنه بمتابعة الهوى تكتسح الأديان ويقتل كل خير، والابتداع به أشد أنواع
الابتداع إثماً عند الله، وأعظم جُرماً على الحق. فكم حرّف الهوى من شرائع، وبدل من ديانات، وأوقع الإنسان في ضلال مبين.
تحسين الظن بالعقل في الشرعيات:
إن الله جعل للعقول حداً تنتهي في الإدراك إليه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء، فمن الأشياء ما لا يصل العقل إليه بحال، ومنها ما يصل إلى ظاهر منه دون اكتناه، وهي مع هذا القصور الذاتي لا تكاد تنفق في فهم الحقائق التي أمكن لها إدراكها، فإن قوي الإدراك ووسائله تختلف عند النظار اختلافاً كثيراً، ولهذا كان لا بد فيما لا سبيل للعقول إلى إدراكه، وفيما تختلف فيه الأنظار؛ من الرجوع إلى مخبر صادق يضطر العقل أمام معجزته إلى تصديقه، وليس ذلك سوى الرسول المؤيد من عند الله العليم بكل شيء، الخبير بما خلق، وعلى هذا الأصل بعث لله ورسله يبينون للناس ما يرضي خالقَهم، ويضمن سعادتهم، ويجعل لهم حظاً وافراً في خيري الدنيا والآخرة.
وقد شذّ عن هذا الأصل قومٌ رفعوا العقل عن مستواه الذي حدده الله، وجعلوه حجة الله على عباده، وحكموه فيما لا يدركه مما أنزل الله، فرجعوا في التشريع إليه وأنكروا في النقل كل ما لم يعهد في إدراكه، ثم توسعوا في ذلك وجعلوه أصلاً في التشريع الإلهي، واستباحوا بعقولهم فيه ما لم يأذن به الله، وما لا نعلم أنه يرضي الله أو يغضبه، وقد أعانهم على
الابتداع في العبادات أنهم نظروا فيما أدركه العلماء من أسرار التشريع الإلهي وحكمه، وزعموا أن هذه الأسرار هي المقصودة لله في تشريع الحكم، وأنها داعية إليه، فشرعوا عبادات على مقتضى هذه الأسرار في بعض تشريع الله.
وهذا هو
الاستحسان الذي ذمه أصحاب الرسول وأئمة الهدى والدين، وأنكروا على الآخذين به، ومن ذلك قول الشافعي:
((الاستحسان تلذذ، ولو جاز الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه))، وقوله:
((من أستحسن فقد شرع))، ومعناه كما قال الرياني:
((إنه نصب من جهة نفسه شرعاً غير الشرع))، وقد وقع كثير من
الابتداع بهذا الطريق، فبحكم العقل القاصر رُدَّت كثير من الأمور الغيبية التي صحت بها الأحاديث: كالصراط، والميزان، وحشر الأجساد، والنعيم والعذاب الجسمي، ورؤية الباري وما إلى ذلك مما لم يدركه العقل ولا ينهض على إدراكه.
وباستحسان العقل القاصر تُرك العمل بكثير من الأحكام الشرعية جرياً وراء: أن غيرها أقوى منها في تحصيل الغرض المقصود من التكليف، وباستحسان العقل القاصر زيدت عبادات وكيفيات ما كان يعرفها أشد الناس حرصاً على التقرب من الله.
هذا وكما يترتب
الابتداع بتحسين الظن على عدم إدراك العقل أو على ظن أن الأسرار مسوغات للتشريع وداعية إليه؛ يترتب أيضا على إرادة دفع منكر أو مخالفة لشرع ثابت فتستحسن بدعة يشتغل الناس بها عن مقارفة المنكر بزعم أن البدعة بمشروعية أصلها أولى من ارتكاب المنكر الصريح، ومن ذلك قراءة القرآن بصوت مرتفع في المسجد، وقراءة الأدعية كذلك أمام الجنائز دفعاً - كما يقولون - لتحدث الناس بكلام الدنيا في المسجد والجنائز.
ومنه الابتداع بقصد الحصول على زيادة المثوبة عند الله، ويظن أن طريق هذا تحميل النفس مشقة في جنس ما يتعبد به الله. وهذا تارة يكون بإلحاق غير مشروع بالمشروع، لأنه يزيد في المقصود من التشريع، ومن أمثلة ذلك التعبد بترك السحور؛ لأنه يضاعف قهر النفس المقصود من مشروعية الصوم، والتعبد بتحريم الزينة المباحة التي لم يحرمها الله؛ لأنه يزيد في الحكمة المقصودة من تحريم الذهب والحرير. ومن هذا النوع اختيار أشد الأمرين على النفس عند تعارض الروايات، مع أن المأثور عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
وحمل جميع أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على التعبد الذي يحب فيه التأسي مع أن كثيراً منها عاديّ لا تعبد فيه، ولا يطلب فيه التأسي.
وتارة يكون باختيار عبادات شاقة لم يأمر بها الشارع: كدوام الصيام والقيام، والتبتل وترك التزوج، والتزام السنن والآداب كالتزام الواجبات، وقد جاء تحذير عن ذلك كله كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال قوم يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم خشية له"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يشادّ الدين أحد إلا غلبه"، وقوله: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم"، وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر والرهط الذين تقللوا عبادته صلى الله عليه وسلم، وأرادوا مشاق الطاعات.
وقد غفل قوم عن هذه التحذيرات واخترعوا لأنفسهم عبادات، أو كيفيات في العبادات، أو التزامات خاصة، وعبدوا بها، وعلموها لأتباعهم على أنها دين، ودين قوي، وجهلوا أن القرب من الله إنما بالتزام تشريع الله وأحكامه، وأن وسائل التقرب إليه محصورة فيما شرعه وبلغه عنه رسولُه الأمين، فوقعوا بذلك في البدعة والمخالفة، وحرموا ثواب العمل، وكانوا من الآثمين.
هذه الأسباب التي أردناها هنا للابتداع قد أحاط بأطرافها، وجمع أصولها حديث: "يحمل هذا العلم في كل خلف عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"، فتحريف الغالين يشير إلى التعصب والتشدد، وانتحال المبطلين يشير إلى تحسين الظن بالعقل في الشرعيات ومتابعة الهوى، وتأويل الجاهلين بشير إلى الجهل بمصادر الأحكام، وبأساليب فهمها من مصادرها.
الأسباب المفضية إلى ذيوع البدعة: يرجع ذيوع البدعة وانتشارها بين الناس إلى أمرين شديدَي الخطر على سلامة الأديان من التحريف والزيادة والنقص: أولهما:اعتقاد العصمة في غير المعصوم.
والآخر:التهاون في بيان الشريعة على الوجه الذي به نُقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكثيراً ما ترى الأول فيمن ينتسبون إلى طرق التصوف وأنهم يقرءون عن شيخِ طريقتِهم شيئاً من الأحوال التي تنافي الأحكام الشرعية، فيعتمدون أنها من التشريع الذي خص الله به عباده المقربين، وأن شيخهم لا يفعل إلا حقاً، ولا يقول إلا صدقاً، والفقه للعموم وهذه طريقة الخصوص، فيتبعونه في كل ما يؤثر عنه من قول أو فعل على أنه الطريق المقرب إلى اتباع شرع الله الموصل إلى رضاه.
وتراه أيضاً في أتباع الفقهاء: يقرءون عنهم في كتبهم، ويعتقدون عصمتهم من الزلل، فيتمسكون بكل آرائهم وإن وصلتهم الرواية الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف رأى أئمتهم، وقد أفرط الناس في رفع مستوى العلماء ومؤلفي الكتب بالنسبة إلى ما خلفوه من أراء وأحكام، واعتقد كل فريق أن رأي متبوعه هو الحق، وقالوا: إنه لو كان الدين غيره لما استقر على توالي العصور، ولأنكره مَن قبلنا من الشيوخ والأئمة، وأنه لا حق لنا في التمسك بالحديث يروى بخلاف رأي الأئمة والمدون في الكتب؛ لأنهم أعلم منا بالحديث وبمعناه، فلا شأن لنا به، ولا يصح أن نعدل إليه ونترك ما ألفناه من العبادة وكيفيتها.
وسرى ذلك في عقائد الناس؛ فعملوا بالبدعة وتركوا
السنة، مبررين أعمالهم بكلمة مأثورة وضعها أرباب
الابتداع لتكون سبيلاً إلى ترويج بدعهم وهي: "
من قلَّد عالماً لقي اللهَ سالماً"، وقد فات هؤلاء أن التقليد المباح شرطه: الاستشراف إلى الحق، والرجوع إليه ببينة، وأنه ما من إمام إلا حذر من الاتباع وترك الحديث إذا صح، وفاتهم أن هذه الطريقة قد أنكرها الله في كتابه الكريم على من جعل اتباع الآباء والأسلاف أصلاً في الدين يرجع إليه دون سواه حتى ردوا برهان الرسالة، وحجة القرآن بقولهم: ﴿
إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾
[الزخرف: 23].
وفاتهم أيضاً أن التعصب لرأي العلماء إلى هذا الحد نوع من اتخاذ غير الله رباً، وكان ذلك سنة أتباع الأحبار والرهبان، ﴿
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾
[التوبة:31].
وفاتهم أن الإجماع الذي عُدَّ مصدراً من مصادر التشريع يجب اتباعه، ويتصل بهذا أيضاً الخطأ في فهم معنى الإجماع الذي عُدّ من مصادر التشريع الإسلامي، فقد يقع في أفهام كثير من الناس أن عمل الجمهور وخاصة إذا اتفق توارثه عن أجيال سابقة، وعمّ العمل به جميع الطبقات في المساجد، والمجتمعات، وأندية العلماء؛ من إجماع الأمة التي ورد أنها لا تجتمع على ضلالة، فلا يجوز مخالفته ولو ظهر ما يخالفه، ومن هنا يشتد تمسكهم بالبدع بل بالمحرمات؛ بحجة أنها أشياء مأثورة وقد رآها العلماء وخالطوا أهلها ولم ينكروها، فدل على أنها الشرع وغيرها الضلال المبين. وقد انتشر عن هذا الطريق كثير من بدع المساجد و الموالد، وإحياء الليالي، والاستئجار على الخَتمات، والتهاليل والتسابيح، إلى غير ذلك مما هو معروف بأنه دين والدين منه بريء.
أما الثاني-وهو تهاون العلماء في بيان الشريعة - فإثمه على العلماء الذين أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يبينوا للناس ما نزِّل إليهم، وقد أهمل جمهور العلماء من زمن بعيد هذا الواجب الديني العظيم الذي يتوقف عليه بقاء الشريعة سليمة نقية من الأدران؛ أهملوه إما ضعفاً وخوفاً من تألب العامة، وغضب الخاصة، وإما مجاملة للعظماء والحكام، وإما تهاوناً بأصل الواجب وجرياً على قاعدة:
"دع الخلق للخالق" التي يبررون بها إحجامهم عن البيان، وإما تواكلاً؛ نظراً إلى أن البيان واجب كفائي قيام البعض به يسقط وجوبَه عن الباقين.
ولما سكت العلماء وألف الناس منهم ذلك السكوت على كل ما يفعلون؛ ظن العامة أن ما يفعلونه دين وشرع، وربما جاراهم - بحكم الإلف والعادة - العلماءُ فيما يفعلون، وبذلك صار ردهم عما ألفوا من البدع إلى ما تركوا من السنة شاقاً على من يحاوله؛ لأنهم يرونه إحداثاً جديداً في الدين لم يعرفوه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد كان للعلماء من تحذير الله من ترك البيان، وإهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ما يدفع بهم إلى مكافحة البدع كلما ذرّ قرنُها، والعمل على حفظ السنة كلما هبت عليها ريح عاصف، ونرجو أن يكون في هذا ما ينبهنا إلى واجبنا، وينقدنا من هول ما نحن فيه، هدانا الله إلى الصراط المستقيم.