( 3 ) الصالحون... والحرص على لقاء العلماء والإخوان في الحج
- قال أيوب السختياني: «إن مما يزيدني رغبة في الحج وحضوره أن ألقى إخوانا لي فيه لا ألقاهم في غيره»، وقال أيضا: «كانوا يحجون للقي به».
- وقال أيوب بن سليمان بن بلال: قلت لعبيد الله بن عمر: أراك تتحرى لقاء العراقيين في الموسم؟ فقال: والله.
ما أفرح في سنتي إلا أيام الموسم، ألقى أقواما قد نور الله قلوبهم بالإيمان، فإذا رأيتهم ارتاح قلبي؛ منهم: أيوب.
- وكان أبو صخر الأيلي يوافي المواسم كل عام مع محمد بن المنكدر، وصفوان بن سليم، ويزيد بن خصيفة، وسليمان بن سحيم، وأبي حازم فيلقون عمر بن ذر فيقص عليهم، ويذكرهم أمر الآخرة، فلا يزالون كذلك حتى ينقضي الموسم ثم لا يلتقون بعد إلا في كل موسم.
- وقال محمد بن الفضل البزاز: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل، ونزلنا في مكان واحد، فلما صليت الصبح درت المسجد فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة، وكنت أدور مجلسا مجلسا؛ طلبا لأحمد بن حنبل، حتى وجدت أحمد عند شاب أعرابي وعلى رأسه جمة فزاحمته حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد الله تركت ابن عيينة وعنده الزهري وعمرو بن دينار وزياد بن علاقة ومن التابعين ما الله به عليم!، فقال لي: اسكت! فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول، ولا يضرك في دينك ولا في عقلك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله عز وجل من هذا الفتى القرشي. قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي.
- وقال سفيان الثوري: حججت حججا لألقى ابن لهيعة.
- وقال الأوزاعي: حججت فلقيت عبدة بن أبي لبابة بمنى فقال لي: هل لقيت الحكم؟ قلت: لا قال: فاذهب فالقه فما بين لابتيها أفقه منه! قال: فلقيته فإذا برجل حسن السمت مقنع.
- وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: إنه ليزيدني في الحج رغبة لقاء عمرو بن دينار، فإنه كان يحبنا ويفيدنا.
- وقال سفيان بن عيينة: قال لي ابن جريج: دلني وأدلك على المشايخ إذا قدموا الموسم، فقدم يحيى بن يحيى الغساني فسمعت منه ولم أعلمه!، فلما انقضى الموسم اجتمعنا نتذاكر، فذكرت يحيى بن يحيى الغساني فقال: متى سمعت منه؟ قلت: كان حضر الموسم! فقال: حدثني فلان، وحدثني فلان، وقال: من خنس يحيى بن يحيى خنس منه مثل هؤلاء!!.
وقد عقد أبو عبد الله الفاكهي في كتابه الشهير «أخبار مكة» بابا قال فيه: «ذكر تلاقي الإخوان في الحج بمكة ومنى وما جاء في ذلك»، وذكر بعض الآثار المتقدمة.
وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يجعل من الحج فرصة للقيا عماله ومحاسبتهم قال عطاء بن أبي رباح: كان عمر يكتب إلى عماله أن يوافوه بالموسم فإذا اجتمعوا قام فقال: أيها الناس إني استعملت عليكم عمالي هؤلاء ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ولا من أعراضكم، ولكن استعملتهم ليحجزوا بينكم... إلى آخر ما قال رضي الله عنه.
قلت: وللمحدثين في هذا الباب أخبار ونوادر جديرة بالجمع والإفراد يتجلى فيها:
- العناية بالعلم والحرص على طلبه والرحلة في ذلك، وقد قال الفضيل بن عياض: «لا يخلص لأصحاب الحديث حج، وسفيان بن عيينة حي». ومعناه أن أصحاب الحديث يحجون بقصد السماع من سفيان، لأن سفيان بن عيينة ممن طال عمره فعلى إسناده، وطلب الإسناد العالي سنة عند المحدثين، ومن الأمثلة على قول الفضيل قول علي بن المديني: «حججت حجة وليس لي همة إلا أن أسمع من سفيان يذكر في هذا الحديث الخبر حتى سمعته يقول: حدثنا عمرو بن دينار، وقد كنت سمعت هذا من سفيان من قبل ذلك ولم يذكر فيه الخبر». أي رحل إلى سفيان من أجل التأكد من صيغة التحمل التي استعملها سفيان والتأكد من السماع!.
- وضع المعايير الدقيقة لنقد السنة النبوية من خلال الاستفادة من الحج، ومن ذلك أنهم ربما ضعفوا الراوي بسبب أنه لم يسمع من شيخه إلا في الحج فلم يضبط عنه قال ابن رجب: «أصحاب الزهري الذين ضعفوا فيه: ومنهم جماعة من أصحاب الزهري ضعفوا في الزهري خاصة منهم: سفيان بن حسين؛ قال ابن معين: هو عن غير الزهري أثبت منه عن الزهري إنما سمع من الزهري بالموسم يعني لم يصحبه ولم يجتمع به غير أيام الموسم».
- ومن ذلك أيضا: أنهم ضبطوا «كم حج الراوي؟»، و«سنة كم حج؟»، و «من لقي في الحج؟»، و«كيف حدث في الحج؟» ولا شك أن هذا له أثر على معرفة لقيا الرواة وسماع بعضهم من بعض، قال أحمد بن حنبل: حج ثور بن يزيد الشامي والأوزاعي سنة خمس ومائة فسمع الناس منهما في المواسم. وقال أيضا: حماد بن سلمة لم يخرج إلى الكوفة، حج فسمع من سلمة بن كهيل، وأما عطاء وغيره فقدموا عليهم. وقال ابن بكير: حج الليث بن سعد سنة ثلاث عشرة فسمع من ابن شهاب بمكة وسمع من أبي مليكة وعطاء وأبي الزبير ونافع وعمران بن أنس وعدة مشايخ، وقال عمرو بن دينار: سمعت مجالد سنة سبعين عند درج زمزم عام حج مصعب بن الزبير يحدث عمرو بن أوس وجابر بن زيد،، وقال حميد الطويل: لم يحج الحسن إلا حجتين حجة في أول عمره وأخرى في آخر عمره.
- ومن ذلك أيضا: معرفة أقدار المحدثين ومكانتهم وجلالتهم في الحج، فكلما كان المحدث أجل كانت العناية بلقائه والسماع منه أشد، بل كان بعض المتحدثين يحزن إذا لم يجتمع إليه طلاب الحديث، قال بشر بن السري: قال عبد الرزاق بن همام: قدمت مكة مرة فأتاني أصحاب الحديث ثم انقطعوا عني يومين أو ثلاثة، فقلت: يا رب ما شأني كذاب أنا! أبي شيء أنا! قال فجاءوني بعد ذلك، وفي رواية قال عبد الرزاق: قدمت مكة فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فمضيت وطفت وتعلقت بأستار الكعبة وقلت: يا رب مالي أكذاب أنا! أمدلس أنا! قال: فرجعت إلى البيت فجاؤني.
والنبذة اليسيرة المتقدمة تبين لك أن المحدثين يسيرون على مناهج وأصول دقيقة مبنية على السبر والاستقراء والتتبع مع تجرد وحسن نية، لا كما يدعي أعداء السنة النبوية!!.
التعليق: أخي الحاج... سمعت أخبار سلفنا الصالح وعنايتهم بلقاء العلماء والصالحين في الحج وهم في ذلك يستشعرون أن من مقاصد الحج الالتقاء والتآلف والتعارف مما يجعل المسلمين أمة واحدة وصفا واحدا فيما يعود عليهم بالنفع في أمر دينهم ودنياهم ومظاهر الحج كلها دالة على هذا المقصد، فزي الحجيج واحد، ويتوجهون إلى رب واحد بتلبية واحدة، يطوفون حول بيت واحد، ويؤدون نسكا واحدا.
إن الحج ملتقى كبير يفد إليه الحجاج من أنحاء المعمورة إلى الأرض المقدسة، ألوان مختلفة، وأجناس متعددة، وألسن متباينة.
قال سماحة الشيخ بن باز رحمه الله: «إن الله عز وجل جعل موسم الحج مؤتمرا لعباده يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا، وعن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله وسؤاله والضراعة إليه، ويطلبون حط ذنوبهم وغفران سيئاتهم، يرفعون إليه جميع حوائجهم ويسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون فيه، ويتناصحون ويأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله عز وجل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [الحج: 27، 28]».
وعلى أهل العلم والفضل أن يغتنموا فرصة التقائهم بالحجاج في هذه المواطن المقدسة فيعلموهم ما يلزم من مناسك الحج وأحكامه على وفق الكتاب والسنة، وأن لا يشغلهم ذلك عن الدعوة إلى أصل الإسلام الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب ألا وهو التوحيد. وأنت لو أردت أن تتواصل مع هذا الكم الهائل من المسلمين، لوجدت هذا أمرا صعبا عسيرا. فها هم قد جاءوك هنا، وأمكن أن توصل إليهم هذه القضية المهمة بكل سهولة ويسر... وكم من حاج رجع إلى بلده داعية إلى التوحيد.. ونبذ الشرك.. بعد أن عرف حقيقة التوحيد في الحج.