الحمد لله الخلاق العليم؛ خلق كل شيء فأتقنه، ودبر ما خلق وأحكمه، وشرع لهم من الدين أحسنه وأعدله ﴿ صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل:88] نحمده على نعمه الظاهرة والباطنة، ونشكره على آلائه المتوالية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قَصُر علم العباد عن معرفته عز وجل فلم يفوه سبحانه حقه، ولا قدروه حق قدره ﴿ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج:74] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى، وأتقاهم له، وصف ربه عز وجل بما يستحق أن يُوصف به، ورغَّب العباد في رضوانه وجنته، وحذرهم من نقمته وعذابه ﴿ وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ ﴾ [المائدة:92] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أزكى هذه الأمة عملا، وأنفعهم علما، اجتنبوا ما نُهوا عنه، وسارعوا إلى ما أُمروا به، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعملوا صالحا؛ فإن الأيام تمضي، والأعمار تنقص، وإن عامكم هذا يشارف على الانتهاء، وأنتم تعيشون أيامه الأخيرة، ليخلفه عام جديد، وكل عام يمضي يبعدكم عن دنياكم، ويقربكم من قبوركم، فخذوا من الزاد ما ينفعكم، واعتبروا بمرور الليالي والأيام فإنها من أعماركم ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة:197].
أيها الناس: هذا الزمان الذي نعيشه ونعرف له ماضيا وحاضرا ومستقبلا أُعجوبة من الأعاجيب، وآية باهرة من آيات الله تعالى، تدل على قدرته وعجيب صنعه سبحانه وتعالى.. آية بينة انبرى لمعرفتها الدارسون، واحتارت فيها العقول، وتخبط فيها البشر قديما وحديثا.
ومنذ القدم والإنسان يحاول كشف كُنه الزمن وحَدَّه وبدايته وطريقة سيره، فما يدرك حقيقة من حقائقه بعد جهد جهيد إلا علم شيئا من قدرة الخالق عز وجل، واكتشف ما مضى من جهله وعجزه، وما يغيب عنه من حقائق الزمن فإنه يتخبط فيه يمينا وشمالا بنظريات وفرضيات، حتى يأتي لاحق فيكشف خطأ السابقين وتخبطهم.
ومن عجيب قدرة الله تعالى، ومن أدلة عجز البشر أن أرقى العقول البشرية وأقواها تفكيرا وحِدَّةً واستحضارا يعسر عليها تحديد مفهوم الزمن في الوجود، وإن كان أخمل البشر وأغباهم يجدون سهولة في الشعور بالزمن وإدراك أثره.
لقد كرس كثير من الفلاسفة القدماء وأهل الكلام وعلماء الفلك عقولهم لمعرفة قصة الزمن، وظن أكثرهم أن الزمن في الأرض مطلق لا يتناهى أبدا، فليس له بداية، ولا نهاية له، ومن هذا التقرير الخاطئ انبثقت مذاهبُ الدُّهرية، والقولُ بالتناسخ، وغير ذلك من الأقوال الفاسدة، والعقائد الباطلة.
وفي الحضارة المعاصرة فتح الله تعالى للبشر من آفاق العلوم والمعارف ما توصلوا بها إلى كثير من الحقائق، وفي ما يتعلق بالزمن ظهر ذلك جليا على أيدي علماء الفيزياء والرياضيات والفلك فاكتشفوا النسبية التي منها نسبية الزمن، وأن الزمن الذي تعيشه المخلوقات على الأرض هو بالنسبة لها، وهو غير الزمن الذي يوجد في الكواكب الأخرى لا من جهة الليل والنهار، ولا من جهة الفصول والأعوام.
ومن تأمل الكتاب والسنة وجد العجب العجاب في النصوص المعتنية بالزمن، الكاشفة لكثير من حقائقه وأسراره، ويكفي دليلا على ذلك أن ما يتعلق بالزمن وعلاماته في القرآن يعسر إحصاؤه بدقة من كثرته وتنوعه، والله تعالى سمى سورا بالزمن أو أجزاء منه أو بما يدل عليه كالقمر والنجم والشمس والفجر والليل والضحى والعصر، وأقسم سبحانه بكثير منها، وقد حاول أحد الباحثين أن يحصي بعض ما يتعلق بالزمن في القرآن الكريم فجمع أكثر من أربع مئة موضع.
والمتقرر في عقيدة المسلم أن الله تعالى خالق الزمن ومدبره، وخالق علاماته وآياته وهي الشمس والقمر والنجوم، وما ينتج عنها من الليل والنهار والشهور والفصول؛ فبالشمس يُعرف الليل والنهار، فتشرق ليبدأ النهار، وتغرب ليبدأ الليل، ويهل القمر ليبدأ الشهر، ويضمحل لينتهي الشهر، وبالنجوم تعرف الفصول ابتداء وانتهاء، وبها يهتدي المسافرون، ويزرع الزارعون، وكل ذلك من خلق الله تعالى وتدبيره، وتسخيره لمنافع الأرض ومن عليها ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [الأنبياء:33] وفي آية أخرى ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ ﴾ [فصِّلت:37] ودلت الآيات القرآنية على أن هذه الآيات الكونية مسخرة لمنافع العباد ومصالحهم ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ﴾ [النحل:12].
ومن منافع هذه الآيات الكونية، ونتائج تسخيرها للبشر حسابُ الزمن، وضبط الأيام والشهور والفصول والأعوام، وتلك علة لخلق الزمن منصوص عليها في القرآن الكريم ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ ﴾ [يونس:5] وفي آية أخرى ﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [النحل:16]
وللزمن غاية كما لعلاماته غاية، وجريان الزمن إنما هو بجريان علاماته، وإذا توقفت علامات الزمن توقف هو عن المسير ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس:38 - 40] وفي آية أخرى ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الرعد:2].
وآية الزمن في الدنيا - وهي الشمس والقمر - تنتهيان بانتهاء الدنيا، وبانتهائهما ينتهي زمن الدنيا ﴿ فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ ﴾ [القيامة:7 - 9] وفي سورة أخرى ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾ [التَّكوير:1 - 2] وفي غيرها ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾ [الانفطار:1 - 2] وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يوم الْقِيَامَةِ) رواه البخاري.
ولما كان الزمن وعلاماته من خلق الله تعالى، يأتمر بأمره، ويخضع لحكمه وتدبيره؛ فإنه سبحانه وتعالى قادر على إيقاف عمله في حق أشخاص بأعيانهم فلا يعمل فيهم الزمن ما يعمله في غيرهم، كما أخبر الله تعالى عن الرجل الذي أماته الله تعالى مئة عام ثم بعثه ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة:259] فهذا توقف عمل الزمن في حقه وفي حق طعامه وشرابه مئة سنة، وعمل الزمن في حماره فكان عظاما أحياها الله تعالى مرة أخرى وكساها لحما، فلما بعثه الله تعالى ابتدأ عمل زمنه مرة أخرى من اليوم الذي مات فيه، وهذا من عجائب قدرة الله تعالى وآياته، وجاء في أخبار بني إسرائيل أن بنيه ماتوا وبني بنيه هرموا وهم شيوخ أقوامهم في صدور مجالسهم، وهو جدهم ولا يزال شابا يافعا.
وأبين من ذلك وأعظم دلالة على توقف عمل الزمن بإرادة الله تعالى: قصة أصحاب الكهف حين ضرب الله تعالى على آذانهم فناموا ثلاثة قرون وتسع سنوات.. توقف خلالها عمل الزمن فيهم فلم تُبْلَ أجسادهم، ولا انقضت أعمارهم ولا هرموا، ولم يُحسب ذلك من أعمارهم، واستأنفوا يومهم بعد نومهم، وأرسلوا أحدهم بورقهم إلى مدينتهم ليحضر لهم طعاما فإذا المدينة تغيرت، وإذا جيلهم قد فني، وخلفته أجيال في إثر أجيال كلها فنيت، وقد توقف زمنهم بنومهم، فسبحان من حبس عمل الزمن فيهم وأجراه في غيرهم، وكانوا آية من الآيات يتلى خبرها في كتاب الله تعالى. ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف:25 - 26].
وقد يكون حبس الزمن عاما بحبس آيته وهي الشمس، فيتوقف الزمن بتوقفها، وقد وقع ذلك في تاريخ البشر كما حصل ليوشَعَ بنِ نونَ عليه السلام فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهغَزَا فَدَنَا من الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ أو قَرِيبًا من ذلك فقال لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وأنا مَأْمُورٌ، اللهم احْبِسْهَا عَلَيْنَا فَحُبِسَتْ حتى فَتَحَ الله عليه)متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشَّمْسَ لم تُحْبَسْ على بَشَرٍ إلا لِيُوشَعَ ليالي سَارَ إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ).
وفي هذا الحبس توقف للزمن، ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى.
ومن عجيب قدرة الله تعالى أن علامة الزمن قد ترجع إلى الوراء، فيكون رجوعها رجوعا للزمن؛ كما في حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ حين غَرَبَتْ الشَّمْسُ: (تدري أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قلت: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حتى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لها وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فلا يُقْبَلَ منها وَتَسْتَأْذِنَ فلا يُؤْذَنَ لها، يُقَالُ لها: ارْجِعِي من حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ من مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لها ذلك تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) متفق عليه.
فرجوع علامة الزمن وهي الشمس عن المشرق إلى المغرب هو رجوع للزمن؛ ولذا جاء في بعض الآثار أن تلك الليلة التي رجعت فيها الشمس من المشرق إلى المغرب طويلة جدا حتى إن النائم يستيقظ وسطها، والقائم تطول عليه، ويدوك الناس فيها إذا صلوا الفجر يومها، ويعجبون من تأخر الشمس عن الشروق فتفجأهم بطلوعها من المغرب. فسبحان من خلقها وأجرها، وسبحان من أمرها فأطاعته ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران:83].بارك الله لي....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظمته، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة:281].
أيها المسلمون: كون الزمن من خلق الله تعالى فإن الله تعالى فوقه، ولا يحتاج إليه، ولا يحيط الزمن به؛ لأن الله تعالى غني عما سواه، وما سواه فقير إليه، وهو المتصرف في خلقه ومدبرهم، وهو سبحانه وتعالى خالق الزمن، وفي القرآن ما يدل على هذه الحقيقة العظيمة فيما يتعلق بالزمان والمكان، قال الله تعالى ﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ ﴾ [الحديد:3].
نُقل عن أبي سعيد الخراز أنه قيل له: بماذا عرفت ربك؟ قال: بجمعه بين الأضداد، وقرأ قوله تعالى ﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ ﴾ [الحديد:3] .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أراد بذلك أنه مجتمع في حقه سبحانه ما يتضادفي حق غيره؛فإن المخلوق لا يكون أولا آخرا باطنا ظاهرا.اهـ
وهنا يقف العقل البشري عن إدراك كنه ذلك ومعرفة كيفيته لعجزه وقصوره، ولكمال الرب جل جلاله وقدرته على كل شيء، فما ثَمَّ إلا الإيمان والتسليم، وتعظيم الرب جل جلاله، أو الإلحاد في أسمائه وصفاته، وتعطيله سبحانه عما يستحقه من الإثبات والإجلال، وهذا هو المزلق الخطر الذي ضل فيه الفلاسفة وأهل الكلام قديما، وغرقت في لجته طوائف كثيرة من أهل الإسلام وغيره، حين أخضعوا صفات الرب جل جلاله لعقولهم القاصرة المحدودة، ولو عرفوا مقدارهم لعلموا أن ذا الكمال المطلق سبحانه لا يحيط به العقل القاصر، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وإذا كانت كبار العقول البشرية قد عجزت عن إدراك كُنه الزمن ومفهومه في الوجود وهم يعيشونه ويجري عليهم، والزمن من خلق الله تعالى، فكيف يجيلون عقولهم في كنه الخالق سبحانه؟! من أجل ذلك أُمر العباد بالتفكر في خلق الله تعالى، ونهوا عن التفكر في ذاته عز وجل.
وجاء في السنة ما يفسر الآية فيما يتعلق بالزمن؛ كما في حديث عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ) رواه البخاري.
ومن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم أنت الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: واعلم أن لك أنت أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن حتى الخطرة واللحظة والنَفَس وأدنى من ذلك وأكثر، فأولية الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليتُه سَبْقُه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء.... فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة وهي إحاطتان زمانية ومكانية: فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده.... فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا...اهـ
ومرور الزمن، وعمله في الناس قد أفسد الدنيا عليهم، فينقلهم الزمن من مرحلة الشباب والقوة إلى مرحلة الشيخوخة والضعف، وجريانُ الزمن يسرع بهم إلى الموت، وتلك سنة الله تعالى في عباده، وكان الزمنُ آيته سبحانه التي قدرها لتحقق هذه الحكمة العظيمة. قال الخليفة المنصور للربيع بن يونس: ما أطيب الدنيا لولا الموت! قال الربيع: يا أمير المؤمنين، ما طابت إلا بالموت، قال: وكيف؟ قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد.
ولما كان الزمن يجري بأهل الدنيا حتى يفسد عليهم نعيمهم فيها كان من نعيم الآخرة أن الزمن لا يعمل فيهم عمله؛ فأعمارهم ثابتة في ثلاث وثلاثين سنة، وهو منتهى قوة الشباب واكتماله، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أهل الجنة لا يبلى شبابهم، وفي القرآن العظيم أنهم خالدون فيها أبدا، وقال سبحانه ﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلَّا المَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ﴾ [الدُخان:56] وتوقف عمل الزمن في أهل الجنة هو من كمال نعيمهم ودوامه.
والمؤمن يقرأ ذلك في القرآن ويعلمه، ويرى أن الزمن يجري به في الدنيا إلى الهرم والموت، والعاقل من عمل بما علم، فكرس دنياه الفانية بفناء زمنها للعمل الصالح الذي يكون سببا لخلوده في نعيم الآخرة، فلا يجري به زمن فيها إلى الهرم والموت، فأعدوا للقيامة عدتها، وخذوا من مرور الأيام، وانتهاء الأعوام معتبرا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ ﴾ [البروج:11].