يجتمع في كل عام ملايين المسلمين في مكان واحد، هو أشرف مكان تجلّت فيه معاني القداسة والأخوة الإنسانية، ليتدبروا سويا التحديات الكبرى التي تواجه حياتهم ورسالتهم.
هي
وقفة للتدبر وإعادة النظر في معاني الحج، في ضوء القضايا والتحديات المصيرية التي تواجه مجتمعاتنا الإسلامية والإنسانية.
وقفة مع المضامين الجوهرية للشعائر والمفاهيم التي تشكّل الوعي الديني في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم.
لم ينعقد
الحج بأمر سياسي أو قرار طائفي، وإنما جاء استجابة لنداء رباني للبشرية جمعاء “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ” (الحج 27). فمن هنا يجب علينا أن نكتشف معاني
الحج بعيدا عن شكلية الصورة وانفعالية الطقس، وقريبا من “عتبة القيم الأخلاقية” التي تعزز قيمة الاجتماع والأخوة والمساواة، وتؤكد عمق التغير الذي تتطلبه هذه القيم في بنية السلوك الأخلاقي.
يؤكد
الحج قيمة التمسك بالشعائر الدينية، وعدم التفريط بها، إلى جانب الاهتمام بالواقع وبناء المستقبل. وأمام هذه القيمة نجد أنفسنا بين اتجاهين اثنين متعارضين في وعينا الديني المعاصر، أحدهما يهدف إلى الحفاظ على التراث الديني بحرفيته دونما اكتراث لما يعيشه المسلمون اليوم من تحديات ومشكلات، والآخر يسعى إلى التفكير العقلاني وإعادة النظر في فهم التراث الديني بما يحقق النفع العام والإصلاح الاجتماعي.
وبناء على ذلك، يمكن لنا أن ندرك أثر المضمون الأخلاقي والاجتماعي للحج في عملية الإصلاح الحضاري الذي ننتظره منذ أمد ليس بالقريب، وفي ظل دمار لم يشهد له التاريخ مثيلا في مشرقنا العربي.
من معاني
الحج الاجتماعية ما يتضمنه من حثّ المسلمين على “التكيف مع الآخر”، واحترام التنوع العرقي واللغوي والطائفي. ورغم وفرة الأسواق وتنوع البضائع الاستهلاكية فإن الترويج لأسواق الأفكار وتنوعها لا يزال خجولا. يعمّق
الحج شعور الفرد بالأمة، ويجعل التواصل والتعامل بين الناس جزءا من العبادة، كما يعزز في وعيهم دواعي البحث عن الجوامع الكبرى التي تعينهم على بناء وحدتهم.
عندما يعود الحُجّاج مثقلين بالهدايا ومياه زمزم هل عادوا بقلوب كأثواب إحرامهم البيضاء؟ وهل انتهت شعائر
الحج هناك في أرض الحجاز مباشرة بعد أن وضع الحجيج ثياب الإحرام؟ وهل سنجد معاني
الحج حاضرة في مجتمعاتنا وشركاتنا ومصانعنا ومحاكمنا وأسواقنا؟
لا بد من الارتقاء من مفهوم
الحج كخلاص وطهارة فردية، إلى خلاص جماعي إنساني، ومن طلب المغفرة للذات إلى ممارسة العفو والمصالحة مع الناس، وإشاعة خطاب الرحمة والتكافل عوضا عن خطاب الكراهية والبغضاء، وبعيدا عن هيمنة الأغلبية ومظلومية الأقلية.
يجعل
الحج من ممارسة الشورى عرفا اجتماعيا وممارسة يومية تقوم على الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه المجتمع، وتحقيق المصلحة العامة. والحج كفضاء مقدس هو معراج تلتقي فيه الأفكار، وتنضج فيه الآراء في حركة دؤوبة تعظّم كرامة الإنسان وحقوقه كما تعظم شعائر الله.
إن حرمة الأشهر الحرم والبيت الحرام من شأنها أن توجّه المسلم إلى تعظيم حرمة سفك الدماء، وتبعث فيه الإرادة على إسكات أصوات المدافع. وتحثّ المعاني الروحية للحج المسلم على استحضار الإيمان بالبعث والنشور في مشهد مهيب يحرك في النفس معاني الفقر، ومحاسبة النفس وكَفِّها عن الجشع والظلم.
تتضمن معاني
الحج قيما أخلاقية وروحية تغذي روح السلام، وتعلمنا الإنصات إلى صوت العقل وحكمة الشورى ونبذ الفتنة، وتحول دون انتشار الغلوّ والظلم والطغيان الذي نجده مستفحلا في بعض مجتمعاتنا.
ويعالج الحج، بما يتضمنه من معاني، قيمة الرحمة والاعتدال وينعش الأمل بمواجهة “التطرف الطبقي”، وتسلّط القيم الرأسمالية المتوحشة التي أدت إلى “عولمة الفقر” واستغلال الفقراء.
يأتي كثير من الحجاج من مجتمعات أثقلتها أعباء الديون ويعودون إلى بلادهم دون أن يتغير شيء من ذلك الواقع المؤلم. وإذا علمنا أن عائدات القطاع الخاص من موسم
الحج الحالي هي في المتوسط 60 مليار ريال، أي ما يعادل 17 مليار دولار، فإن ذلك يعني أن
الحج يمثل قوة اقتصادية يمكن أن تسهم في إقامة صندوق عالمي للزكاة والتكافل.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز “لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ” (الحج: 28).
فهل وَعينا أن هذه المنافع ليست مجرد منافع بيع وشراء للسلع والمقتنيات، ولكنها بالمعنى الأشمل منافع اجتماعية وحضارية ترتقي بالمجتمعات الإسلامية، وتجعلها أنموذجا للصلاح والازدهار أمام سائر المجتمعات الإنسانية.
.