مقالات في مذهب دين الإنسانية (5) الحلقة الخامسة وفيها: ♦ الركائز التي يقوم عليها "المذهب/ الدين الإنساني" -2-
تكلمنا في الحلقة السابقة عن الركيزة الأولى؛ وكانت عبادة العقل Cult of Reason.
ونتكلم في هذه الحلقة عن النفعية والفلسفة الوضعية.
بسم الله نبدأ.
2- الركيزة الثانية: النفعية Utilitarianism:
مؤسسها جيرمي بينتهام Jeremy Bentham (شباط 1748 - حزيران 1832)، فيلسوف بريطاني وقاضٍ، ومصلح اجتماعي، يعتبر مؤسس
مذهب النفعية.
تصنَّف النفعية "كمدرسة أخلاقية" ترى أن القيمة الأخلاقية للفعل تتحدد بمقدار إسهامه في
النفع العام؛ بتعبير آخر: يكون تقييم الفعل حسب ما ينتج عنه من نفع.
♦ يرى بينتهام من خلال مذهبه في المنفعة أن الناس بطبائعهم يسعَون وراء اللذة ويجتنبون الألم كالحيوانات تمامًا، مع امتيازهم عن الحيوان باتباعهم لمبدأ النفعية؛ لاستخدامهم للعقل؛ لأن العقل هو الذي يحكم على الفعل الخير، فتطغى اللذة المستمرة على الألم، وبالعكس فإن الفعل الشرير يؤدي إلى طغيان الألم على اللذة[1].
♦ يدعو بينتهام في مذهبه إلى الحرية الفردية والاقتصادية، والفصل بين الكنيسة والدولة، وحرية التعبير، والحقوق المتساوية بين المرأة والرجل، والحق في الطلاق، وعدم تجريم الشذوذ الجنسي[2]، كما يدعو إلى إلغاء الرق، وإلغاء عقوبة الإعدام، وإلغاء العقاب البدني، إضافة إلى ما عُرف عنه بمناداته بحقوق الحيوان.
♦ يتحدث بينتهام في منشوره "جرائم بحق الذات" الذي لم يكن ليجرؤ على نشره في حياته
Offences Against One's Self، عن الحرية المثلية "اللواط"، وكانت أول مرة نُشر فيها عام 1931، ويعتبر بيتنام أول من قال بتعديل القانون الإنجليزي فيما يخص الشذوذ الجنسي.
♦ وبالرغم من أن بينتهام كان يدعم بقوة الحقوق القانونية الفردية، فإنه كان يعارض فكرة القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية، معتبرًا أنها "كلام فارغ لا قيمة له"، من تلامذته: مساعده جيمس ميل James Mill، الفيلسوف جون أوستن، وروبرت أوين، أحد مؤسسي اليوتوبيا الاجتماعية.
♦ اعتُبر بينتهام "المؤسس الروحي" لجامعة لندن، بالرغم من أن دوره في تأسيسها كان يسيرًا جدًّا
، أعطاه قادة الثورة الفرنسية الجنسية الفخرية عام 1792م.
♦ أحد أبحاثه المثيرة للجدل في ذلك الوقت كان بحثه "دفاع عن الربا Defence of usuary " الذي أرسله من روسيا إلى إنجلترا عام 1787، عارض فيه الإدانة اللاهوتية للفائدة interest، من منطلق مبادئه القائلة بالحرية الفردية المطلقة التي تضمن للفرد تنفيذ ما يراه، طالما كان في صالح المجتمع، من وجهة نظره طبعًا!
♦ وعند عودته من روسيا أعد لنشر كتابه مبادئ الأخلاق والتشريع The Principles of Morals & Legislation 1789"، الذي لخص فيه مبادئ مذهبه "النفعية"، الذي يقوم على مفهومي السعادة واللذة من منطلق بشري بحتٍ؛ حيث يستطيع الإنسان أن يضع قوانينه الخاصة التي تضمن السعادة له ولأكبر عددٍ من المجتمع حوله، ولا حاجة في ذلك للاحتكام لأي معتقد ديني.
♦ كان بينتهام يهدف إلى إحلال الأخلاق الطبيعية محل اللاهوت، وإقامة السلوك والقانون على أسس قِوامها صالح المجتمع أو الوطن، أكثر من إقامتها على أسس قوامها إرادة السلطة التنفيذية أو مصالح طبقة من الطبقات، وتحرير القانون والسلوك من فروض الدين من ناحية، ومن الأحلام الثورية من ناحية أخرى.
تعقيب بسيط:
عند بحثي في النفعية تذكرتُ انتشارَ هذه المقولة التي أضحى أبناؤنا يرددونها دون وعيٍ منهم أو إدراك لمدى خطورتها في ميزان الإيمان، بل يضعونها عبارة على ملفاتهم الشخصية: "هدفي أن أجعل من حولي سعداء"، وعند مناقشتهم بأن السعادة مرتبطة بالامتثال إلى شرع الخالق "الله" الوحيد الذي يعلم ما يُسعد البشرية وما يتعسها، يصدمك إصرارهم على أن السعادة لا علاقة لها بالدين!
3- الفلسفة الوضعية 1850 Positivism (اللادينية الكونتية):
مؤسسها أوغست كونت Auguste Comte.
في عام 1850 أوجد الفيلسوف أوغست كونت أبو علم الاجتماع، ما عُرف بالفلسفة الوضعية Positivism، وقال عنه: إنه "دين الإنسانية ".
يعتقد كونت أن العلوم الوضعية ستصبح أصلًا للإيمان المستند إلى البرهان، وكلما تقدم الإنسان في الدراسة الوضعية للظواهر، فإنه سيترك بالتدريج التفسيرات اللاهوتية والميتافيزيقية؛ لأنه سيتضح له أن الظواهر خاضعة للقوانين، فالمعرفة الحقيقية تنصبُّ على الظواهر وقوانينها[3].
عمل كونت سكرتيرًا للفيلسوف الفرنسي سان سيمون بعد أن كان تلميذًا له، وهو من نحت مصطلح الإيثار altruism، الكلمة في ظاهرها جميلة، لكن إذا عرفنا أن كونت كان لا يؤمن بالحقوق الفردية، وأنه القائل بأن الوضعية لا تقر حقًّا آخر غير حق القيام بالواجب، ولا تقر واجبًا غير واجبات الكل تجاه الكل؛ لأنها تنطلق دائمًا من وجهة نظر اجتماعية، ولا يمكن لها أن تقبل بمفهوم الحق الفردي، وأن كل حق فردي هو عبثي بقدر ما هو غير أخلاقي - ندرك حقيقة هذه الكلمة وإلامَ ترمي، خاصة عندما نجد التناقض الذي وقع فيه كونت عندما تبنَّى المساواة على الصعيد الاجتماعي، وقال بنقيضها تمامًا على المستوى السياسي، فقال بدكتاتورية النخب، التي اعتبر الشعب دونها مستوًى وحقوقًا.
فكرُ كونت لا يدعو إلى المساواة على الصعيد السياسي، بل إنه يؤمن بدور النخب ويقيم تمييزًا حادًّا بين الجماهير والاختصاصيين والحكام، ويُنيط أمر تحديد الأهداف والوسائل بالمختصين بالعلوم السياسية وحدهم[4].
لكن هل وقف كونت عند هذه الأفكار وانتهى بها؟
يقول لنا المؤرخون لحياة كونت أن فكر الرجل تطور في أواخر حياته تطورًا قياسيًّا وصل حدَّ وضع دين جديد هو نبيُّه، وأسماه "دين الإنسانية"[5] "religion of humanity"؛ يرى الرجل أن هذا الدين هو الدين الذي يجب أن تدين به البشرية؛ لتخرج من عبودية الأديان الغيبية والتي تعترف بوجود إله يتصرف بالكون، عمل كونت على تطوير هذا الدين إثر علاقته العاطفية مع كلوتيد دو فو Clotilde de Vaux، والتي أصبحت قدِّيسته بعد موتها، فكان يقول: إنها كانت تأتيه في الحُلم، وتملي عليه أسس هذا الدين.
وفي عام 1849 وضع كونت تقويمًا أسماه "التقويم الوضعيpositivist calendar"، وفيه سمَّى الأشهر بأسماء أكبر المفكرين والقادة والفنانين عبر التاريخ بترتيب زمني، كل يوم مكرَّس لمفكر من المفكرين[6].
العقيدة في دين كونت:
يقول توني دافيز Tony Davies، الباحث في دين الإنسانية: "إن دين كونت العلماني الوضعي هو نظام متكامل، فهو كما له أسس عقائدية، له طقوسه وكهنوته، وكل ذلك يدور في حلقة منظمة تتمحور حول تعظيم الذات الإنسانية وتقديسها"، وهو ما يشير إليه بعبارة: الكينونة العظيمة العليَّة الجديدة" Nouveau Grand-Être Suprême (New Supreme Great Being)، وهو ما تم إكماله لاحقًا بعنصرين آخرين؛ هما: الأرض العظيمة، والكون العظيم؛ لتكتمل عقيدة الثالوث الإنساني الوضعي[7].
نص كونت في "نظام السياسة الوضعية 1851-1854" على أن أسس الدين هي:
• الغيرية: وتقود إلى الكرم والغيرة، ومساعدة الآخرين.
• النظام: اعتقد كونت أن المجتمع أصبح بحاجة إلى إعادة تنظيم بعد الثورة الفرنسية.
• التقدم: وهو نتاج الثورات الصناعية والتقنية في المجتمعات الإنسانية.
كما أنه وضع عام 1851 أسس التعليم الوضعي، فحدد سبعة أسرار للكنيسة الإنسانية:
1- المقدمة: (التعيين والرعاية).
2- القبول: (نهاية التعليم).
3- المستقر: (اختيار المهنة).
4- الزواج.
5- التقاعد (عن 63 عامًا).
6- الانفصال: (سر المسحة الاجتماعية).
7- الاندماج: (الذوبان في التاريخ) ثلاث سنوات بعد الموت.
الطقوس والكهنوت:
يصف توماس هيكسلي Thomas Huxley دين الإنسانية، الذي طرحه كونت، على أنه الكاثوليكية مطروحًا منها المسيحية، مضافًا إليها الثالوث المقدس: الإنسان والأرض والمصير، وهو دين له كهنوته.
يشترط على كهنة هذا الدين أن يكونوا متزوجين؛ بسبب التأثير النبيل للأنوثة في الدين الانساني[8].
عليهم أن يقدموا خِدْمَاتٍ، بما فيها الصلوات الوضعية؛ وهي عبارة عن دفق مهيب من مشاعر الرجال النبيلة، وإلهامهم بأفكار أكثر عمقًا وشمولية، سواء في المحافل العامة أو الخاصة.
يجب أن يكون الكهنة سفراء عالميين في نشر الغيرية، والتعليم والتحكيم في النزاعات الصناعية والسياسية، وفي توجيه الرأي العام، في الحقيقة يجب أن يمارس الكهنة جميع أنواع الفنون بما فيها الرقص والغناء، مثل الشعراء في المجتمعات القديمة.
يحتاج هذا إلى تدريب طويل، لذلك يبدأ الكهنة بالتدريب عند بلوغهم الثامنة والعشرين، يدرسون في المدارس الوضعية، وعندما يبلغ الكاهن سن الخامسة والثلاثين يعمل كمعلم مبتدئ وممارس للطقوس، ويستمر كذلك حتى سن الثانية والأربعين، فقط عندما يبلغ الثانية والأربعين يصبح كاهنًا ناضجًا، لا يحق للكهنة اكتساب المال، أو شغل مناصب وظيفية غير الكهانة، بهذه الطريقة يكون تأثيرهم روحانيًّا وأخلاقيًّا بحتًا، يقيم الكاهن الإنساني الأعلى في باريس، التي ستحل محل روما كمركز للدين العالمي[9].
يرى دافيز أن فلسفة كونت الإنسانية المتقلبة والمحبطة نوعًا ما - التي كان ينظر إليها كفلسفة وحيدة ضمن عالم غير مكترث، ولا يمكن تفسيرها إلا من منظور العلم الوضعي - كانت أكثر تأثيرًا في إنكلترا في العصر الفكتوري من نظريات تشارلز داروين أو كارل ماركس[10].
لم يحقق نظام كونت النجاح المنتظر عند تأسيسه، إلا أن انسجام مبادئه مع نظرية داروين حول أصل الأنواع Origin of Speciesكان له أثر ملموس في انتشار منظمات العلمانية الإنسانية Secular Humanist المتنوعة في القرن التاسع عشر، وخاصة من خلال أعمال العلمانيين أمثال جورج هوليووك George Holyoake (الذي نحت مصطلح "العلمانية")، وريتشارد كونغريف Richard Congreve، وبالرغم من أن أتباعه من الإنجليز أمثال جورج إليوتGeorge Eliot وهارييت مارتينو Harriet Martineau رفضوا الجزء الأكبر من نظامه، فإنهم أحبوا فكرة "الدين الإنساني"، وما يدعو إليه من "الغيرية altruism".
#الإنسانية_دين