مقالات في مذهب الإنسانية "الدين الإنساني" (3) الإنسانية المعاصرة وجذورها:
البيان التأسيسي الأول: نذكّر أولًا بتعريف الدين الإنساني لمن فاتته الحلقة الأولى: "هي اندماج بين الفلسفة
الإنسانية الأخلاقية والطقوس والمعتقدات الدينية التي تدور حول احتياجات الإنسان واهتماماته وقدراته[1]".
والإنسانية الدينية ترفض الشرائع السماوية على تنوعها، وهو ما عبَّرت عنه المصادر التي بحثت في
الإنسانية "بالمعرفة الموحاة أو المنزَّلة"
Revealed Knowledge، كما ترفض الأخلاق والأدبيات التي تقوم على أساس الإيمان بالله، ولا تؤمن بالغيبيات.
تؤمن
الإنسانية بأن "الإنسان هو المتصرف الحقيقي بالكون، والقادر على كل شيء، كما أنها تؤلِّه المادة وتنكر كلَّ الخوارق والمعجزات[2].
البيان التأسيسي الأول لدين الإنسانية "ريموند براغ": Humanist Manifesto I - Raymond B. Bragg
وضع البيان التأسيسي الأول للإنسانية، والذي يعرف بالبيان الإنساني الأول
Humanist Manifesto I لتمييزه عن البيانات
الإنسانية التي تلته، عام 1933 على يد
Raymond B. Bragg، وروي وود سيلرز
Roy Wood Sellars، ونُشر بذيله توقيع أربع وثلاثين فردًا، بما فيهم الفيلسوف جون ديوي
John Dewey [3].
البيان التأسيسي الأول تكلم عن
الإنسانية كدين، وهو ما تجنَّبته البيانات التي تلته، لتفادي الحساسية التي قد تؤدي إلى تحجيم انتشاره في صفوف المسلمين والمسيحيين وحتى اليهود، وكانت النتيجة ممتازة بالطبع ... فقد عُمد إلى تحويل الكلمة من "دين" إلى "مذهب" تارة و"حركة" تارة أخرى.
علَّمنا التاريخ أن الكلمة الأولى في أي فكر أو
مذهب أو دين، تكون للمؤسس الأول، فما يضعه أساسًا وقاعدة لمذهبه أو فكره أو دينه، هو الذي يؤخذ به، ويقوم عليه البناء، أما تغيير المسميات وأساليب الدعاية والشعارات التي تحرِّك مشاعر الشعوب، فهي ليست أكثر من أساليب ضرورية لضمان قوة الإقناع وسرعة الانتشار.
يشير البيان التأسيسي الأول إلى
الإنسانية على أنها حركة دينية هدفها تجاوز الأديان السابقة - التي تقوم على مزاعم الوحي الخارق الخارج عن المدارك الانسانية - وتمكين نفسها كبديل عنها.
وضعت الوثيقة خمسة عشر بندًا، في عرض لنظام المعتقد الجديد، الذي يظهر فيه العمق العلماني بشكل صارخ..
فيما يلي البيان التأسيسي كما وضعه ريموند براغ
Raymond B. Bragg 1933.
البيان التأسيسي الأول للحركة الدينية "الإنسانية":
"لقد حان الوقت كي نعترف - على نطاق واسع - بالتغييرات الجذرية للمعتقدات الدينية على مستوى العالم الحديث، لقد عفا الزمان عن الأفكار والمعتقدات التقليدية، فالتغيير الاقتصادي والعلمي الذي طرأ على العالم قد مزَّق العقائد القديمة، وأصبحت الأديان التي يقوم عليها العالم خاضعة لضرورة التماهي مع الظروف الحديثة التي خلقتها المعرفة والعلوم المتقدمة، والتحرك الآن في كل ميدان من ميادين النشاط البشري، هو باتجاه "الإنسانية" الصريحة والواضحة، ومن أجل فهم أفضل للإنسانية الدينية
religious humanism، نحن الموقعون أدناه، نرغب في تقديم بعض التأكيدات التي نعتقد أنها تظهر من خلال حقائق حياتنا المعاصرة.
هناك خطر كبير، ونعتقد بأنه قاتل، يكمن في التعريف الأخير لكلمة "دين" مع المذاهب والطرق التي فقدت أهميتها، وأصبحت عاجزة عن حل مشكلات الإنسان التي يواجهها في حياته في القرن العشرين، لطالما كانت الأديان وسائل لمعرفة أعلى قيم الحياة.
فهم الإنسان الأوسع للكون اليوم، وإنجازاته العلمية، والفهم والتقدير الأعمق "للأخوة"، كل هذا خلَق وضعًا يتطلب كتابة جديدة لوسائل الدين وأهدافه.
قد يبدو دين كهذا، جريء وصريح وقادر على وضع الأهداف الاجتماعية المناسبة وعوامل الرضا الإنساني، قد يبدو لكثيرين على أنه انقطاع تام عن الماضي، لكن بالرغم من أن هذا العصر يدين بدين كبير للأديان التقليدية، إلا أنه بات واضحًا أن أي دين يطمح بأن يكون قوة ديناميكية، متوالفة أو منسجمة مع هذا العصر، يجب أن يكون مفصلًا حسب احتياجات العصر، يعتبر تأسيس دين كهذا، ضرورة عصرية ملحَّة، وهو مسؤولية هذا الجيل[4] "؛ انتهى.
(يجب أن يكون مفصلًا حسب احتياجات العصر"، وهذا بالضبط هو التعبير المستخدم باستمرار وبإصرار من قبل "الوسطيين".
بنود البيان التأسيسي الأول: نحن الموقعون أدناه نقر ما يلي: 1- يؤمن المتدينون الإنسانيون أن الكون أوجد نفسه بنفسه، ولم يُخلق خلقًا.
2- تؤمن
الإنسانية أن الإنسان جزء من الطبيعة، وأنه خرج كنتيجة لسلسلة من العمليات المتتالية.
3- مع تبنيهم للنظرة العضوية للحياة، يرى الإنسانيون وجوب رفض ثنائية العقل والجسم التقليدية.
4- ترى "الإنسانية" أن الثقافة الدينية والحضارة الإنسانية، كما صوَّرها التاريخ وعلم الإنسان، هي نتيجة تطور تدريجي يعود إلى تفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية وإرثه الاجتماعي، والإنسان الذي يولد ضمن بيئة ثقافية معينة، يتنمذج بها ومن خلالها.
(وهذا ما يتبناه اليوم ويدافع عنه التغريبيون الذين يريدون الانصهار بالمجتمعات الغربية من بني ديننا - ميسون)..
5- تؤكد
الإنسانية أن طبيعة الكون حسب ما يصورها العلم الحديث، تجعل من الخوارق الطبيعية أمرًا غير مقبول، مؤكد أن
الإنسانية لا تنكر إمكانية وجود حقائق لم تُكتشف بعد، لكنها تصرُّ على أن السبيل إلى تقرير وجود أي حقيقة وتقييمها، يكون عن طريق وسائل التساؤل الذكي، وعن طريق تقييم علاقتها بالاحتياجات الإنسانية،
يجب أن تُشكّل الأديان آمالها وخططها على ضوء الطرق والروح العلمية.
6- نحن مقتنعون أن زمن الربوبية والألوهية قد ولَّى ...
7- يتكون الدين من الأفعال والأهداف والتجارب التي تعود بالنفع على الإنسان، كل ما هو إنساني ليس غريبًا عن الدين، هذا يتضمن العمل، والفن، والعلوم، والفلسفة، والحب، والصداقة، والترفيه، كل هذا يمثل حياة إنسانية راضية بشكل ذكي،
يجب إلغاء الفاصل بين ما هو مقدس وما هو دنيوي. 8- تعتبر
الإنسانية الدينية أن نهاية حياة الإنسان عندما تبلغ الشخصية
الإنسانية كمالها، وهي تنشد كمال التطور والإنجاز في حاضر الزمان والمكان، هذا هو تعريف العاطفة الاجتماعية الإنسانية.
9- عوضًا عن المواقف القديمة التي تتمثل في الصلاة والعبادة، يجد "الإنساني"
the humanist عواطفه الدينية في ذِروة الشعور بالحياة الشخصية، وبالجهد التفاعلي للوصول إلى مخلوق جيد اجتماعيًّا.
10- يستدعي هذا أنه لا يوجد مشاعر ومواقف دينية فريدة تتعلق بالاعتقاد بالخوارق والمعجزات.
11- سيتعلم الإنسان كيف يواجه أزمات الحياة في سياق معرفته بطبيعتها وإمكانية حدوثها. المواقف
الإنسانية والعقلانية سيتم تعزيزها بالثقافة ودعمها بالعادات.
نحن نعتقد أن
الإنسانية ستتخذ المنحى الاجتماعي والعقلاني، وتثبط الآمال العاطفية وغير الواقعية، والتفكير الحكيم.
12- الإيمان بأن الدين يجب أن يمارس من أجل الاستمتاع بالحياة، الإنساني المتدين يأمل بتعزيز الإبداع عند الإنسان وتشجيع الإنجازات التي تضيف أنواعًا من الرضا إلى الحياة.
13- تعتبر
الإنسانية أن جميع المنظمات والمعاهد وجدت من أجل تحقيق الحياة الإنسانية.
14- التقييم الذكي، التحول، الضبط، وتوجيه مؤسسات ومنظمات كهذه من منظور تعزيز الحياة الإنسانية، هو هدف ومخطط "الإنسانية".
يجب إعادة هيكلة المؤسسات الدينية، وأشكالها الشعائرية، وطرقها الكهنوتية، والأنشطة المجتمعية بأسرع ما تسمح به التجربة، من أجل العمل بشكل أكثر فعالية في العالم الحديث. 15- الإنسانيون مقتنعون تمامًا أن المجتمع الاكتسابي والذي تحرِّكه المصلحة والنفعية، قد برهن على أنه غير كافٍ، وأنه يجب تحقيق تغيير جذري في الأساليب والضوابط والدوافع، يجب إنشاء نظام اقتصادي تعاوني اشتراكي؛ بحيث يصبح التقسيم المتساوي لوسائل الحياة ممكنًا.
16- نؤكد أن الإنسانية: (أ) تؤكد على الحياة بدلًا مِن أن تُنكرها.
(ب) تسعى إلى انتزاع إمكانيات الحياة، ولا تهرب منها.
(ج) تسعى إلى تهيئة الظروف لحياة مرضية للجميع وليس فقط للقلة.
وبهذه النيات والمُثل الإيجابية تسترشد، ومن هذا المنظور ستتفق آليات وجهود الإنسانية.
هذه هي طروحات
الإنسانية الدينية، وبالرغم من أننا نعتبر الأشكال والأفكار الدينية لآبائنا لم تعد مناسبة، يبقى مطلب الحياة الرغيدة هو المهمة الأساسية للبشرية، وأخيرًا أدرك الإنسان أنه هو فقط المسؤول عن تحقيق عالم أحلامه، أنه يمتلك في داخله القوة لتحقيقها، عليه أن يستخدم الذكاء والإرادة في هذا.
(توقيع)[5].