لما كان الإسلامُ دينًا عالميًّا / وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ / [سبأ: 28]، وخاتمةَ الأديان
السماوية / وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ /[الأحزاب: 40]، كان من مقتضيات ذلك أن
تكون أحكامُ الشريعة سواءً لسائر المتَّبِعين لها في شتى أنحاء المعمورة، على اختلافهم
ألوانهم وألسنتهم، وبيئاتهم وأجناسهم.
وتظهرُ مظاهرُ
المساواة بين المسلمين في الأحكام في مجالات عديدة، وميادين مختلفة،
ولمناسبة الوقتِ والمكان اخترتُ الكتابةَ في
مظاهر هذا المبدأ العظيم في الإسلام - مبدأ
المساواة - من خلال شعيرة الحجِّ العظيمة، التي تُعتبَرُ أكبرَ تجمُّعٍ إسلامي سنوي في
الإسلام، بل أكبر تجمُّع بشري سنوي في العالم، وذلك من خلال النقاط التالية:
المساواة في إيجاب
الحج على المسلمين:
لقد أوجبَ الله سبحانه وتعالى فريضةَ الحجِّ على جميع البريَّة بقوله عز وجل: " وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " [آل عمران: 97]، فهو خطاب شامل لكل مَن
توفَّرت فيه شروطُ
الحج المعروفة، التي منها الاستطاعة الماليَّة والبدنيَّة، ويستوي في
ذلك جميعُ المُكلَّفين.
المساواة في الملبس:
مظاهرُ
المساواة في إحرام الحجيج أبلَجُ من الشمس في رابعةِ النهار؛ حيث يرتدي جميعُ
الحجاج من الرجال - على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية - إزارًا
ورداء أبيضَيْنِ، فليس لأحدٍ مَزيَّة أو خاصية ينفردُ بها على غيره من المُحْرِمين في
اللِّباس، والمرأة تَلْبَسُ ما تشاء من ألبستها وَفْقَ الضوابط الشرعية في لباس المرأة المسلمة.
المساواة في الورود على المواقيت:
يستوي جميع الآفاقيِّينَ في المرور بالمواقيت المكانية للإحرام بها، وما يترتَّب على ذلك
من أحكام، ويدلُّ على ذلك قولُ النبي عليه الصلاة والسلام: ((هُنَّ لهُنَّ، ولمَن أتى عليهنَّ
من غير أهلِهنَّ ممن أراد الحجَّ والعمرة، ومن كان دونَ ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهلُ
مكة من مكة))؛ أخرجه البخاري ومسلم، حيث ساوى بين أهل المواقيت والمارِّين عليها
من غير أهلها، فلا يُستثنَى من ذلك إلا أهلُ مكة ومن في حكمِهم، حيث يُحرِمون للحجِّ في
بيوتهم، وللعمرة من أدنى الحِلِّ.
المساواة في أماكن النُّسُك:
المسلمون مُتساوون في النزول والوقوف على البِقاع المقدَّسة من أماكن النُّسك من منًى
وعرفةَ ومزدلفةَ، قال تعالى: " سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ " [الحج: 25]؛ ولذا جعل النبيُّ
صلى الله عليه وسلم الأسبقيَّةَ معيارَ الحصول على الأماكن في منًى، ونهى عن البناءِ فيها؛
سدًّا لذريعة التملُّك الخاصِّ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((منًى مُناخُ مَن سَبَق))؛ جوابًا
على طلب الصحابة: (يا رسول الله، ألا نبني لك بيتًا بمنًى يُظلُّك؟)؛ أخرجه ابن ماجه،
والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
المساواة في أحكام النسك:
الناسُ مُتساوون في أحكام النسك من حيث الأصل، فليس لأحدٍ ميزة على الآخر، ولا
يختصُّ جنسٌ بحكمٍ دون آخر؛ ولهذا لما زعمت قريشٌ في الجاهليَّة أنهم من أهل الحرم فلا
يخرُجون من الحرم إلى عرفة، فكانوا يَقفون في مزدلفةَ، أبطَل الله زعمَهم بقوله: " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ " [البقرة: 199]، وهذا جابر بن عبدالله رضي الله عنه يُبيِّن
كيف أبطَل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الزَّعْم في وصفه لحجِّ النبي صلى الله عليه
وسلم قائلًا: (فسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا تَشكُّ قريش إلا أنه واقفٌ عند
المَشْعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم حتى أتى عرفةَ، فوجد القُبَّة قد ضُربت له بنَمِرةَ، فنزل بها، حتى إذا زاغتِ الشمسُ
أمرَ بالقَصْواءِ فرُحِلَتْ له، فأتى بطنَ الوادي)؛ أخرجه مسلم، فيَتبيَّنُ من ذلك أنه لا فرقَ
بين قبيلة وأخرى، أو بين جنسٍ وآخرَ في أحكام النُّسُك.
هكذا تتجلَّى مظاهرُ
المساواة في هذا المَشعَر العظيم، حيث تجتمع وفودُ المسلمين من شتَّى
أنحاء المعمورة؛ ليرجعوا إلى ديارهم عاملين بمقتضى هذا المبدأ العظيمِ في الإسلام،
ولعلَّ هذا سرُّ اغتنام النبيِّ المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الفرصةَ الثمينةَ لإرساء
دعائمِ هذا المبدأ العظيم في خطبته في حجة الوداع، حينما خطب في الصحابة قائلًا:
((يا أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي، ولا
عجميٍّ على عربيٍّ، ولا أحمرَ على أسودَ، ولا أسودَ على أحمرَ، إلا بالتقوى " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " [الحجرات: 13]، ألا هل بَلَّغْتُ؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:
((فلْيُبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ))؛ أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
أخي الكريم، هكذا وضَّح النبيُّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أسسَ هذا المبدأ العظيم في
وَسطِ أعظمِ تجمُّع إسلامي في الدنيا، معلِّقًا مسؤوليةَ إبلاغ الغائب على عاتق الشاهد، ألا
فبلِّغُوا عنه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهد في الله حقَّ
جهاده حتى أتاه اليقين صلوات ربي وسلامه عليه.
.