تأمَّل ذلك المقام الذي دعاك الله - تعالى - للصلاة عنده؛ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، إنه يحكي آثار أبي الأنبياء إبراهيمَ - عليه السلام - وابنِه إسماعيل - عليه السلام - وهما يبنيان مستقبل الأمة، ويكتبان تاريخها العريض، وهكذا ترتفع آثار نبي من الأنبياء، ويصبح مَعْلمًا لأمم الأرض كلِّها؛ لأنه كان استجابة لأمر الله - تعالى - أولاً، وكان مثالاً على العمل والحرث والتضحية من أجل هذه الرسالة ثانيًا، وقد بلغك أن آثار الناس تعظم في الدنيا بقدر همم أصحابها في العمل، وهمم قلوبها على الصبر، وتضحيتها وصبرها على لأواء الطريق، وإنه مشهد يذكِّرنا بأن العمل ينبت الذِّكرَ في الأرض كما ينبت الماء جذورَ الأشجار، وأن أي إنسان يظل ذِكره في الأرض بقدر تعبه وحرثه وتضحيته من أجل رسالة الإسلام، وها هو سيدنا إبراهيم، سنظل نردِّد ذِكره في لحظات حياتنا، وأي مخلوق في الأرض ينسى هذا الاسم يقلُّ قدره في التأسي، حتى وإن كان في لحظة لا تقاس بزمن.
تأمل الصفا والمروة، وتذكَّر وأنت تعلو على الصفا، أو تجري في بطن الوادي، أو تعلو مرة ثانية على المروة: أن هذه شعائر الله - تعالى - {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، تذكَّر وأنت تؤدي هذه الشعيرة
رحلة السيدة هاجر وهي تبحث عن الماء، وقد بلغ العطشُ بها وبابنها كلَّ مبلغ، تذكَّر رحلتها وهي تشرف على الصفا ترخي سمعها رب هاتف مغيث، وتسعى في الوادي تعجّل بالسير تبحث عن المرتقى على المروة، إنها
رحلة لأواء، وتعب وجهاد وعناء، ومشقة تكتنف امرأة في حقب التاريخ، يجعلها الله - تعالى - مواطن ذكريات، ليس لجيل من المسلمين، وإنما لكل مسلم يعيش
رحلة الحياة ورسالة الإسلام إلى يوم القيامة.
تأمل وأنت تجري بين العلمين الحال الذي كانت تعانيه المرأة من أجل شربة ماء، وتذكَّر أنك لا تجري اليوم هنا من أجل ماء تروي به العطش؛ وإنما تجري من أجل مغفرة تغسل ذنوبك، وتمحو خطاياك، وتَجُبُّ تاريخًا مظلمًا في لحظات من حياتك، لئن كانت حاجة الإنسان إلى الماء لهذه الدرجة التي مثلتها لنا السيدة هاجر، فإن حاجة الإنسان للمغفرة قلَّ أن يصفها قلم.
إن القاسم بيننا وبين السيدة هاجر قاسمٌ كبير جدًّا، يكفيها شرفًا أنه قاسم الحياة، كان في لحظات السيدة هاجر أمل حياة، وهو في لحظاتنا أمل حياة كذلك، وها نحن نجري كما جرت، ونعلو كما علت، وإن استشرفت لماء الحياة في تاريخها، فإننا نستشرف لماء نغسل به قلوبَنا من حقدها، وسوء ظنِّها، ودغلها، كما نغسل به حياة تدنَّست في عرض الدنيا بشيءٍ مما لم تُخلَق له، لكنها تدنست بوحله، سنة الله تعالى في كل مخلوق.