#1
| |||||||||||
| |||||||||||
ملاك غائب (قصة) محمود طبيبٌ شاب يعمل في إحدى المستشفيات الخاصة، فارعُ الطول، ممتلئُ الكتفين، شديدُ سواد الشعر والعينين، تعلو خدَّه الأيمن شامةٌ صغيرة تُجبر كلَّ من يراه أن يتأمله؛ لحسنها وبديع خلقها، وهو مع ذلك يتحلَّى بروح مرحة باسمة، عيناه تَبسِمان دومًا حتى وإن لم يبتسم، دمثُ الخُلق، مخلصٌ في عمله، يساعد المرضى بأقصى قدراته وطاقاته؛ لكنه دومًا يعترف لي: - نقطة ضعفي - يا صديقي - البنات، لا أملِك أن أرى فتاةً فلا أتأملها؛ لأرى مكامن حسنها: أتأمل العينين، تسحرني العيون الخضر الناعسة، ويلفت انتباهي الشعرُ الطويل الناعم المسترسل، والشفتان الـ... استوقفتُه: - محمود، كفاك وصفًا وهذيانًا، لِمَ لا تتزوج وتريح نفسَك من عناء متابعة التفكير في فتيات عابرات في حياتك؟! - ماذا؟! أتزوج؟ من سأتزوج؟! - واحدة ممن يُعجبْنَك. - لا توجد فتاةٌ واحدة تحمل كلَّ المواصفات التي أبتغيها، أنتَ تعلم طلباتي: طويلةٌ، جسمُها ممتلئ أقرب إلى النحافة، وعيناها الخضراوان الناعستان، وشعرها الطويل، وفمها الصغير كالكرزة. قالها مقهقًا. - أعانك الله يا صديقي، وهل نسيتَ الأخلاق والأدب، والحسب والنَّسَب؟ - لا، لا، طبعًا لم أنسَ: مؤدبة، خلوق، أنيقة، مثقفة، اجتماعية، مرحة، ذات حسب ونسب و... - يكفي يكفي، طلباتُك صعبة جدًّا، وأبارك لك العنوسةَ مقدَّمًا. تضاحكنا، وافترقنا. أربع سنوات مرَّتْ منذ أن التقينا ذاك اللقاءَ الباسم، الذي عدَّد لي فيه صفاتِ زوجته المتمناة. كان يسير في الشارع يحمل طفلاً يشبهه كثيرًا، لكنني استبعدتُ تمامًا فكرة أن يكون محمود قد تزوَّج؛ لأنه من الاستحالة أن يجد طلباته التعجيزية في فتاة أرضيَّة، إلا إن كانت من الحور العين، وهذا يعني أنه انتقل للحياة الآخرة، وهذا مستحيل؛ لأنه الآن أمامي. تبسَّمتُ بيني وبين نفسي وأنا أحلِّل وأعلل، وأسير متعجلاً؛ لألحق به، وضعت يدي على كتفه قائلاً: - مرحبًا دكتور. التفتَ متعجلاً، ابتسم، ضحك، ثم عانقني عناقًا طويلاً. - أهذا أنت؟! أمين، يا الله! كم اشتقت إليك! أين صرتَ يا رجل؟ - ما زلتُ أعمل في ذات الشركة، وقد تزوجتُ ورزقت بنتين توءَمين، ليس كحالك، ما زلتَ عانسًا تبحث عن زوجة تَقبَلُك، وقد بدأ الصلع في رأسك يُحيِّي القادمين في عتمة الليل. ضحكتُ بعمق، لكنه لم يبادلني الضحكات، اعتقدتُ أنه قد تضايق من مداعبتي، لعلها كانت سمجة، أسرعت أعتذر؛ لكن، رفع لي الطفل الذي معه وقال: - هذا ابني مؤيد، وقد تزوجتُ منذ ثلاث سنوات، ورزقني الله مؤيدًا ووجدانَ، وأنا أعيش حياة زوجية سعيدة. نظرتُ إليه وقد غشاني الخجلُ والارتباك من مقولتي، أكملَ يقول وهو يشعر بما يعتمل في نفسي: - قد تسألني: هل وجدتَ الزوجة التي اشترطتَها؟ بكل المواصفات التي طلبتَها؟ أتذكر؟ ابتسمتُ وهززت رأسي وقلتُ: - أذكر. - وقد تسألني: هل تزوجتَ من ملكة جمال العالم مثلاً؟ أو لعلك تستحي أن تطلب مني ذِكر أوصاف زوجتي لتعلم هل حققتُ مرادي، وَوصلتُ لمناي. أردتُ النفي، وأنني لا تهمني أوصافُ زوجته، وما هو شكلها، لكنه استرسل: - لتعلم يا صديقي أنني - ولله الحمد - رزقتُ زوجة طيبة، ذات خلق رفيع، ونصيب من الجمال، لكنني - ويعلم الله - لم أشترط في انتقائي لزوجتي جمالاً باهرًا كما كنتُ أردِّد دومًا. هنا صمتَ برهةً، فانتهزتُ الفرصة لسؤال مقتضب: - وهل يمكنني معرفةُ سبب ذلك التحوُّل المفاجئ؟ أجابني باسمًا: - لا، إلا إذا قدمتَ لزيارتي اليوم في بيتي، وشاركتَني فنجان قهوة من صنع زوجتي؛ لتتأكد أنني لم أعد عانسًا. عادتْ لنا ضحكاتنا، وافترقنا على موعد اللقاء مساءً، وبقيت أرقبه حتى اختفى عن ناظري، وسره لم يفارق تفكيري. فُتحَ الباب، وإذ بالصغير مؤيد وأخته وجدان تلاحقه متعثرة في خطوها، قبَّلتُهما، وأعطيت كلاًّ منهما هديتَه، فذهبا فرحين ليُرياها لأمِّهما. ابتدأني محمود قائلاً: - يا صديقي، تمرُّ علينا أيام طوال وغشاوةٌ تعلو أبصارَنا؛ فلا نرى الحياة بحقائقها، ولا نعلم نهايات الأمور، حتى تكون هناك صدمةٌ تمزِّق الحُجُب، وتمحو قتامة التفكير. - حدِّثني يا محمود، فقد شوقتني والله. اعتدل في جِلسته ونظر بعيدًا. - حينما كنتُ أعمل في المستشفى قبل أن أفتح عيادتي الخاصة بي، وذات ليلة قدمتْ إلينا حالةُ وفاة، كشفتُ الغطاء الأبيض عن وجه المتوفى، وإذ بها فتاة في ريعان الشباب، لا يتجاوز عمرها العشرين ربيعًا. صمتَ، وعبث بمنديل بين أصابعه، وخيَّم السكون، وشعرت برهبة الموت، أمسكَ يدي وقال: - أمين، لو قلتُ لك: إنها هي الفتاة التي كنتُ أحلم بها زوجةً لي، لما صدَّقتني، ولولا أنها ميتة، لذكرتُ لك صفاتِها؛ لأثبت لك صدقي. - لا، لا، لا داعي لذلك، أصدقك يا صاحبي، أكملْ. - هذه الفتاة الشابة كانتْ تنضح بالحياة رغم موتها، ولولا علمي أنها متوفاة، لقلت: إنها نائمة، سبحان الخالق الذي خلق فأبدع! تم إنجاز معاملة الوفاة، وتجهيز الفتاة للدفن، لكنها مع ذلك بقيت صورتُها منطبعةً في ذاكرتي؛ لجمالها الأخَّاذ. بعد الدفن بشهرٍ أتى والدُ الفتاة يطالِب بإخراج جثة ابنته وتشريحها؛ لأنه يشك في وجود جريمة، وأنها قُتلتْ ولم تمتْ بطريقة طبيعية. ابتلع ريقَه، وغابتْ نظراتُه، وهو يكمل: - كنت معهم لحظة إخراج الجثة من قبرها، هنا كانت الصدمة، لم أستطع الاقترابَ منها، تلاشى جمالُها، وسالتْ مقلتاها الخضراوان، وعلاها الدود، وتفسَّخ جلدها البض الأبيض، وتملَّكتني حالةٌ من الغثيان والدوار. حين عدتُ للمنزل يا صاحبي تذكرتُك، وانكشف القتام؛ فكلنا أجسام إلى زوال، وتبقى الروح والعقل والفكر، فاستعنت بالله أن يرزقني الزوجةَ الصالحة، ذاتَ الخُلق، ولا تخلو أيضًا من لمسة جمال، وابتسم واقفًا وأكمل: - فنحن بشر نعشق الجمال. ودَّعتُه، وقد ازددت يقينًا بحقيقة الجمال. المصدر: منتدى همسات الغلا lgh; yhzf (rwm) lgh; ::: ثلاثة اخرجهم من حياتك: :: من استرخص مشاعرك :: من يتلذذ في تعكير مزاجك :: من هانت عليه العشرة ا-------------------ا |
14-05-2022, 08:50 PM | #2 |
| موضوع شيق وطرح رائع يعطيكـ العافية وجزاك الله خيرا |
|
16-05-2022, 05:17 PM | #3 |
| مَوْضُوٌعْ فِيٍ قَمّةْ الْرَوُعَهْ لَطَالمَا كَانَتْ مَواضِيعَكْ مُتمَيّزهَ لاَ عَدِمَنَا هَذَا الْتّمِيزْ وَ رَوْعَةْ الأخَتِيارْ دُمتْ لَنَا وَدَامَ تَأَلُقَكْ الْدّائِمْ |
|
20-05-2022, 02:21 PM | #4 |
| عبق نرجسي يسطر بعذوبه وجمال يعانق السماء كجمال الانتقاء |
|
15-06-2022, 06:27 PM | #5 | |||||||||||
|
| |||||||||||
"سلاماً على من ألقت الدنيا في طريقهم شوكاً فعبروا من فوقه كاتمين الشعور، متيقنين أن نهاية هذا الطريق بُستاناً" |
15-06-2022, 07:56 PM | #6 |
| شكرا تتكاثر في سمائك وبوركت روحك الزكية كل الود والتقدير والمحبة |
::: ثلاثة اخرجهم من حياتك: :: من استرخص مشاعرك :: من يتلذذ في تعكير مزاجك :: من هانت عليه العشرة ا-------------------ا |
15-06-2022, 07:56 PM | #7 |
| شكرا تتكاثر في سمائك وبوركت روحك الزكية كل الود والتقدير والمحبة. |
::: ثلاثة اخرجهم من حياتك: :: من استرخص مشاعرك :: من يتلذذ في تعكير مزاجك :: من هانت عليه العشرة ا-------------------ا |
الكلمات الدلالية (Tags) |
(قصة) , ملاك , غائب |
| |