.
الإحرام من الميقات
تعريف الإحرام لغةً واصطلاحاً
يدلّ لفظ الإحرام في اللغة على عِدّة معانٍ تختلف باختلاف صورها، إلّا أنّ المعنى الجامع لها من الجذر (حَرَمَ)؛ أي مَنَعَ منعاً شديداً، والإحرام في صورة الحجّ أو العُمرة هو: أن يدخل المسلم المُحرِم في حُرُماتٍ ينبغي عليه ألّا يهتكها، وهذه الحُرُمات هي الأعمال التي تَحرُم عليه؛ فلا يجترئ عليها وهو حاجٌّ، أو مُعتمِرٌ، أمّا في الاصطلاح الشرعيّ، فقد اختلف الفقهاء الأربعة في تعريفه، وبيان اختلافهم كالآتي:
- جمهور العلماء: عرَّفَ المالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة الإحرام بأنّه: نيّة الدخول في حُرُمات الحجّ أو العُمرة دون اشتراط قولٍ، أو فِعلٍ مُعيّنٍ، إلّا أنّ المالكيّة قالوا بِلُزوم الفِدية على المُحرِم إن ترك التلبية، أو ترك التجرُّد من المَخيط حين النيّة.
- الحنفيّة: عرَّف الحنفيّة الإحرام بأنّه: التزام حرُماتٍ مخصوصةٍ، ويتحقّق بأمرَيْن: النيّة، والذِّكر.
الفرق بين الإحرام والإحرام من الميقات
يُعرَّف الميقات بأنّه: مكان إحرام الحاجّ أو المُعتمر؛ للدخول في العبادة،
وقد وردت عن الصحابيّ الجليل عبدالله بن عباس -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- المواقيت المكانيّة؛ إذ قال: (وَقَّتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأهْلِ المَدِينَةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنازِلِ، ولِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ لِمَن كانَ يُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمَن كانَ دُونَهُنَّ، فَمُهَلُّهُ مِن أهْلِهِ، وكَذاكَ حتَّى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْها)،
وهناك فروقٌ بين الإحرام، والإحرام من الميقات، وبيانها على النحو الآتي:
- يُعَدّ الإحرام رُكناً من أركان الحجّ والعُمرة، بينما يُعَدُّ الإحرام من الميقات واجباً من واجباتهما.
- يُفسِد ترْك الإحرام الحجّ والعُمرة، بينما لا يُفسدهما تجاوُز الميقات دون إحرامٍ؛ فإمّا أن يعود إلى الميقات ويُحرِم، أو أن يُحرِم بعد الميقات دون أن يعود، إلّا أنّه تلزمه فِديةٌ حينئذٍ.
كيفيّة الإحرام المُستحَبّة
يُستحَبّ للحاجّ أو المعتمر أن يُحرِم على الصفة التي أحرم بها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وتتلخّص في ثلاث نقاطٍ، وهي:
- يُستحَبّ للرجل عند إحرامه للحجّ أو للعُمرة أن يغتسل، ويتنظّف، ويُعطّر بَدنه، ولا يُعطّر ثوبه، وأن يكتسيَ بإزارٍ ورداءٍ أبيضَين نظيفَين، وأن يتجرّد تماماً من المَخيط، ثمّ يرتدي نعلَيْه، أمّا للمرأة فإنّه يُستحَبّ لها الاغتسال إن أرادت الإحرام، حتى وإن كانت على حيضٍ أو نفاسٍ، ثمّ ترتدي ما شاءت من الملابس الساترة مُتجنِّبةً لباس الشُّهرة واللباس الضيّق، وتحذرَ من التشبُّه بلباس غير المسلمين، ولا ترتدي النِّقاب، ولا القفّازات.
- يُستحَبّ للمُحرِم أن يُحرِم بعد الصلاة المفروضة، وليست للإحرام صلاةٌ خاصّةٌ به، فلا حرج عليه أن يُحرِم بعد ركعتَي سُنّة الوضوء، أو ركعتَي تحيّة المسجد، أو بعد صلاة الضحى، وعليه أن يستحضر النيّة في قلبه للدخول في النُّسك؛ سواء كان حجّاً، أو عمرةً، ويُستحَبّ إحرامه وإهلاله بعد الصلاة في المسجد.
- يُستحَبّ للمحرِم أن يذكُر نُسكه؛ فيقول إن كان مُعتمراً: " لبّيك عمرةً"، ويقول إن كان مُنفرداً: " لبّيك حجّاً"، ويقول إن كان قَارناً: " لبّيك عمرةً وحجّاً"، وإن كان مُتمتّعاً يقول: " لبّيك عمرةً"، ويدعو الحاجّ قائلاً: " اللهمّ هذه حجّةً لا رياء فيها ولا سُمعةً".
المرور بالميقات
الإحرام قبل الميقات
اتّفق الفقهاء على جواز الإحرام قبل الميقات، إلّا أنّهم اختلفوا في التفضيل بين الإحرام قبل الميقات، أم منه، وتفصيل ذلك كما يأتي:
- الجمهور: ذهب المالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة إلى كراهة الإحرام قبل الميقات، وأنّ الأفضل الإحرام منه؛ واستدلّوا على ذلك بأنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وصحابته -رضوان الله عليهم- كانوا يُحرمون من الميقات، وهم لا يفعلون إلّا الأفضل، وأنّه يُشبه الإحرام بالحجّ قبل دخول أشهره، فهو مكروهٌ مثله.
- الحنفيّة: قالوا إنّ الأفضل الإحرام قبل الميقات، بشرط أن يأمنَ على نفسه مُخالفة أحكام الإحرام؛ واستدلّوا على ذلك بقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن أهلَّ مِن المسجدِ الأقصى بعمرةٍ غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه)، وقالوا إنّ الإحرام قبل الميقات تكون فيه المَشقّة أكبر، والتعظيم أوفر، فيكون بذلك أفضل.
الإحرام بعد تجاوُز الميقات
اتّفق العلماء على أنّ مَن جاوز الميقات دون إحرامٍ وهو قاصدٌ لنُسك الحجّ أو العُمرة وجبَ عليه الرجوع إلى الميقات، والإحرام منه، وهو يأثم إن أحرم ولم يرجع إلى الميقات دون وجود عُذرٍ، وتترتّب الفِدية عليه إن أحرم بعد ذلك دون أن يعود، ولا تلزمه العودة إلى الميقات حينها، إلّا أنّهم اختلفوا في مَن تجاوز الميقات وأحرم بعده، ثمّ رجع إليه مُحرِماً؛ بلزوم الفِدية عليه، أم لا، وبيان اختلافهم على النحو الآتي:
- القول الأوّل: لزوم الفِدية عليه، وهو قول الإمام مالك، وزُفَر من الحنفيّة، وأكثر الحنابلة؛ واستدلّوا على ذلك بما ورد عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، إذ قال: (إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقَّتَ لأهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، ولِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، ولِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِهِنَّ مِمَّنْ أرَادَ الحَجَّ والعُمْرَةَ، ومَن كانَ دُونَ ذلكَ، فَمِنْ حَيْثُ أنْشَأَ حتَّى أهْلُ مَكَّةَ مِن مَكَّةَ)،
- فالفِدية تجب عليه بمُجاوزته الميقات دون إحرامٍ، ولا تسقط الفِدية بعودته إليه.
- القول الثاني: إن رجع إلى الميقات مُلبِّياً لم تلزمه الفِدية، وإن رجع دون أن يُلبّي لزمته، وهو قول الإمام أبي حنيفة؛ واحتجّ بقوله على أنّ المتروك بمُجاوزة الميقات هي التلبية؛ فبالتلبية يكون قد أدرك ما فاته.
- القول الثالث: إن رجع قبل أداء عملٍ من أعمال الحجّ أو العُمرة؛ سواء كان رُكناً، كالوقوف بعرفة، أو سُنّةً، كطواف القدوم، سقطت عنه الفِدية، وإلّا لزمته، وهو قول جمهور الشافعيّة؛ واحتجّوا بلزوم الفِدية عليه بعد تلبُّسه بنُسُكٍ؛ لأنّه عاد بعد انتهاء وقت الإحرام.
- القول الرابع: عدم لزوم الفِدية عليه؛ سواء لبّى، أم لم يُلَبِّ، وهو قول الإمامَين: أبي يوسف القاضي، ومحمّد بن حسن الشيبانيّ من الحنفيّة؛ واحتجّا على ذلك بأنّ حَقّ الميقات في مُجاوزته أن يكون مُحرِماً، وليس إنشاء الإحرام منه.
إحرام مَن لا يستطيع المرور من الميقات
بينّ العلماء حال إحرام مُريد الحجّ أو العمرة إن سلكا طريقاً خاليةً من المواقيت المكانيّة التي حدّدها الشارع، فعليه أن يُحرم بإحدى الطريقتَين الآتيتَين:
- الإحرام من مُحاذاة الميقات: وهي الطريقة التي اتّفق عليها الأئمّة الأربعة؛ واستدلّوا على ذلك بما ورد عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- حيث قال: (لَمَّا فُتِحَ هذانِ المِصْرَانِ أتَوْا عُمَرَ، فَقالوا: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَدَّ لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وهو جَوْرٌ عن طَرِيقِنَا، وإنَّا إنْ أرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا، قالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِن طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لهمْ ذَاتَ عِرْقٍ)،
- ويُراد بالمُحاذاة: المُوازاة، والمُقابلة.
- الإحرام على بُعْد مرحلتَين من مكّة: وهي الحالة التي صرّح بها الحنفيّة، والشافعيّة، والحنابلة؛ ذلك أنّ القَصد من الميقات البُعد عن مكّة بقَدر هذه المسافة، وقُدِّرت مسافة المرحلتَين بخمسةٍ وسبعين كيلومتراً، كما هي المسافة بين ميقات قَرْن المنازل، ومكّة.
الإحرام من الطائرة
يجوز لكُلٍّ من الحاجّ أو المعتمر الإحرام والدخول في النُّسك عند مُحاذاة الميقات عندما يُخبر عنه مُرشد الطائرة، ولا بأس أن يحتاط فيُحرِم وينوي الدخول بالنُّسك منذ بداية ركوبه في الطائرة.
حكم إحرام الحاج والمعتمر من ميقاتٍ غير ميقاته
بيّن العلماء عدم جواز أن يحرم الحاجّ أو المعتمر من ميقاتٍ غير ميقاته، فمن تجاوز ميقات منطقته لعذرٍ أو غير عذرٍ لزمه أن يعود إلى الميقات مرّةً أخرى ويُحرم منه، أمّا إذا ترك الميقات وأحرم من ميقاتٍ آخر فتتوجّب في حقّه الفدية؛ لأنّه أخلّ بنسك الحجّ والعمرة الواجب؛ وهو الإحرام من الميقات، أمّا إن كان للمحرم أهل في منطقةٍ معيّنةٍ، ولم يكن في طريق زيارته إليهم ميقات؛ فيجوز له أن يحرم من ميقات المنطقة التي يسكن بها أهله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فَهُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ لِمَن كانَ يُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ)،
أمّا إن مرّ بميقاتٍ في طريق الزيارة؛ فيتوجّب عليه أن يحرم منه، وذهب بعض علماء الأمّة إلى القول بجواز أن يؤخّر الحاجّ أو المعتمر الإحرام إلى ميقاتٍ غير ميقاته؛ إذا كان بُعد الميقاتين عن مكّة متساوياً، أو كان الميقات الآخر أبعد من ميقاته.
.