ما من عبادةٍ وإلا وقد رتَّب الشرع المطهَّر عليها آثارًا على العبد في حياته، وهذه الآثار تختلف حسب مكانة هذه العبادة ومنزلتها من الدين، كما أنها تختلف باعتبار آخر، ألا وهو العابد نفسه؛ إذ لا ريب أن الناس ليسوا على درجة واحد من العلم والخشية، وبالتالي ليسوا على درجة واحدة في تعظيم هذه الشعائر، ولا في درجة الإخلاص والصدق الذي يكون في قلوبهم حين الدخول في العبادة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : "إذا لم تجد للعمل حلاوةً في قلبك وانشراحًا فاتهمه، فإن الرب تعالى شكورٌ؛ يعني لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا، من حلاوةٍ يجدها في قلبه، وقوة وانشراح وقرَّة عين. فحيث لم يجد ذلك؛ فعمله مدخولٌ" اهـ.
ولقد برَّ في كلامه وصدق - رحمه الله - فقد ثبت في السنة أحاديث كثيرة تؤيِّد ما قاله؛ منها: ما ثبت في "صحيح مسلم"، عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ذاقَ طعمَ الإيمان مَنْ رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم – رسولاً)).
كيف تؤثِّر العبادات في سلوكيَّاتنا:
هناك وسائل كثيرة تجعل العبادات مؤثِّرة؛ منها:
أولاً: النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة، التي وردت في شأن تلك العبادة التي نفعلها.
ثانيًا: بعد جمع النصوص؛ يستعين المسلم في فهمها بكتب التفاسير فيما يتعلق بالآيات، وعلى كتب شروح الأحاديث - إن أمكن ذلك - وإلا فبسؤال أهل العلم؛ لفَهْم ما قد يُشْكِل منها.
ثالثًا: استشعار أهمية العبادة ومعناها، والحكمة منها، وأن يعلم أن الغاية العظمى من العبادات هو إصلاح القلوب، ولا يتم لها ذلك إلا بأن تَذِلَّ وتخضع وتستكين لخالقها، وتُنيب وتعود لربِّها،، وترهب وترغب لمولاها، فبذلك يتم صلاح القلب، ويسعد العبد في دنياه وأُخراه، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى – يقول: "مَنْ أراد السعادة الأبدية؛ فلْيَلْزَم عتبةَ العبودية".
رابعًا: مطالعة سِيَر وأحوال السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - في تلك العبادة، وهذا له أثرٌ عظيمٌ ومُشاهَد؛ إذ مع استشعار أن القدوة المطلقة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سيرته خيرٌ وكفاية، إلا أن المسلم - أيضًا - سيزداد خيرًا حينما يقرأ في هذا الباب.
أسباب حرمان آثار العبادات، وعدم التلذذ بها:
منها: ضعف الإخلاص لله تعالى، والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك العبادة، وهذان الأمران كما أنهما شرطان في قبول العمل؛ فهما - أيضًا - مؤثِّران تأثيرًا عظيمًا في الشعور بلذَّة العبادة وأثرها، ولهذا ليست العبرة بكثرة العمل، وإنما بحسنة؛ كما قال - سبحانه -: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، ولم يقل: أكثركم عملاً.
والمراد بحسن العمل: هو أن يكون خالصًا لله، صوابًا على سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما فسَّره بذلك طائفةٌ من السلف؛ كالفُضَيْل وغيره.
وبقدر ما يكون الإخلاص؛ يَعْظُم الأثر ويزداد النفع؛ يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب؛ من الإيمان، والمحبة، والتعظيم، والإجلال، وقَصْد وجه المعبود وحده، دون شيء من الحظوظ سواه، حتى تكون صورة العملَيْن واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يحصيه إلا الله، وتتفاضل - أيضًا - بتجويد المتابعة، فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلاً لا يحصيه إلا الله تعالى". اهـ من (تهذيب مدارج السالكين).
ومنه أيضًا: اقتراف الذنوب والمعاصي، ومن أعظم البركات التي تمحقها الذنوب: مَحْقُ بركة العبادة، وفقد آثارها، وحرمان لذتها!.
يقول الله - عز وجل -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وقد سئل وهيب بن الوَرْد - رحمه الله -: أَيَجِدُ لذَّة الطاعة مَنْ يعصي؟ قال: "ولا مَنْ هَمَّ!"؛ أي: من هم بالمعصية.
فإذا كان هذا أثر الهَمِّ بالمعصية؛ فما الظنُّ باقترافها والولوغ فيها والإصرار عليها؟
ومن أروع الكلمات المعبِّرة والمأثورة عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وشُرَيْح، وغيرهما، قولهم حين رأوا ما أَحْدَثَ الحجَّاج في زمانهم: "الركب كثيرٌ، والحاجُّ قليلٌ"!
والفرق بين الرَّكْب والحاجِّ هنا كالفَرْق بين المصلِّي ومقيم الصلاة، والمصلِّي: هو مَنْ يؤدِّي الصلاة ظاهرًا، بحركاتها وأشكالها، وقلبه غافلٌ ساهٍ، أما مقيم الصلاة: فهو مَنْ يؤدِّيها بخشوع وحضور قلب، وهذا الأخير هو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وهذا ما أَلْمَحَ الله تعالى إليه في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. وهكذا الحج.
وإذا أردنا أن ندرك الواقع كما هو، دون (تَزْويق)؛ فلننظر في واقع سلوك الحجَّاج أثناء تأديتهم للنُّسُك، ونراقب سلوكهم بعد رجوعهم من هذه الشعيرة العظيمة؛ فكم من حاجٍّ أدَّى حجَّ هذا العام؛ بل كم من حاجٍّ يواظب على أداء هذا النُّسُك كلَّ عام، ثم تراه في حجِّه يشتم هذا، ويَلِغُ في عِرْض ذاك، وربما يُمْسِك عن كثير من المنكرات أثناء تأديته لنُسُكه، فإذا فرغ من حجِّه، ورجع إلى بلده - تراه يعود إلى سابق عهده؛ حيث قطيعة الرَّحِم، أو سوء معاملة القريب والبعيد، أو أكل أموال الناس بالباطل، أو ما يمارسه من ظلم لهذا أو ذاك، ولو شَقَقْتَ عن قلبه؛ لوجدته كما هو؛ حيث الكِبْر والتَّعالي، أو العُجْب، أو الحسد والحقد!! فأين حظُّ هذا من الحجِّ؟ وهل أدَّى هذا الحاجُّ نُسُكَه عادةً أم عبادةً؟!
إنَّ مَنْ حجَّ تعبُّدا لله تعالى، وإخلاصًا له، وتقرُّبًا إليه - ترى أثرَ الحجِّ عليه ظاهرًا في سلوكه وأخلاقه، ولو حجَّ مرةً واحدةً في حياته، أما مَنْ حجَّ عادةً أو رياءً وسمعةً؛ ليُقال: (حاجٌّ) - وقد قيل - فهذا لا ترى أثرًا للحجِّ في سلوكه ومعاملاته مع الله تعالى أو مع الناس، ولو حجَّ كلَّ عام!! بل تراه يعود إلى سلوكه الأوَّل كما هو قبل الحجِّ!
وليت شعري؛ أين الحاجُّ الذي يرجع من حجِّه فيحاسب نفسَه، وينظر في أسلوب حياته، وصِلاته بوالدَيْه وزوجه وأولاده، وسلوكه في وظيفته وتجارته، وفي مصادر ثروته، وطرق إنفاقه، فيقيسها بميزان الشرع، لا يميزان الهِزَّة؟!
فكم من حاجٍّ يرجع إلى أسلوب حياته - قبل حجِّه - فيعود إلى التَّقصير في حقوق والدَيْه، ممَّا كان سببًا في تنغيص حياتهما، كما هو على ذلك كل عام، أو تراه يعود إلى ظلم زوجة وأم أولاده، وسوء عشرتها، مما كرَّه إليها بسوء معاملته عيْشَها وحياتها، كما هو على ذلك كل عام، أو يعود إلى ما هو عليه في التحايل على أكل أموال الناس بالباطل، حتى فاحت رائحته وأزكمت الأنوف، فأين أثر الحج في سلوك هذا وأمثاله؟!! لقد تخفَّف هذا الحاجُّ من ملابسه، وليس لباس الحاجِّ، ولم يتخفَّف من أثقال الذنوب! وحلق هذا الحاج رأسَه أو خفَّف منه، ولم يتخفَّف من ظلم الأهل والأقربين، أو المستضعفين! وذبح هذا الحاج نُسُكَه، ونَحَر هَدْيَه، ولم ينحر هواه الذي زَيَّن له سوءَ عمله! وبات هذا الحاج في مُزْدَلِفَةَ ومنى، ورمي الجمرات الثلاث، ولم يَرْمِ شيطانَه الذي جرى في دمه، وبات في خيشومه، وتربَّع على عرش قلبه وقِوَاده! فكيف يعود مَنْ هذا حاله بعد حجِّه كيوم ولدته أمه، وهو كهو يوم سافر إلى حجه
إن المسلم المخلِص في عبادته، والصادق مع ربِّه - تراه دائم المحاسبة لنفسه؛ فيظهر أثر العبادة عليه صدقًا لا تصنُّعًا، وهذا وحده المنتفِع بالعبادة دون كلَّ مَنْ سواه.
وهكذا الإنسان؛ إذا تحقَّقت فيه آثار العبادات، وتحلَّى بالآداب الشرعية، وأصبحت أخلاقه انعكاسًا لما يعلمه ويعمل به من دين الله - عزَّ وجلَّ.