اصرخ يابني اصرخ ..لعل صوتك يسمع

كان طحطور شاباً مشهوراً في مواقع التواصل إلى أبعد درجة ابتداءً بإسمه الغريب وانتهاءً بتصرفاته وابداعاته ..بارعً محترفاً في صنع محتوى الترفيهي للجماهير ، يتقمص شخصياتً عديدة لدرجة ان احداً لا يعرف شخصيته الحقيقية ..ألحانه مختلفة ..كلماته تضربُ في صميم من يسمعها ..شكله وأسلوبه وتمثيله يختلف عن كل المعتاد ..لكن نجاحه الأكثر كان بالجانب الفكاهي منه ..فلا يمكن ان يتابع أحدٌ مقاطعه الا ويصابُ بهستيريا من الضحك ،

كل الناس يتحدثون عن غرابة اطواره وسلوكياته وتصرفاته الغير متوقعة ، وكانت طبيعته المنغلقة والغامضة برغم شهرته جعلت الإشاعات تزداد حوله ، لم يكن يملك اصدقاء أو اقرباء إذ توفي والده ووالدته وشقيقه حينما كان صغيراً ما جعله يعتزل الناس وينفرد مضطرباً مع القلم تارةً وتــارةً أخرى يصنع ألحانً يفور منها الدم في الجسد ..ويضحك نفسه الحزينة حتى اصبح شاباً وراح ينقلها إلى الكاميرا،

وبعد طول مشوار حافل بنجاح منقطع النظير وشعبية جارفة أوصلت بمقاطعه إلى العالمية ..قرر الاعتزال وترك كل ذلك خلفه ، ولكن قراره لاقى معارضة شديدة من الجماهير ..فمن يضحكهم مثله ومن يطربهم كلحنه ومن يسليهم كتمثيله، الا أنه رفض العودة عن قرار اعتزاله والرحيل ،

بعد قراره قامت احدى اشهر قنوات الاعلام بطلب مقابلة تلفزيونية معه ليشرح للناس سبب اعتزاله ..قد تردد بداية الأمر كثيراً فلم يخرج في مقابلة من قبل ولم يراه احدً على طبيعته فكل شهرته كان يتنقل بين شخصياته الغريبة التي اخترعها ، وافق بالنهاية وعلى مضض بسبب الضغط عليه من الجماهير والقناة،

جاء موعد المقابلة والجمهور عن بكرة أبيه متسمرٌ أمام الشاشة والفضول سبقهم لرؤيته على طبيعته وحقيقة شخصيته الغامضة ،
ومع بداية الحلقة سأله المذيع : أنت يا طحطور تخرج بشخصياتٌ كثيرة فأي منهما تمثل شخصيتك؟

إجابه طحطور ببرود غير متوقع : ولا واحدة تمثلني!

المذيع يحاول استفزازه : كيف ولا واحدة ، أنت خرجت بشخصية الغبي والأحمق والطائش ..وتغني كالمختل يجب أن تكون واحدة منهم هي حقيقتك؟
ظل طحطور صامتً ينظر للمذيع تارةً وتــــارةً أخرى ينظر لعدسة الكاميرا وكأنه يريد قول شيئاً غير معتاد ..ثم قال للمذيع بإسلوبً غريب:
دعني اتحدث ولا تقاطعني!

المذيع : حسناً ، فالحلقة مخصيصةً لك!

اشتد المتابعون في منازلهم وتسمروا امام الشاشات والفضول قد قتلهم لسماع ما سوف يقول ، عندها ابتدأ طحطور كلامه بطريقةً تختلف عما اعتاده عليه الجمهور وقال :

أنها لعبة القدر ..هل تعرفون ذلك ..منذ كنت صغيراً وأنا أنتظر يوما كهذا ، أيها الجمهور ..أيها الناس .. ويا من يشاهدني وكل من يسمع ..أريدكم أن تمعنوا النظر إلي جيدا ..تمعنوا النظر إلى ذلك الشخص الذي يضحككم وتضحكون منه ..يطربكم وتتراقصون على ألحانه وكلماته ..أريدكم الآن أن تستمعون بضميرا لما سأقول .

أنا الشخص الوحيد في هذا العالم الذي تخطيت الجدار ، نعم قد تخطيت الجدارن ..لم يستطع أحد أن يفعل مثلما فعلت ..لا أحد فعلها قبلي ولن يفعلها أحداً بعدي.. الناس كانت تروي عني قصصا تعدت كل أساطير الخرافة ..قالوا بأني خرجت من اللا مكان وأتيت من العدم.. قالوا انني أستعين بالجن ..قالوا انني اتعاطى المخدرات ..قالوا كل شيء لكي يقنعون أنفسهم بأنني مختلف ..لقد أحدثت صخبا سمع ضجيجه في السماء ..حتى أنني أصبحت للكثيرين مثلا يحتذى به..أصبحت أسطورة بنظرهم ..بتُ كالآله ..أيقونة للجميع ..لكن هل تعرفون شيئاً ..لست مهتما بكل ذلك .

سكت طحطور قليلاً والانفاس من حوله في الأستديو وخلف الشاشات قد تقطعت ..ثم اشار إلى نفسه وأكمل قائلاً :
دعوني أخبركم حكاية الرجل الذي خرج من حلمه غاضبا وراح يشمل الجميع في شتائمه ، ويسخر من الآخرين ويجعل الجمهور يضحك عليهم ضاربا عرض الحائط بكل الخطوط الحمراء والقانون ..عندما كنت صغيراً كنت اعود كل ليله إلى مخبأي الذي لم أعرف مكانا آخر غيره أتقوقع على نفسي هناك ..هارباً من كل شيء..من كل أحد.. حتى من الأموات في مقابرهم هربت خشيت منهم ، كنت منزوياً في تلك الظلمة الحالكة التي خلت من بصيص نورا عدى ذاك الخافت فوق رأسي ، أتحاشى نظرات الناس الموجعة ونفسي بإستمرار تلمني وضميري لم ينفك يؤنبني ..أفكر في الأختفاء تارة ..وتارة أخرى تراودني فكرة الهروب من هذا العالم الموحش والانتحار لإضع حداً لوحدتي وبؤسي .. لكنني بالنهاية تراجعت ولم أفعل.

ظللت أعيش في ذكريات الماضي المؤلم التعيس بعد أن تركوني الأحبة وحيداً ..أنتحر والدي يلعن فقره ويلعننا معه ..اما والدتي وشقيقي هربوا معي نتنقل من مكان لغيره ..قريةً تلو قرية.. بلدة وراء بلدة.. نفر بمشاعرنا التي لم تسكنها الطمأنينة مرة ..نفر من واقعنا الذي قسى علينا ولم يرحمنا أو يشفق بحالنا ، نمر على الناس والآخرون ينظرون إلينا بنظراتً مختلطة ..فأناس أرخصوا بحالنا وباعونا بسعر التراب وآخرون بكوا علينا ، والدتي هي الأخرى توفيت تندب حظها النحس ومرارة الأيام التي عذبتها بمرض خبيث أصابها وأوجعها وأرق جفونها وتركها ملقاة على الأرض دون شفقةً من أحد أو حتى نظره عطفاً عليها، تصرخ وتصرخ ..كانت فقط تصرخ وهذا ما عرفته من الدنيا وما أنعمت عليها الحياة ..صراخٌ منذ طفولتها حتى غزاها الشيب ..كانت تصرخ لعل صوتها يُسمع ..لعل احدٌ يسمع همسها ويساعدها لكن دون جدوى أو فائدة، حتى فارقت الدنيا بحالتها تلك ولم تعرف الإبتسامةً يوماً ..أما شقيقي الآخر والذي كان يعاني من أعاقه ذهنية فقد إصابته سكتةً قلبيه رغم صغر سنه وهو ينام على فخذي ..رحل متحسراً حزيناً يلعن بؤس الحياة التي عاشها ..وكأنها تريد أن تنتقم منه بسبب إعاقته ، ولم ترحمه ..ولم ترحم حتى ضعفي وقلة حيلتي .

عشت أشتكي ضيم الفراق ليالً وليال ..أخفي الأوجاع بداخلي لكي لايراني أحداٌ أو ينظر في عيني ويكتشف شيئا أو أشياء ..يكتشف آلالام تلبدت بداخلي وأجبرتني على العيش محارباً أخوض معارك على جبهاتً عدة.. يتيماً مشردً ..فقيراً متسولً ..ضائعاً مقهورً ..ألمً يتآكلني من الداخل ..ومصائبٌ توالت علي،

ذات ليلة نظرت في المرآة إلى نفسي فلم يعجبني ما رأيت ..فتركت كل تلك الذكريات خلفي مرغماً ..فلم أعد أتذمر أو أنتحب ..كانت هناك كلمةً واحدة حفظتها وأقولها دائماً : إليا إلي !
أرددها كل لحظة غدرً أو مشكلة تختبرني فيها الحياة التي لم ينجح فيها أحد.. فالجميع خرج خاسرا يجر أذيال الخيبة معه عدى فئة قليلة وقليلة جداً .

عرفت بأنني سأكون على القمة وأعلى الهرم يوم ما سيأتي لا محالة ..مكتوبٌ هذا القدر لي وسوف أعيشه كقصةً حزينة خلدت بين أوراقها أرواحا عزيزة علي تعذبت وعانت وفتكت بها الحياة مآسً وأوجاع ..دفنوا تحت تُراباً سقوه بدموعهم وآلامهم.. لكي أخرج منه وأخبر العالم بما جرى عليهم ..كيف عاشوا وماتوا ..نكرة ..لا ذكرى لهم عدى الهموم والأحزان ..بلا ضحكة أو حب أو عاطفة..مجهولون لا يعرفهم أحد.. قلوبهم لم تشعر بالراحة مرة ..يلملمون جراحهم بأياديهم الجافة التي ما لا مست النعيم قط .

أجلس اليوم أمامكم والعالم بأسره يشاهدني ، تجول بي الذاكرة إلى وقتا بعيدا مضى ..وعدا قد قطعته على نفسي ..بعد أن قضى مضجعي وأرق جفوني وأبكاني سنين طويلة ..أن ماحدث لهم لن يذهب أدراج الرياح أو يضيع وسط الزحام ..لو كلفني ذلك حياتي وما أملك ..أطحت كل من حاول الوقوف بطريقي ..وأزحت كل حجرة عثرتني ..شققت الأرض شقا وخرجت منها .

أيها الناس ..أيها العالم ..اسمي (يوسف ناصر).. أبن ذلك الأب ..وصغير تلك الأم ..ورفيق ذاك الأخ..وهذا هو أنا وهذه حقيقتي ..وشخصيتي كما ترونها بلا تكلف ولا تصنع ولا تمثيل ..كل مافعلته في حياتي لأجلهم هم.. هم عائلتي ..التي رحلت دون أن يعرفها أحد ..هذه كانت مهمتي التي حملتها على عاتقي ..اتذكر فيها كلماتي والدتي قبل أن ترحل ..كانت تقول لي : أصرخ يا بني اصرخ ..اصرخ ..لعل صوتك يُسمع ، وها أنا ذا قد صرخت يا أمي ..وها هو قد سمع صوتك أخيراً !

هنا تنتهي حكايتي ..بعد أن نفذت وعدي وما أثقل كاهلي سنين طويلة ..وأيام ما كادت تمر لظلمتها .

لكن قصتي لم تمت ..بل ولدت لتبقى ..وستخلدها أوراق الحياة القاسية وصفحات العمر التي أنطوت على ذاتها بعد أن كتب فيها الشقاء والدموع والألم .

كنت هنا معكم وبينكم وداخلكم ضيفا ثقيل أو خفيف لا أدري ..لكم الحرية كيفما أردتم ..فلا يهمني ذلك ، وعلى أية حال ..أني راحلا الآن ..قد أعود بعدها وقد لا أعود ..وداعا للجميع ..تذكروا بأن يوسف ناصر قد مر من هنا!

بعدما انهى كلامه ..كان الجميع يبكي ..في الاستديو وخلف الشاشات ..قد تجمد الدم في عروقهم لقساوة قصته وتلك المشاعر القاتلة التي يحملها بداخله،

كانت تلك آخر مرةً يشاهده فيها الناس ..أختفى بعدها ولم يسمع عنه شيئا أطلاقا ..ولا أحد يعرف أين أستقرت به الأرض ..وكأنه رجع طفلً صغيراً يبحث عن نفسه وذاته التي قتلت في تلك السنون الكئيبة.. كـ سرابً ظهر فجأة وأختفى فجأة .. بعد أن حقق حلمه ..ونفذ وعده وأخبر العالم عن أسرته وأي بلاء ذاقته .

وحتى بعد اختفاءه أخذ الناس يطلقون عليه أشاعات مرة أخرى ..بعضهم قال بأنه لا زال يقوم بإخراج المقاطع بشخصياتً أخرى مجهولة ويصعب عليهم اكتشافه.. وبعضهم قال ذهب يجوب العالم ليكتشف نفسه من جديد ..وبعضهم قال انتحر ولحق بإسرته!


(انسان بسيط..)