الإهداءات | |
| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
| |||||||||||||
| |||||||||||||
الشمائل المحمدية _أرجحية عقله الشريف على سائر العقول الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الرابع من دروس شمائل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وموضوع درس اليوم أرجحيَّة عقله الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم على سائر العقول. أيها الإخوة الكرام ؛ بادئ ذي بدء ما من نعمةٍ أعظم ولا أجل ينعم الله بها على عبده كنعمة العقل، بل هي أعظم نعمة على الإطلاق، وبالمناسبة الإنسان أعقد كائن في الكون، وأرقى مخلوق، وهو المخلوق الأول، والمخلوق المكرَّم، والمخلوق المكلَّف، وأعقد ما فيه عقله، فمن نعمة الله العُظمى أن يمنح الله العبد عقلاً راجحاً.. ((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً)) هذا العقل الراجح من لوازمه أن يعرف الله، ومن لوازمه أن يحب الله. وهنا نقطة أحب أن أعالجها قبل أن أخوض في الموضوع، قد تجد إنسانًا يحمل شهادة عالية ولا يصلي، ويشرب الخمر، وقد يزني، فكيف نوفِّق بين رجاحة العقل، وبين طاعة الله عزَّ وجل ؟ هذا الموضوع بعض العلماء حلَّه على الشكل التالي: فرَّق بين العقل والذكاء، فالذكاء متعلِّق بالجُزئيات، وأما العقل فمتعلِّق بالكُليات، فالذي يعرف الله سبحانه وتعالى، ويعرف سر الحياة، ويعرف رسالة الإنسان في الحياة هو العاقل، أما الذي يختص باختصاص ضيِّق، ويبدع فيه، ويتفوَّق فهذا ذكي، فالذكاء صفةٌ متعلِّقةٌ بالجزئيات، فلانٌ ذكيٌ فيما هو فيه، ذكيٌ في اختصاصه، وقد يكون بعض المجرمين في أعلى درجات الذكاء، لأنهم يخطِّطون بشكلٍ عجيب، فهل هم عقلاء ؟ لا، إطلاقاً، فالعقل من خصائص المؤمن.. ((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبًّا)) وسوف ترون معي بعد قليل أنه ما من مخلوقٍ على وجه الأرض أعقل من رسول الله، لأن العقل هداه إلى الله، ولأن العقل هداه إلى أن يحبَّه، وإلى أن يُخلص له، وإلى أن يجعل حياته كلها في مرضاته، لذلك استحقَّ هذا المقام المحمود. أيها الإخوة الكرام ؛ البطولة أن تأتي إلى الدنيا، وأن تستغل هذا العمر المحدود إلى أعلى درجة، فهناك أذكياء جمعوا أموالاً طائلة، وسكنوا بيوتاً فارهة، ثم جاء الأجل، وانتهت حياتهم، وكأنهم لم يكسبوا شيئاً، هل هم عقلاء ؟ لا والله، كانوا أذكياء ولم يكونوا عقلاء، أما هؤلاء الذين جاؤوا وغادروا، وعرفوا قيمة العمر، وعرفوا ربهم، ووضعوا كل طاقاتهم في خدمة هذا الهدف السامي، فلما دنا أجلهم كانوا من أسعد الناس. أيها الأخ الكريم ؛ عقلك كل عقلك يظهر ساعة اللقاء مع الله، لذلك الناس لا يدخلون هذه الساعة الحرجة الخطيرة في حساباتهم أبداً، فإذا جاءت أين عقله ؟ إنّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكَّة، نظر إليه أبو سفيان نظرةً عميقةً وقال: " ما أعقلك، وما أحكمك، وما أرحمك، وما أوصلك "، عقلٌ ما بعده عقل، ورحمةٌ ما بعدها رحمة، وحكمةٌ ما بعدها حكمة، إنه وفاءٌ لأقاربه ما بعده وفاء. وأول شهادة من الله عزَّ وجل لأرجحية عقله صلَّى الله عليه وسلَّم وهي قوله تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾ ( سورة القلم ) فهذه نعمةٌ عظمى، هذه الآية تذكِّرني بآيةٍ أخرى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾ ( سورة هود ) إن المؤمن يعيش في رحمةٍ عُمِّيت على عامة الناس، ويعيش في سعادةٍ لا يعرفها عامة الناس، ويعيش في طمأنينةٍ لا يعرف معشارها عامة الناس، ويعيش في سكينةٍ يتجلَّى الله بها عليه لا يعرفها أهل الدنيا، ولذلك أحد العارفين يقول: " ماذا يصنع أعداء بي، بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة ". وهو نفسه يقول: " مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا، وغادروها، ولم يعرفوا أجمل ما فيها، وهو القرب من الله عزَّ وجل ". هذه الآية أيها الإخوة شهادة خالق الكون لنبيِّه الكريم بأنه كان في أعلى درجات العقل، حينما أنعم الله عليه بنعمة النبوُّة والرسالة. يقول بعض العلماء: " إن الله تعالى لم يعطِ جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها، من العقل في جنب عقل محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم إلا كحبَّة رملٍ من جميع رمال الدنيا، وأن محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً ". وكلَّما كبر عقلك ازداد قربك، وكلَّما كبر عقلك ازداد خوفك من الله، وكلَّما كبر عقلك ازداد حبَّك له، فكأن هناك مؤشِّرين يعملان معاً، رجاحة العقل تعني طاعة الله، وتعني محبَّة الله، وتعني الخوف من الله، وتعني الشَوْق إلى الله، فأنت امتحن عقلك بحالك وبعملك وبقلبك. وأجمل ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام عندما أسلم سيدنا خالد بن الوليد، دخل سيدنا خالد على رسول الله فسلَّم عليه بالنبوَّة، قال له:" السلام عليك يا رسول الله "، خالد بن الوليد الذي انتزع منه راية النصر في أحد، من العمالقة، ومن القادة الكبار دخل عليه وقال: " السلام عليك يا رسول الله "، فقال عليه الصلاة والسلام: " تعالَ أقْبِل " فأقبل، فقال عليه الصلاة والسلام: ((الحمد الله الذي هداك، فقد كنتُ أرى لك عقلاً، ورجوت أن لا يسلمك إلا إلى الخير)) هذه إشارة من رسول الله إلى أن هذا الدين ينبغي أن يُقبل عليه العُقلاء، ومن لوازم العقل أن تقبل على هذا الدين، ومن لوازم الحُمق أن تبتعد عنه، فكان النبي يعجب من سيدنا خالد، إنه رجل عاقل، وأريب، وفَطِن ومع ذلك لماذا تأخَّر إسلامه ؟ قال له: ((عجبت لك يا خالد، أرى لك عقلاً وأرجو أن لا يسلمك إلا إلى خير، وقد أسلمك إلى الخير)) روى الطبراني عن قُرَّة بن هُبَيرة رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال: " إنه كان لنا أربابٌ وربَّاتٌ نعبدهن من دون الله عزَّ وجل، فدعوناهنَّ فلم يجبن، وسألناهن فلم يعطين فجئناك فهدانا الله بك، فنحن نعبد الله ". فقال عليه الصلاة والسلام: ((قد أفلح من رُزِقَ لبًّا)) العقل لُب، تصوُّر برتقالة بلا لُب، هناك أشخاص عندهم مهارة ينزعون اللُّب، ويرجعون القشرة إلى ما كانت عليه، فالإنسان يمسكها فإذا هي فارغة، فيصاب بخيبة الأمل، والإنسان عندما تعامله من أول كلمة تعرف أنه عاقل أم مجنون، فالنبي الكريم يقول: ((قد أفلح من رُزِقَ لُبّاً)) فقال قرَّة بن زبيرة: " يا رسول الله ألبسني ثوبين من ثيابك قد لبستهما"، فكساه، فلما كان بالموقف في عرفات قال عليه الصلاة والسلام: " يا قرَّة أعد عليَّ مقالتك ؟ "، ماذا قال له ؟ قال له: " يا رسول الله إنه كان لنا أربابٌ وربَّاتٌ نعبدهن من دون الله عزَّ وجل، فدعوناهنَّ فلم يجبن، وسألناهن فلم يعطين فجئناك فهدانا الله بك، فنحن نعبد الله ". فقال عليه الصلاة والسلام: (( قد أفلح من رُزِقَ لُبًّا )) قال: " يا قرَّة أعد عليَّ مقالتك "، فأعاد عليه، فقال عليه الصلاة والسلام أمام الملأ: ((قد أفلح من رُزِق لباً، أي عقلاً راجحاً اهتدى به إلى الإسلام، وإلى فعل المأمورات، وترك المنهيات)) قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)﴾ ( سورة الرعد ) أيها الإخوة الكرام ؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)﴾ ( سورة يوسف ) فمن أجل أن تعقلوا، وكل هذا القرآن من أجل أن تعقل، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال: ((رأس العقل بعد الإيمان بالله الحياء وحسن الخلق)) ( من الجامع الصغير: عن " أنس " ) ويُروى أن أعرابيًّا دخل على النبي صلى الله عليه وسلَّم، وبيَّن له النبي أوامر الإسلام ومناهيها، فخرج الأعرابي وأعلن إسلامه، فقال له قومه: " بمَ عرفت أنه رسول الله ؟ " على الفطرة، وبالعقل، " بمَ عرفت أنه رسول الله ؟ " فقال الأعرابي: " ما أمر محمٌد بأمرٍ فقال العقل ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل ليته أمر به "، أي توافق الأمر والنهي مع العقل. وأحد العلماء الأجلاَّء ألَّف كتاباً كبيراً حول ضرورة توافق العقل مع النقل، صريح المعقول لا يتعارض مع صحيح المنقول، ولا يمكن أن يتعارض العقل مع النقل، ولأن العقل مقياسٌ أودعه الله فينا والنقل كلامه، فهل يعقل أن تتناقض إرادة الله عزَّ وجل ؟ لقد أنزل على نبيِّه الكتاب وأودع فينا العقل، فالعقل مقياسٌ أودعه فينا، والكتاب وحيٌ أوحاه إلى النبي، فهذا من عنده وهذا من عنده، فالمعقول يتوافق مع المنقول، ولكنك لو رأيت تناقضاً بين العقل والنقل، فإنما هو تناقضٌ بين العقل وبين النقل غير الصحيح، أو بين النقل الصحيح وبين العقل الجامح، أما العقل المُطلق، العقل المتوازن فلا يمكن أن يتناقض مع النقل. والحقيقة كلكم يعلم أيها الإخوة أن الإيمان باليوم الآخر إيمان نقلي، أي إن الله أخبرنا أن هناك يومًا آخر، وإيمان من نوع السمعيات، أو الإخباريات، أو النقليات، ولكن وأنا أسألكم هذا السؤال: هل هناك دليل عقلي لا نقلي على اليوم الآخر ؟ بالمناسبة أنا حينما أرى الشيء أحكم على صانعه، هذا شيء أمامي ملموس مرئي مُشاهد، فالعقل يستطيع أن ينتقل من المحسوس إلى المجرَّد، ومن المُشاهد إلى الغائب، ومن الجزء إلى الكُل، فهذه مهمَّة العقل إطلاقاً، لكن اليوم الآخر ليس له آثار في الدنيا، الإيمان باليوم الآخر إيمان تصديقي محض، إيمان تصديقي بما أخبر الله به، ولكن ثمة سؤال: هل هناك دليلٌ عقلي لا نقلي على ذلك ؟ فلو أنّ إنسانًا ما قرأ القرآن، ولا التوراة، ولا الإنجيل، ولا استمع في حياته إلى خطبة، ولا إلى موعظة، ولا قرأ كتابًا إطلاقاً، هل يستطيع بعقله وحده أن يصل إلى أن هناك يومًا آخر ؟ بعض العلماء وأنا أعجبني هذا المثل، قال: لو فرضنا مسرحيَّة، وأول فصل مُثِّل، ثم أُرخي الستار، لِمَ لم يخرج روَّاد هذه المسرحيَّة من المَسرح ؟ لأن القصَّة لم تنتهِ بعد، والعقدة لم تنحلّ، فهناك بداية وعقدة ونهاية، والعقدة لم تُحل. اسمعوا الآن إلى هذه المحاكمة العقليَّة حول اليوم الآخر، أدرك عبد المطلب حقيقة الآخرة بعقله، ذلك أنه قال يوماً: " ما من ظالمٍ يشتدَّ ظلمه إلا انتقم الله منه قبل أن يموت " فقيل له: " فلان جار وطغى "، فقال: "انتقم الله منه يوم كذا وكذا، فقيل له: فلان، فقال: " انتقم الله منه يوم كذا وكذا " فقيل له: " فلان جار وطغى ولم يصبه شيء "، ففكَّر طويلاً ثم قال: " إذاً لابدَّ من يومٍ آخر ينتقم الله منه ". في الدنيا قوي وضعيف، وغني وفقير، وظالم ومظلوم، إنسان يعيش عمرًا قصيرًا، وإنسان يعيش عمرًا مديدًا، وقد يموت الظالم قبل أن ينتقم الله منه، وهكذا، أليس هناك يوم تسوَّى فيه الحسابات ؟ ويؤخذ حق المظلوم من الظالم ؟ وحق الضعيف من القوي ؟و حق الفقير من الغني ؟ فما دام فلان جاء إلى الدنيا وطغى وبغى ولم يعاقب إذاً لابدَّ من يومٍ آخر. إخواننا الكرام ؛ هناك مقولة لطيفة: عظمة الخلق تدل على عظمة التصرُّف، وكمال الخلق يدل على كمال التصرُّف، ودائمًا هناك انسجام بين كمال الخلق وكمال التصرُّف، فمثلاً: شركة تصنع كمبيوترات، لو أنت اشتريت كمبيوترًا فمن غير المعقول أن تأخذ المبلغ منك وتضعه في الخزينة، وتقول لك: الله يعوِّضك، دون أن تعطيك إيصالات، أو إشعار استلام، أو إشعار قبض، فشركة تصنع كمبيوترات فلابدَّ من نظام دقيق في المحاسبة يتناسب مع دقة الصنعة. فالمقولة: كمال الخلق يدل على كمال التصرُّف، فالكون فيه كمال بالخلق، إذاً خالقه لابدَّ من أن يكون كامل التصرُّف، فإذا كان هناك قوي وضعيف، وظالم ومظلوم، وغني وفقير، وصحيح ومريض، ومعمِّر وقصير العمر، ويأتي الموت فينهي كل شيء، صار هذا ظلًام شديدًا، فلابدَّ من يومٍ آخر تسوَّى فيه الحسابات. لكن الكفَّار ماذا يقولون ؟ يقولون: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾ ( سورة الملك ) والآية دقيقة، إنّ الإنسان أحياناً إما أن يأكل طبخًا جاهزًا وإما أن يطبخ بيده، فأنت إذا استمعت للحق تستمع له جاهزًا، وإذا أردت أن تتأمَّل وتفكِّر تصل إلى النتائج نفسها.. ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾ ( سورة الملك ) فلابدَّ أن تسمع، ولابدَّ أن تعقل، والأكمل أن تجمع بينهما، والحسن البصري يقول:" أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك آخذ وبك أعطي ". ( من أحاديث الإحياء: عن " أبي أمامة " ) فالإنسان يستحق السعادة العظمى عندما استخدم عقله، ويستحق الشقاء الأبدي عندما عطَّل عقله، بك أعطي وبك آخذ. " أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك آخذ وبك أعطي ". وأحب العقول إلى الله تعالى عقل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم. فأحدنا لو جلس مع إنسان مثقَّف يرتاح، فينطلق معه في الحديث، باستيعاب، وتقدير، لكن لو جلست مع إنسان ضعيف التفكير، ضعيف الثقافة، جامد، محدود يقول لك: قعدت نصف ساعة خرجت روحي، والنبي ما عاش في عصر فيه ثقافة، بل جاء إلى أُناس صخور على صخور، في جهل، وعصبيَّة، وجمود، وضيق أفق، عبدوا صنماً من التمر فلما جاعوا أكلوه ـ أكلت ودٌ ربَّها ـ أفهذا إنسان ؟ ينحتون أحجاراً ثم يعبدونها من دون الله، يقول أحدهم: " من كان أفضل مني فليضرب رجلي " يقوم إنسان فيضرب رجله، فتنشب حرب لمدة عشر سنوات، إنه أفق ضيَّق، وعصبيات، وعدوانية، وفوضى في الأخلاق، فامرأة تتزوَّج عشر رجال ثم تحدِّد هذا المولود لهذا الرجل، هكذا مزاجياً، ورجل يقول لامرأته: اذهبي إلا فلان فاستبضعي منه، ولا مانع عنده أنْ يلتقي معها لقاء زوجيًّا حتى تحمل منه بمحض اختياره. إنها الفوضى في العلاقات الزوجيَّة ما بعدها فوضى، وربا ما بعده ربا، وقهر ما بعده قهر، ووأد بنات، وظُلم شديد، وأفق ضيِّق، وثقافة ضعيفة، وجهل، وعصبيات، وأكمل الخلق جاء مع هؤلاء. أنا أقول لكم هذه الكلمة: أن تعيش مع الأذكياء فأنت في متعة بالغة، أن تعيش مع أصحاب الثقافات العالية كذلك، لكن أن تعيش مع أناس محدودين، ضيقي الأفق، لا يفهمون، ولا يعقلون، سريعي الاتهام والظن، إنّ الحياة مع هؤلاء جحيم لا يُطاق، وأكمل الخلق كان مع أناسٍ هذا حالهم، فكيف صبر عليهم ؟ وكيف تحمَّل غِلْظَتهم ؟ وكيف تحمَّل جفوتهم ؟ يمسكه الأعرابي من ثوبه اليماني ويشدُّه حتى يؤثِّر على صفحة عنقه ويقول: " يا محمَّد أعطني من مال الله، فهذا ليس مالك ولا مال أبيك " وهو قمَّة المجتمع، فيبتسم النبي ويقول له: " صدق إنه مال الله أعطوه "، فكيف تحمَّل هؤلاء ؟ وكيف ليَّن عقولهم ؟ وقلوبهم ؟ وألَّف قلوبهم ؟ وحبَّبهم به ؟ فهذا الشيء يحتاج إلى منتهى العقل، فقد يكون إنسان من عامة المؤمنين إذا ناقش إنسانًا آخر نصف ساعة، وما فهم عليه، تجده يقول له: اذهب عني ليس فيك خير، ييأس منه رأساً، فالنبي لم ييأس. يقولون: إن حصينًا والد عمران الذي يعبد سبعة أصنامٍ في الأرض، ويرى أنها آلهة، كان معظَّماً في قريش، فجاؤوا إليه وقالوا له: " كلِّم لنا هذا الرجل ـ أي محمداً صلى الله عليه وسلَّم ـ فإنه يذكر آلهتنا ويسبُّهم "، وجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي، فقال عليه الصلاة والسلام ـ إنسان يعبد سبعة أصنام جاؤوا به إلى النبي ـ فقال عليه الصلاة والسلام: " أوسعوا للشيخ " وهو حصين نفسه، فقال حصين: " ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ " الآن أن يقول رسول الله، أما كان يخاطب بضمير المُفرد، الآن إنسان جالس وراء طاولة إذا قلت له: أنت، يقول لك غداً: أنا ؟ يجب أن تقول: أنتم قلتم لنا، إن لم تخاطبه بالجمع يطردك، أليس كذلك ؟ رسول الله قيل له: " ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم ؟ "، فقال عليه الصلاة والسلام مؤنساً: " يا حصين كم تعبد من إلهٍ ؟، قال: " سبعاً في الأرض وواحداً في السماء "، أي ثمانية، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا مسَّك الضر من تدعو ؟ "، فقال حصين: " أدعو الذي في السماء "، قال: " فإذا هلك المال من تدعو؟ " قال: " أدعو الذي في السماء " قال عليه الصلاة والسلام: " فيستجيب لك وحده وتشركهم معه ؟ هذا الكلام معقول ؟ هو الذي يستجيب لك وتجعلهم آلهةً معه في الأرض ؟ " أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك ؟ فقال حصين: " لا واحدة من هاتين "، فقال عليه الصلاة والسلام: " يا حصين أسلم تسلم " فقال:" إني لي قوماً وعشيرةً ماذا أقول ؟ " هذه مشكلته رؤساء الأديان، ماذا أفعل بحالي ؟ هذه مشكلتهم، فقال: " قل اللهمَّ أستهديك لأرشد أمري، وزدني علماً ينفعني " فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلم. فقام إليه عمران ابنه فقبَّل رأسه ويديه ورجليه أمام النبي، فلما رأى النبي هذا بكى وقال: " بكيت من صنيع عمران، دخل حصين أبوه وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقَّه فدخلني من ذلك الرفعة ". عندما دخل حصين على النبي كان ابنه موجودًا، قال: ما قام له ولم يلتفت له، لأنه كافر، فلما أسلم قام فقبَّل رأسه ويديه ورجليه فبكى النبي، ما هذه النقلة الكبيرة ؟ هذا يذكِّرني عندما قال سيدنا عمر: " دخل عمير عند رسول الله والخنزير أحب إليَّ منه، وخرج من عنده وهو أحب إليَّ من بعض أولادي "، انظر لهذا التبدُّل السريع. معلومكم في قصَّة تعرفونها كلكم عندما قال له إنسان: " ائذن لي بالزنا "، والصحابة قاموا إليه، الآن انظر إلى المنطق، وإلى الحجَّة، أنت عندما تخاطب عقل الإنسان بهدوء، وتعطيه الحجَّة القويَّة وتحاصره فتفلح معه، فالقضيَّة ليست بالصياح، ولا بالضجيج، ولا بارتفاع الصوت، إنَّ الحجَّة تقارع الحجَّة، قال له: " ائذن لي بالزنا "، فالصحابة ضجوا وقاموا إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا " قال: " يا عبد الله أترضى أن يزني الناس بأمك ؟ ". تصور والدته، فقال: " لا ". قال: " كذلك الناس يكرهون، قال: أترضى أن يزني الناس بابنتك ؟ "، قال: " لا " فقال: " كذلك الناس يكرهون ". فقال: " يا رسول الله أُشْهِدُكَ أني تبت من الزنا ". وفي رواية تقول: " دخلت على رسول الله وما من شيءٍ أحب إلي من الزنا، وخرجت من عنده وما شيءٌ أبغض إليَّ من الزنا " بالمنطق، في رواية أطول قال له: " لأمك، لابنتك، لأختك، لعمَّتك، لخالتك، ولا الناس يريدونه لبناتهم "، فالداعية الصادق يقدِّم حجَّة قويَّة. اختلفت القبائل على من يمسك الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وكادت أن تنشب فتنة كبيرة، فماذا فعل النبي ؟ جاء برداء ووضع الحجر بيده الشريفة في الرداء، وأمر كل رأس قبيلة يحمل طرف من الرداء، أليس هذا عقلاً راجحاً ؟. عليه الصلاة والسلام، لقد كان في أعلى درجات الحنكة القياديَّة، فأمر بعض أصحابه أنْ يتعلَّم السريانيَّة، وأمر بعض أصحابه أن يتعلَّم العبرانيَّة حتى يأمن مكر هؤلاء، فما كان يقبل من مترجم غير مسلم يترجم له، فأمر أصحابه يتعلَّموا هذه اللغات حتى إذا جاءه كتاب بالسريانية أو بالعبرية كان يكلِّف الصحابي يترجمه له، لئلا يحتال عليه هؤلاء الأعداء. إنّ تقصي المعلومات في الحرب عمل مهم، والمعلومات الآن هي أخطر شيء، والآن عصر ثورة المعلومات، فكان في بعض المعارك، روى الإمام أحمد وغيره عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ وَبَدْرٌ بِئْرٌ فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهَا فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ فَيَقُولُ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَهَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجُزُرِ فَقَالَ عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ)) وكان الأمر كذلك. هذه حنكة قياديَّة رائعة، فيجب أن تعرف حجم عدوَّك قبل أن تخوض المعركة، فكلمة كثير كلمة عامة. عندما أمر سيدنا حذيفة بن اليمان أن يذهب إلى معسكر الأعداء في معركة الخندق، ودخل وجلس، وأمره أن لا يحدث شيئاً حتى تأتيننا، وفي رواية " اذهب وأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني " فهذا جلس، فشعر أبو سفيان أن هناك أشخاصًا غرباء يستمعون، فقال: " كلٌ منكم يتفقَّد صاحبه "، فكان سريع البديهة ـ سيدنا حذيفة ـ أمسك بيد جاره وقال له: " من أنت ؟"، فقال له: " أنا فلان " لو تأخَّر لاكتشف أمره. إخواننا الكرام ؛ استقر بنفوس الناس أن المؤمن درويش، يقول لك: على البركة، لا يدقِّق، هذا كله كلام غلط، المؤمن الصادق في أعلى درجات الكياسة. ((المؤمن كيس فطن حذر)) ( من الجامع الصغير: عن " أنس " ) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ ( سورة النساء: من آية " 71 " ) هذا المفهوم الساذج أن المؤمن درويش، لا يدقِّق، ليس لديه هذا الفهم الزائد و، يتعب عليه، فهذه كلها مفاهيم جاءتنا من العصور المتخلِّفة، عصور الانحطاط.. ((المؤمن كيس فطن حذر)) ( من الجامع الصغير: عن " أنس " ) هل هناك أعلى من هذا الذكاء ؟ تدخل معسكر العدو، وتجلس بينهم، وتستمع إلى مقولة قائدهم، وحينما يشعر القائد أن هناك من يستمع ويقول: " تفقَّدوا أصحابكم "، فيبادر ويمسك بيد جاره ويقول له: " من أنت ؟ ". والقصَّة التي تعرفونها أيضاً من أروع القصص، التي تبيّن رجاحة عقل النبي صلى الله عليه وسلَّم، فنعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه قال: " إني أسلمت ـ أسلم في أدق الظروف ـ وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله". فقال عليه الصلاة والسلام: " إنما أنت فينا رجلٌ واحد "، والمعركة بين جيشين، والأحزاب تحزَّبت، عشرة آلاف مقاتل لم تجتمع في تاريخ الجزيرة العربيَّة، جاءت كلها لترمي النبي وأصحابه عن قوسٍ واحدة، وحتى إن بعض من كان مع النبي قال: " أيعدنا صاحبكم ـ لم يقل رسول الله ـ بأن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ "، فقد اعتقد بعض الناس أن الإسلام انتهى، هو قضية ساعات وينتهي.. ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)﴾ ( سورة الأحزاب ) بعضهم قال: " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً "، وفي هذا الموقف الحرج، وفي هذه الساعات الحرجة جاء نعيم بن مسعود وقال له: " أنا أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت ". فالنبي نظر فقال له: "إنما أنت فينا رجل واحد فخِّذل عنا إن استطعت، إن الحرب خدعة، فاذهب فشتِّت جموع العدو وألقِ بينهم بدهائك "، إنسان واحد قد ينهي معركة !! ولكن مع إخلاص وذكاء، فخرج حتى أتى بني قريظة وهم طائفة اليهود، وكان لهم نديماً فقال: " قد عرفتم ودي إياكم وخاصَّةً ما بيني وبينكم "، قالوا: " صدقت لست عندنا بمتَّهم "، فقال لهم:" إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ـ أي ليسوا مثلكم ـ البلد بلدكم، به أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، ولا تقدرون أن تتحوَّلوا منه إلى غيره، وإنهم جاؤوا لحرب محمدٍ وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزةً أصابوها ـ أي فرصة ـ وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبينهم، ولا طاقة لكم بمحمد إذا خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقةً لكم، على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوا". إنه كلام منطقي: أنتم هذا بلدكم، وهذه دياركم، وهذه أموالكم، وهذه حصونكم، وهذه بساتينكم، والآن تحالفتم مع قريش وغطفان، وهم بلادهم غير هذه البلاد، ونساؤهم هناك، وأموالهم هناك، فإن فازوا فازوا، وإن لم يفوزا عادوا إلى بلادهم وتركوكم لمحمد، ولا قِبَل لكم بمحمد اللهمَّ صلِّ عليه، فلا تقاتلوا مع قريش حتى تأخذوا منهم الرهائن. ثم أتى قريشاً وقال لأبي سفيان ومن معه: " قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغي أمراً رأيته حقاً عليَّ أن أبلغكموه، نصحاً لكم فاكتموه عني"، قالوا: نفعل، قال نعيم: " إن اليهود ندموا على ما صنعوا وأرسلوا إلى محمدٍ إنا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ من أشراف قريش وغطفان رجالاً تضرب أعناقهم كرهائن، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم محمد نعم، قال نعيم: فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون إليكم الرهائن فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً ". ثم إن نعيماً أتى غطفان فقال: " إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني، أي بل أنا مصدقٌ عندكم "، فقالوا: صدقت وما أنت عندنا بمتهم، فقال: " فاكتموا عني " قالوا: نفعل. فقال لهم مثلما قال لقريش. وكان من صنع الله لرسوله أن أبا سفيان ورؤوس غطفان أرسلوا إلى اليهود من بني قريظة عكرمة في نفرٍ من القبيلتين: " إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ ما بيننا وبينه ". فأرسلوا إليهم: " إن اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً، وكان قد أحدث فيه ـ أي في السبت ـ بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم، ولسنا بمقاتلين معكم حتى تعطونا من رجالكم يكونون بأيدنا ثقةً لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتال أن ترجعوا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل، ولا طاقة لنا به ". فهذا إنسان واحد، وبذكاء بارع أوقع بين الفريقين، وجعلهم يتهمون بعضهم بعضاً. فقالت قريش وغطفان: " والله إن الذي حدثكم به نعيم لحق "، فأرسلوا إلى بني قريظة: " إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً "، فأبوا عليهم وخذَّل الله بينهم، وبعث الله عليهم الرياح في ليالٍ شديدة البرد، فأكفأت قدورهم وطرحت أبنيتهم. ((المؤمن كيس فطن حذر)) ( من الجامع الصغير: عن " أنس " ) فإنسان واحد أسلم في ظرف من أصعب الظروف التي مرَّت بها الدعوة الإسلاميَّة، وكانت على وشك الانهيار، وأوشك أن تتلاشى، عن طريق هذا الإنسان الحذر، الكيس، الفطن، المخلص الذي استلهم الله عزَّ وجل أنقذ الله هذه الدعوة. أيها الإخوة الكرام ؛ كان عليه الصلاة والسلام يُرْهِبُ عدوَّه، والحرب خدعة، فمن هذه الأساليب الذكيَّة ورد أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لما توجَّه لفتح مكَّة، وانتهى إلى ممر الظهران، أمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارٍ لتراها قريش، وتَرْهَبَ من كثرتها، حتى قال أبو سفيان ومن معه حين رأوا من بعيد: " لكأنها نيران عرفة "، أي في كثرتها، وكان ذلك مما ألقى الخوف في قلوبهم، كما أمر عمَّه العبَّاس أن يجلس أبا سفيان على الطريق عند مضيق خطم الجبل، ليشاهد جيوش المسلمين وكتائبهم حين تمرُّ عليه، ثم جعلت تمر عليه كتيبةً كتيبة، فجعل أبو سفيان يقول للعبَّاس: " من هذه الكتيبة يا عباس ؟ "، وطفق العباس يخبره عن تلك الكتائب واحدةً واحدة، وذلك مما حمل أبو سفيان على التطامن والاستسلام. فما من أسلوبٍ حديثٍ في كسب المعركة إلا والنبي عليه الصلاة والسلام انتبه إليه، واستخدمه في أروع ما يستخدم القائد الحكيم الأساليب الذكيَّة العاقلة. ولنا إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الموضوع عن رجاحة عقل النبي، ودائماً وأبداً كما قلت لكم: ((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً)) تعرّف إلى رجاحة عقلك من طاعتك لله ومن حبك له، وإذا رأيت نفسك في طاعة الله فهذا دليل رجاحة العقل. وأقول لكم مرَّةً ثانية: الفرق بين العقل والذكاء هو أن الذكاء متعلِّق بالجزئيات، بينما العقل متعلِّق بالكليات، فقد يكون المرء ذكياً وليس عاقلاً، وقد يكون عاقلاً وليس ذكاؤه في المستوى العالي، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ)) ( من سنن الدارمي: عن " مسروق " ) أي لمجرَّد أن تخشى الله فأنت عالِم، أي عرفت أن لك رباً، وأن له منهجاً، وأن عليك أن تطيعه، فمعرفة هذا الشيء دليل رجاحة العقل. وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نتابع هذا الموضوع عن رجاحة عقل النبي. المصدر: منتدى همسات الغلا hgalhzg hglpl]dm _Hv[pdm urgi hgavdt ugn shzv hgur,g hgHpl]dm hgalhzg hgavdt hgur,g shzv ugn urgi _Hv[pdm |
26-05-2019, 04:15 PM | #2 |
| الشمائل المحمدية _أرجحية عقله الشريف على سائر العقول 2 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الخامس من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نمضي في الحديث عن شمائله، أذكر أنّنا قد عالجنا في الدرس الماضي موضوع رجاحة عقله، ووعدتكم أنْ أتابع الموضوع، وقبل أن نمضي في الحديث عن رجاحة عقل النبي صلى الله عليه وسلم أريد أن أضع بين أيديكم هذه الحقيقة لأنها محور الدرس. كيف أن السُبحة عبارة عن مجموعة حبَّات، فيها خيطٌ ينظمها جميعاً، وقد لا يرى الخيط، لكنه موجود، فالإنسان حينما يوفَّق في فهم نص أو فهم موضوع، ويضع يده على المحور الذي ينظم حبات العقد كلها، فمن رجاحة عقل النبي أنه كان يحسن انتقاء معاونيه، والإنسان فرد، لكن مَن الذين يتصلون بالمجتمع ؟ المعاونون، يرسل منهم رسولاً إلى ملك، ويُعيِّن قائدًا على جيش، فهؤلاء الذين كان يختارهم النبي عليه الصلاة والسلام، كان يختارهم بعناية فائقة، وكان يختارهم من بين نخبةٍ عالية المستوى من أصحابه. لذلك فالإنسان إذا أساء اختيار معاونيه هَلَك، وإذا أحسن اختيار معاونيه نجح، فمحور الدرس كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار قواد الجيوش، وكيف كان يختار رسله إلى الملوك، وكيف كان يختار في المهمات الخاصة نخبةً عاليةً من أصحابه الكرام. فالإنسان كما تعلمون - أيها الإخوة - قويٌ بإخوانه، وضعيفٌ بإخوانه، فلو كان الذين حولـه ضعافًا، متكاسلين، ضعافَ التفكير، ضعاف العزائم، لهم أهدافٌ لا تتناسب مع عظمة هذه الدعوة، فالدعوة تَسْقُط. فالنبي عليه الصلاة والسلام ينتقي لخوض المعارك العنيفة أكفأ الرجال من الأبطال، بحسب الاستعداد والمناسبة، ثم يتبين للصحابة الكرام، دقة نظره صلى الله عليه وسلم في تعيين ذلك الرجل الذي انتقاه، ففي يوم خيبر حدَّثَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: ((لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقِيلَ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)) (رواه البخاري) فلموقعة خيبر اختار سيدنا عليًّا، وكان غائبًا، وفي رواية البيهقي والطبراني عن عليٍ كرم الله وجهه قال: " فما رمدت ولا صُدِعَت منذ أن مسحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وفي روايةٍ أخرى، وكان علي رضي الله عنه يلبس القباء المحشوَّة الثخينة في شدة الحر فلا يبالي، ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد فلا يبالي، فسئل عن ذلك، فأجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له يوم خيبر، إذاً اختار لهذه المعركة البطلَ المناسب. مرةً بحث عن إنسان لمهمة، فعرض عليه أصحابه اسم رجل من صحابته، فقال بلطف وأدب: " ليس هناك " أي ليس في مستوى هذه المهمة، فكان يعرف أقدار الرجال، ويعرف قُدرات الرجال، ويعرف طاقات الرجال، ويعرف خصائص الرجال، ويعرف الميزات التي يتمتَّع بها الرجال، وكان ينتقي لكل مهمةٍ أعلى رجل من أصحابه، تتوافق خصائصه مع هذه المهمة. قالوا: يوم أحد اشتدت المعركة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ "، فقام إليه رجال منهم الزبير بن العوام، فطلبه ثلاث مرات، كل ذلك يُعرض عنه النبي، حتى قام إليه أبو دُجانة، فقال: " وما حقه يا رسول الله ؟ قال: أن تضرب به وجه العدو حتى ينحني " ـ السيف ـ وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام يختال ويتبختر في مِشيته قال: " إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلا في هذا الموطن فهو يحبها الله عزَّ وجل)) لذلك قالوا: " التكبر على المتكبر صدقة " إن الله يبغض هذه المشية ؛ مشية التكبُّر إلا في هذا الموطن، فالإنسان أمام الكفار ليس له حق أنْ يتواضع، ولا أنْ يتطامن، ولا يتدروش، بل يجب أن يتعالى، لأنّ المتكبر على المتكبر صدقة، والحكمة أن تريهم قوةً، أن تريهم ثقةً بالنفس، أن تريهم شرفاً، ولكنْ يجب مع المؤمن أنْ تتواضع، فإنَّ الله عزَّ وجل وصف المؤمنين فقال: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ﴾ ( سورة المائدة: من آية " 54 " ) بين المؤمنين ليس ثمَّة تكلُّف، ولكن مع الكفار ينبغي أن تظهر بمظهر القوة، ومظهر الشرف، ومظهر الاستعلاء، فكان أبو دجانة إذا مشى يتبختر في مشيته، فقال عليه الصلاة والسلام موضحاً: ((إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن يحبها)) إخواننا الكرام في نقطة دقيقة ؛ نستفيد منها جميعاً في كل موضوعات السيرة، إنْ فعل النبيُّ شيئًا وهو المشرِّع، فمعنى(مُشَرِّع)أنَّ هذا الشيء يقاس عليه ألفُ شيء، يعني مثلاً: لما رأى صحابيين ومعه زوجته صفية، ماذا فعل النبي ؟ قال: ((عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ)) ( البخاري عن صفية ) فهذه حادثة واحدة، لكنك من الممكن أن تقيس عليها مليون حادثة، لأن النبي مشرع، وهذه فعلها تشريعاً، فلو كنت تحاسب إنسانًا فبيِّن له، وأنت في المحل التجاري فدخلت امرأة، وقلت لها: أهلاً وسهلاً، نحن مشتاقون لكِ، وكانت أختك، قل لمَن يتواجد: هذه أختي، بيِّن له أنّ هذه المرأةَ أختك، دخلتَ إلى محلك ليلاً ؛ ساعة الثانيةَ عشرة، فقل للحارس: أنا داخل لآخذ سندًا، عندي غداً صباحاً باكراً سفر، بيِّن له، لكي لا يقول: لماذا جاء الساعة الثانية عشر ليلاً إلى المحل ؟ قد يقول في نفسه: لعل خلافًا وقع مع شريكه، فجاء ليختلس ويسرق. فما دام النبي مشرِّعًا، ففِعلُه يُقاس عليه، ولو كان غير مشرع فهي مجرَّد حادثة وقعت، وربَّما لا تقع مرة ثانية، لكنه ما دام مشرعًا فالحادثة التي وقعت معه قد تقيس عليها آلاف الحوادث، إذاً لما قال: " هذه زوجتي صفية "، فأنت يجب ألاّ تسمح لتصرف من تصرفاتك يثير الشبهات، يقول سيدنا علي: " لا تضع نفسك موقع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك "، فالذي يضع نفسه موضع التهمة يجب أن يتحمل لوم الناس له، والتشهير به، لأنه هو المذنب. كأن تكون في محل تجاري، ولا أحد معك، وخطر في بالك أن تصرف مئة ليرة من الدرج، وضعتَ المئة ليرة، وأخذتها صرفًا، فدخل صاحب المحل، فوجدك تأخذ من الدرج، ولكن لم يرَك وأنت تضع المئة ليرة، هذه قضية فيها شبهة، ليس لك حق أن تفتح الدرج إطلاق، ولو كنت أنقى من ماء الثلج، "لا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك"، هذه قاعدة، فلما قال النبي: "هذه زوجتي صفية"، فقد علمنا أن نقيس عليها آلاف الحوادث، فدائماً وضِّحْ للآخرين. أنت مسافر، وكَّلتَ أخا زوجتك أنْ يزور بيتَك في أثناء غيابك، ليتفقد أخته، ولك جيران في الطابق نفسه، بلِّغهُم أنك مسافر، فإذا رأوا رجلاً دخل بيتك في غيابك، فهل سيقولون: هذا أخوها أم يتهمونها بشخص آخر ؟ وبعد عدة سفرات ترى نفسك مفضوحًا، بيِّن ووضِّحْ، فهذه القصة يجب أن تقيس عليها ألف قصة، لأنّ النبي مشرِّع. ومن تشريعه: ((إن الله يبغض هذه المشية إلا في هذا الموطن)) معنى ذلك أنك إذا كنت مدعوًّا فكُن أنيقًا، إذا كانت ثيابك موضِعَ انتقاد وأنت مسلم، فقد استخذيت، يجب أن تظهر بمظهر الأناقة، ويجب أن تأتي في الموعد تماماً، ويجب أن تتكلم بثقة، ويجب ألاّ تظهر ضعفك أمام كافر، دائماً أظهر قوتك، وكما تعلمون سابقا أنّ الإنسان إذا اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، أما إذا اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، فلا تبثَّ همَّك لغير المؤمن، فأخذ أبو دجانة عصابةٍ له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: " أخرج عصابة الموت "، فخرج وهو يقول شعرًا فاسمعوه: أنا الذي عاهدني خليلي.. .. ونحن بالسفح لدى النخيل ألاّ أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول *** الكيول: أي في مؤخِّرة الصفوف. فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله، قال الزبير: وكان في المشركين رجلٌ لا يدع لنا جريحاً إلا أجهز عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين، أي تبادلا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بترسه فعضَّت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند بنت عتبة، ثم عدل عنها، وقال: أكرمت سيف رسول الله عن أن أضرب به امرأة، وصل إلى هند بنت عتبة، وكاد يقتلها بضربة سيف، وتذكر أن هذا السيف سيف رسول الله، فأكرمه عن أن يضرب به امرأة. فالنبي الكريم انتقى لمعركة خيبر سيدنا عليًّا، وفي أُحُد حينما اشتد الأمر على المسلمين اختار أبا دجانة ليضرب بسيفه. وبعدُ ؛ فالنبي الكريم من رجاحة عقله أنه إذا أرسل رسلاً إلى الملوك، يختارهم من أعلى المستويات، فالعلاء بن الحضرمي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى، ومعه كتابٌ يدعوه إلى الإسلام، فلما قدم عليه قال له - اسمعوا كلام الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي لما التقى بالمنذر بن ساوى، أحد الملوك ومعه كتاب مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له الرسول: " يا منذر إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة.. "، فالإنسان يكون له في الدنيا شأن، وهذا واللهِ جميل، لكن بطولته أن يستمر هذا الشأن إلى الآخرة ـ قال له: " إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة " ـ أي إذا كان عقلك لم تسلطه على أمور الآخرة، وعلى أمور الكليات في الحياة، ففي الدنيا أنتَ صاحب عقل راجح، ولكنّك في الآخرة صاحب عقل غير راجح ـ "إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، فكان هذا المنذر بن ساوى مجوسيًا، ليس فيها تكريمٌ للعرب، ولا عُلِمَ عند أهل الكتاب أنهم ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة "، سأعيد مرة ثانية ما قال هذا الرسول الذكي العلاء ابن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى قال له: " يا منذر إنك عظيم العقل، فلا تصغرن في الآخرة ـ أي يجب أن يهديك عقلك إلى الإسلام، فلو لم يهدك إلى الإسلام لصغُر عقلك في الآخرة ـ إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكريمٌ للعرب، ولا عُلِمَ عند أهل الكتاب أنهم ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم العقل ولا الرأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألاّ تصدقه ؟! ولمن لا يخون ألاّ تأمنه ؟! ولمن لا يخلف ألاّ تثق به ؟! فإن كان هذا هكذا، فهذا هو النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به ما نهى عنه، وما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص في عقابه، إذ كل ذلك منه على أمية أهل العقل وفكر أهل النظر ـ تصرفاته حكيمة، عفوه في مكانه، عقابه في مكانه، صلته في مكانها، عطاؤه في مكانه، أمره في مكانه، نهيه في مكانه ـ والله لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، وما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه، إذ كل ذلك منه على أمية أهل العقل وفكر أهل النظر". فقال له المنذر: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي، دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة ". واللهِ الذي لا إله إلا هو لقد وقفتُ عند هذه الكلمة ملياً، معناها كل مبدأ أرضي له نفع دنيوي، تَجَمُّع، البوذية تَجَمُّع، فإذا انضم الإنسان إلى تجمع أرضي ليس له علاقة بالسماء ففيه نفع، وبالطبع الفرد ضعيف وهو وحيد ـ يقول لك: هذا فلان ماسوني، فإذا انضم لمجموع له ميزات، له عطاءات، له حماية، له دعم، فليس الحق أن تنضم إلى تجَمُّع، بل الحق أن تنضم إلى دين، لأن الدين يسعدك في الدنيا والآخرة، أما الانضمام إلى أي تجمُّع، والتجمع مصلحي، هدفه تحقيق مصالح جماعة، فكل مجموعة أشخاص يشكِّلون جماعة، فإذا انضم الإنسانُ لهم كانت له ميزات، بدءاً من النادي وانتهاءً بالأحزاب الكبيرة، فكلٌّ منها تجمع أرضي أساسه المصلحة. لذلك يقول الملك: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي، دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا ـ المجوسية للدنيا دون الآخرة ـ فما يمنعني من قبول دينٍ فيه أمنية الحياة وراحة الموت ـ والله كلام طيب ـ ولقد عجبت أمسِ ممن يقبله ـ أي دخل في الإسلام ـ وعجبت اليوم ممن يرده ". طبعاً العرض كان رائعًا: إنك عظيم العقل، فلا تصغرن في الآخرة، هذه المجوسية شر دين، ينكحون مما يستحيا منه، يأكلون مما يتكرم عن أكله، يعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم العقل ولا الرأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألاَّ تصدقه، ولمن لا يخون ألاّ تأمنه، ولمن لا يخلف ألاّ تثق به، فإن كان هذا كذلك فهو النبي الأمي الذي واللهِ لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، وما نهى عنه أمر به.. إلخ يقول له المنذر: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي من دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دينٍ فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمسِ ممن يقبله - أيْ يدخل فيه -، وعجبت اليوم ممن يرده، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظَّم رسوله وسأنظر ". أي فيما أصنع من الذهاب إلى هذا الرسول أو مكاتبته، لا في أنه يسلم أو لا يسلم، فإن قوله: عجبت اليوم ممن يرده اعترافٌ بأنّه دين حقٍ، كما في شرح هذا النص. هذا رسولٌ قد أرسله النبي إلى ملك، وعرض هذا العرض، وكان هذا جواب الملك. وعندنا رسول آخر اسمه المهاجر بن أبي أمية المخزومي، شقيق أم سلمة أم المؤمنين، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحارث ابن عبد فُلالٍ أحد ملوك حِمْيَر، فلما قدم عليه المهاجر قال له: " يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه المصطفى نفسه، فخطئت عنه، وأنت أعظم الملوك قدراً، وإذا نظرت في غَلَبَةِ الملوك فانظر في غالب الملوك ـ الذي يغلبهم ويقهرهم، اتقِ غالب الملوك، ولا تنظر إلى غلبة الملوك ـ وإذا سرك يومك فخف غَدَك، وقد كان قبلك ملوكٌ ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلاً وأملوا بعيداً وتزودوا قليلاً، فمنهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النِقَمُ، وأنا أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعه منك أحد، وأدعوك إلى النبي الأمي الذي ليس شيءٌ أحسن مما يأمر به، ولا أقبح مما ينهى عنه، واعلم أن لك ربًّا يميت الحي، ويحي الميت ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ". هؤلاء الرسل الذين بعث بهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك كانوا في مستوى المهمة، إذاً أحد أكبر مهام القائد أن يختار للمهمات الصعبة أكفأ من حوله، أجل أن يختار أكفأ من حوله، وأقدر من حوله على أن يقوم بالمهمة خيرَ قيام، وهكذا فعل النبي في الحرب، وفي السلم، في الدعوة الداخلية وفي الدعوة الخارجية. يقول عليه الصلاة والسلام: ((رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس)) ( من الجامع الصغير: عن سعيد بن المسيب) فالذي عنده قدرة أن يتودد إلى الناس، يتقرب منهم، يلين الكلام معهم، يعفو عنهم، يغفر خطيئتهم، يسامحهم، يدلهم على الله عزَّ وجل، يتقرب منهم، هذا أعظم عمل يأمرك العقل به، فكان عليه الصلاة والسلام يداري السُفهاء والحمقى، ليكُفَّ من غائلتهم وشرهم، وليستميلهم ويجلب قلوبهم نحو السداد والرشاد، ففي الصحيح عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ((اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ قَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)) وفي رواية: ((فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا - أأضربه، أأسبُّه - إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ)) ( من صحيح البخاري) أي إذا داريتَ إنسانًا تكون عاقلاً، لكنه هو شر الناس، ((إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ)) عندنا حكم فقهي، إذا كان الإنسان من عادته السُكر، ثم صحا، وقتل، وضرب، وآذى، وفَتَن الناس، فإذا رأيته سكران فدعه سكران، لأن الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها، شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، وخيرُ الناس المؤمن الودود، أما هذا الذي يُتقَّى مخافة شره، فهو إنسان شرير، بل هو شرُّ الناس، شيء جميل، لما رآه النبي الكريم قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما دخل تَطَلَّقَ وجهه، وألان له الكلام وانبسط له، السيدة عائشة عجبت ما هذا ؟ فكأنَّ النبيّ ذو وجهين، قالت له: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت: كذا وكذا، ثم انطلقت في وجهه، وانبسطت إليه فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة متى عهدتِني فحاشاً، إن شرَّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة مَن تركه الناس اتقاء شره، وفي روايةٍ: "اتقاء فحشه"، إذا كان كلامُ الشخصِ بذيئًا، ويتكلم في العورات، ثمَّ داريتَه فأنت حكيم، أما لو استفززته فإنه يتكلم بالفحشاء على الفور. فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يقابل هذا الأحمق بغلظةٍ وفحشٍ، بل ألان له القول، وسلك معه مسلك المداراة. إخواننا الكرام، يقول العلماء: هذا الحديث أصلٌ في المداراة، وفرَّق العلماء بين المداراة المطلوبة وبين المداهنة المذمومة، المداراة بذل الدنيا لصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأما المداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا. فنحن مِن الممكن أن نداريَ، ولكن لا يمكن أن نداهن، قال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾ ( سورة القلم ) فأنتَ مثلاً لم تصلِّ لكي لا يعرف الناس أنك تصلي، خير إن شاء الله ؟ هذه اسمها مداهنة، قد ضيعت دينك من أجل مكسب دنيوي، جلست في مطعم ووُضِع الخمرُ على المائدة، وأنت لم تعترض من أجل الحفاظ على مكسب دنيوي، فالإنسان حينما يضيِّع دينه من أجل الدنيا هذه هي المداهنة، أما حينما يبذل دنياه من أجل دينه فما اسمها ؟ هذه مداراة، من الممكن أن تنفق على إنسان مبلغًا، وأن تقدم له هدية، فتستميل قلبه، وتليِّن قلبه، وتقنعه لحضور درس مثلاً، تقنعه أن يسمع منك، أكرمته، أطعمته، قدَّمت له هدية هذه مداراة، فرأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((بعثت بمداراة الناس)) ( من المأثور: عن " جابر بن عبد الله " ) لو قال: بعثت لمداراة الناس، لصار الهدف المداراة، أما بعثت بمداراة الناس، الباء للاستعانة، أي إنك تستعين على هدايتهم بمداراتهم، فنحن مطلوب منا أن نداري الناس، ونعينهم، نصغي لهم، نقدِّم لهم هدية، نخدمهم لكي نستميل قلوبهم، لكي يصغوا لنا، هذا مطلوب ؛ أما أنْ نضحي بديننا، نضحي بصلواتنا، نضحي باستقامتنا إرضاءً لهم، فهذه مداهنة. الإمام القَسْطَلاَّني يقول: " المداراة مستحسنة، وليست مباحة "، أيْ مستحبة، وقال عليه الصلاة والسلام عن عائشة: ((إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض)) ( من المأثور: عن " السيدة عائشة " ) أي إن كنتَ مسلمًا متمسكًا بدينك فلا تكن فظًّا، ولا تكن قطعة معدنية حادة الأطراف، كن ليِّنًا، فمِن يومين سألني أخ سؤالاً: هل مِن السنة أن يُحلق شعرُ المولود ؟ فاختلف مع زوجته، هي تشبثت ألاَّ يحلق شعره، فتدخل الأب، وكبر الأمر، وكاد الأمر يفضي إلى فراق، تساهل قليلاً، فالقضية ثانوية، تساهل فيها، جاء العمُّ، وقصَّ بضع شعرات، وقال له: لقد حلقنا الشعر، لكنه يريد بالموسى، فالإنسان يكون ليِّنًا، ولا سيما بالأمور الثانوية، فنحن عندنا أساسيات، في الأساسيات لا تلِن، أما في الثانويات فكن متساهلاً، إذا كان من ورائها مشكلة كبيرة. فالمداهنة كما قلت قبل قليل: بذل الدين لصلاح الدنيا، وهي مذمومة، وقد نزّه اللهُ تعالى نبيَّه عنها، فقال: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾ ( سورة القلم ) فكان النبي عليه الصلاة والسلام يداري، ولا يداهن. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كان عليه الصلاة والسلام يقبل بوجهه على شر القوم يتألَّفهم بذلك"، إذا كان الإنسان شريرًا، فظًّا غليظًا، جبارًا، وهو جارك في البناية، فقل له: السلام عليكم. لعله يلين قلبه، فلا تضع له العقدة، لأنه هو أقوى منك بهذا الأسلوب، واستمِلْ قلبه بابتسامة، وبسلام حار، فكان عليه الصلاة والسلام يقبل بوجهه على شر لقوم يتألفهم بذلك. ومن أعظم الأدلة على كمال عقله الشريف صلى الله عليه وسلم سعةُ علومه، فقد أفاض اللهُ عليه العلوم العظمى، والمعارف الكبرى، وأراه الآيات، وأيَّده بالبينات، وصَدَّقه بالمعجزات، وجمع له جميع أنواع الوحي الإلهي، وذلك لا يقوم به، ولا يقدر على تحمُّله إلا من خصَّه الله تعالى بأعظم قلبٍ، وأوسع عقلٍ. أي إنه صلى الله عليه وسلمه سيد العلماء، تجد إنسانًا يأخذ ثلاثين حديثًا يشرحها، ويستنبط منها بعض الأحكام، ويحضِّر رسالة دكتوراه، ثم صار اسمه: الدكتور فلان، فماذا فعل ؟ فَهِمَ ثلاثين حديثًا، وتعمق فيها. يا أيها الأميُّ حسبُك رتبةً في العلم أن دانتْ لك العلماءُ * * * في العلم هو سيِّد العلماء، والله عزَّ وجل يقول: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)﴾ (سورة النجم: 5) فإذا افتخر الإنسان بمعلميه، فالنبي يفتخر أن الذي علمه هو الله عزَّ وجل، وهذه نقطة دقيقة متعلقة بأميته صلى الله عليه وسلم، فأمِّيتُه في حقه كمال، فهو أمِّيٌّ، أي لا يقرأ ولا يكتب، فالأمِّيةُ في حقه كمال، وفي حقنا نقص، في حقه كمال لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل كلامه من الوحي خالصاً دون امتزاج بالثقافات الأرضية، فلو كان مثقفًا ثقافة عالية، وجاءه الوحي وتكلم، لكان كلما قال حديثًا يُسأل: هذا من عندك أم من الوحي ؟ هذا من ثقافتك أم من الوحي ؟ قال الله عز وجل: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾ ( سورة النجم ) حتى الحديث الشريف فإنّه وحي، لكنه غير متلو، علماء الأصول فرَّقوا بين الوحي المتلو وبين الوحي غير المتلو، فالمتلو هو القرآن، وغير المتلو هو الحديث الشريف. أيها الإخوة الكرام ؛ في نهاية هذا الدرس أذكر لكم هذه الحقائق: اعلَمْ أنّ موضع التكاليف الشرعية هو العقل، فإذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب، هذا تعرفونه جميعاً، لكن لهذه المقولة استدلال خطير، التكاليف الشرعية منوطة بالعقل، فإذا أخذ الله العقل أسقط التكاليف، فما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أن التكاليف معقولة، ولو لم تكن معقولة لما أنيطت بالعقل، فقد أناطها الله بالعقل، فمن فَقَدَ عقله فقَدْ أُعْفِيَ من التكاليف، إذاً التكاليف معقولة، لذلك قامت حرب بين العقل والكنيسة في العصور الحديثة، ونحن بريئون من هذه المعركة، ديننا متطابق مع العقل تطابقًا تامًّا، أما في بعض الديانات المنحرفة فهناك مفارقة حادّة بين العقل وبين هذه الديانة، فالمثقف رفض هذا الدين لأنه مناقض للعقل، فالمستغربون من شبابنا يرفضون الدين ويعتزون بالعلم، افتراضًا منهم أن الدين مناقض للعلم، وهذا الشيء غير واقع في الإسلام إطلاقاً. الشيء الثاني ؛ لو كانت الأوامر والنواهي والقضايا في الإسلام غير معقولة لكان التكليف بها تكليفاً بما لا يطاق، ولو أنّ الإسلام كلفنا بأشياء غير معقولة لأصبح التكليف لا يطاق، فمثلاً في الديانة البوذية إذا مات الرجل يُحرَق ولا يدفن، وتحرق معه امرأته، وامرأته لا علّة بها، ولكن ما دام زوجها قد مات فيجب أن تموت معه حرقا، هذا تكليف غير معقول. والبقرة ممنوع ذبحها، وأكبر قطيع بقر في العالم موجود في الهند، فتدخل البقر إلى بعض محلات الفاكهة وتأكل أغلى الفاكهة، وصاحب المحل مسرور من أعماقه، لأن الإله دخل، وأكل عنده، وبعض الهنود يضعون روث البقر في غرف الضيوف، ويتعطَّرون ببول البقر، فإذا كانت التكاليف غير معقولة فهي منبوذة طبعاً، فلو أن الله عزَّ وجل كلفنا بأشياء غير معقولة لكان هذا التكليف لا يطاق، لكن لا شيء كلفنا الله به إلا وهو معقول. لو أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بأشياء غير معقولة، والكفار كانوا ينتظرون منه غلطة واحدة، ولَمَا سكتوا، وتكلموا، ورفعوا أصواتهم، ونقدوا النبي، وفنّدوا أقواله، وشهّروا به، فلو أن الدعوة الإسلامية فيها خلل صغير، ولو كان الذي جاء به النبي الكريم مناقضًا للعقول، لكان الكفار في زمنه أولَ من ردّوا عليه ذلك، ولكانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به النبي، إن جميع العقلاء والحكماء في زمنه شهدوا بأحقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وسيدنا جعفر رضي الله عنه لما دخل على النجاشي وقال له: ((إنا كنا قوماً أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان)) (أحمد) قال النجاشي بعد ذلك: " مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه النبيّ الذي نجده في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيت هذا النبي حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه ". (أحمد) وفي رواية للطبراني::لآتيته حتى أقبِّل نعليه". أكثم بن صيفي بعث رجلين من قومه لمقابلةِ النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك حين بلغه مخرج النبي عليه الصلاة والسلام، فأتيا النبي فقالا له: " نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت ؟ وما أنت ؟ وبم جئت ؟ " أكثم بن صيفي من وجهاء الجاهلية، لما بلغته بعثةُ النبي أرسل وفدًا من رجلين، وسألاه هذه الأسئلة الثلاثة: من أنت ؟ وما أنت ؟ وبم جئت ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (( أما من أنا ؟ فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا ؟ فأنا عبد الله ورسوله، جئتكم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾)) ( سورة النحل ) فقالا: " ردد علينا هذا القول ". فردده عليهم حتى حفظاه، فأتينا أكثم فقالا له: " أبى أن يرفع نسبه، فسألناه عن نسبه فوجدناه زاكي النسب، وسطاً في مُضَر، وقد رمى إلينا بكلمات قد حفظناها "، فلما سمعهن أكثم قال: " إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً ". الملخص: أن جميع ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو المعقول المحكم، لذا استسلم له أهل الأفكار والعقول، ولا يمكن أن يكون في ما جاء به النبي تناقضاتٍ عقلية، أو مُحالاتٍ فكرية أصلاً، وقد أتى بعظائم الحكمة التي تعجز عنها العقول البشرية، كما تعجز استيعاب جميع أسرارها لضعف عقولنا، كما تضعف الأبصار عن التحديق في قرص الشمس والإحاطة بنورها. أيها الإخوة الأكارم ؛ هذان الدرسان عن أرجحية عقل النبي، وأروع شيء في الإسلام على الإطلاق أن ديننا دين معقول، دين يتطابق مع العقل مئةً في المئة، والمنقول يتفق مع المعقول، وفي هذا راحةٌ نفسية لا تعدلها راحة، والإنسان كلما نما عقله كلما ازدادت طاعته لله. ((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً)) ولا تنسوا قول رسول الله لسيدنا خالد حينما أسلم قال له: (( يا خالد أرى لك عقلاً)) أي لماذا تأخرت ؟ كان المنتظر منك أن تؤمن قبل غيرك لأنك أعقل من غيرك، فعلامة عقلك سرعة إيمانك، وطاعتك لله عزَّ وجل |
|
26-05-2019, 04:22 PM | #4 |
| |
|
26-05-2019, 09:08 PM | #5 |
ادارة الموقع | جزآك الله جنةٍ عَرضها آلسَموآت وَ الأرض بآرك الله فيك على الطَرح القيم في ميزآن حسناتك ان شاء الله ,, آسأل الله أن يَرزقـك فسيح آلجنات !! وجَعل مااقدمت في مَيزانْ حسَناتك وعَمر آلله قلبك بآآآلايمَآآنْ علىَ طرحَك آالمحمَل بنفحآتٍ إيمآنيهِ دمت بـِ طآعَة الله . |
|
26-05-2019, 11:38 PM | #6 |
| جزاك المولى الجنه وكتب الله لك اجر هذه الحروف كجبل احد حسنات وجعله المولى شاهداً لك لا عليك دمتِم بسعاده لاتغادر روحكم |
|
27-05-2019, 12:40 AM | #7 |
| بارك الله بك على فسحة هذا الروض وسقاك برفقة النبي من ذات الحوض صفحة فيها التجلي بذكر سيد الكونين وما تواتر عنه من حديث يقل النجدين ما أنقاه من مجلس نبوي يسامر التبض جزاك الله على نقله حسنات وسع الأرض وأظلك برحمته سبحانه يوم العرض يوماً نستقرض له من الدنيا ثواباً قرض بوركت أيادٍ خطت عن نبيٌ أتته مبايعة شجرة مباركة تخض الأرض خض صلوات الله عليك ياحبيبي يا رسول الله والتسليم على آلك وصحبك واجب ركني في آداء كل فرض تقديري |
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
الأحمدية , الشمائل , الشريف , العقول , سائر , على , عقله , _أرجحية |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
الشمائل المحمدية _نظافته صلى الله عليه وسلَّم | البرنس مديح ال قطب | (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الانبياء والصحابه ) | 18 | 31-05-2019 06:03 PM |
الشمائل المحمدية _خلقه العظيم - زيارته لضعفاء المسلمين عامة ولأهل الصفة خاصة | البرنس مديح ال قطب | (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الانبياء والصحابه ) | 19 | 31-05-2019 06:02 PM |
الشمائل المحمدية _خلقه العظيم - إنبساطه مع أهله وذوي القربى ، مباسطته مع زواره | البرنس مديح ال قطب | (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الانبياء والصحابه ) | 23 | 31-05-2019 06:01 PM |
الشمائل المحمدية _سعة علمه | البرنس مديح ال قطب | (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الانبياء والصحابه ) | 18 | 31-05-2019 06:00 PM |
الشمائل المحمدية _خلقه العظيم - رحمته بالمؤمنين - بالمنافقين - بالكفار - بالصبية - با | البرنس مديح ال قطب | (سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الانبياء والصحابه ) | 12 | 31-05-2019 05:59 PM |