حينما يَكْبو الجواد كَبْوَة ، وتَزِلّ القَدَم زَلَّـة ، ويَهفو الإنسان هَفْوَة ،
فإنه له واعِظ مِن نفسه يأتيه باللوم والندم ..
تلك هي النفس اللوامة التي أقْسَم بها ربّ العِزّة سبحانه ..
فإذا تحرّكت عنده تلك الـنَّفْس ، أيْقَظَتْ القَلْب ، وبَعثَتْه على التوبة ،
والفِرار مِن الله إليه .. وهذا ما حدا بذلك الرَّجُل أن يُوصِي أولاده بِما يَظُنّ أنه غاية الْهَرَب ..
فأوْصَاهم أن يُحرِقوه إذا هو مات .. وأن يَذُرّوا ما بَقِي منه في الهواء ،
وما بَقي مِنه يُرْمَى في البحر .. هَرَبًا وفِرارا مِن الله .. أخْبَر الصادق الْمَصْدُوق صل الله عليه وسلم أن رَجُلا أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ : إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي
ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ ، فَوَ اللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّي
لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا . قَالَ : فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ ،
فَقَالَ الله لِلأَرْضِ : أَدِّي مَا أَخَذْتِ . فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ ، فَقَالَ لَهُ : مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ :
خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ - أَوْ قَالَ – مَخَافَتُكَ . فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ .
رواه مسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه . والحديث مُخرّج في الصحيحين مِن حديث أبي سعيد رضي الله عنه . أين الْمَهْرَب مِن الله ؟ إلاّ إليه .. وأين الْمَلْجأ مِن الله ؟ إلاّ إليه .. وأين تذهب ذَرَّات ذلك الجسم عمّن لا تَخْفَى عليه خافية ،
ولا يَغيب عنه مثقال ذَرّة في السماوات ولا في الأرض ،
ولا أصغر مِن ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مُبين .. ؟
لقد خَشي أن يُعذَّب ، فَطَلَب الْمَهْرَب !
تلك هي الخشية التي تُورِث الْخَوف الْمُحمود .. قال ابن القيم رحمه الله : الخوف المحمود الصَّادِق
ما حَالَ بَيْن صاحبه وبَيْن مَحَارِم الله عَزَّ وَجَلّ ، فإذا تجاوز ذلك خِيف منه اليأس والقنوط .
قال أبو عثمان : صِدق الخوف هو الوَرع عن الآثام ظاهرا وباطنا .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله يقول : الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله وكلّما كان الإنسان بالله أعْرَف كان مِنه أخوف ..
قال الله تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) يُروى عن مُجاهِد أنه قال : سأل موسى عليه السلام ربه عز و جل :
أيّ عِبادك أغنى ؟ قال : الذي يَقنع بما يُؤتَى .
قال : فأيّ عِبادك أحْكَم ؟ قال : الذي يَحْكُم للناس بما يَحْكُم لِنَفْسِه .
قال : فأيّ عِبادك أعْلَم ؟ قال : أخْشَاهم .
رواه أبو نُعيم في " الحلية " .
قال ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ الْعِلْمُ مِنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ ،
وَلَكِنَّ الْعِلْمَ مِنَ الْخَشْيَةِ .
وقال رضي الله عنه : كفى بِخَشْية الله عِلْمًا ، وكَفَى بِالاغْتِرَار به جَهْلاً . وقال الحسن البصري : العَالِم مَن خَشي الرَّحْمَن بِالْغَيب ،
ورَغِب فيما رَغّب الله فيه ، وزَهِد فيما سخط الله فيه . وقال صالح أبو الخليل - وهو صالح بن أبى مريم الضبعي -
في قوله : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
قال : أعلمهم به أشَدّهم خَشية له . رواه ابن أبي شيبة .
وقال قتادة : قال كان يُقال : كَفَى بِالرَّهْبَة عِلْمًا .
وقال الربيع : رأس كُلّ شَيء خَشية الله . والخوف مِن الله يُورِث الجِنان .. وفي الحديث : يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ . رواه مسلم .
قال النووي : قيل : مثلها في رِقّتها وضَعفها ...
وقيل : في الخوف والهيبة ، والطير أكثر الحيوان خوفا وفَزَعا .
كما قال الله تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ، وكأن المراد قوم غَلَب عليهم الخوف ، كما جاء عن جماعات مِن
السلف في شِدّة خَوفهم .
ودَمْعة الخشية حِجاب مِن النار .. وفي الحديث : لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ .
رواه الإمام أحمد والترمذي ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
وفي الحديث الآخر :
عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ،
وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . رواه الترمذي ، وصححه الألباني .
ودَمْعَة الْخَشْيَةِ محبوبة عند الله .. وفي الحديث : لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ ،
قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللهِ ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ ،
وَأَمَّا الأَثَرَانِ : فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ .
رواه الترمذي ، وحسّنه الألباني .
ومِن هنا كانت دمعة الخشية أحبّ إلى السلف مِن إنفاق المال . قال عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما : لَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ .
رواه البيهقي في " شُعب الإيمان " .
وصَلَّى عمار بن ياسر بالقوم صلاة أخَفَّها ، فكأنهم أنكروها ،
فقال : ألم أتم الركوع والسجود ؟ قالوا : بلى .
قال : أمَا إني دعوت فيها بدعاء كان النبي صل الله عليه وسلم يدعو به : اللهم بِعِلْمِك الغيب وقُدْرتك على الْخَلْق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي ،
وتَوَفَّنِي إذا عَلِمْت الوفاة خيرًا لي ،
وأسألك خَشْيَتك في الغيب والشهادة ،
وكلمة الحق في الرضا والغضب ، وأسألك نعيما لا يَنْفَد ،
وقُـرَّة عَين لا تنقطع ،
وأسألك الرضاء بِالقَضاء ، وبَرْد العيش بعد الموت ،
ولَـذَّة النظر إلى وَجْهك ،
والشوق إلى لقائك ، وأعوذ بك مِن ضَرّاء مُضِرّة ، وفِتْنة مُضِلّة .
اللهم زَيِّـنَّا بِزِينة الإيمان ، واجعلنا هُدَاة مُهْتَدِين .
رواه الإمام أحمد والنسائي . وصححه الألباني والأرنؤوط .
فاللهم إنا نسألك خَشْيَتك في الغيب والشهادة
*