همة عالية:
إن الأمة الإسلامية أمة معطاءة، ولُودة، بارة، منتجة، فهي تقدم للمجد رجالاً، وتعطي للتاريخ قلوباً.
ومن يقول بأنها قد عقمت، فهو واهم، لأن الله يقول: " كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهلُ الكتابِ لكانَ خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ". (آل عمران: الآية 110)
فكان أبناء هذه الأمة أصحاب مجد، وهمة عالية.
كيف لا يكونون كذلك، وقد مهد لهم الأنبياء، والسلف الصالح الطريق إلى هذا المجد، وتلكم الهمة العالية؟
مر إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - أستاذ التوحيد- بجيفة على البحر تنهشها السباع، فقال في نفسه: يا رب كيف تجمع هذه الجيفة بعد أن مزقتها السباع؟
لأن الله - عز وجل - أخذ على نفسه أن يجمع حتى الوحوش ليحاسبها يوم القيامة، ثم تكون تراباً بعد ذلك.
فسأل إبراهيم ربه فقال: " ربِّ أرِنِي كَيفَ تُحي الموتى ". (البقرة: الآية 260)
يقول: أنا أعلم أنك تحيي الموتى، ولكن بأي طريقة تحييها؟
فقال الله: " أولم تُؤمن ". (البقرة: الآية 260)
وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يشك، فلذلك قال: " بلى ولكن ليطمَئِنَّ قلْبي ". (البقرة: الآية 260)
ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " نحن أولى بالشك من إبراهيم "(1) ويقول: " ليس الخبر كالمعاينة ". (2)
والأعيان أوضح عند الناس دائماً من الأذهان.
" قال بلى ولكن ليطمئنَّ قلبي "، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير، الله أعلم بجنسها.
فأخذ أربعة طيور، وقطع رؤوسها، ونثر لحمها، وعظمها، وريشها، ثم خلطها، ثم أخذ كل رأس، فوضعه على جبل.
قال الله - سبحانه وتعالى-: " ثم ادعُهُنَّ يأتينك سعياً ". (البقرة: الآية 260)
فنزل، فدعا الطيور، فأتت الرؤوس، وتركبت مع أجسادها دون أن تضل الطريق، أو تخطىء جسمها.
ثم قال - تعالى -: " واعلم أن الله عزيز حكيم ". (البقرة: الآية 260)
لأن إبراهيم يعلم أن الله على كل شيء قدير.
والهمة في هذه الحادثة لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أنه طلب زيادة اليقين، وزيادة الإيمان، وزيادة الرسوخ، فلم يمنعه الحياء من الله - تعالى - أن يثبت في هذه المسائل.
والذي يظهر من واقعة إبراهيم - عليه السلام -، أن سؤاله لربه - عز وجل -، لم يكن لزيادة إيمانه فحسب، بل كان لينقل لقومه أنه رأى هذه الطيور مجتمعة بعد تفرق، فليس من رأى كمن سمع، وإنما يزداد يقين قومه، لا يقينه، ويتوثق علم قومه، لا علمه، فإبراهيم - عليه السلام -، شيخ العقيدة، وأستاذ التوحيد، وأبو الأنبياء.
وموسى - صلى الله عليه وسلم - كان جريئاً شجاعاً، ولم يصلح لبني إسرائيل إلا هو.
كانت همته عالية، فقد كلمه الله - سبحانه -، ولكنه ما اكتفى بذلك، بل طلب من الله أن يراه، فقال: " ربِّ أرِني أنظرْ إليك ". (الأعراف: الآية 143)، قالها متشوقاً لهفاً على رؤية خالقه.
فقال - سبحانه وتعالى-: " لنْ تراني ". (الأعراف: الآية 143)
والمعتزلة يسمون " لن " هذه المؤبدة، أي أنه لن يراه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلذلك نفوا الرؤية.
فرد عليهم ابن مالك النحوي صاحب الألفية فقال:
ومن رأى النفي بلن مؤبداً *** فقوله اردد وسواه فاعضدا
يقول: رد قوله، وخذ عكسه.
همته - عليه السلام - أنه قال لربه: " رب أرِني أنظر إليك "
فقال الله: " لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانَهُ فسوفَ تراني ". (الأعراف: الآية 143)، فتجلى الله - سبحانه وتعالى- للجبل، فاندكَّ الجبل تماماً وصعق موسى.
بعد فترة استفاق وقام وهو يقول: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ".
ويوم القيامة يقول - صلى الله عليه وسلم -: " ما من أحد إلا يصعق، فأكون أول من يستفيق، فأجد موسى باطشاً بالعرش، فلا أدري هل استفاق قبل، أو كفته الصعقة التي صعقها في الدنيا ". (3) يعني: هل أخذ حسابه في الدنيا أم لا.
الشاهد هو الهمة العالية التي صاحبته - صلى الله عليه وسلم -.
ورسول الله صلى الله عليه هو صاحب الهمم التي ظنها بعض الناس كالخيال.
يا صاحب الهمة العليا وهل حملـت *** روح الرسالات إلا روح مـخـتار
أعلى المناصب ما شادت لصاحبهـا *** من العلا والمعالي نصب تذكــار
في كفه شعلة تهدي وفي دمــــه *** عقيدة تتحدى كل جـــــــبار
من همته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عن الوسيلة التي نطلبها له - صلى الله عليه وسلم - في دعائنا بأنها درجة في الجنة لا تكون إلا لواحد، وأرجو أن أكون أنا.
وهو بأبي وأمي صاحب المقام المحمود، وهو أعظم مقام في تاريخ الإنسان، إذا جمع الله الأولين والآخرين، لا يتكلم أحد من ملوك الدنيا، ولا الملائكة، ولا الرسل، ولا الشهداء.
فيسجد - صلى الله عليه وسلم - تحت العرش، فيقول - سبحانه -: " ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع ". (4) حينها يطلب نجاة أمته، ويطلب من الله فصل القضاء - صلى الله عليه وسلم -.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - طموحه يتجاوز الدهر، ويخترق الصوت، يشعب في شعاب التاريخ.
هو في المدينة يسكن في بيت طين، ويقول: " رأيت البارحة أن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وأن ملك أمتي يبلغ ما زوي لي منها ". (5)
نعم... لقد بلغ ملك أمته حدود الصين في هضبة التيبت، وصلى أتباعه بجوار نهر اللوّار، ووصلوا ترمذ، وطشقند، وسمرقند.
فظهر دينه وشرعه ودولته - صلى الله عليه وسلم -.
يأتي في الخندق وعلى بطنه حجران من الجوع، وعلى بطن أصحابه حجر واحد، فينزل ويضرب صخرة في الخندق، قد أعيت الأبطال، فيطير شرارها، فيقول: " الله أكبر... رأيت قصور كسرى وسوف يفتحها الله عليّ ".
فيتضاحك المنافقون، ويقولون: " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ". (الأحزاب: الآية 12)، الواحد منا لا يستطيع أن يجول من الخوف، وهو تفتح له قصور كسرى.
فضرب الضربة الثانية، فلمع لامع كالبارق، فقال: " أريت قصور قيصر، وسوف يفتحها الله عليّ ". (6)
وقد صدق - صلى الله عليه وسلم -... فقد فتحها صحابته، لا غيرهم، بعد سنين قصيرة من موته - صلى الله عليه وسلم -.
ودخل - صلى الله عليه وسلم - على أم حرام بنت ملحان، ليقيل عندها، فلما نام قليلاً، استيقظ وهو يضحك، فقالت: ماذا يضحكك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟
قال: " رأيت أناساً من أمتي يركبون البحر كالملوك على الأسرة " فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.
قال: " أنت منهم ".
ثم نام، فرأى رؤيا أخرى، وأخبرها بما رأى.
فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.
قال: " أنت مع الأولين ".
فركبت البحر في عهد معاوية بن أبي سفيان عندما كان يريد فتح القسطنطينية، فماتت شهيدة في البحر. (7)
" أفسحرٌ هذا أمْ أنتم لا تُبصرون ". (الطور: الآية 15)
وأتى أبو بكر الصديق فتعلم الهمة من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان في الصف الأول دائماً.. فهو لا يسبق أبداً.
سلم أمواله كلها للمسلمين في سبيل الله.
قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: " إن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة "، وهكذا الأبواب الأخرى للعبادات... فكل يدعى بحسب العبادة التي كان يجتهد فيها في الدنيا: الصلاة، أم الصيام، أم الجهاد، أم الصدقة.
فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل يدعي أحد من الأبواب الثمانية؟
قال: " نعم، وأرجو أن تكون منهم "(8)، إنها الهمة العالية التي جعلته يبادر بهذا السؤال، لأنه علم من نفسه أن سيتجاوز الباب والبابين إلى تلكم الأبواب الثمانية.
فحق أن يتوج بقول المتنبي:
وإن تفق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال
ولكن شتان ما بينه وبين المتنبي الذي كانت له همة عالية، ولكن كانت لا تفارق طموحاته الدنيا من الإمارة، والأموال، كشأن عبيد الدنيا. ومن أقواله البديعة في تلك الهمة... وليتها كانت في سبيل الله.. قوله:
ولا تحسبن الملك زقّا وقيْنـــة *** فما الملك إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى *** لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويّاً كأنمـــا *** تداول سمع المرء أنمله العشــر
وشابهه في تلكم الهمة الحقيرة أبو مسلم الخراساني، الذي أقام دولة بني العباس، فكان حادّ الذكاء، صاحب شجاعة لكنه استثمرها في الباطل، وفي قتل عباد الله من المسلمين في سبيل الله إقامة تلكم الدولة التي ما لبثت أنْ زالت وطواها النسيان، لأنها لم تؤسس على التقوى من أول يوم.
فذبحه أبو جعفر المنصور بعد أن خشي من تلك الهمة الدنيوية التي يحملها.
وهكذا الشاعر الجاهلي امرؤ القيس الذي يقول:
ولو أنني أسعى لأدني معيشـة *** كفاني ولم أطلب قليلاً من المال
ولكنني أسعى لمجد موثـــل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فهو قد صرف همته إلى المجد المؤثل، بل مات وثنياً مسموماً.
أما الصالحون فهمتهم هي: ملك الآخرة، لا الدنيا، كما قال - سبحانه -: " وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً ومُلكاً كبيراً ". (الإنسان: الآية 20) وهذا يحصل لعباد الله - سبحانه -.
فوالله الذي لا إله إلا هو، إن أقل أهل الجنة من يملك من الجنة كعشرة أمثال الدنيا.
وإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما عليها.
أقلهم ملكاً من الدنيا من ملكْ *** عشرة أمثالها بدون شــكْ
إنما موطن سوط فيـــها *** خير من الدنيا وما فيــها
ومن الناس من يطمح إلى المال فتجده شقيّاً من أجل هذه الهمة، ويرى أنها من أسعد الهمم.
ومن ينفق الأوقات في جمع ماله *** مخافة فقر فالذي فعل الفقـــر
يقول: الذي يجمع الأوقات كلها ويجعلها في جمع المال فهذا هو الفقير.
متى يرتاح؟
متى يهدأ؟
متى ينعم؟
ومن همم بعض الناس: المطعومات والمشروبات، فتجده يتخيلها في النوم.
وقد أعطاه الله - عز وجل -، من النهمة والهمة في الأكل: الأمر العظيم.
ومنهم: (ميسرة) الذي ترجم له الزبير، فأخبر أنه كان يأْكل فرْق ذرة وشاة في المجلس الواحد، قدس الله روحه، ونور ضريحه جزاء ما قدم للإسلام (9)!!
نذرت امرأة أن تشبعه، فقدمتْ له سبعين قرصاً.
فأكل أربعة وستين واستحيا منها فترك ستة أقراص!
جزاه الله خير الجزاء، لأن الحياء من الإيمان!!
ومثله سليمان بن عبد الملك الخليفة الذي كان يسمى " الأكول "، لأنه كان أكثر الخلفاء أكلاً.
أما همم الصالحين من عباد الله المؤمنين، فكما سبق، هي جنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدتْ للذين آمنوا.
أنس بن النضر يقول أحد الصحابة له قبل أحد: ارجع.. ارجع.. قال: إليك عني يا سعد، والله الذي لا إله إلا هو، إني لأجد ريح الجنة من دون أحد.
فقد تركوا كل شيء في الحياة، لأنهم يريدون الجنة التي عرضها السماوات والأرض.
يقول عمر بن عبد العزيز: إن لي نفساً تواقة، تاقتْ إلى الزواج من فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى إمارة المدينة فتوليتها، وتاقت إلى الخلافة فتوليت الخلافة، فتاقت إلى الجنة فأسأل الله أن يدخلني الجنة.
أحمد بن حنبل طافت به همته الدنيا من أجل الحديث، فجمع أربعين ألف حديث، فترك لنا المسند، وترك العلم للعالم.
والبخاري ألف كتاب الصحيح، وحفظ تواريخ الرواة وأكثر الشيوخ، وكان يطوف البلاد الإسلامية ذاهباً وآيباً، وليس همه إلا الحديث.
فبلغه الله ما أراد.
ومن النساء: عائشة - رضي الله عنها -، التي كان بعض الصحابة إذا أعجزتهم المسائل سألوها، فكانت تحفظ من الشعر العربي ثمانية عشر ألف بيت، وتحفظ كتاب الله - عز وجل -، وتحفظ أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتفتي الناس، وكانت عاقلة، فقيهة، عالمة.
وأسماء ذات النطاقين: قامت بالأعمال البطولية زمن الهجرة، لأن همتها تاقتْ إلى خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى عمل يقربها من الله.
والخنساء، قدمتْ أبناءها الأربعة في القادسية، ولم تحزن عليهم ولم تتأسف.
فهكذا فلتكن الهمم العالية.
فيا مسلمون.. لا تملوا، ولا تكسلوا، ولا تيأسوا أن تنالوا الدرجات العليا عند الله، بل اجعلوا همتكم تبلغ الثريا.
فكن رجلاً رجله في الثرى *** وهامة رأسه في الثريــا
فاحفظ، وتعلم، اعمل صالحاً، ولا تضجر، ولا يثبطك الشيطان، أو يثني عزمك، أو يحقر نفسك أمامك، فأنت قادر على الوصول إلى المقامات العالية لو صدقت النية والعزم، وسرت على الطريق بهمة عالية.
فهل يرضيك أن يكون أهل الفجور، والمعاصي، بل أهل الكفر، أعلى همة منك، وأشدّ عزماً وصلابة على المضي في طريق الجدّ، وهم أقصى أمانيهم وهممهم لا تتجاوز هذه الدنيا؟
وأنمت تطلب سعادة أخروية لا تحصل لك إلا: بثمن، وجد، ومثابرة، وصبر.
أسأل الله لي ولكم أن يرزقنا الهمة العالية التي تبلغنا جنة عرضها السماوات والأرض، إنه على كل شيء قدير.
عائض القرني
ـــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3372)، ومسلم (151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) صحيح، أخرجه أحمد في مسنده (1/271)، وصححه الألباني في " المشكاة " (5738).
(3) أخرجه البخاري (2411)، ومسلم (2373) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري (7410)، ومسلم: (322) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) أخرجه مسلم: (2889) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(6) انظر: سيرة ابن هشام (2/214).
(7) أخرجه البخاري: (2788، 2789)، ومسلم: (1912) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(8) أخرجه البخاري (1897)، ومسلم (1027) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) هذا من باب السخرية.