17-10-2016, 09:36 AM
|
|
من الهدي النبوي والنصح لكل مسلم إنّ النُّصح من أبرز وظائف الرُّسل وأجلِّها، فما من رسولٍ ولا نبيٍّ بعثه الله تعالى إلاَّ واجتهد في نُصْحِ أمَّته، وإبلاغِهم دعوة الحقِّ، وهدايتهم سبيل الرَّشاد... وإسداءُ النَّصيحة مَكْرُمَةٌ تدلُّ على طيب معدنٍ، وعلى حبِّ الخير للنَّاس، وكذلك كانت صفات الرُّسل والأنبياء. وأصل النُّصح في اللُّغة: الخُلوص، يقال: نصحتُه، ونصحتُ له، ونصحتُ العسلَ: إذا خَلَّصْتُه من الشَّمع، وناصِحُ العسل خالِصُه الَّذي لا يتخلَّله ما يشوبُه، والنُّصح والنَّصيحة خلاف الغشِّ (ينظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: [1030]، والنِّهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزري: [5/52]، وجامع العلوم والحكم لابن رجب [1/219]). و"النَّصيحة: كلمة يُعبَّر بِها عن جملة: هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يُعَبَّر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناه غيْرها" (النهاية في غريب الحديث والأثر: [5/52]). وإسداء النَّصيحة من أبرز مظاهر الدَّعوة والتَّعليم والإرشاد؛ إذ النَّاصح غالبًا ما يُبدي من النَّصيحة والإرشاد خلافَ ما يهواه المنصوح، إصلاحًا للمجتمعات وهدايةً للخلق، وهكذا كانت سيرة الأنبياء عليهم السَّلام مع أقوامهم. قال سبحانه وتعالى عن نبيِّه هود عليه السلام: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]، إلى قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]. وقال سبحانه عن نبيِّه نوح عليه السلام: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34]. وقال عزَّ وجلَّ عن نبيِّه صالح عليه السلام: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]. وقال عن الرَّجل الصَّالح: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]. فهذا هدي الأنبياء عليهم السَّلام، والَّذين تمثلوا أرقى صور الدَّعوة وحبّ الخير للنَّاس؛ فساسوا أممهم بالحقِّ، وأرشدوهم إلى الخير، وحذَّروهم من الشَّرِّ والفساد... وعلى مِنْهاجهم بُعث خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وعلى هداهم كان هديه عليه الصَّلاة والسَّلام: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام من الآية:90]. فما فتئ صلى الله عليه وسلم يُوجِّه أمَّته ويُرشدها إلى التَّحلِّي بهذا المبدأ العظيم، فقد صحَّت عنه أحاديثُ قوليَّة عديدة تضمَّنت تشريعات وتوجيهات للأمَّة في هذا الأصل المهمِّ، منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن تَميمٍ ابن أَوْسٍ الدَّاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (صحيح مسلم؛ برقم: [55]). فمعنى النَّصيحة لله سبحانه وتعالى؛ صحَّة الاعتقاد في وحدانيَّته، وإخلاص النيَّة في عبادته، والقيام بطاعاته ومحابِّه، والحبُّ فيه والبغضُ فيه... والنَّصيحة لكتابه؛ الإيمان به وتعظيمه وتنْزيهه، وتعلّم معانيه وتدبُّرها كما أحبَّ الله أن تُفهم عنه، والوقوف مع أوامره ونواهيه، والدُّعاء إليه، وذبُّ تحريف الغالين عنه... والنَّصيحة لرسوله؛ الإيمان به وبما جاء به، والتَّمسُّك بطاعته، وإحياء سنَّته ونشر علومها، والتَّخلُّق بأخلاقه، والتَّحلي بآدابه، وموالاة من والاها وحبُّه، ومعاداة من عاداها وتديَّن بخلافها، ومحبَّة آله وصحابته... والنَّصيحة لأئمَّة المسلمين؛ معاونتهم على الحقِّ، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رِفْقٍ ولطف، والدُّعاء لهم بالتَّوفيق، وحبُّ اجتماع الأمَّة عليهم، وكراهة افتراق الأمَّة عليهم، وحبُّ إعزازهم في طاعة الله عزَّ وجلّ... والنَّصيحة لعامة المسلمين؛ أن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، وإرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وسَتْر عَوْراتِهم، ونُصْرَتُهم على أعدائهم، والذبُّ عنهم، ومُجانبة الغشِّ والحسد لهم، وردُّ من زاغ منهم عن الحقِّ بالتلطُّف، والرِّفق في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر محبّةً لإزالة فسادهم... ومن كلِّ هذا يتبيَّن عِظَمُ موقع هذا الحديث النَّبوي في حياة المسلمين، وما فيه من إرشادات عظيمة، وهدي قويم، وقيم مُثلى لم يعرفها البشر إلى اليوم، وصدق الله إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وفي صحيح ابن حبَّان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» (صحيح ابن حبَّان؛ برقم: [3388]، وأصله في صحيح مسلم؛ برقم: [1715]). فهذا يؤكِّد أنَّ مبدأ المناصحة لولاة الأمر، ولعموم المسلمين، أصلٌ عظيم، لا تستقيم حياة الأمَّة الإسلاميَّة في مختلف جوانبها إلاَّ بإحيائه والاهتداء به، وبذلك بلغ سلف هذه الأمَّة درجةَ الرَّاشدين والصِّدِّيقين. فقد قال ابن عُلَيّة في قول بكر المزني: "ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيءٍ كان في قلبه"، قال: "الَّذي كان في قلبه؛ الحبُّ لله عزَّ وجلَّ، والنَّصيحةُ في خلقه". وقال الفضيل بن عياض: "ما أدرك عندنا مَنْ أدرك بكثرة الصَّلاة والصِّيام، وإنَّما أدرك عندنا؛ بسَخاءِ الأنفُسِ، وسلامة الصُّدور، والنُّصحِ للأمَّة" (جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي: [1/225]). وفي الصَّحيحين من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" (صحيح البخاري؛ برقم: [57]، وصحيح مسلم؛ برقم: [56]). وقال: "بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي: «فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»" (صحيح البخاري؛ برقم: [7204]). وفي رواية عند البخاري قال جريرٌ: "... أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَشَرَطَ عَلَيَّ: «وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»..." (صحيح البخاري؛ برقم: [58]). فممَّا يؤكِّد قيمة هذا المبدأ في حياة هذه الأمَّة، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما كان يأخذ البيعة من أصحابه إذا أسلموا على مبادئ وقواعد أساسيَّة في حياة الأمَّة الإسلاميَّة ودينها، ولم يكن ليأخذ البيعة على كلِّ واجب أو فرض، وإنَّما كان يُبايِع أصحابَه على مهمَّات الأمور الَّتي لا تستقيم حال المسلمين إلاَّ بِها، وبلزومها. والنُّصح حقُّ المسلم على المسلم، وليس مجرَّد تكرّم ومنَّة يتفضَّل بها عليه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ». قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» (صحيح مسلم؛ برقم: [2162]). ثمَّ إنَّ الخطأ واقعٌ لا محالة من الإمام أو المسؤول، كما في الصَّحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» (صحيح البخاري؛ برقم: [7352]، وصحيح مسلم؛ برقم: [1716]). فلا مناصَ إذًا من إصلاحه -أي الخطأ- بالنُّصح والتَّوجيه والإرشاد، وهكذا يطيب قلب النَّاصح والمنصوح، ولهذا المعنى البديع جاء التَّوجيه النَّبوي في الحديث الَّذي يرويه عبد الرَّحمن بن أبان بن عثمان بن عفَّان عن أبيه أبان قال: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ نَحْوًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَقُلْنَا: مَا بَعَثَ إِلَيْهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِشَيْءٍ سَأَلَهُ عَنْهُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: أَجَلْ، سَأَلَنَا عَنْ أَشْيَاءَ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَضَّرَ اللهُ امْرًَا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» (مسند أحمد؛ برقم: [21991]). يقول الزَّمخشري: "...والغِلُّ: الحقد الكامن في الصَّدر، والإغلالُ: الخيانة، والوُغول: الدُّخول في الشَّرِّ، والمعنى: أنَّ هذه الخلال يُستَصْلَحُ بِها القلبُ؛ فمن تمسَّك بها طَهُرَ قلبُه من الدَّغل والفساد..." (الفائق في غريب الحديث: [3/72]). ويقول الشَّيخ أحمد شاكر: "قوله: «يُغِلُّ» بفتح الياء وضمِّها مع كسر الغين فيهما، فالأوَّل من (الغِلّ) وهو الحقد، والثاني من (الإغلال) وهو الخيانة، والمراد أنَّ المؤمن لا يخون في هذه الثلاثة، ولا يَدْخُلُه ضِغْنٌ -حِقدٌ وعداوة- يُزيله عن الحقِّ حين يفعل شيئًا من ذلك، قاله في (شرح المشكاة)" (حاشية الرسالة، ص: [401]-[402]). فإحياء مثل هذه الهدايات النَّبويَّة، ونشرها بين مختلف طبقات النَّاس، وتعليمها فئات الأمَّة، ثمَّ التزامها بها، لا شكَّ ولا ريب أنَّه يقيها الكثير من الضَّغائن، والأحقاد، والتَّربُّصات والدَّسائس ضدَّ الحكَّام والمسؤولين... ومبدأ النُّصح له آدابه وضوابطه، بيَّنها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ عنه، وله ثماره وفوائده... كما أنَّ عدمَ قَبول النَّصيحة خلافُ الهدي النَّبوي، وله آثاره السَّيِّئة. |
|
lk hgi]d hgkf,d ,hgkwp g;g lsgl H, g;l hgi]] hgkf,d |