فحَرفُ النَّفيِ قد يَدخُلُ على الكَلامِ ويُرادُ به نَفيُ الأصلِ، كقَولِ اللهِ تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا [الواقعة: 25] ، وقَولِ اللهِ سُبحانَه: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا [الجاثية: 35] .
وقد يُرادُ به نَفيُ الكَمالِ مَعَ بَقاءِ الأصلِ، كقَولِ اللهِ تعالى: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [التوبة: 12] ، ثُمَّ قال: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ [التوبة: 13] ، فنَفاها أوَّلًا، ثُمَّ أثبَتَها ثانيًا، فدَلَّ على أنَّه لَم يُرِدْ به نَفيَ الأصلِ، وإنَّما أرادَ نَفيَ الكَمالِ، لا أيمانَ لهم وافيةً يَفونَ بها. وهذا كُلُّه إنَّما أُخِذَ مِنَ القَرينةِ.
فأمَّا عِندَ الإطلاقِ، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا صَلاةَ إلَّا بفاتِحةِ الكِتابِ)) ونَحوِه، فاختَلَفوا: هَل هيَ مُجمَلةٌ أم لا؟
فمَحَلُّ النِّزاعِ بَينَ الأُصوليِّينَ عِندَ عَدَمِ وُجودِ القَرينةِ التي تُبَيِّنُ ذلك .
والرَّاجِحُ: أنَّه لا إجمالَ في النَّفيِ الدَّاخِلِ على الحَقائِقِ الشَّرعيَّةِ، ويُحمَلُ على نَفيِ الصِّحَّةِ، وعَدَمِ الاعتِدادِ بالشَّيءِ المَنفيِّ في الشَّرعِ.
وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ ، وجُمهورِ المالِكيَّةِ ، والشَّافِعيَّةِ ، والحَنابِلةِ ، وعَزاه صَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ وغَيرُه إلى جُمهورِ الأُصوليِّينَ .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ هذا اللَّفظَ عِندَ أهلِ اللِّسانِ مَوضوعٌ للتَّأكيدِ في نَفيِ الصِّفاتِ ورَفعِ الأحكامِ، فيُقالُ: ليس في البَلَدِ سُلطانٌ، وليس لهم مُدَبِّرٌ، والمُرادُ به في ذلك نَفيُ الصِّفاتِ التي تَقَعُ بها الكِفايةُ، ومَنعُ الاعتِدادِ به في شُؤونِهم.
والمَفهومُ في عُرفِ التَّخاطُبِ قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ أنَّه إذا قيلَ: لا عَمَلَ إلَّا برِضا زَيدٍ. لَم يُرَدْ به نَفيُ العَمَلِ بَعدَ وُقوعِه، وإنَّما أرادَ به نَفيَ الانتِفاعِ به وكَونَه محتَسَبًا. وكذلك إذا قيلَ: إنَّما العالِمُ مَن عَمِلَ بعِلمِه. أُريدَ به الانتِفاعُ بالعِلمِ، أي: العالِمُ الذي يُنتَفَعُ بعِلمِه.
فهذا مَفهومُ مَن يُخاطِبُهم ويُجاوِبُهم قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ، فيَجِبُ حَملُه -إذا ورَدَ- على عُرفِ اللُّغةِ. وهذا إذا لَم يَكُنْ للَّفظِ عُرفٌ في الشَّرعِ، فإذا كان له عُرفٌ في الشَّرعِ اقتَضى هذا المَعنى، واقتَضى معنًى آخَرَ، وهو نَفيُ الفِعلِ الشَّرعيِّ جُملةً؛ لأنَّ الذي يُشاهَدُ مِنَ الفِعلِ ليس بشَرعيٍّ.
وإذا كان هذا مُقتَضاه، وجَبَ -إذا استُعمِلَ في عِبادةٍ أو غَيرِها- أن يُحمَلَ على نَفيِ الكِفايةِ، ومَنعِ الاعتِدادِ بها .
2- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقصِدُ بهذه الألفاظِ النَّافيةِ بَيانَ الشَّرعِ، فيَجِبُ أن يُحمَلَ على نَفيِ كُلِّ ما يَحمِلُه الشَّرعُ مِن كامِلٍ أو جائِزٍ، فيَقتَضي ذلك مَثَلًا نَفيَ الصَّلاةِ الشَّرعيَّةِ إذا لم يَقرَأْ فيها بفاتِحةِ الكِتابِ .
وقيلَ: إنَّه مِن قَبيلِ المُجمَلِ، فلا يُحمَلُ على شَيءٍ إلَّا بدَليلٍ. وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ وغَيرِهم.
وقيلَ: إنَّ النَّفيَ إمَّا أن يَكونَ داخلًا على مُسَمًّى شَرعيٍّ، كالصَّلاةِ والصَّومِ، أو على مُسَمًّى حَقيقيٍّ. فإن كان الأوَّلَ فلا إجمالَ فيه.
وإن كان المُسَمَّى حَقيقيًّا، فإمَّا أن يَكونَ له حُكمٌ واحِدٌ، أو أكثَرُ مِن حُكمٍ.
والأوَّلُ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ به، كقَولِنا: لا شَهادةَ لمَجلودٍ في قَذفٍ.
أمَّا إذا كان له حُكمانِ: الفضيلةُ والجَوازُ؛ فإنَّه يَكونُ مجملًا. وهذا القَولُ عَزاه الرَّازيُّ إلى الأكثَرينَ .
مِثالٌ تَطبيقيٌّ للمَسألةِ:
حُكمُ صَومِ رَمَضانَ بنيَّةٍ مِنَ النَّهارِ:
فقد رُوِيَ أنَّ: ((مَن لَم يُبَيِّتِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيلِ فلا صيامَ له)) ، فالحَنَفيَّةُ يَقولونَ: إنَّ صَومَ رَمَضانَ بنيَّةٍ مِنَ النَّهارِ جائِزٌ، ولا حُجَّةَ في هذا الحَديثِ؛ فإنَّه يَحتَمِلُ أن يَكونَ المُرادُ: لا صيامَ مَوجودٌ، أو لا صيامَ مُجزئٌ، فيَسقُطُ الاحتِجاجُ به؛ لاحتِمالِه.
فقال الجُمهورُ: لا يَصِحُّ أن يَكونَ المُرادُ بهذا النَّفيِ نَفيَ الوُجودِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يُبعَثْ لبَيانِ الحِسِّيَّاتِ، فيَتَصَرَّفَ فيها بنَفيٍ أو إثباتٍ، وإنَّما بُعِث لبَيانِ الشَّرعيَّاتِ، فإذا أثبَتَ شيئًا فمَعناه ثُبوتُه في الشَّرعِ، وإذا نَفى شيئًا فمَعناه نَفيُه في الشَّرعِ، فكَأنَّه قال: لا صيامَ شَرعيًّا لمَن لَم يُبَيِّتْ مِنَ اللَّيلِ، فإذا نَفاه شرعًا فلَم يَبقَ للقَومِ حُجَّةٌ.
ومَن قال بالإجمالِ وإن كان مَعناه لا صيامَ شَرعيًّا؛ فلأنَّه يَتَرَدَّدُ بَينَ نَفيِ الإجزاءِ وبَينَ نَفيِ الفضيلةِ .