اخي عبدالله الصالح
شكر لجهودكم وقلمكم النير
أيها المسلمون:
اعلموا أن الله -سبحانه- هو الذي خلق الإنسان، وهو أعرف بتركيبه وسرّه، فالعبد مكشوف السر لخالقه العظيم، العليم بمنشئه وحاله ومصيره، وهو -سبحانه- أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد الذي يجري فيه الدم، قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16]، فالله أقرب لعبده من حبل وريده، وهو عرق مكتنف لثغرة النحر، وهذا أقرب شيء إلى الإنسان، ومن هنا يستلزم على العبد أن يراقب خالقه، المطلع على ضميره، القريب منه في جميع أحواله؛ بحيث يستحي منه أن يراه حيث نهاه، أو يفتقده حيث أمره، فسبحان الله ما أعظم هذه القبضة المالكة، والرقابة الشديدة المباشرة لجميع ما في هذا الكون من خالقه الرقيب الرحيم -سبحانه-.
وانتبهوا -أيها المسلمون-
إلى أننا لو عممنا شعار "الله رقيب"، في الحياة لتغيرت أمور كثيرة في حياتنا، ولأصبح الراعي في الصحراء الذي لا يراه فيها أحد يراقب الله –سبحانه وتعالى- في تصرفاته وحركاته، فحين طُلب منه شيء من قطيعه الذي يرعاه، فقال لمن طلبه بعد أن قال له: إن سيدك لا يرانا، فرد قائلاً: فأين الله؟!!.
قد يستخف بعضنا بهذا الراعي، وهو لا يدري أن كل واحد فينا راعٍ, لكننا لا نرعى الغنم, بل ما هو أعظم مسؤولية ورعيًا من الغنم، فعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" [البخاري (893)], فهل راقبنا الله في هذه المسئوليات الملقاة على عواتقنا شئنا أم أبينا؟ الله المستعان.
يا عباد الله: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الرقيب، وقد ورد ذلك في عدة مواضع من القرآن العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا) [الأحزاب: 52]، أي: مراقبًا للأمور، وعالمًا بما إليه تؤول، وقائمًا بتدبيرها على أكمل نظام، وأحسن إحكام، ولم يزل عليكم رقيبًا حفيظًا، محصيًا عليكم أعمالكم، ومتفقدًا أحوالكم، لا يغيب عما يحفظه، ولا يغفل عما خلقه. وأخبرنا -تبارك وتعالى- أن لا أحد من الخلق ينفلت من رقابة الله, قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1], وقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج: 9].
ومن مواضع ذكر اسم الله الرقيب قوله -سبحانه- عن عيسى ابن مريم -عليه السلام-: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد) [المائدة: 117]. وقال -تبارك وتَعَالَى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. وكل من راقب الله تعالى في أمره، خافه واتقاه.
عباد الله: لم يرد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن وصف ربنا -سبحانه- باسمه الرقيب نصًّا، وإن كان ورد بالمعنى، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: "كَانَ رَجُلاَنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيل مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلي الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلي ذَنْبٍ، فَقَال لهُ: أَقْصِرْ، فَقَال: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَليَّ رَقِيبًا؟! فَقَال: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لكَ، أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّة، فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالمِينَ، فَقَال لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟! وَقَال لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَال لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلي النَّارِ". قَال أَبُو هُرَيْرَةَ:" وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لتَكَلّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ". [أبو داود 4901 وصححه الألباني].
ولما سُئل الرسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مرتبة الإحسان، وهي من أعلى مراتب الدين، قرنها بالمراقبة، فقَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" [البخاري (50) ومسلم 9]، لذا فمن أحسن الحسنات مراقبة الرقيب عند خطرات القلوب، وأفضل القربات محاسبة النفس للحسيب، واستجابتها بطاعة الحبيب. ولما سُئل المحاسبي عن المراقبة؟ قال: "أولها علم القلب بقرب الله تعالى".
أيها المسلمون: الرقيب لغةً هو المطلع على ما أكنَّته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت فلا يغيب عنها ولا تغيب عنه، الذي حفظ المخلوقات، وأجراها على أحسن نظام، وأكمل تدبير. والرقيب -سبحانه- هو المطلع على ما دار في الخواطر، القريب من الأسرار، والمجيب عند الاضطرار، المطلّع على الضمائر، والشاهد على السرائر، الحاضر الذي لا يغيب، والرقيب الذي يسبق علمه ورؤيته جميع المخلوقات، يعلم ويرى، ولا يخفى عليه السر والنجوى. فوسع سمع الله جميع المسموعات، وبصره جميع المبصرات، وأحاط علمه بجميع المعلومات الجليّة والخفية، وكل الأفعال الظاهرة بالجوارح.
والرقيب -سبحانه- هو الذي يرصد أعمال العباد وكسبهم، يرى كل حركة أو سكنة في أبدانهم، ووكل بهم ملائكته يرصدون أعمالهم، ويحصون حسناتهم وسيئاتهم، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10- 12]. فهو -سبحانه- الرقيب على كل ما في الكون العظيم، يستوي عنده الصغير والكبير، والظاهر والباطن، والقريب والبعيد، والكليات والجزئيات، والأسرار والخفيات، في الأرض والسموات.
أيها المؤمنون: إن مراقبة الرقيب -سبحانه- تعني أن يبحث العبد عن رضا الله في كل لحظة ولفظة، ويتقي غضبه وسخطه وأن يترك ما نهى الله عنه، فالرسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سئل كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن الإِحْسَان؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" [البخاري 50، ومسلم 9].
والمراقبة -إخوتاه- هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق -سبحانه- على ظاهره وباطنه، وحضور القلب بين يدي الله تعالى، وعدم الانشغال عنه، سواء داخل العبادة أو خارجها، وامتلاء القلب بعظمة الله -جل جلاله-، واستشعار قربه منه، وهذا القرب وهذا الدنو من الله تعالى يبثّ في القلب سرورًا عظيمًا، وأنسًا وفرحًا، وهذا الأنس والسرور يبعث العبد على دوام السير إلى الله عزَّ وجلَّ، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته، والتلذذ بعبادته وطاعته. ومن لم يجد هذا السرور، ويشعر بطعم تلك اللذة، فليتَّهِم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة، من لم يذقها، فليرجع وليقتبس نورًا يجد به حلاوة الإيمان.
إن صاحب المراقبة يترك المعاصي حياءً من ربه، وهيبةً له، وحبًّا في طاعته، وامتثال أمره، وطمعًا في مرضاته ورضاه، أكثر مما يدعها خوفًا من عقوبته، فما أجهل الإنسان بربه حين يكفر به ويعصيه، ولا يكفيه ذلك حتى يزجر من يؤمن به ويطيعه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق: 9 - 14].
أيها المؤمنون: حري بمن علم أن الله معه، ومطلع عليه في كل وقت، ولا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض، حري بهذا المؤمن أن يراقب ربه ومولاه، ويحسن عليه الثناء، ويتجنب ما يسخطه ويغضبه، بل يوحّده توحيدًا عمليًّا، ويراقبه ويحذر مساخطه -سبحانه- وتعالى.
وإن صفات الرقيب –سبحانه وتعالى- أنه (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) [سبأ: 2] وأنه -جل وعلا- (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4], وأنه -تبارك وتعالى- (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [المجادلة: 7]، وغيرها من الصفات التي لا يمكن حصرها، ولا يمكن إدراكها؛ لأننا نتحدث عن الإله الحق -سبحانه-.
ومن عجائب مراقبة الله في الحياة أن رجلاً تزوج سرًّا على امرأته، وحدث أن علمت هذه المرأة أن زوجها قد تزوج عليها، فلم تواجهه، وكتمت معرفتها بسرّه، وكانت قد تيقنت من هذا الأمر، ومات هذا الرجل، وترك ميراثًا ضخمًا، فالمرأة أرسلت لضرتها نصيبها في الميراث، ولكن الأروع من ذلك أن الزوجة الثانية رفضت أن تأخذ هذا المال؛ لأن زوجها كان قد طلقها قبل وفاته. فما أجمل مراقبة الله -سبحانه وتعالى-!!.
وقال الأصمعي: قال أعرابي: خرجت في ليلة ظلماء فإذا أنا بجارية كأنها علم، فأردتها، فقالت: ويلك، أما لك زاجرٌ من عقل؛ إذ لم يكن لك ناهٍ من دين؟ فقلت: إيه والله ما يرانا إلا الكواكب. فقالت: وأين مكوكبها؟!. إن مراقبتها لله كانت لها نجاة في الدنيا من ذل العبودية، وستكون نجاة لها من عذاب النار يوم القيامة، إن الرقيب الحفيظ الذي إذا رأى منك صدق الجهاد وقوة المراقبة لله، حفظ لك دينك، وأصلح لك قلبك، يقول الشاعر:
خَافَتْ مُلَاحَظَةَ الرَّقِيبِ فَصَدَّهَا *** عَنْهُ الْحَذَارُ وَقَلْبُهَا مَعْمُودُ
دَارَتْ بِعَبْرَتِهَا الْجُفُونُ وَلَمْ تَفِضْ *** فَكَأَنَّمَا بَيْنَ الْجُفُونِ مَزِيدُ
اللهم ارزقنا تقواك، واجعلنا نخشاك كأننا نراك، واجعل تقواك بين أعيننا يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بالآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.