21-04-2015, 10:17 PM
|
|
أسرار تذييل الآيات في الربع الأول من سورة التوبة (3)
أسرار تذييل الآيات في الربع الأول من سورة التوبة (3)
الفصل الثاني: أسرار تذييل الآيات: من التاسعة إلى السادسة عشرة من سورة التوبة:
قال الله تعالى: ﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 9 - 16].
المبحث الأول: أسرار تذييل الآيات: من التاسعة إلى الثانية عشرة:
قال تعالى: ﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 9 - 12].
1- قال تعالى: ﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 9].
ذُيِّلت هذه الآية بقوله سبحانه عن المشركين: ﴿ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، والسر في هذا التذييل أن الله تعالى بعد أن أخبر عن فعل شنيع، وتصرف وضيع من أفعال المشركين، ألا وهو شراؤهم بآيات الله ثمنًا قليلاً للصد عن سبيله، ذيَّل الآية بما يفيد سوء هذا الفعل وعظم قبحه؛ حيث اختاروا الحظَّ العاجل الخسيس في الدنيا على الإيمان بالله ورسوله، والانقياد لآيات الله.
• وصدر هذا التذييل بـ: "إنَّ" المفيدة للتوكيد؛ أي توكيد السوء في فعلهم، وفي هذا من الذم لهم ما فيه، كما أن الفعل ساء من أفعال الذم من باب بئس.
• كما عبَّر الله سبحانه باسم الموصول "ما" الدال على العموم، والنكتة في هذا - والله أعلم - أن وصف السوء ليس خاصًّا بشرائهم بآيات الله ثمنًا قليلاً، بل يشمل كل أفعالهم؛ إذ كل ما يصدر عن مشركٍ الغالب أنه سيئ قبيح، وكيف يصدر الطيب - سواء في الأفعال أو الأقوال - ممن أشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وليس عليه أدنى برهان، وقد يقال: إن هذا خاص بهذا الفعل من باب استعمال العام وإرادة الخصوص.
2- قال تعالى: ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾ [التوبة: 10].
ذُيِّلت هذه الآية بقوله سبحانه: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾، ومن أسرار هذا التذييل:
• أن الله جل في علاه بعد أن بيَّن بعبارة موجزة بديعةٍ سوءَ طويَّة المشركين ومعاملتهم للمؤمنين، في كونهم لا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمةً، ناسب أن تختم الآية بوصفهم بالعدوان.
وكلمة "مؤمن" نكرة، والنكرة في سياق النفي تعُم؛ فالمشركون لا رحمةَ في قلوبهم، ولا شفقة في صدورهم تجاه كل مؤمن، فكلما سنحت لهم الفرصة انقضُّوا على المؤمنين، وساموهم سوء العذاب دون أدنى مراقبة، لا لرَحِم ولا لعهد ولا لحِلف، ولا شك أن هذا من أعظم صور الظلم والعدوان المتجذر في نفوسهم.
• وعبر الله تعالى - وهو سبحانه أعلم - باسم الإشارة "أولئك" للبعيد، للدلالة على انسفالهم وانحطاط منزلتهم.
• والإتيان بضمير الفصل "هم" لتأكيد وإثبات وصف العدوان لهم.
• كما نلاحظ أن هذا التذييل وقع في صورة جملة اسمية، ومعلوم أن الجملة الاسمية تفيد الثبات - كما هو مقرر في قواعد التفسير - فكأن وصف الاعتداء والعدوان ثابتٌ لهم، لا ينفكون عنه، ولا ينفك عنهم، عياذًا بالله، وما ذلك إلا بسبب إيمان المؤمنين لا غير؛ كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8].
3- قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 11].
من أسرار تذييل هذه الآية بقول الباري سبحانه: ﴿ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾:
أن الله تعالى بعد أن فتح باب التوبة مرة أخرى في وجه المشركين الذين بلغت أفعالهم من القبح والسوء مبلغًا عظيمًا، وبيَّن أن هذه التوبة وما يتفرَّع عنها من إقامة فرائض الله تجبُّ ما قبلها، وتجعلهم إخوانًا للمؤمنين، أشار سبحانه إلى أن المنتفع بآيات الله وتفصيلها إنما هم العالِمون لا الجاهلون، وفي هذا نعيٌ للمشركين إن أعرضوا عن التوبة وأصروا على الشرك، وذمٌّ لهم ووصفٌ بالجهل، فكأن في الآية تعريضًا بنفي العلم عنهم وإثبات الجهل لهم إن أبَوا إلا الكفر.
وأنهم إن آمنوا صاروا من الذين يعلمون ويفقهون آيات الله البينات.
وفي هذا التذييل كذلك حثٌّ على تدبُّر آيات الله وفهمها والتفكر فيها.
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى:
"وعطف هذا التذييل - أي قوله سبحانه: ﴿ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ -: على جملة: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾؛ لأنه به أعلق؛ لأنهم إن تابوا فقد صاروا إخوانًا للمسلمين، فصاروا من قوم يعلمون؛ إذ ساوَوُا المسلمين في الاهتداء بالآيات المفصلة"[1].
4- قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12].
من أسرار تذييل هذه الآية بقوله سبحانه: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾: أن الله تعالى بعد أن أصدر أمره لعباده المؤمنين بقتال المشركين إن رفضوا التوبة وأصروا على الكفر، وما يتضمنه من نكث للعهود وطعن في دين الإسلام، علَّل هذا الأمر بقوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾، فالغاية من قتال المؤمنين للمشركين المصرِّين على شِركِهم، إنما هي رجاء إيمانهم وانتهائهم عن سوء أفعالهم، وليس القتل مقصودًا لذاته، كما يدَّعِي أعداء الإسلام من أن الجهاد إنما شُرِع لسفك دماء الأبرياء والاعتداء عليهم، وأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، ولم يزحف إلا على جثث الأبرياء والضعفاء، وهذا والله كذب وافتراء، وورقة خاسرة من أوراق الحاقدين على دين رب العالمين، المشوِّهين لمعالِمه، والطاعنين في شرائعه.
ففي هذا التذييل إفحام لكل ناعق، وإسكات لكل مارق، وإخراس لكل فاسق.
يقول الإمام الألوسي رحمه الله تعالى:
"أي: ليكن غرضَكم من القتال انتهاؤهم عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم، لا مجرد إيصال الأذية بهم، كما هو شنشنة المؤذين، ومما قرر يعلم أن الترجِّي من المخاطَبين لا من الله عز شأنه"[2].
المبحث الثاني: أسرار تذييل الآيات: من الآية الثالثة عشرة إلى الآية السادسة عشرة:
قال الله تعالى: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 13 - 16].
1- قوله جل في علاه: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 13]:
ذُيِّلت هذه الآية بالشرط: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾؛ وذلك لبيان أن الخشية من الله تعالى وحدَه هي من صفات المؤمنين، فهم الذين لا يخشون إلا الله، وفيه تحريض على ما سبق من الأمر بمقاتلة المشركين والتهييج عليه؛ لأن مَن خشي الله علِم أنه لن يصيبَه إلا ما قدَّر له، وأنه لا نافع ولا ضار إلا هو، فلا يبالي بمواجهة أي مشرك مهما أوتي من قوة وبأس.
فبعد أن ذكر الله تعالى بعض الأسباب الداعية لقتال المشركين من نكث الأيمان، والهمِّ بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم، والبَدْء بالقتال، عقَّب الله تعالى ذلك بقوله: ﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾، والاستفهام هنا للإنكار.
ثم قال: ﴿ فَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي: إن صدقتم في إيمانكم، فالخشية منكم لا يجب أن تكون إلا من الله سبحانه، لا من هؤلاء المشركين الذين مهما أوتوا من قوة وعُدَّة، فكيدهم أضعف أمام ما معكم من اليقين والإيمان، كما أن الإيمان يقتضي المسارعة في الامتثال دون أدنى تردد.
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى:
"لأن الإيمان يقتضي الخشية من الله، وعدم التردُّد في نجاح الامتثال له، وجيء بالشرط المتعلق بالمستقبل - مع أنه لا شك فيه - لقصد إثارة همتهم الدينية، فيبرهنوا على أنهم مؤمنون حقًّا، يقدمون خشية الله على خشية الناس"؛ التحرير والتنوير: 10/134.
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى:
"ففي أي معركة يدخلها الإيمان مع الكفر، نجد أن الجانب الفائز هم المؤمنون، سواء استشهدوا أم انتصروا، والخاسر في أي حال هم الكفار؛ لأنهم إما أن يُعذَّبوا بأيدي المؤمنين، وإما أن يأتيَهم عذاب من الله تعالى في الدنيا أو في الآخرة، وهكذا وضع الله المقاييس التي تنزع الخشية من نفوس المؤمنين في قتالهم مع الكفار، فلا تولُّوهم الأدبار أبدًا في أي معركة؛ لأنه مهما كبُرت قوةُ الكفار المادية، فقوة الحق تبارك وتعالى أكبر، ويقول المولى سبحانه: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، وهكذا لا يحسب حساب للفارق في القوة المادية، فهذه خشية لا محل لها في قلوب المؤمنين في جانب الإيمان؛ لأن الله مع الذين آمنوا".
2- قال تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 14، 15].
هنا نلاحظ تذييلاً باسمينِ كريمينِ من أسماء الله الحسنى: (العليم والحكيم)، وقبل ذكر بعض أسرار هذا التذييل لا بأس أن نقف قليلاً مع معاني هذين الاسمين:
أ- العليم: يقول العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى في مقدمة تفسيره: "العليم: الذي أحاط علمُه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات، وبالعالَم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفَى عليه شيء من الأشياء"[3].
ويقول في موضع آخر: "العليم الذي أحاط علمًا بكل شيء، فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقالُ ذرَّة في السموات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر".
وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: "العليم هو العالِم بالسرائر والخفيَّات التي لا يدركها علم الخلق، وجاء - أي عليم - على بناء فَعِيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم".
ب-الحكيم: يقول إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "الحكيم: الذي لا يدخُلُ تدبيرَه خللٌ ولا زللٌ".
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محلها بحكمته وعدله".
وقال الحليمي: "الحكيم: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك؛ لأن أفعاله سديدة، وصنعَه مُتقن، ولا يظهَرُ الفعلُ المتقن السديد إلا من حكيم"[4].
ومن أسرار تذييل هاتين الآتين بقوله سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾:
أن الله تعالى لَمَّا ذكر بعض فوائد وحِكَم قتال المؤمنين للمشركين من تعذيبِهم، وخزيِهم، وشفاء صدور قوم مؤمنين، وإزالة ما في قلوبهم من الغيظ، وكذا التوبة على مَن شاء الله تعالى هدايتَه، ناسب أن يختم كل هذا بقوله سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي: إن الله تعالى عليم بكل أعمالكم وأحوالكم، لا يخفى عليه سبحانه شيء مما تُسرُّون أو تُعلِنون، عليم بنيَّاتكم ومدى إخلاصكم في قتال عدوِّكم، وعليم كذلك بمَن يستحق الهداية من المشركين، فيوفقه للتوبة التي تجبُّ ما قبلها من شرك وطغيان، فيزيِّن الله في قلبه الطاعة والإيمان، ويُكرِّه إليه الكفر والفسوق والعصيان.
﴿ حَكِيمٌ ﴾؛ حيث لا يأمركم إلا بما فيه حِكَم عظيمة، وفوائد جليلة، ومنافع كبيرة، فما من فعلٍ من أفعاله سبحانه، ولا أمر من أوامره أو نهي من نواهيه إلا قد بُنِي على أعظم حكمة، ولا يفعل لمجرد المشيئة كما يزعم بعض أهل البدع، فالأمر بقتال المشركين قد صدر عن حكيم جلَّت حكمته، وقد ذكر الله سبحانه بعض الحِكَم من ذلك؛ كالتوبة على مَن شاء سبحانه.
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى:
"مشروعية التوبة هي رحمةٌ من الحق سبحانه وتعالى بخَلْقه، ولو لم يشرَعِ الله التوبة لقال كلُّ مَن يرتكب المعصية: ما دامت لا توجد توبة، وما دام مصيري إلى النار، فلآخذ من الدنيا ما أستطيع، وبذلك يتمادى في الظلم، ويزيد في الفساد والإفساد؛ لأنه يرى أن مصيره واحد ما دامت لا توجد توبة، ولكن تشريع التوبة يجعل الظالِم لا يتمادى في ظلمه، وبهذا يحمي الله المجتمع من شروره، ويجعل في نفسه الأملَ في قَبولِ الله لتوبته، والطمع في أن يغفر له، فيتَّجِه إلى العمل الصالح علَّه يُكفِّر عما ارتكبه من الذنوب والمعاصي، وفي هذا حماية للناس، ومنع لانتشار الظلم والفساد.
إذًا فالقتال له حكمة، والتعذيب له حكمة، والخزي له حكمة، والتوبة لها حكمة، وسبحانه وتعالى حين يعاقب، إنما يعاقب عن حكمة، وحين يقبل التوبة، فهو يقبلها عن حكمة"[5]؛ اهـ.
• وهذا التذييل - كما هو ظاهرٌ - جاء في جملة اسمية: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾؛ وذلك لإفادة الثبوت واللزوم، فهاتان الصفتان "العلم والحكمة" من الصفات الثابتة لله تعالى التي لا تنفكُّ عن ذاته جل في علاه، فهو لم يزَل ولا يزال عليمًا حكيمًا.
• كما أن إظهار اسم الجلالة "الله" في موضع الإضمار، الغرض منه - كما أشار العلامة الألوسي في تفسيره -: "لتربية المهابة وإدخاله الرَّوعة"[6].
ويُوجِز العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى الغايةَ من هذا التذييل بقوله:
"والتذييل بجُملة: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، لإفادة أن اللهَ يعامل الناس بما يعلم من نياتهم، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما فيه تحقيق الحكمة، فوجب على الناس امتثال أوامره، وأنه يقبلُ توبةَ مَن تاب إليه تكثيرًا للصلاح"[7].
3- قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 16].
ذيَّل الله تعالى هذه الآية بقوله: ﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾، وحتى نستشفَّ بعض أسرار هذا التذييل، لا بد من بيان معنى اسمه سبحانه "الخبير".
يقول الخطابي رحمه الله تعالى:
"هو العالِم بكُنْهِ الشيء، المطَّلِع على حقيقته؛ كقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 59].
وقال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:
"خبيرٌ بكل ما يعملونه ويكسِبونه من حَسَن وسيئ، حافظ ذلك عليهم؛ ليجازيَهم على كل ذلك"[8].
• إذًا فمن أسرار التذييل بهذا الاسم خلق المهابة، والمراقبة في النفوس؛ لأن مَن علم أن الله يعلم دقائق الأمور وخفايا الأشياء وبواطنها، راقبه سبحانه غاية المراقبة.
ولا ريب أن هذا التذييل مناسب تمامًا للآية؛ فإن الله تعالى بعد أن صدَّر الآية باستفهام إنكاري لمن حسب أو ظن أنه يُترَك دون تمحيص وابتلاء، وأخبر أنه سبحانه يعلم المجاهدين الذين لم يتخذوا وليجةً - بمعنى الخديعة والبطانة واتِّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويُفضَى إليهم بسر المسلمين - ختَم الآية بقوله: ﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
وفي هذا من التخويف ما فيه، كما أن فيه ردعًا عن ذلك الحسبان الخاطئ؛ إذ لا بد من التمحيص والابتلاء بالجهاد وغيره، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].
يقول العلامة ابن عاشور:
"وجملة: ﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ تذييل لإنكار ذلك الحسبان؛ أي: لا تحسبوا ذلك، مع علمكم بأن الله خبير بكلِّ ما تعملونه"[9].
ويقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:
"فشرَع الله الجهادَ ليحصل به هذا المقصود الأعظم، وهو أن يتميز الصادقون الذين لا يتحيَّزون إلا لدين الله، من الكاذبين الذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين.
﴿ وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ أي: يعلم ما يصير منكم ويصدر، فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم عليه، ويجازيكم على أعمالكم خيرِها وشرِّها"[10].
[1] التحرير والتنوير: 10/128.
[2] روح المعاني: 5/254.
[3] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 16، مؤسسة الرسالة.
[4] نقلاً من النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى: 170.
[5] تفسير الشعراوي.
[6] روح المعاني: 5/257.
[7] التحرير والتنوير: 10/137.
[8] النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى: 187.
[9] التحرير والتنوير:10/139.
[10] تيسير الرحمن: 331.
Hsvhv j`ddg hgNdhj td hgvfu hgH,g lk s,vm hgj,fm (3) Hsvhv H, hgNdhj hgH,g hgj,fm hgvfu j`ddg s,vm
|