بسم الله الرحمن الرحيم
{ قال: كذلك قال ربك: هو عليَّ هين. ولنجعله آية للناس، ورحمة منا }..
فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه، هين على الله. فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون، كل شيء هين،
سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره.
والروح يخبرها بأن ربها يخبّرها بأن هذا هين عليه.
وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته.
ورحمة لبني إسرائيل أولاً وللبشرية جميعاً، بإبراز هذا الحادث
الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه.
بذلكانتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء..
ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار، فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة.
ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر، وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله.
أن هذا قد انتهى أمره، وتحقق وقوعه:
{ وكان أمراً مقضياً }
كيف؟ لا يذكر هنا عن ذلك شيئاً.
ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها؛ فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هولاً:
{ فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة؛ قالت: يا ليتني مت قبل هـذا وكنت نسياً منسياً }..
وهذه هي الهزة الثالثة..
إن السياق لا يذكر كيف حملته ولا كم حملته. هل كان حملاً عادياً كما تحمل النساء وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم ويستكمل الجنين أيامه المعهودة؟ إن هذا جائز. فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية.. كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتختصر المراحل اختصاراً؛ ويعقبها تكون الجنين ونموه واكتماله في فترة وجيزة.
ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين. فلا نجري طويلاً وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها..
فلنشهد مريم تنتبذ مكاناً قصياً عن أهلها، في موقف أشد هولاً من موقفها الذي أسلفنا. فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق، بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة. ثم تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية.
تواجه المخاض الذي { أجاءها } إجاءة إلى جذع النخلة، واضطرها اضطراراً إلى الاستناد عليها. وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء..
فإذا هي قالت: { يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً }
فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت
{ نسياً }: تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى!
وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى:
{ فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً. وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. فكلي واشربي وقري عيناً، فإما ترين من البشر أحداً فقولي: إني نذرت للرحمـن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا }..
يا لله! طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها. يطمئن قلبها ويصلها بربها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها. ويدلها على حجتها وبرهانها!
لا تحزني.. { قد جعل ربك تحتك سرياً }
فلم ينسك ولم يتركك، بل أجرى لك تحت قدميك جدولاً سارياً
ـ الأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل ـ
وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطباً. فهذا طعام وذاك شراب. والطعام الحلو مناسب للنفساء. والرطب والتمر من أجود طعام النفساء. { فكلي واشربي } هنيئاً.
{ وقري عيناً } واطمئني قلباً.
فأما إذا واجهت أحداً فأعلنيه بطريقة غير الكلام، أنك نذرت للرحمن صوماً عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة. ولا تجيبي أحداً عن سؤال..
ونحسبها قد دهشت طويلاً، وبهتت طويلاً، قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطباً جنياً.. ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن الله لا يتركها.
وإلى أن حجتها معها.. هذا الطفل الذي ينطلق في المهد.. فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها..