ويعلو صوته بالأسماء وبين لحظة وأخري يخرج منديلا لا أعرف أو مفرشا لطاولة في مقهي كي يمسح عرقً متصبب من جبينه مارا بالمنديل علي فمه يمسح ما تناثر من رذاذ أثناء حديثه وتارة أخري يرف به علي وجه كي يبعد ذبابة كانت تقف علي أرنبة أنفه.!!.
قال صاحب العربة الخالية بعد أن أوقفها امام بيت الحاجة أم جمال
التعليمات تلزمنا بنقل السكان وحدهم..
ثم بلهجة تحذيرية.:.
مناطق التهجير خيام ..لا تكفي الا البشر...!
عقبت سيدة بدينة تدعي أم حسن:..- ولمن نترك بيوتنا..؟!
أجابها الرجل في حدة وغلظة شديدة: -نحن في حالة حرب ما بتفهمي أنت..؟؟
ثم ...مهمهما وكأنه يتحدث لمجهول..
لا حول ولا قوة الا بالله الشعب بين لاجئين و مهاجرين ولسه الشعب بيعاني من الحرب لسه كل شئ زي الزفت...
حرب عنصرية بين افراد الشعب كل فئة تسب الآخري وتحملها مسئولية ماحدث..!! اقسم بالله احنا شعوب رضعت مكان الحليب جهل وتخلف
ثم وهو يشوح بيده في الهواء.
.- من يسرق قشة سيحكم عليه بالأعدام..!!
كان القادمون من أماكن التهجير والخيام يروون حكايات تختلف عما يرويها الرجل..
فالعنابر المسقوفة والأسرة التي تشبه أسرة المستشفيات..والفواصل بين كل عائلة وأخري..والمدارس..ومكاتب الرعاية الصحية والاجتماعية..وكميات التموين والمأكولات الزائدة عن الحاجة.
. كلها كلام في الهواء والواقع مرير جدا عن كل هذا...!!
كانت السيدة العجوز التي تدعي الحاجة فاطمة قد لملمت أشيائها في صرة أسندتها ألي جدار المقهى الفارغ من زبائنه...
ثم علت شتائمها وسبابها لأطفال كانوا يملأون الساحة بألعابهم وزياطهم غير مدركين هول ما يمر بهم من مأسي..!!
بدأ أمل يراودها مع دمعات تنحدر علي خدود مرت عليها الأيام بأخاديد عميقة..!!
وعينان دامعتان بأن الرحيل قد يتأخر قليلا حتى يأتي أصغر أبنائها ..حين تزوج أبنها الأصغر رفضت الأنتقال معه ألي البلدة التي ذهب أليها هو وعروسة.و.الذي كان يكتفي بزيارتها هو وطفلته الوحيدة وزوجته كلما هل عيد ..!!
تحركت في الطابق الأول من البيت القديم المتصدر لواجهة الميدان فوق المقهي ستارة من قماش رخيص..تناثرت فيها زهور ملونة سوداء..!!
الرجل السمين صاحب النظارات السميكة مازال يهمهم مع نفسه..مع أنحدار دمعتان علي وجنتيه...
تدلت أم أكرم وهي تهتز بجسمها الشحمي والأساور الذهبيةالمتدلية في رسغيها من النافذه اعلا المقهي..:
.- أمهلونا ثلاثة أيام.
.أبو العيال في البلدة علي الحدود..ولا يمكن أن نذهب وحدنا بدونه..!!
قال الرجل البدين ذو النظارة السميكة..ليت الأمر بيدي يا حاجة..السيارة التي تذهب لن تعود مرة أخري...!!
في صوت متذلل:
....طيب يومين فقط...!!؟؟
طب يوم واحد..؟
- ألم يعرف زوجك أننا في حرب طاحنة لا نعرف أطرافها..؟؟!!
ظل الرجل ذو النظارة السميكة صامتا بعدها متوترا لا يعرف بماذا يجيبها.. !
كأنه يقر بعجزه عن فعل شيء..
رفض ان يدخل في نقاشات جانبية أو يجيب علي أية أسئلة..هو نفسه لا يعرف أي شيء
ثم أن اليوم هو اليوم الأخير للتهجير..!!
تعالي صوت في ألتقاء الشارع بالميدان.
-ماذا أخرك حتي الأن..؟
النساء والأطفال سافروا في الفجر..!
قالت مستغربة: - أ أسافر قبل أن يأتي الرجل..؟؟
*
*
علي جانب من الميدان وعلي كرسيان متقابلان جلس الأستاذ أحمد مدرس التاريخ مع جاره المعلم صاحب القهوة الذي بادره متهجما...
أستاذ أحمد ..كيف وصلنا لهذا الوضع..يا أستاذ مافي بلد عربي الا فيه قهر ودمار وتدمير وناس جعانين حتى الأطفال يا بيك ما لاقين الحليب..ويش بيقولك التاريخ ياللي بتدرسه..ما بيتصلح الحال عن قريب....!!
-شوف يا معلم....واضعا ساقا فوق الأخرى وكأنه يشرح درسا في التاريخ لتلاميذ فصله ...
هذه الحالة من التشرزم التاريخي لم نمر بها من قبل في حياتنا فالقتل والذبح والتهجير والتدمير والحرق والكراهية الطائفية هي وسائل تستخدمها عناصر مستوردة ومستأجرة من خارج البلاد باسم الاحرار والثوار وابطال المستقبل غباء وجهل وأستهتار باولادنا ببناتنا وامهاتنا واطفالنا ببلادنا وصلنا لكل هذا الدمار والخراب واعتقد ان العلاج اصبح مستعصيا على مثل شعوبنا التي تقرا المستقبل دائما بصورة خاطئة ...!!
يا رب يا قادر يا عظيم تحن علينا وتنقذنا من تجاربنا وبأسنا وهمومنا ..
- ينظر أليه المعلم ببلاهة وهو يهز رأسه بالموافقة وكأنه يفهم تماما ما يقوله أستاذ التاريخ..!!