تواضعه فعلى قدر عظمة سيادته وشرفه كانت عظمة تواضعه للخلق،
فمع أنه كان سيد الخلق وأشرفهم وأكرمهم على الله إلا أنه كان أشدهم تواضعًا،
فقد كان يركب الحمار والبغلة، ويردف خلفه، ويعود المساكين ويجالس الفقراء،
ويجيب دعوة العبيد، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم بلا تمييز له
بمجلس أو زي أو هيئة، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس حتى
يحار القادم الغريب أيّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان يُدعى إلى
خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب، وتأخذ بيده المرأة والعجوز والأمة
وتوقفه طويلاً وهو واقف يسمع كلامها ويجيب سؤالها، وكان يقول:
«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله»([23]).
وفي حجة الوداع أهدى مئة بدنة وهو على بعير فوقه رحل عليه قطيفة
لا تساوي أربعة دراهم، فقد كانت الدنيا في يده لا في قلبه بأبي هو وأمي
صلى الله عليه وسلم، ولما فتح مكة ظافرًا منصورًا راكبًا ناقته كان مطأطئ
الرأس خاضعًا مستكينًا متواضعًا متطامنًا لعظمة ربه تعالى حتى إن لحيته
لتكاد تمس قائم رحله، وهذا موقف لم ينقل لبشري سواه ــ فيما نعلم ــ. وكان يقول:
«نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى
قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي»، قال: «ويرحم الله لوطًا لقد كان
يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي»
([24])، وكل هذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام.
وكان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه،
ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويقم البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناقته،
ويأكل مع الخادم، ويعجن معه، ويحمل بضاعته من السوق، ولما دخل
عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة قال له: «هوّن عليك فإني لست
ملكًا وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد»([25])،
صلوات ربي وسلامه عليه.